أستقرار بعض الجنود المسرحين فى مصر

 يعتقد أن الجندى المسرح كان يبدأ فى البحث عن موطنه الجديد قبل تركه للخدمة العسكرية بسنوات قليلة حيث يكون قد بلغ من العمر ما بين 45 - 60 سنة وهذا التفكير الذى كان يراودهم ذكره جندى وهو يتوقع إنتهاء خدمته بعد عام لأخيه فى خطاب مؤرخ بتاريخ 136 م وقد أحيل هذا الجندى غلى المعاش بالفعل وعاد إلى وطنه فى قرية كرانيس فى أقليم ارسينوى (1) : " أرجوا أن تستقبل بالترحاب حامل هذا الخطاب ترنتيانوس Tetenianus  وهو جندى سرح بشرف , أطلعه على طرق حياة مزارعينا بطريقة تحفظ له كرامته , وحيث أنه راغب فى الأقامة هناك , فقد أقنعته أن يستأجر منزلى فى هذه السنة والسنة التالية فى مقابل 60 دراخمة , وأجرت له أرضى بـ 60 دراخمة أخرى وأرجوا أن تستخدم 120 دارخمة لكى تشترى لى من صديقنا التاجر الكتان قرب معبد المدينة ... ثم يسرد تفاصيل لوضع مبلغه فى أشياء شخصيةأخرى (2) "

وهكذا أستقر ترنتيانوس Tetenianus  فى مصر ولا نعلم عن حياته شيئاً ولكن أكتشفت جامعة ميتشجان أثناء دراستهم لمجموعة خطاباته من سنة 1924 - 1934 م  والتى وجدت فى أحد ألمنازل أنه ذكر فى أحد هذه الخطابات أن ترنتيانوس Tetenianus كان أبنا لجندى مسرح , وأنه خدم فى الأسطول الرومانى الذى كانت مراكبة فى ميناء الأسكندرية .

ومن تحليل الخطابات يتضح أنه لم يكن هؤلاء الجنود المسرحين مرحبين من المصريين اهل البلاد الوطنيين , أو ينظرون إلى حضوره بسعادة , وكان على ما يبدوا أن طريقة أستقباله تتوقف على شخصية الجندى المسرح ذاته حيث اكد كاتب الخطاب بتوصية أخاه أن يساعد ترنتيانوس Tetenianus حتى لا يبدأ بخطوه تؤدى إلى فقدان أموال هذا الجندى المسرح .

اما موقف القرويين فى مصر من الجنود وكرههم لهم سواء من هم الذين ما زالوا فى قوة الجيش أو الجنود المسرحين لأنهم بمجرد أن تمر مجموعة الجيش بأى قرية كانوا يطلبون شيئاً كسكن وطعام أو ضرائب , وكثيراً ما كانوا يزيدون على طلباتهم شيئاً لأنفسهم ويظل القرويين لا حول لهم ولا قوة يخرجون من قوتهم لأطعام هؤلاء الجنود .    

