Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

المؤرخ / سالامينوس هرمياس سوزمينوس

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
الأنبا إيسيذوروس
بالاديوس مؤرخ الرهبنة المصرية
يوليوس‏ ‏الأقفهصي
نبيه كامل داود
المؤرخ إدريس بريس‏ ‏دافين
تاريخ يحى بن سعيد يحى الأنطاكى
ملاك لوقا
تاريخ سعيد بن البطريق
لمؤرخ القبطي سمير فوزي جرجس
القمص صموئيل تواضروس السريانى
المؤرخ / توفيق إسكاروس
المؤرخ / سالامينوس هرمياس سوزمينوس
المؤرخ / سُقراتيس سكولاستيكوس
Untitled 8008

 

المؤرخ / سالامينوس هرمياس سوزمينوس
حيـاتـه
سالامينوس هرمياس سوزمينوس([2])، غير معروف عنه على وجه التحديد، لا تاريخ ولادته ولا تاريخ وفاته. لذلك يرى بعض الدارسين أنه وُلِد فى وقت ما بين 370م و380م، حسب تقدير تشستر Chester، بينما يذهب آخرون إلى أنه وُلِد فى حوالى سنة 400م. وواضح أنها كلها تواريخ احتمالية لا تقريرية. على أية حال يمكننا القول أنه أحد رجال القرن الخامس الميلادى.
وقد وُلِد فى قرية بيثيليا Bethelia إحدى قرى غزة الآن([3]). ويُرجِح تشستر مترجم النص إلى أنه كان على الأرجح فلسطينيا وليس يهوديا لأنه كان، كا يرى هو، وثنيا. وبعد أن درس علوم عصره الكلاسيكية، ذهب إلى مدينة بريتس([4]) Berytus في فينيقية Phoenicia لكي يتعلم القانون المدني في مدرستها، حيث كانت هذه المدينة تتمتع آنذاك بشهرة خاصة فى دراسة القانون. ومن هنا كان لقبة اسكولاستيك.
وكان هذا اللقب يُطلق أساسا على المنشغلين بالمحاماة. وهكذا كان الحال مع رفيق عصره سقراتيس، وكذلك مع الأنبا زكريا البليغ فيما بعد. وبعد انتهائه من الدراسة ذهب إلى القنسطنطينية لكي يبدأ ممارسة عمل المحاماة.
وفي تلك الفترة تولدت لديه الرغبة فى كتابة تاريخ الكنيسة(3:2)، منقادًا بيوسيبيوس([5]) القيصرى كنموذجٍ ومثالٍ. فبدأ أولا ببعض الدراسات التمهيدية ثم كَتب عمله الكبير هذا في حوالى النصف الثاني من عام 443 م، وانتهى منه تقريبا عام 447 أو 448 م.
وجدير بالذكر أن سوزمينوس، وكذلك سقراتيس، لم يكونا بتاتا من الاكليريكين بأى شكل من الاشكال، بل كانا علمانيين([6]) فقط محبين للكنيسة وتاريخها، على عكس يوسيبيوس القيصرى من قبلهما وثيودريت اسقف كيروس من بعدهما.
وفى عمليَهما تتداخل الاحداث غير أن هناك تفاصيل لدى سقراتيس غير موجودة لدى سوزمينوس، وتفاصيل لدى سوزمينوس غير موجودة لدى سقراتيس. لذلك عملهما مكملان لبعضهما البعض([7])
ثقافته
كان الجانب الأعظم من دراسته باللغة اليونانية، والتي كان بارعا فيها، بل إنه صار واحدا من أبرع الكُتاب في أيامه كما يذكر فوتيوس([8]) المؤرخ. ومن معرفته بالأسماء السريانية والأرامية، ومن مقارنته بين أعمال مار آفرام في لغتها الأصلية وبين ترجمتها في اللغة اليونانية، ومن حديثه عن الرهبان السريان، وكذلك استخدامه للوثائق التي كتبها مسيحيو سوريا وفارس خاصة اديسا Edessa، ومعرفته الواسعة بتاريخ الكنيسة السريانية، يمكننا أن نستدل على إحاطته باللغة السريانية. أما بالنسبة للغة اللاتينية، فإنه اذا كان من الصعب البت في هذا الأمر، إلا أنه يمكن القول أن عمله كمحامى كان يجعله يُلِّم بلغة القضاء التى كانت آنذاك اللاتينية لأن كل الأحكام والقوانين كانت بهذه اللغة. غير أننا نجد من ناحية أخرى، أنه عندما كان يستشهد بوثائق لاتينية، كان ينقلها عن ترجمات يونانية!!.
على أية حال كان سوزومينوس ذا ثقافة عالية ودراية بالفلسفات والكتابات الأدبية غير المسيحية([9]).
أما عن تعليمه المسيحي، فقد كان يعترف بقانون الإيمان النيقاوي، وإن يقر بعدم درايته التامة بالأمور اللاهوتية. إذ بعد أن يسرد نص رسالة القديس غريغوريوس النزينزي إلى نكتاريوس Nectarius يقول للقارئ انه لا يستطيع القول أنه يفهم أو يشرح هذه الأمور بسهولة.
كذلك نجده يدافع في تاريخه عن القديس يوحنا فم الذهب ضد الاتهامات التي وُجهَّت إليه، مثل تلك التي ذكرها سقراتيس في تاريخه.
تاريخه الكنسي
بدأ سوزومينوس في كتابة "تاريخه الكنسي"، كما قلنا، فى حوالى سنة 443م وإنتهى منه سنة 448م على الأكثر، وأهداه إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير أو الثانى. وكان من المفترض أن يغطى الفترة ما بين نهاية عمل يوسيبيوس القيصرى (والذى ينتهى عند 325م) إلى السنة "السابعة عشر من حُكم ثيودوسيوس الصغير" حسبما أعلن فى تمهيده، أى سنة 439م.
ولكن ما وصلنا فعلا من مخطوطته يقف عند 429م تقريبا، حيث فُقِد الجزء الأكبر من كتابه التاسع والذى يُغطى الأحداث من عام 425م إلى عام 439م. وقد كان بالفعل كذلك الى عهد المؤرخ فوتيوس(ق9م).
ومن الفصل الأول من "تاريخه الكنسي"، محل إنشغالنا الآن، نعرف أن هذا العمل لم يكن عمله الأول بل كان قد وضع قبلا ملخصا لتاريخ الكنيسة منذ صعود السيد المسيح إلى هزيمة ليسينيوس فى عام 323 م فى إثنى عشر "كتابا" [أى بابًا]. وشملت مصادره يوسيبيوس القيصرى، عظات كليمندس، هجيسبيوس، سيكستوس يوليوس افريكانوس(1/1/9). وهذا العمل مفقود الآن ولم يصلنا.
أما "التاريخ الكنسي" لسوزومينوس فيتكون من تسعة كتب [أى أبواب، كما قلنا] يسبقهـا إهداء إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، وهي كما يلي:
الكتابان الأول والثاني: تاريخ الكنيسة أثناء حكم قنسطنطين Constantine.
الكتابان الثالث والرابع: تاريخ الكنيسة أثناء حكم أبناء قنسطنطين.
الكتابان الخامس والسادس: تاريخ الكنيسة أثناء حكم يوليانوس(المرتد) Julian وجوفيانوس Jovian وفالينتينيانوسValentinian وفالنس Valens.
الكتابان السابع والثامن: تاريخ الكنيسة فى عهد جراتيانوس Gratian وفالنتنيانوس( الأصغر) وثيودوسيوس الكبير Theodosius، واركاديوس Arcadius وهونوريوس Honorius.
الكتاب التاسع: يخص عهد ثيودوسيوس الصغير. (والذى لم يصلنا كاملا لسوزمينوس).
مـصــادره:
ماهى مصادر سوزمينوس؟. هناك جدل بين الدارسين الغربيين بشأن مصادر سوزمينوس. فالبعض يُسرِع بالقول أنه نقل عن سقراتيس معاصره والذى على ما يبدو أصدر عمله قبله، ويرون أن ثلاثة أرباع عمله هى من سقراتيس اسكولاستيكوس، حيث تظهر العلاقة الأدبية بين هؤلاء الكاتبيَن فى مواضع عدة (أنظر مثلا سقراتيس10:1 مع سوزمينوس22:1).
ولكننى أرى ان اعتماد سوزمينوس على سقراتيس ليس بهذه الدرجة التى تجعله فى نظر البعض ناسخا لسقراتيس، ولكن التشابه أو حتى التطابق بينهما فى ذات الحادثة أو الواقعة يعود، فى نظرى، إلى وِحدة المصدر أو المصادر. فما من شك أنه بالنسبة للأحداث القديمة نقل كلاهما من مصادر مكتوبة قبلهما. ومن هنا من الممكن لى قبول الرأى الذى يرى أن سوزمينوس قد استفاد من عمل سقراتيس فى التعرف على المصادر، ومن الممكن أيضا أن يكون قد استفاد منه فى ترتيب الأحداث. فهذا أمر ما زال حادثا حتى يومنا هذا حيث يَطَّلع باحث ما على مصادر عمل آخر، ثم يقرأ هو هذه المصادر بنفسه ويصوغها بأسلوبه هو، ويُضفِى عليها أو بالأحرى يُضمِنها وجهة نظره ورؤيته الخاصة.
ويرى البعض أنه بالنسبة للنوفاتيين([10])، اعتمد بالكامل على سقراتيس. ولا مانع لدىّ فى قبول هذا الرأى، على أساس أن آخرين يُرجحون أن سقراتيس ربما كان من شيعة النوفاتيين.
ولكن بلا شك كان لكلٍ منهما مصادره الخاصة إلى جانب المصادر المشتركة بينهما. وبالإضافة إلى ذلك كانت لكل منهما وجهة نظره الخاصة فى تناول ذات الحدث. بل أقول كان لكل منهما هدفه الخاص من وراء انتقاء الأحداث التى يرويها، وسأدع كل قارىء يستخلص هذا الهدف بذاته.
أما عن المصادر التى استقى منه سوزمينوس معلوماته فى هذا المكان أو ذاك، فيمكننا بصفة عامة، التعرف عليها بسهولة. رغم أنه لم يكن يشير، إلا فيما ندر، إلى مراجعه. وهى كما يلى:
(1) أول مصدر بالطبع هو " تاريخ الكنيسة" ليوسيبيوس القيصرى، وكذلك "حياة قنسطنطين" لنفس الكاتب.
(2) " أعمال أثناسيوس" الرسولى التاريخية وكذا كتابه عن "حياة الأنبا انطونيوس". حيث نجده يُكمِل رواية سقراتيس من عمل البابا أثناسيوس "ضد الاريوسيين"، كما ينسخ من رسالة البابا أثناسيوس إلى اساقفة مصر(18، 19).
(3) الكتابان التاريخيان اللذين أضافهما روفينوس الأكويللى القس الإيطالى، فى ترجمته اللاتينية لعمل يوسيبيوس القيصرى، والمعروفان بالكتابين "العاشر والحادى عشر" لروفينوس([11]). وبالطبع روفينوس هنا فى كثير من الأحداث كان المصدر الأول لسقراتيس وسوزومينوس ومَن بعدهما.
وهنا نلاحظ تميز كلٌ منهما فى تناوله لذات المصدر الواحد، إذ سنرى أن سوزمينوس كان أكثر قربا لروفينوس فى تناوله لراوية طفولة أثناسيوس، عن سقراتيس، مما يدل على أن كلا منهما أعد تاريخه بأسلوبه الخاص من ذات المصادر، ولم يكن ناسخا للآخر.
(3) عندما يتكلم عن كواكب الرهبنة ورموزها البارزين فى مصر فى مواضع مختلفة من عمله كانت تحت يده بالطبع أعمال: بالاديوس، و" وصف الرهبان السبعة الذين من أورشليم" المعروف باسم "هستوريا موناخورم"، ووصف روفينوس.([12])
(4) بالنسبة لمصادر السجلات الكنسية استخدم سوزمينوس بصفة اساسية عمل سابينوس Sabinus الذى كان يشير إليه بإستمرار. وأيضا سجلات المجامع من صُور(355م) إلى انطاكية التى فى كاريا(367م).
(5) واستخدم سوزمينوس مصادر أخرى عديدة انفرد هو بها. فهناك الكثير من الصفحات التي لا نجدها في تاريخ سقراتيس، ولكنها توجد فقط في تاريخ سوزومينوس، مثل الحديث عن اضطهاد المسيحيين في فارس أثناء حكم سابور الثاني Sapor II والذي استقاه بالتأكيد من " أعمال شهداء فارس". وكذلك التواريخ الرهبانية، و"Vita Martini" لسلبيسيوس ساويرس. واعمال هيلاريوس، ويوستاثيوس الانطاكى، ورسالة كيرلس الأورشليمى إلى قنستانتيوس بشأن ظهور الصليب الإعجازى، و"عمل" بالاديوس. هذا إلى جانب التقليد الشفاهى([13]) على نحو أضاف قيمة متميزة لعمله. بالإضافة إلى مصادر أخرى غريبة أكثر، من سقراتيس.
(6) ومن فترة ثيودوسيوس الأول، كف سوزمينوس عن تتبع عمل سقراتيس، واتبع نهج اولمبيودورس الطيبى Olympiodorus of Thebes الذى ربما كان المصدر المدنى الوحيد لسوزمينوس، حيث يبدو الكِتاب التاسع لسوزمينوس اختصارًا لعمل اولمبيادورس هذا، فى نظر شستر مترجم النص إلى الإنجليزية.
(7) هذا بالإضافة بالطبع إلى " اعمال" باسيليوس القيصرى، وغريغوريوس اللاهوتى، وكتاب بالاديوس "حوار عن حياة فم الذهب"([14]). فضلا عن تاريخ يوسيبيوس القيصرى الذى يُكمِل تاريخه. ليس هذا فحسب، بل نجده يشير(فى ك 19:6) إلى عمل للبابا الأسكندري تيموثاوس خاص بسير بعض الرهبان. لكنه بالطبع لم يكن ينقل منهم بالنص، ولكن بإختصار وبأسلوبه الخاص كقارىء يعرض بنفَسِه ما قد قرأه من معارف([15]).
(8) والى جانب ذلك اعتمد على وثائق أخرى فنجده يقول "ولكننى بحثتُ عن سجلات أحداث التاريخ القديم بين القوانين الراسخة المتعلقة بالديانة، وبين مضابط مجامع الفترة، وبين البدع التى ثارت وفى رسائل الملوك والكهنة. وكانت بعض هذه الوثائق محفوظة فى القصُور والكنائس وأخرى كانت متناثرة بين ممتلكات بعض المتعلمين"([16])
ويُلاحَظ أن سوزمينوس يبذل جهدا مضنيا لكى يكون مُلما جيدا بكافة مصادر المعلومات الخاصة بالموضوع الذى يطرقه، فقد كانت لدية رغبة جامحة فى الوصول إلى الحقيقة. فكان يتتبع مصادره بدرجة وثيقة، وفى بعض الأحيان حرفيا. ولذلك عندما كانت هناك اختلافات فى المصادر فيما بينها كان يعرضها كلها فى العادة.

نقد عمل سوزمينوس
إن عمل سوزمينوس شيق وقيّم لعدة أسباب:
1- أنه يُعطي، أكثر من أى مؤرخ سابق له، اهتماما كبيرا لنشاط المسيحيين التبشيرى. فيحدثنا عن العمل الكرازي في "إيبيريا" Iberia التى هى جورجيا الآن، وفى أرمينيا، والحبشة التى يدعوها نقلا عن روفينوس "بالهند الداخلية"، والقوط، والساراسيين أى العرب. وكان أول مؤرخ يقدم وصفا أشمل للمسيحية في سوريا وفلسطين. كما يذكر بعض أبعاد الحياة المسيحية والمعاناة في اديسا.
غير أنه كان على غرار سقراتيس يهتم بالأكثر بالتاريخ المسيحى الشرقى، لذا لا يتحدث على الإطلاق عن الكنيسة في إفريقيا، ويروى القليل جدا عن الكنيسة الغربية فى علاقتها بالشرق. وقد اختصر ثيودريت عنه هذه الأخبار فى عمله "التاريخ الكنسى".
2- وكان معجبا بشدة بالحياة الرهبانية التى اعتبرها "الفلسفة"([17]) الحقيقية للحياة. فتحدث عن ظهور وانتشار الرهبنة المسيحية، وجهادات مؤسسيها الأوائل فى إنشاء الأديرة والجماعات الرهبانية، مؤكدا أن الحياة النسكية هي، فى نظره، "الفلسفة" الحقيقية، وأن مؤسسيها هم فقط "الفلاسفة" الحقيقيون. فذكر آباء الرهبنة وقادتها العظماء في الأماكن المختلفة، وجعل ذلك سمة لمعالجته التاريخية لحياة الكنيسة. رغم أنه لم يكن راهبًا، فمع إعجابهبعظمة الرهبنة الروحية، إلا أنه لا يقول أبدا أنه اتبع هذا الدرب المقدس، بل انكر على نفسه الحق أو القدرة على اتباع هذا النهج، ويقول "لأننى لا أرغب فى أن أُعتَبر غير لطيف نحوهم، ولا أن أُهمِل فضائلهم، ولا أن أكون جاهلا بتاريخهم. ولكننى أرغب فى أن أُخلِف ورائى سجلا بسلوك حياتهم هذه، حتى ما يحض الآخرين على الإقتداء بنموذجهم إلى نهاية سعيدة ومباركة"([18]). ولذلك يُقدّم لنا السير الرهبانية بإسهاب أكثر نوعا ما عن سقراتيس، وبتأمل روحى جميل لا يخلو من رأي فلسفى له.
3- وعلى الرغم من أن معالجته للكنيسة الغربية لم يكن تاما إلا أننا نجد صفحات عنها تضم حقائقً ليست متوفرة فى أعمال أخرى، وتُعتبَر من الناحية الوثائقية ذات أهمية قصوى. وتتضح بجلاء روح واهتمام سوزمينوس التاريخى فى تتبعه لخيوط رواية سقراتيس، ولكنه يسعى إلى تجويدها والتفوق عليها بتعبير أنيق وباستخدام أفضل لمصادر ممتازة.