وكان الجندى الرومانى عندما يسرح يكون حالته المالية جيدة فإنه كان يأكل مجاناً خلال مدة خدمته هذا غير أجره غير المنح التى تعطى لهم خاصة فى الحملات العسكرية والحروب , فلا بد أن يكون قد أستطاع أن يوفر جزءاً من دخله فى سنوات خدمته التى تمتد إلى ربع قرن فى الحامية العسكرية أو الشرطة أو الأنشطة المتصلة بهما , وكان يحصل على مكافأة تسريح ( مكافأة نهاية الخدمة ) 12 ألف دراخمة بالنسبة للجندى الرومانى  المولد (3) أما الجندى فى الفرق المساعدة ( الأغريقى أو المصرى أو غيرهم ) فكان يحصل على مبلغ أقل من ذلك بعض الشئ , وكان الجنود كثيراً ما يستثمروا مدخراتهم فى إستثمارات طويلة الأمد التى تشمل : شراء وبيع العبيد , أقراض الناس بفائدة شهرية قانونية تصل إلى 1% وكانت تزيد عنن ذلك فى أوقات الغلاء التى تصيب البلاد لأو فى بعض الحالات الأخرى , وقد ذكرت البرديات أن جندياً أشترى نولاً (للنسيج) بـ 13 ألف دراخمة ودفع الثمن نقداً فى الحال , وآخر كان رئيس مئة (سنتوريون) يمتلك قارباً نهرياً حمولته 500 أردب من الحبوب (12,5 طن) وقد أجر رباناً ليقوم بالعمل عليه لحسابه , وفى وصية لسنتوريون آخر من الخيالة (الفرسان) سجل فيها ممتلكاته بها قوائم بأشياء عسكرية وأخرى شخصية بالأضافة إلى مبالغ نقدية مقدارها 8 قطع ذهبية و 199,5 تالنت فضة ( أكثر من مليون دراخمة ) ونتيجة للتضخم فى ذلك الوقت كانت الدراخمات تحصى فى وحدات كل وحدة ألف أو عشرة ألاف , كما ذكر فى وصيته أنه حفظ فى صندوقه ( فى المعسكر ) القليل من هذا المال أما الجزء الباقى فقد أقترضه خمسة عشرة مقترضاً .

الوثائق القانونية للجنود المسرحين :

وكان الجندى يهتم أولاً بتوثيق أوراقه قانونياً , ففى بردية أرخت فى مدينة قيصرية فى يهودية بتاريخ 22/1/150 م وعثر عليها فى مصر مما يرجح أن الجنود المسرحين أستوطنوا مصر كتب فيها أن 22 ذكرت أسماء جندياً مسرحاً من فرقة رومانية وليس من وحدة مساعدة (4) .

أما بردية أوسلو (5) بتاريخ 10/12/149 م وهى خطاب من كاتب (موظف) رومانى يأمر سكرتير أحد الأقاليم بأن يدفع لجندى أتم خدمته بشهادة تذكر إعفاءه من ضريبة الرأس "

إستقرار الجنود المسرحين فى مصر

وعندما يسرح الجندى يكون معه ميزتين هما الوثائق التى تعطيه أمتيازات منها عدم دفع الضرائب , والمال

فيبحث عن قرى أكثر ثروة من غيرها فى اقاليم مصر تصلح سكناً له وأستثماراً فى نفس الوقت , وكان أقليم أرسينوى ( الفيوم) فى ذلك الوقت هو محط أنظارهم فكونوا فى فلادلفيا فى بداية القرن الثالث حوالى خمس عدد أصحاب ملاك المنطقة بعكس قرية Soknopuiou Nesos وتقع على بعد 50 كيلو متراً نحو الشمال الغربى التى لا يوجد دليل واحد أن الرومان تملكوا أى أرضى هناك , والسبب أن القرية كانت تقع على حافة الصحراء وفى نهايات نظام الرى وأرضها ليست جيدة (6)

مميزات الجنود المسرحين

عندما يسرح الجندى من الوحدات المساعدة يحصل على حق المواطنة أما الجندى الرومانى أصلاً فهو يكون عنده هذا الحق لأنه ولد فى أراضى رومانية أو من ابوين رومانيين , وحق المواطنه هذا يعطيه مميزات كثيرة منها عدم دفع الضرائب أو بعض منها كما يعطيه الحق ان يحاكم أمام محكمة رومانية وليس أمام محاكم فى البلاد التى يسكنون فيها وكان هؤلاء الجنود يستغلون مزاياهم حتى ولو كان على حساب المصريين والأغريق المتمصريين الذين أستوطنوا مصر لقرون عديدة , وكانت هذه الأمتيازات تعطيهم وضعاً إجتماعيا يستغلونه كأسلوب لكسب مرتبه تنسيهم أصولهم الوضيعة , وقد عثر على بردية مؤرخة من عام 162 م تحتوى شكوى جندى مسرح أسمه Galus Julius Niger والسطور الأولى من البردية مفقود ولكن الجزء الباقى يقول فيه نيجر : " وهكذا حيث ان الضرار التى لحقتنى عظيمة ونظراً لأنى رجل رومانى عانى من هذه الأضرار ( وعدم الأحترام) على أيدى مصرى أرجو ... "