4- وتختلف نظرته لدور المؤرخ عن تلك التى لسقراتيس، فهو يرى (فى ك15:3) أن دور المؤرخ هو تجميع الحقائق دون إضافة شىء إليها. ومن هنا لم يكترث كثيرا بنقد مصادره([19]) بل كان يتبنى فى العادة وجهة نظرها، لدرجة أنه أُتُهِم بالأريوسية والنوفاتية!!. بينما فى الحقيقة، لم يكن له أى رأى فى الجدل اللاهوتى، وقد عبَّر عن ذلك صراحة وبكل جلاء.
5- وفى تناوله لأوضاع الكنيسة، وطرق تفسير الكتاب المقدس، ووجهة نظره فى التسلسل الكهنوتى وكرامة الرتب الكنسية، كان دائما يتناول هذه الأمور بشعور الخضوع والاحترام. فقد كان مقتنعا اقتناعا عميقا بدور العناية الإلهية فى مجرى التاريخ([20])، وقيادتها وإرشادها للكنيسة. وأن رسالة الكنيسة هى أساسا تنظيم شؤون البشر تحت الارشاد الإلهى.
وبالنسبة لطرق تفسير الأسفار المقدسة يأخذ بالرمزية كمنهج للتفسير. وفى الشؤن العقائدية حرص كل الحرص على التمسك بعقيدة الكنيسة الجامعة الرسولية الأرثوذكسية معتبرا إياها العقيدة الأصلية الحقيقية. واعتبر صيغة مجمع نيقية للإيمان الصيغة النهائية التى لا يجوز إضافة أى شيء إليها أو حذف أى شيءٍ منها. لكنه لم يدونه ضمن تاريخه خوفًا من أن يطلع عليه ، كما يقول، غير المُعمَّدين. فعارض بشدة كل انواع الهرطقات بكافة أشكالها.
ولكن بينما كان يكره بشدة الاريوسية و"الغنوسية الوثنية" والمونتانية والأبولينارية وغيرها، لم يسمح لنفسه بتاتا بالهجوم على قادتها([21])، إذ يقول " ولا يبدو غريبا إن قدَّمتُ توصيات بشأن قادة البدع السابق ذكرهم، أو المتحمسين لها، فاننى معجب ببلاغتهم ومثابرتهم فى الخطابة. واننى أدع الحُكم على عقائدهم لمن لهم الحق"([22])
6- ورغم أنه مؤرخ مسيحى أساسا ويؤرخ للتاريخ الكنسى، إلاَّ أننا نلاحظ أصداء قراءاته الفلسفية والأخلاقية فيُعلِّق مصححا لهذا الرأى أو ذاك متى وجده رأيا أو قولا غير سليم. مثلما نرى فى (ك 6:5) حيث يقول ليس صحيحا أنه حسبما يكون الجسد هكذا تكون النفس كما يقول البعض، ولكن على العكس يتشكل سلوك الجسد تبعا لنشاط النفس.
7- ويساعدنا هذا التاريخ على معرفة بعض "الاسرار الكنسية" (العماد، التناول، الاعتراف) تاريخيا. بل وأيضا ترتيبات موسم البصخة (فى ك18:7)
8- كما يكشف لنا هذا التاريخ عن أن جميع الهرطقات قد نبعت من "تضخم الذات" و"الأناوية". فكل خادم كنسى أيا كانت رتبته يُريد أن "يأتى بجديد" لم يعرفه أحدٌ من قبله ولا من بعده. وليس مهما أن يكون ذلك حسب التفليد الكنسى أو حسب الكتب المقدسة، المهم أن يكون منسوبا له.
9- وعلى الرغم من أن تاريخ سوزمينوس تاريخا كنسيا محضا إلاَّ أنه اشتمل على بعض السير لبعض القديسين والرهبان الذين كان يحلو له طوال عمله هذا أن ينعتهم، كما قلنا، "بالفلاسفة" ليس بالمعنى الحالى للكلمة ولكن بمعنى اصطلاحى عنده، استخدمه على اساس المعنى اللغوى للكلمة. فالفلسفة لغويا تعنى "حب الحكمة" والراهب يبحث عن "الحكمة الحقيقية" التى هى معرفة الله والحياة الدائمة معه. أو عن "اقنوم الحكمة" الذى هو "الله الكلمة". ومن ثم الرهبنة والحياة النسكية عنده هى "فلسفة" الحياة "الحقيقية" من وجهة نظره وموقف فكرى، ومَن يتبناها هو بالتالى، "الفيلسوف" "الحقيقى" فى نظره.
10- وسجل أيضا اكتشاف أجساد القديسين، الذى حدث قبل، أو فى زمانه. فيذكر منهم: ميخا، وحبقوق، وزكريا، ويوحنا المعمدان، واسطفانوس، والأربعين جنديًا، وهيلاريون الكبير، فضلا عن العثور على الصليب المقدس للمسيح والمسامير التى سُمِّر بها.
وذهب البعض إلى أنه وهو يحاول أن يُعِدّ تاريخا كنسيا أفضل من الذى لسقراتيس قد وُفِّق جزئيا. فصحيح أنه قدَّم مرارا مادة إضافية، ولكنه نادرا ما حَسَّن من النموذج السابق له. كما أخفق، مثل سقراتيس، فى تتبع التسلسل الزمنى عن كثب.
وفى الحقيقة، هناك العديد من الأخطاء وأوجه القصُور فى عمله. وقد كان هو نفسه واعيا بالكثير منها، لكن لم يكن فى وسعه تصحيحها. فكثيرا ما كان من العسير عليه أن يعرف الحقيقة فى خضم الأدلة المتباينة التى يتناولها والتى كانت فى غالب الأحيان ليس بها دليل كافٍ. ولكنه سعى فى كل حالة إلى التعبير عن الحقيقة وإلى أن يجعل عمله يُقدِّم شيئا نافعا فى الدفاع عن المسيحية واستجلاء مفاهيمها.
ويهمنى هنا أن اسجل بعض الملاحظات على هذا العمل:
1- ينبغى الوعى منذ البداية، منعا لأى تشوش، بأن سوزمينوس عند سرده للأحداث لا يتتبع الترتيب الزمني لوقوعها وإنما يسردها حسب موضوعها حيث كان يجمع أحداث حقبة أو فترة ما معا. ومن ثم من الممكن أن تجده مثلا يقول عن حاكم ما أنه غادر المدينة، ثم يسرد بعد ذلك واقعة حدثت أثناء وجوده. وهو نفسه يؤكد هذا الرأى إذ يقول فى (4/11/1) "على الرغم من أن ما قد سجلته لم يحدث لأثناسيوس وكنيسة الأسكندرية فى نفس الفترة من الزمن..."
2- يرى البعض أن سوزمينوس اعتمد فى تاريخه على السماع، وربما استند رأيهم هذا إلى تكرار كلمة "يُقال" فى أكثر من موضع من عمله هذا. ولكننى أرى أن هذه الكلمة قد استخدمها سوزمينوس هنا عند نقله من مصدر قرأه. حيث يُلاحَظ أنه لا يذكر اسماء الكتّاب الذين رجع إليهم، ولا حتى أسماء أعمالهم إلا فيما ندر جدا مثل إشارته إلى "اعمال المجمع" بالنسبة لبعض المجامع. والدليل على ذلك أنه عندما يذكر واقعة إقامة القديس أثناسيوس الرسولى(البابا الأسكندرى العشرون فى عداد بابوات الأسكندرية) لدى عذراء جميلة وحكيمة بالأسكندرية والتى كان بالاديوس أول مَن ذكرها(فى عمله "التاريخ الرهبانى") حيث زارها وهى فى شيخوختها([23])، نجده يقول هنا "ويُقال". رغم أنه من الثابت أن "عمل" بالاديوس كان متاحا للجميع وباللغة اليونانية فى أوائل القرن الخامس الميلادى، بينما وُلِد سوزمينوس فى حوالى سنة 400م كما قلنا عاليه، وكَتب تاريخه فى عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير، فلنقل فى خلال أربعينات القرن الخامس الميلادى.
3- لمَّا كان سوزمينوس، وكذلك سقراتيس، ليس اكليريكيا بأى نحو، وإنما هو شخص علمانى محب للكنيسة وتاريخها فقط. لذا لم يتبحر فى مناقشة العقائد، وكان يحيل قارئه صراحة إلى الكتابات المتخصصة فى ذلك.
ولذا أرى قراءة هذا الكتاب جنبا إلى جنب مع كتابى "تجسد الكلمة" و"ضد الاريوسيين" للقديس اثناسيوس الرسولى البابا الاسكندرى العشرون فى عداد باباوات الأسكندرية([24])، لفهم المصطلحات العقائدية التى كانت محور الصراع الذى دام نحو ستين عاما من 325م إلى حوالى 381م. بل وامتدت توابعه ولواحقه إلى مجمع خلقيدونية. وخاصة مصطلحات "جوهر" و"طبيعة" و"اقنوم" و"هيبوستاسيس" و"هوموسيسوس" و"هوموأوسيوس".
4- أن المرء عند قرائته لهذا التاريخ يخال له أنه يقرأ تقريرا للأحداث الجارية فى أيامنا الحالية.
5- يجب الوعى أن تعبير "ارثوذكس" عند سوزمينوس هنا لا يعنى المعنى الطائفى الحالى، ولكنه يعنى "أصحاب العقيدة النيقيّة" فى مواجهة البدع والهرطقات. وأن تعبير "كنيسة كاثوليكية" أيضا لا يعنى المعنى الطائفى الحالى، ولكنه يعنى الكنيسة "الجامعة" لكل الأجناس واللغات المؤمنة بالإيمان الواحد الارثوذكسى بالمعنى المذكور توا. ولذلك ترجمتُ بإستمرار "كاثوليكية" إلى "جامعة" منعا للتشويش الطائفى.
6- كذلك كان يقصد بكلمات "بربرى" و"بربر" الأجناس غير الرومانية بصفة عامة، بنفس فكر اليونانيين الذين كانوا ينعتون كل مَن هو غير يونانى بهذا اللقب. وهو مِثل لقب "العُجم" عند العرب، و"الأمم" عند اليهود.
7- كذلك يلزم الإلمام بأن كلمة "شركة" فى هذا العمل يُراد بها الاشتراك فى التناول من "السرائر المقدسة". وهو دليل على الاتفاق فى العقيدة مع الشيعة التى يتم التناول مع أعضائها. ولذلك نجد دائما فى المراسيم الصادرة من أى مجمع، قانونى كان أو خاص بالهراطقة، كان يتم النص فيها على عدم اشتراك أعضائها فى التناول فى الكنائس المضادة أو حضور اجتماعات فيها. فضلا عن حرومات أخرى.

مـقدمـة المترجم
حياته

الاسم سالامينيوس هرمياس سوزمينوس([25])، هو اسم غير عادى وصعب. ولذا يبدو أنه من المرغوب فيه أن نتبنى الترتيب الذى تبناه فوتيوس([26]) Photius على أن نحتفظ بالهجاء الذى [يَظهر] لدى نيسيفورس كاليستوس Nicephorus Callistus، وفى عناوين caption المخطوطات الرئيسية، ولذلك ندعوه سالامينيوس هرمياس سوزمين Salaminius Hermias Sozomen. وليس من الممكن أن نحدد بالضبط إلى ما تشير كلمة سالامينيوس. فليست هناك أية بيانات توضح بالضبط العلاقة الرئيسية بين سوزمينوس وسالاميس المقابلة لأثينا، أو سالاميس Salamis (كونستاتياConstantia ) فى قبرص. فمن المؤكد ليس هناك أى سجل لأى مصدر أصلى. ففى الفقرة 32:6، وهو يتكلم عن أنوار الرهبنة الأعظم فى فلسطين: هيلاريون Hilarion وهيزيكاس Hesychas وابيفانيوس Epiphanius يُلاحَظ أنه "فى نفس الفترة كان فى الأديرة سلامينس Salamines وفوسكون Phusconوملاخيون Malachionوكرسبون Crispion، أربعة اخوة كانوا متميزين بشدة".
وفى الجدل العنيف بين ابيفانيوس والامبراطورة [عندما] قالت له الثانية "ليست لك قوة لإقامة الموتى، وإلا لمَا مات رئيس شمامستك"، يشرح سوزمينوس [ذلك] "أنها أشارت إلى كريسبون رئيس الشمامسة الذى كان قد توفى قبل ذلك بوقت قصير. وقد كان أخا لفسكون وسالامينوس الراهبيَن اللذين انتهزتُ فرصة ذِكرهم عند تناول تفاصيل الأحداث فى عهد فالنسValens "(15:8). وتتنوع القراءة فى الاقتباس الأول بين سلامينس وسلامنس.
ولما كان هؤلاء الرهبان من عائلة آلافيون Alaphion الأصدقاء الحميمين وجيران لجد سوزمينوس (15:5) فإنه يمكن تخمين أن سلامينس كان على علاقة ما مع سوزمينوس، كأن يكون معلما أو راعيا، ومن ثمة يكون لقبه هذا ناجم عن مثل هذه العلاقة. ويبدو غريبا فى مثل هذه الحالة أنه لم يذكر هذا الرباط، أو على الأقل يؤكد حياة هذا الأخ الخاصة بإشارة ما ولكنه ببساطة يذكر أن "بعض الرجال الطيبين، الذين ينتمون إلى هذه العائلة قد أزدهروا حتى فى أيامنا هذه. وفى شبابى رأيتُ بعضهم، ولكنهم كانوا آنذاك مسنين جدا". وفى فقرات أخرى (32:6، 15:8)، وليست هناك أية اشارة لهذه الصداقة الحميمة. وفى نفس الوقت يبدو أن ذلك تفسيرا ترجيحيا للقب([27]).
أما هرمياس فقد كان اسما شائعا تماما بين المسيحيّن. إذ كان مرتبطا بتكريم محلى أو مكانى لهرماس Hermes كمُعطِى للهبات غير المتوقعة، أو ربما تعبير عن التمنى من والديه للنجاح المستقبلى للوليد الجديد. وعلى الرغم من أنه يحمل صدىً وثنيا إلاَّ أنه كان عاديا فى هذه الحالة، لأنه كان من الجد.
واسم سوزمينوس نفسه من الناحية الوثائقية لم يكن معتادا. ومن المحتمل أنه أُعطِى للطفل من الأب كإعتراف تقوى بالنجاة لنفسه وللطفل وبالمقابلة مع اللقب العائلى. وفى رسالة لإيسيدورس البيلزيومى موجهة لحاكم ما præfectus domestico (300:1)، كان اسمه أيضا هكذا، ولا بد أنه كان معاصرا له. إنه بالطبع مفاجئة سارة أن يتطابق اسمه مع المؤرخ، وليس ذلك بالمستحيل على الاطلاق لأن ايفاجريوس Evagriusالمدافع والمؤرخ كان مُعززا جدا ("ت. ك"، 24:6). واشاراته الخاصة بالسير فى عمل سوزمينوس الباقى الذى وصلنا، هى من الأقل، وفيما عدا التقليد، لم تحتفظ بشىء على الاطلاق.
وكان اسلافه منذ زمن بعيد من سكان قرية بيثِليا Bethelia فى مقاطعة غزة، وبالقرب من تلك المدينة الهامة. وكانوا، من المحتمل، من جهة الجنس من نسل فلسطينى أكثر منه يهودى، لأنهم كانوا وثنيين (هلينيين) إلى زمن هيلاريون فى الربع الثانى من القرن الرابع الميلادى. ويقابل مؤرخنا بينهم وبين العبرانيين.
وكانت عائلته إحدى العائلات المتميزة وتنتمى إلى نوع من أشراف القرية. فقد كان ألفيون Alaphion يحظى بكرامة أعظم. وكانت قرية بيثليا تكتظ بخليط من اليهود والأمم. وكان الأمميون، مع ذلك، يسودون بدرجة كبيرة. ويبدو أن اسمها مشتق من البانسيون Pantheon المُشيَّد على ربوة صناعية، وبذلك كان يطل على كل المدينة التى كانت غيرتها الدينية الشاملة مرموزا إليها بهذا المعبد الذى أخذ اسمه الاصلى من السريانية، ثم صُحف باليونانية إلى نعت يعنى "محل جميع الأرباب". فقد أُعطِى لقب Bethel أولا للمعبد ثم انتقل للمدينة (بثيليا). واستخدام شكل كهذا يشير إلى أن اللهجة التى كانت سائدة كانت تنوعا من السريانية أو الآرامية، وقد كُتِبت أيضا بالشكل Bethelea (32:6).
وقد وُلِد هيلاريون فى قرية أخرى تدعى ثباثا Thabatha بالقرب من غزة أيضا إلى الجنوب فى وادى بنفس الاسم. وقد صار طالبا فى الاسكندرية، ولكنه تبنى الحياة الرهبانية من خلال مثال انطونيوس. وعند عودته إلى وطنه، وجد والداه قد توفيا، فوزع نصيبه من ممتلكات والده على الفقراء ثم اعتكف فى الصحراء بالقرب من البحر على مسافة عشرين استاديا([28])stadia من قريته. وبدأ مهنته الرهبانية كمؤسس لهذا النظام الأخلاقى فى فلسطين. وقبل أن يهرب إلى معتكف آخر وبعيد، تواصل مع ألفيون رأس العائلة النبيلة فى بثيليا، الذى كان على درجة صداقة حميمة بجد سوزمينوس.
وكان ألفيون عليه روح نجس، ولم يستطع الراقون اليهود ولا الوصفات formularies الوثنية إخراجه. فدعا هيلاريون بإسم المسيح فقط، فطُرِد الروح الخبيث(15:5)، وصار الرجل الذى شُفِى مسيحيا فى الحال. وآمن جد سوزمينوس أيضا بعناية صديقه، وكذلك تبنى أبو سوزمينوس الايمان الجديد. وانضم أقارب آخرون إلى صفوف المؤمنين فى هذه المدن الوثنية لأن غزة المدينة الرئيسية أظهرت العداوة للإنجيل. وكان الجد ذا فطنة أصيلة وله دراية معقولة بالدراسات العامة، ولم يكن بلا معرفة ما بالحساب، وقد أهَّله مركزه الاجتماعى والفكرى لأن يكون متميزا بين المهتدين، وبصفة خاصة كمفسر للأسفار المقدسة، فكسب محبة المسيحيين فى عسقلون وغزة والمناطق الأخرى. وتقديرا لحفيده كان رمزا، ضروريا فى الحياة الدينية للجماعات المسيحية. وكان الشعب ينقلون إليه الكتابات المقدسة الصعبة ليحلها لهم. ولكن لا يبدو أنه شغل أي وظيفة اكليريكية. وبينما كان جد سوزمينوس ظاهرا للعيان كمُعلم دينى فى جنوب غرب فلسطين والمنطقة الفلسطينية القديمة، كان ألفيون وعائلته متميزين فى الأعمال ذات الصفة العملية. فقد أسسوا كنائس وأديرة، وكانوا نشطين فى إراحة الغرباء والفقراء. وقد تبنى البعض الفلسفة الجديدة، وخرج من صفوفهم شهداء واساقفة. ولم يقل سوزمينوس شيئا عن والده سوى أنه كان وثنيا وأنه وُلِد لذلك قبل ارسالية هيلاريون.