وعثر ايضاً على خاتمة شكوى فى بردية أخرى تذكر  : " الموقعون أدناه يقسمون بعظمة الأمبراطور تيتوس إيليوس هادريانوس أنطونينيوس بيوس أنهم يقدمون هذه الشهادة بصدق , لقد كنا فى قرية فلادلفيا فى أقليم أرسينوى (فى أقليم الفيوم بمصر) تقسيم هيراكليدس Herakliedes  فى معبد القياصرة حيث شاهدنا جايوس مايفيوس أبيلوس Gaius Ma'evius Appelles  وهو جندى مسرح من فرقة ابيان , وهو يجلد بالسياط بواسطة حارسين بأمر من الأستراتيجوس هيراكس Hierax ولذلك نقسم أننا نقرر أننا شاهدناه وهو يجلد فى قرية فلادلفيا ( البردية بتاريخ 11/2/153 م والموقعين سبعة اسماؤهم رومانية أى أنهم جنود رومان سرحوا وأستوطنوا فلادلفيا بأقليم أرسينوى "الفيوم بمصر"

وكان القانون الذى صدر فى الجمهوريات الرومانية والذى صدر بعد طرد ملوك البطالمة فى مصر والشرق الأوسط  نص على أنه : " لا يجوز لأى موظف "سام" أن يجلد أو يعدم مواطناً رومانياً إذا مارس حقه فى الدفاع عن نفسه "

و نرى من البرديتين السابقتين أنه لا يجرؤ أى موظف أو حاكم أن يعاقب أى مسرح من الفرق الرومانية (7), وهكذا وبهذه المميزات أصبح الحكام يتملقونهم ويتوددون إليهم منعاً لرفع شكاويهم إلى روما  أو حتى الحاكم الرومانى المحلى وبمضى الزمن أصبح قدامى الجنود شخصيات بارزة فى الأقاليم التى أستوطنوها ليس فقط بما تقدمهم جنسيتهم الرومانية من حقوق المواطنة من وضع متميز عن أهل البلاد بل أن ثرواتهم الكبيرة حققت لهم وضعاً أجتماعيا أعلى من الفقراء أو حتى الأغنياء من اهل مصر , ومن يرجع إلى ذلك التاريخ يجد أن هؤلاء القادمين من الجنود المسرحين كانوا أغنياء بالفعل بمقاييس القرى التى وصلوا إليها , ثم زادت ثرواتهم بتملكهم الأراضى وأستخدامهم أهل البلاد لزراعتها , وقاموا ايضاً بتسليف ثرواتهم مع العائد وبالتجارة  >

وصول المسرحين إلى قمة المجتمع

ولم يكن هؤلاء الجنود المسرحين  يستعملون مميزاتهم فقط وخاملين بل لقد تعود هؤلاء الجنود على العمل الشاق فى الحروب والتدريب العسكرى لتهيئتهم على القتال , وما أن كانوا يستقرون فى منطقة ما حتى يضاعفون اموالهم ويزيدون غناهم ويصلوا لى طبقات المجتمع العليا وقد عثر عدد كبير من أوراق البردى تخص جندياً من قدامى المجندين أسمه لوسيوس بيلينوس جيميلوس Lucius Bellenus Gemellus أستقر بعد تسريحه حوالى عام 80 م فى أرسينوى " الفيوم" وعندما مات بعد حوالى 30 عاماً عن عمر يناهز 77 سنة أو يزيد وقت حصاد المحاصيل , حصرت تركته فكان يمتلك إقطاعيات ضخمة قرب قريتى أيوهيمريا Euhemeria وديونسياس Dionysias وثلاث قرى اخرى على ألقل , وكان بديه معاونون لأدارة أملاكه وكانت تقع أبعدها على مسافة 15 كياومتراً كما ذكر فى أوراق البردى أدق التفاصيل , وكان يمتلك معصرة للزيت , وكان له علاقة بـ لاستراتيجوس "حاكم الأقليم" وكان يعد الولائم فأمر بتجهيز عشرة دجاجات للأحتفال بعيد ستروناليا Saturnalia وذكر أنه قدم عجلاً كقربان فى عيد آخر , فوصل غلى ان يكون من أعيان المجتمع وشكل هو وأبنته وأبناؤه الثلاثة أسرة من أعيان المجتمع المحلى وله أتصالات بالحكام .