وقد أدى مرسوم يوليانوس Julian إلى انتعاش فجائى للديانة القديمة للدولة، مما أدى إلى اضطهادات محلية كثيرة حيث كان الوثنيون الحزب الأقوى، فكانت غزة وتوابعها من عداد هذه المواضع.
وقد سجل مؤرخنا بعضا من مآسى هذه الفترة غير السعيدة. واضطرت عائلة ألفيون وسوزمينوس إلى الهرب، ولكنه لم يقل لنا إلى أين. ومن المحتمل إلى المعتكفات فى أقصى الطرف الجنوبى، وبكل تأكيد عاد المنفيون(15:5) بعد اعتلاء جوفيانوس Jovianللعرش على الأرجح.
ويمكننا أن نخمن تاريخ ميلاد سوزمينوس كما يلى: كان نشاط هيلاريون فى فلسطين بعد مجمع نيقية وقبل ارتقاء يوليانوس للعرش، أى يمكن القول حوالى 345م. وكان عمر الجد عند اهتدائه حوالى الأربعين، حيث صار ملمحا بارزا ظاهرا للعيان، وكان الأب صبيا عندما حدث هذا التغير فى العبادة المحلية. أما النفى فى عهد يوليانوس فقد حدث حوالى 362م تقريبا، والعودة منه كانت سنة 364م، عندما صار الصبى شابا. وبذلك يمكن أن نضع ميلاد سوزمينوس فى وقت ما بين 370م و 380م.
وقد تنيح هيلاريون حوالى سنة 371م، وافرايم السورى سنة 378م. وكان جراتيان امبراطورا للغرب وثيودوسيوس Theodosiusالكبير كان قد خلف لتوه فالنس فى الشرق. وكان امبروسيوس أكثر الكنسيّين تأثيرا فى الغرب، وغريغوريوس النزينزى وابيفانيوس قادة الأرثوذكسية فى الشرق.
وهناك القليل عن تعليمه فقد كان توجيه الرهبان له حقيقة إذ كان النمط النسكى هو فقط شكل الحياة المسيحية المعروف فى ذلك الاقليم. فقد كان الاساقفة وذوى الرتب الاكليريكية يُختارون من الفلاسفة([29]) العمليِّين. وهناك تسلسل للرجال الأتقياء من صُلب ألفيون، ألمَّ سوزمينوس الشاب ببعض من بين قادة الجيل الثانى بدرجة كبرت أو صغرت. وقد ذُكِرت بالفعل اسماء بعضهم (15:5، 32:6، 15:8) وكانوا جميعا تلاميذ لهيلاريون. ولابد أن رابع الاخوة واسمه ملاخيون كان قد رحل بالفعل وأحاطت بذكراه الأساطير. وكان تأثير ابيفانيوس فى سائر أرجاء فلسطين وبصفة خاصة فى منحدراتها الجنوبية، كبيرا فى تشكيل صفة الفكر التقوى والمشاعر. وكانت قوته ما زالت عندما كان سوزمينوس صبيا.
هذه الروايات للقيمة المتعاظمة التى يضعها للتلمذة الرهبانية كفلسفة حقيقية، ولماذا يرغب فى ألاَّ يظهر كناكر للجميل بالنسبة للذين غرسوها عند كتابة تاريخه، جعله ذلك لا يشأ أن يكتم تلك الحركة الهائلة، وأن يحيى ذكرى قادتها البارزين فى الأقاليم المختلفة. وفى الحقيقة لقد قرر أن يجعلها ملمحا فى تناوله لتاريخ وحياة الكنيسة. ومع ذلك ليس هناك ما يدل على أنه قد صار هو نفسه راهبا، ومع كل اعجابه بتميزهم الروحى، لم يدعِّ أية تبعية مباشرة بل بالأحرى ينكر حقه أو منافسته فى غزو نطاقهم. ونحن متأكدون أنه تلقى تعليمه الأساسى فى المدارس الرهبانية لذلك الزمان التى على غرار المؤسسات المماثلة فى الاسكندرية. لقد كانت ضيقة([30]) وتزداد كراهية للأدب الوثنى، ومن ناحية أخرى كانت آبائية ومحلية فى لهجتها. وهذا يُصُور رغبته فى الارتقاء بأهمية فلسطين، فى مقابل تركيز كل الثقافة فى القنسطنطينية.
كانت دروسه الأساسية باللغة اليونانية التى كان يتقنها والتى صار فى الحقيقة واحدا من أفضل النحويين stylist فى زمانه، طبقا لحُكم شخص جيد جدا مثل فوتيوس([31])، وكان يُلم بالأسماء الآرامية والسريانية ودقة تصحيفها. ويشير إلمامه الكبير بتاريخ الكنيسة السورية إلى معرفة مماثلة على الأقل باللهجة المنتشرة على نطاق واسع. وبالكاد استطاع أن يفلت من اللهجة العامية التى كانت سائدة على اليونانيين فى بثيليا(16:3). إنه يسمح بخسارة الموهبة الأصلية وقوتها فى الترجمة، ولكنه يسجل أن أعمال افرايم كانت مُحرَّرة باللغة اليونانية السائدة فى أيام افرايم نفسه دون أى تغيير. وهو يؤسس رأيه هذا على أساس المقارنة بين الأصل ونُسخه. الأمر الذى يجعل المرء يميل إلى الاعتقاد أنه قد قرأ جميعها. ولذلك فإن جهده فى الحفاظ على التوازن فى الكتابة بين الأراضى الحدودية والأراضى المركزية للإمبراطورية، [بل] وفى الحقيقة فى خارجها، إنما يشير إلى انسجام لُغوى أوسع. ففى ك34:6 يتحدث بعاطفة عن الرهبان السوريين الذين كانوا موجودين فى أيامه. وربما تعود معرفته العميقة بهم أيضا إلى ممارسة مهنته، أو إلى الحالات السورية التى أحضرها إلى القنسطنطينية. فقد كان كل منها يتطلب إدراكا للغة. وليست أقل [من ذلك] السجلات المكتوبة بواسطة مسيحيىِّ بارثيا([32]) وسوريا وبصفة خاصة اديسا، لحفظ قصة الكنيسة الفارسية وشهدائها العديدين والتى استخدم مادتها بغزارة فى (ك9:2- 14). ومن الصعب التأكد من إلمامه باللاتينية. فمن ناحية كان من الضرورى له، كمحام، فهم لغة التقاضى لأن كل المراسيم والقوانين والأوامر العالية كانت مكتوبة بها. وكانت مجموعة قوانين ثيودوسيوس نفسه قد أُلِفَت فى أيامه. ومن ناحية أخرى عندما كان يقتبس من مستندات لاتينية كان يفعل ذلك على نحو لا يتغير نقلا عن ترجمة لها إلى اليونانية بواسطة آخرين، كما فى خطاب قنسطنطين إلى الأسكندريّين(ك2:3)، فهو يقول لقد عثرتُ على نسخة مترجمة من اللاتينية إلى اليونانية سوف أدرِجها كما وجدتها على نحو الدقة. وبالمثل فى ك18:4 رسالة مجمع ارمينيّم Ariminum إلى قنسطانتيوسConstantius. وفى ك26:8 رسالتين لإينوسنتInnocent. ومن المحتمل أن تقريره الثانوى عن هيلارى الذى من بكتافيوم Pictavium (13:4) يميل إلى نفس الطريقة. ولكن على وجه العموم يجب أن نسمح لمهنته التى اقتضت معرفة لغة القانون أن تفوق قصُور الاصدار الأصلى، فى كتابه.
إنه من الصعب الحُكم من عمل مفرد على درجة الثقافة العامة لمؤلف ما. فكليمندس الأسكندرى Clemens Alexandrinus له اقتباسات غفيرة تجعل من السهل أن نخلص إلى أنه كان مدرسيا([33]) scholarذا قراءة شاملة وواسع المعرفة([34]) الأصيلة، ولكن عدم دقتها وتشوشها المتكرر يجعلها تبدو مجرد اقتطافات من مصدر متعدد اللغات أو كتَاب بلاغة([35]). فإلاشارات الكلاسيكية عند سوزمينوس ليست كثيرة وربما اعتبر، بصواب، إدماجها ضمن اشارات عديدة فى سجل كهذا خصيب بالتوصيفات المألوفة والشعرية، والتاريخية والميثولوجية، أمرا خارجا عن السياق. وفى ك6:1 يجر الارجوانتوس Argonautsمن آذانهم بمناسبة حديثه عن اكويلس Aquilis بالكاد من بيساندر Pisander، أو بالأحرى من زوسيمس الذى فعل نفس الشىء فى ذكر تقدم آلاريك Alaric. وعندما يصف سعى قنسطنطين الجاد فى البحث عن موقع مفضل يقيم عليه عاصمته الجديدة، يحرك ذكر هضبة ايلليم Ilium المؤرخ ليروى تقليدا قليلا عن مدينة تروجان (3:2). ويذكر ارسطو الذى كانت فلسفته الوجه الآخر لإتيوس Aëtius(ك 15:3) والذى وضع ثيوفرونيوسTheophronius مقدمة عمله الجدلى(17:7). وعندما ارتكن على أدب ابوليناريوس يلّمِح بطريق غير مباشر إلى القصائد الهوميرية ويذكر كتاباته الكوميدية محاكاة لميناندر والتراجيديا التى تشبه تلك التى ليوربيدوس والتى تعتمد على نموذج بندار. وفى روايته لدفنة فى عهد يوليانوس (19:5) يقدم خرافة دفنة وابوللو. هذه التلميحات وغيرها ليست برهانا أو عدم برهان على قراءات غير عادية. ومع ذلك الطريقة التى يشير بها إلى البعض هى حَولية بالأكثر عن أى دراسة عميقة للمؤلفين أنفسهم.
وفى الحقيقة اعترافه فى حالة خرافة ابوللو ودفنة هو اعتراف سليم الطوية "إننى أترك هذا الموضوع لِمن هم مُلمين بأكثر تدقيق بعلم الميثولوجيا". هذا الاعتراف لم يكن وليد أى تردد لأنه تجاسر [على الولوج] فى مستنقع حسى بالفعل، ولكنه بالأحرى تصريح أصيل بجهله، وأن ذلك كان فى العاصمة حيث كان انثيموس وسيسينيوس مَصدرَيّن. ومن المحتمل أن لدينا ضوء قليلا فى محدودية وضيق فكر تدريبه المبكر بتذكر موقفه اتجاه الكتابات التقليدية لأبوليناريوس النابعة لمواجهة مرسوم يوليانوس، والتى فسرها المسيحيون كتحذير من التمتع بالثقافة الهيلينية. فبينما يشايع سقراتيس بثبات وقوة التأثير الانسانى للأدب القديم(16:3)، يقول سوزمينوس "لو لم تكن من أجل التحيز المفرط الذى به يُعنَى بإنتاج العاديات، فإننى لا أشك فى أن كتابات ابوليناريوس كانت ستنال هذا التقدير مثل تلك التى للقدماء". وينحو منحى الرهبان فى ازدرائهم بالدراسات الكلاسيكية (12:1). إنه لا يُخضِع نفسه بالكامل، ولكنه تردُد نوعا ما، وهذه سمة فى تكوينه. لقد كانت هذه مسألة محيرة فى تلك الأيام الخوالى واستمرت تلوّح الكنيسة بدرجة كبرت أو صغرت إلى أيامنا هذه.
فى أيامه كان تأثير الرهبان والإكليروس الذين تشبَّعوا بالروح النسكية مضادا أكثر وأكثر للإنسانيات([36]). وقد تباين موقف البلاط [من هذه المسألة]. فبينما كان تدريب فالنتنيانوس والخلافة الثيودوسية رهبانيا على نحو قاطع، وكانت ميولهم بصفة أساسية مع اتجاه عدم التسامح، فإن ضروريات مركزهم والقدرات السياسية والرائعة لرجال مثل ليبانيوس وثيمستيوس، وانثيموس وترويلس جعل من غير الممكن وضعها جانبا. فلقد كان عِلم وموهبة اودكيا Eudocia الامبراطورة وروح تدريبها المبكر كإبنة فيلسوف آثينى، وموهبتها الشعرية الذاتية عوامل مغرية فى انعاش الكلاسيكيات فى البلاط، قبل أن تسقط تحت آفة غيرة زوجها. وقد ملأ كيروس الذى استرد القنسطنطينية عباراته بطعم العاديات. ولم يستطع الكهنة الذين تلقوا تدريبهم الأوَّلى فى مدارس السوفساطئيّن أو فى الجامعات دفن ميولهم تماما، على الرغم من أنهم اجتازوا كفاحا مريرا مثل جيروم([37]). وكان الأريوسيون أيضا ذوِى ثقافة أوسع. وبالنسبة للجانب الجرمانى، كانت المهارات العسكرية والدهاء السياسى [لهم] لا تُمّكن الدولة من عدم الأخذ بخدماتهم. وكانت الجامعة التى أنشأها ثيودوسيوس الأصغر فى القنسطنطينية رهبانية، فبينما كانت تسعى لإعطاء نغم مسيحي للتعليم العالى، كانت فيما سبق تُدار من الآثنيّين Athensوتُقدِّم مددا حرا للغات، إن لم يكن كثيرا للفلسفة.
لذلك، مال سوزمينوس، كما نرى، لوجهة النظر الأقل تسامحا، وظن أن أبوليناريوس كان له مثل هذا النبوغ الشامل، حتى أن العديد من الأصول يجب الاستغناء عنها، ولكن من باب العاطفة لم يتم الاستغناء عن هومر وميناندر ويوربيدس وبندار. وهذا يُظهر الصفة البسيطة لقراءاته إن لم تكن محدودية كميتها، ويُعرِّى الأهمية الوظيفية لنقده. لقد كانت هذه المحدودية بلا شك مقياسا كبيرا لمثل هذا التعليم الفلسطينى، وأعطت طعما خاصا لمزاج ابيفانيوس وأثره.
أما تعليمه الدينى فكان حسب الايمان النيقاوى كما تعترف به الكنيسة الجامعة فى الشرق والذى ظل الرهبان أمناء له دوما فى تلك الفترة العصيبة. فلم يكن الشعب، كما يقول سوزمينوس، بقادر على متابعة المناقشات اللاهوتية، وأخذوا ايمانهم من حياة أولئك الذين بَدوا لهم أفضل من الاكليروس العادى. ولم يكن له([38]) مهارة وثيقة فى هذا الجدل أو ذاك. وهذا واضح من تصريحه الخاص بأنه غير قادر على متابعة الجوانب المتعددة للمناقشة الأريوسية. فبعد أن يورد رسالة غريغوريوس النزينزى إلى نكتاريوس التى يستعرض فيها السِمات الأساسية لهرطقة ابوليناريوس، يستطرد "أظن أن ما قلته يكفى لإظهار طبيعة أفكار ابوليناريوس ويونوميوس. فإذا أراد أى واحد معلومات أكثر تفصيلا، فيمكننى فقط أن أشير إلى الأعمال الخاصة بهذا الموضوع، التى كُتبت إما بواسطة هؤلاء أو بواسطة آخرين بشأن هذين الرجلين، فإننى أقر بأننى لا افهم بسهولة هذه الأمور"(27:6)([39]).
وعندما يُعدد أسباب انشقاق أتباع يونوميوس [يقول] "سأكون مُسهِبا إن أنا تناولتُ بتفصيل أكثر، وفى الحقيقة لن يكون الموضوع سهلا لى إذ أننى لا أملك مهارة جدلية كهذه"(17:7). ويبدو أن مهارته الجدلية لم تكن عميقة جدا، ومع ذلك يجب ان يُقَال أن مثل هذه التعاريف والحجج كما يسجلها فى التاريخ المعاصر كانت معتادة وجلية.
كذلك تبدو الأمور الميتافيزيقية ليس لها موضع كبير فى الدراسات المبكرة، ولكنه بالتأكيد صار أكثر ألفة بالمصطلحات اللاهوتية المتأخرة ومحدداتها. ولذا يضع خطا فاصلا بين الثوابت المتعددة التى يحارب من أجلها، وبين ما هو ضد "للمساوة فى الجوهر" consubstantiality.
كذلك شملت قراءاته بعض التأملات الفلسفية حسبما يجمعها الشخص من بعض الجُمَل (6:5) [مثل] "لأنه ليس حقيقيا كما يؤكد البعض أن النفس كما الجسد". وربما تعلّم أيضا أن يميز بين الأخلاق وبين عِلم الوجودontology بخطوط عملية مستقاة من المناقشات الاكليريكية وفلاسفة الرهبنة. ففى جملة فى تاريخه عن مليتيوس اسقف انطاكية(28:4) يؤكد على هذا الإختلاف، كما نجده نادرا فى الأدب المسيحى المبكر: "فى خطابه الأول، يحصر نفسه فى تعليم الشعب بما نسميه أخلاق، ثم يُعلِن صراحة أن الإبن من ذات جوهر الآب". لقد تَدرَّبتْ روحه على الخضوع للقيود الشرعية، وعندما كان يثور عليها بشىء من الارتعاد كان ينحاز، مثل سقراتيس، للأمور الأكبر. من المحتمل بسبب مهنته. ولكنه كان يخشى التجاسر إلى حد بعيد. ومع ذلك كان ذا نخوة إذا ما قورن بثيودوريت الاكليريكى ذا التعليم الأفضل.
كذلك يجب أن نعزو إلى سنوات تعليمه المبكرة عبارته أنه كان شاهدا لأمانة زينو اسقف مايوما Majuma ميناء غزة، "لقد قيل، وأنا نفسى شاهدُ حق على تأكيد أنه، عندما كان اسقفا للكنيسة فى مايوما لم يغب قط عن تسبحة باكر أو المساء أو أية عبادة أخرى لله ما لم يكن مُصابا بأى مرض ومع ذلك كان فى هذه الفترة مُسنا فى حوالى المائة سنة"(28:7). كذلك بالمثل كان عمل البطريرك محل اعجابه فى شبابه. ويتحدث سوزمينوس عن كفاح اسقف غزة فى تأكيد سيادته على مايوما الميناء البحرى التى كانت ايبارشيته ورغبته فى استرداد حكمها الذاتى الكنسي بعدما فقدت استقلالها المدنى كشىء يحدث فى أيامه، وكان أحد أخبار شبابه. ويشعر المرء فى عبارته ارتياحا باطنيا بقرار المجمع الذى يعترف بحرية الجماعة المسيحية فى البحر(3:5).