أما نيجر Galus Julius Niger السابق ذكره فقد استقر فى كرانيس عام 154 م عند تسريحة من فرقة الخيالة وكان عمره 47 سنة , وأشترى منزلاً بفنائين بـ 800 دراخمة فضية وقد عاش فى هذا البيت حتى بلغ من العمر 81 عاماً , ونجا من الطاعون الذى مات بسببه الكثيرين فى أنحاء المبراطورية الرومانية بما فيها مصر فى 170 م وقد أشترى وتاجر فأمتلك مساخات كبيرة من ألأراضى والعقارات فى العديد من القرى , وعند وفاته ورث ولديه ممتلكات أبيهما ومن بعدهما آلت إلى أرمله وأولاد أحدهما ( يبدوا ان أحدهما توفى ولم تكن له ذرية ) (8)

==========================

المــــــــــــــــــراجع

(1) أرسينوى بالفيوم حيث يعتقد أن هاذين الجنديين إما كانا من الرومان أو الأغريقيين والأخيره هى الأرجح  أى أنهم بقايا البطالمة )

(2)  SB 9636

(3) مصر الرومانية الحياة فى مصر تحت حكم الرومان تأليف نفالى لويس Life in Egypt under The Roman Rule By Naphali lewis Oxford,1983  ترجمة د/ فوزى مكاوى - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994 م  ص 32

(4) بردية أوسلو

 Proceeding of the XVI International Congress of Papyrology, American Studies in Papyrolog, 23 (1981), 399.PsI 1026

وبردية أوسلو كتبت باللغة اللاتينية : " لقد تسلم كل جندى سواء أخدم فى فرقة أو قوات شهادة مكتوبة باللاتينية بإتمامه الخدمة وتسريحه بشرف , وتذكر البردية الأمتيازات التى سيأخذها المترتبة على أنتهاء خدمته العسكرية بأمانة وتسريحه "

(5) وهناك رأى آخر يقول أنه لا يحتاج جنود الفرق الرومانية من الرومان المسرحين إلى وثائق كتابية وقت تسريحهم - وهذا يوضح أن الـ 22 شاكياً لم يكونوا مواطنين عند بدء خدمتهم فى الجيش الومانى وهم مسجلين فى قوائم القوات المساعدة لهذا كانوا فى حاجة إلى وثيقة أن ترجمة PsI 1026  ظهرت فى  l.R II, pp. 525.6

(6) المعلومات الخاصة بــ  Soknopuiou Nesos قام بدراستها وقدم تحليلاً لها D. H. Samuel, , Proceeding of the XVI of Papyrology,  American Studies in Papyrolog, 23 (1981), 389- 403 ويمكن للقارئ أن يبحث عن أشارات لدراسات فى أوراق البردى فى أماكن أخرى  

(7) الوثائق هى SB 11114 and SB 7523 = Select papyri 254  والجملة مقتبسة من شيشرون . On the Repuplice Bk, 2, ch 52

(8) مصر الرومانية الحياة فى مصر تحت حكم الرومان تأليف نفالى لويس Life in Egypt under The Roman Rule By Naphali lewis Oxford,1983  ترجمة د/ فوزى مكاوى - الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994 م ص 36