وبالنسبة للعبادة العامة، من المحتمل أنه سمع فى تلك الأيام المبكرة عن كتاب "رؤيا بطرس"، فهو يقول فى(19:7) "ولهذا الكتاب المسمى "ابوكاليبس بطرس" الذى يُعتبَر خرافة من قِبل القدماء ما زال يُقرَأ فى كنائس فلسطين فى يوم الاستعداد عندما يُراعِى الشعب صوما، تذكارا لآلام المُخلِّص على الرغم من عدم الاعتراف به من قِبل القدماء"(19:7). وأيضا رأى كِتابا مُفضَّلا فى يدى الرهبان فى بلدته هو "رؤيا بولس" على الرغم من أنه غير مُعترَف به من قِبل القدماء. إن الألفة بمثل هذه الكتب تعطينا مفتاحا لموقفه فيما بعد من النبوة.
وليس لدينا دليل على السبب الذى دفعه إلى دراسة القانون([40])، ولا نعرف متى حُسِب طالبا. إن حقيقة أنه يذكر مدرسة بيروت كمكان مارس فيه تريفيليوس Triphyllius الأسقف رعويته لزمن طويل(11:1) يمكن بالكاد أن تؤخذ كإقتراح لمكان اقامة سوزمينوس. لذا من المحتمل كثيرا أن يكون قد حضر محاضرات فى جامعة الاسكندرية أو انطاكية حيث يُظهِر إلماما معتبرا بمدن كهذه. وربما كانت دراساته معتمدة على كودكس غريغوريوس وملحقه كودكس هرموجنيانوس لأنه كان فى أيامه وخلال فترة كتابة تاريخه. وكان كودكس ثيودوسيوس قد بدأ، وللأسف لم يرد اسمه فى قائمة مؤلفيه، ولم يكن قد أُعلِن حتى سنة 439م كمرجع للقوانين الامبراطورية.
أما كونه قد التحق بممارسة هذه المهنة فلدينا دليل مباشر على ذلك كما فى حالة ايفاجريوس ("ت. ك."، 7:6). أما بالنسبة لسقراتيس فكان ببساطة تقليدا بلا شهادة. ويتحدث سوزمينوس عن صديقه الحميم اكويلينوس(3:2) "الذى كان يقيم معنا حتى فى الوقت الحاضر، وكان محاميا فى ذات محاكم العدالة التى ننتمى إليها". ومن بعض التلميحات للملاحظات القانونية فى تاريخه، من المحتمل أنه عمل فى المحاكم الأسقفية أيضا لأن هذه كان لها شكل معين، وكانت وظيفة المحامى تُنظَّم فى قوانين مجمعية عديدة. لقد كان أكثر عناية ونظاما فى تسجيله للتشريع الهام الخاص بالديانة والكنيسة عن أى مؤرخ آخر. وهكذا، فى عهد قنسطنطين(1: 3، 5، 8، 9، 21) و (32:2). وفى عهد قنسطانتيوس (17:3، 15:4) وفى عهد يوليانوس(5:5، 15،17) وفى عهد جوفيانوس(3:6) وفى عهد فالنس(12:6، 19) وجراتيان(1:7) وجراتيان وثيودوسيوس(4:7) وفى عهد ثيودوسيوس (9:7، 12، 16، 20، 25، 4:8) وفى عهد فالنتنيانوس الثانى وفى عهد يوستينا(13:7) وأركاديوس(7:8، 24). وليست هناك أية إشارة إلى ممارسته الخاصة مثلما يفعل ايفاجريوس (ت.ك.، 7:6). ويمكننا فقط أن نخمّن، من خلال روايته، أنه لم يكن فى القنسطنطينية اثناء الشغب الذى نجم عن خلع كريسوستوم سنة 404م، فربما وصل بعد إقامة آتيكوس Atticus بقليل كخليفة لآرساكيوس Arsaciusالذى تلى يوحنا [فم الذهب] فى وقت ما حول 406م أى قبل وفاة الخطيب([41]) بسنة، وقبل وفاة الامبراطور اركاديوس بسنتين.
ففى عهد أنثيميوس Anthemius الحكيم، وجد طريقة مهنته. ويمكن أن نفترض أنه وجد اعترافا ما به فى عهد بولخاريا([42]) Pulcheria، ومع ذلك ظلت العاصمة مركزا لممارسته. إذ يظهر أنه كان ما زال على صلة بالديكاستريس dikasteries اثناء كتابته لكتابه الثانى من التاريخ(3:2).
وهناك بضعة نقاط شخصية فى حياته فى المدينة الامبراطورية يشير إليها. فقد كانت هستيا Hestiæ على مسافة 35 استاديا برا من المدينة صوب بونطس، وبسبب ظهور رئيس الملائكة ميخائيل بُنِىّ هناك معبدٌ، وبالتالى دُعِيَت ميخائيليوم Michaelium وصارت مشهورة بسبب خصائصها الشافية للأمراض الفيزيقية وأيضا العقلية. وأن سوزمينوس نفسه قد أصيب، ولم يخبرنا كيف ولا بأى معاناة أو أى مرض أو خطر، ولكنه شُفِىَّ بواسطة المنافع التى تلقاها هناك (3:2). وهناك حالة شخصية أخرى يذكرها فى (2:9) فقد كان أحد الحاضرين فى الاحتفال الرائع الخاص بإكتشاف ونقل رفات الأربعين شهيدا، ورأى الصناديق الغالية، والاحتفال والموكب، واستمع إلى موسيقى القصائد التذكارية، وعاين إيداع رفات جسد القديس St. Thyrsus. وكان هناك عدد من المشاهدين الذين يعرفهم، وكان العدد الأعظم منهم ما زالوا يعيشون أثناء كتابته لسِجله هذا. وكان هذا الاحتفال فى عهد ايبارشية بروكلس Proclus، ولذلك كان بعد سنة 434م. وهناك اشارة شخصية أخرى نجدها فى عبارته عن خلع أولدِس Uldis. فهو يُلاحظ بقية الـ Sciri الذين تشتتوا، نتيجة لتلك الحَملة، كعبيد فى أسيا الصغرى [فيقول] "لقد رأيتُ كثيرين فى بيثينيا Bithynia بالقرب من جبل اولمبس Olympus يعيشون بعيدين عن بعضهم البعض. ويزرعون تلال ووديان ذلك الاقليم"(5:9)، ونحن لا نعرف شيئا عن هذه الحملة. ولا بد أنه كان نشطا فى الكثير من الأمور الدنيوية والكنسية اللاحقة التى رواها فإنه يذكر الأمور التى اعتنى بها فى بداية تاريخه (1:1) والتى كان سيُنجزها لو كان قد أكمل كتابه التاسع.
أما الدوائر المؤثرة فى العاصمتيَن الشرقية والغربية فقد انقسمت إلى أحزاب على أساس تنوع المواضيع. فإحداها كان تبعا للخط الثقافى الذى أشرنا إليه توا. وآخر، وهو حاسم، كان تبعا لِمَا إذا كان الأجانب، وبصفة خاصة القوط والفارسيين، يمكن أن يُسمَح لهم بالخدمة فى الدولة أم لا. فالمجموعة الأقوى اعتقدت بإستخدام هذه العناصر الجديدة. وما كان موضوعا متغيرا قبلا صار الآن سياسة ثابتة فى عهد ثيودوسيوس الكبير وفى سائر الاتجاهات، وتم ضبط أبنائه الضعفاء على التوالى فأنسيموس وبولخاريا وثيودوسيوس الثانى سايروا وجهة النظر الحرة. بيد أن صرخة "روما للرومانيين" خلعت شخصا مثل استيلكو Stilicho عن العرش ونَصَّبت شخصا ضعيفا مثل اوليمبيوس Olympius. ويربط سوزمينوس نفسه فى تناوله للأحداث بالخط غير المتحرر. وبينما يبحث عن موضع لممثلى المسيحية الأجنبية فى كتابه، إلا أنه يعارض رغم ذلك إدخال، على الأقل، العنصر الشمالى فى خدمة الدولة. وكان هناك خط ثالث يفصل بين الشعب والبلاط. فالحزب القوى والمقاوِم وضع نفسه ضد السماح للوثنيين والأريوسيّين بالخدمة فى المراكز السياسية. وهذان الصنفان اتحدا غالبا للنجاة من الإبعاد. واختلف البلاط نفسه، لأن الجرمان كانوا أساسا اريوسيّن، وكان أفضل المدرسيّين فى العلوم السياسية وثنيين. وأدت الضرورة إلى الاعتراف بمُعلّمين أمثال أنسيموس وتريللوس. وألقى سوزمينوس بنفسه فى المجال الضيق. إنه لم يتنازل ويذكر أفضل رجال الدولة فى أيامه، أو أوسع المفكرين السياسيين، الأمر الذى فعله سقراتيس وبإعجاب.
وقد مال سوزمينوس مع الغالبية فى تكريم الحياة الرهبانية، التى كان يقاومها بمرارة سياسيون كثيرون وكنسيون. ولذلك كان من الطبيعى أن يَنظر بعين الاعتبار إلى حياة أكثر تقوى عما يفعله البلاط بقيادة افدوكسيا، وردد أصداء بولخاريا وطهارة كريسوستوم. فدافع عن فم الذهب، ورَّد على الانتقادات الموجهة إليه مثلما فعل سقراتيس. وبالكاد يمكننا أن نشك فى أن قلبه كان مع اليوحانيين، على الرغم من أنه لم ينضم إلى جماعتهم.
ويمكننا أن نَجمع من تاريخه، أنه قد سافر نوعا ما، فهو يُظهِر معرفة أفضل بفلسطين، حتى عن ابيفانيوس، ولابد أنه احتفظ بصِلات مع موطنه حيث كان ملِّما بعادات بلاده وأماكنه وتقليده. ومن الطبيعى أن يكون الجزء الأكبر من المراكز فى غزة وما يجاورها مثل بيته الخاص. وفى قصته عن اكتشاف الصليب والمبانى المقدسة المقامة بواسطة هيلانه(ك1:1، 2)، يعتمد على أصول بتفصيل ولون محلى. وفى (ك4:2) يتوسع فى رواية يوسابيوس عن تطهير قنسطنطين لممرا Mamre أو تربينثوس Terebinthus، كشخص يألف الموقع بما فيه. وفى ك5:2 يعطينا قطعة من تاريخ غزة ومايوما فى عهد قنسطنطين. وفى ك20:2 يروى اصطفاء مكسيموس كأسقف لأورشليم من مَصدر لم يستخدمه غيره أبدا. وفى ك14:3 ملاحظاته عن سيّر هيلاريون وهيزيكاس، وآخرين تشير إلى معرفة طبوغرافية مضبوطة. ويُتِيح مرسوم يوليانوس الفرصة للدولة للشِقاق بين غزة ومينائها البحرى(3:7). وروايته عن الاستشهاد فى غزة وضواحيها فى (ك9:5) هى [رواية] جرافيكية تماما. وفى مناقشته لهيجان يوليانوس على صُورة [السيد] المسيح فى بانياس (27:5) والبئر الإعجازى فى نيكوبوليس، وهى عمواس سابقا، نرى علامات على إلمام محلى. وفى (ك22:5) قيل أن يوليانوس قد كَتَب إلى البطاركة والحكام والشعب يطلب صلواتهم عن نفسه والامبراطورية، وهنا إشارة قاطعة على وجود بطريركيات آنذاك. وهكذا تفشل كل تفاصيل الاسترداد أمام اليد المُختبِرة. مثلما تؤكد حقيقة التواصل المباشر مع شهود الظاهرة.
إن السيّر فى (ك32:6) ترتبط بجنوب فلسطين، وبصفة خاصة بثيليا وجيرار. والتماثل فى ك28:7 لأولئك القريبين بالأكثر منه، يبرهن بسهولة على أنه كان بالقرب من وطنه. وفى (ك 13:8) يتم اختيار سكيثوبوليسScythopolis من قِبل الرهبان المصريين الفارين لأن نخيلها الكثير يزودهم بوسائل العمل المعتاد، لهى ظروف لم يروِها أىُ أحد آخر. ولا تعوزنا التلميحات الأخرى فى قصة وجود جسد زكريا(17:9) بأساطيرها. وهناك، ذِكر متفاوت لفلسطين، ليس فقط عن دافع حب الوطن عن قصد ولكن عن الرغبة فى تزكية الوضع التاريخى فى تطور تاريخ الكنيسة، وليؤنب الميل السائد لرجال الكنيسة والمؤرخين فى وضع [فلسطين] فى الخلفية. وإنه لأمر شيّق أن مجمع خلقيدون قد قرر فيما بعد أولوية أورشليم. وهناك أيضا إلمام جيد بحقيقة ودوافع التاريخ اليهودى وعلاقة اليهودية بالمسيحية(1:1)، وبجِنس البدو وارتباطهم بشعب العهد(38:6)، وبترتيبات موسم البصخة وبصفة خاصة فى (ك18:7). وبالمِثل الدقة الأكبر فى ترجمة أسماء المواضع.
لقد كانت رحلة غير ملائمة من غزة إلى مدرسته، ومن مدرسته إلى القنسطنطينية، فالإشارات إلى فلسطين التى ذكرناها توا تشير إلى ملاحظة شخصية. وبالإضافة إلى ذلك نظن أنه كان فى العربية وقبرص حيث يقول، عندما يتحدث عن عادات هذين البلديَن (ك19:7)، أن بهما خورى ابسكوبس على رأس الكنيسة المحلية. وأيضا عن الاسكندرية، إذ صُدِم بالموقف الغريب من الأسقف حيث لم ينهض عند قراءة الانجيل([43]) الأمر الذى لم يعرفه قط أو سمع عنه فى الجماعات الأخرى وهى كلمات تدل على أنه كان يألف هذه المدينة. وقد يَسُّر المرء أن يعرف أنه قد زار طرسوس حيث كان يعرف كيليكس Cilix كاهن تلك المدينة الذى استشاره بشأن أصل "ابوكالبسيس بولس"(19:7). وقد رأينا أنه كان يعرف بثينيا Bithynia من رؤيته لها(5:9). كما يشير إلى ملامح طبوغرافية ومعمارية للأسكندرية، وانطاكية ومن المحتمل اديسا على نحو يدع بالكاد شكا فى أنه قد رأى هذه المدن. ومن الممكن أن نفترض أن زبائنه قد اضطروه إلى رحلات هنا وهناك.
ويذخر عمله بالعديد من التلميحات إلى معمار وأقاليم القنسطنطينية(3:2)، ناهيك عن القول عن المناطق المجاورة لها. ويعطينا بالفعل الوصف العام لمبانى القنسطنطينية فى عهد قنسطنطين (3:2) بعضا من سماتها الرئيسية. وبالنسبة للكنائس يذكر أولا المُكرَّسة لرئيس الملائكة ميخائيل (3:2) والتى تبعد نحوا ما عن المدينة (هستيا، ميخائيليوم) والتى تتميز عن المبانى اللاحقة على الشاطىء الآخر. وواحدة فى المدينة مُشيَّدة لنفس الملاك، وكنيسة الرسل والتى صارت مكانا لدفن الأباطرة وحتى الأساقفة (34:2، 21:5، 10:8) وكنيسة أكاكيوس الشهيد(21:4) والتى حبَّذ مقدونيوس([44])Macedonius نقل جثمان قنسطنطين إليها، وكنيسة صوفيا (26:4) التى بدأها قنسطنطين، وكُرِّست فى عهد قنسطانتيوس والملحق بها معمودية(21:8). وقد احترق هذا البناء العظيم فى الشغب الذى ثار بعد إعلان النفى الثانى لكريسوستوم(22:8). وبيت الصلاة الذى بدأه كريسوستوم وأكمله سيسينيوس والذى يحوى على مقبرة شهداء متميزين. وهذه كانت خارج الاسوار فى موضع كان مخصصا فى السابق لإعدام المجرمين ومثيرى الرعب بسبب الأشباح المتكررة (3:4). وكنيسة النوفاتيين الواقعة فى جزء من المدينة يُدعَى بيلارجوم Pelargum، وهذه استولوا عليها وحوَّلوها إلى ضاحية تدعى Sycæ، ومن ثم دُعِىَّ المبنى انسطاسيا. وقد أُعيد إلى وضعه الأصلى فى عهد يوليانوس(20:4). كذلك دُعِى أنسطاسيا المبنى الصغير الذى حُوِّل إلى دار للصلاة لغريغوريوس النزينزى وبذا صار كنيسة (5:7). وقد شيَّد مقدونيوس كنيسة بإسم بولس اسقف القنسطنطينية، عندما نقل ثيودوسيوس جسد المعترف إلى هذا المبنى، وقد وُصِفت بأنها كنيسة فسيحة ومتميزة(10:7). وعندما نقل ثيودوسيوس رأس يوحنا المعمدان إلى هبدوماس Hebdomas فى الضواحى، حيث كانت هناك الطواحين السبعة، أقام فى ذلك الموضع معبدا فسيحا وهائلا، صار مركزا للعبادة الامبراطورية وللأشفية الإعجازية (21:7،24،4:8-14). وقد شُيِّدت كنيسة بإسم سان استيفان أول الشهداء(24:8). وكنيسة مُشيدة لذكرى القديس موكوس Mocus الشهيد حيث دُفِن ديوسقوروس([45]). وطبقا لبروكوبيوس Procopius (فى de Ædificis, i. 4) كان الموضع الذى نُقِل اليه جسد ثيرسس Thyrsus الشهيد، ورفات الأربعين جنديا(2:9) كنيسة. ويذكر فى خلقيدون كنيسة القديسة أوفيميةEuphemia، التى وصفها بغزارة ايفاجريوس، وكنيسة بطرس وبولس فى البلوطة (روفينوم Ruffinum).
وعندما يتحدث عن عدد الرهبان فى وحول القنسطنطينية(2:4، 9:8) ويشير إلى مساكنهم على نحو عام (20:4)، لا يذكر أية مؤسسة معينة فيما عدا تلك التى أسسها ماراثونيوس Marathonius والتى كانت ما زالت قائمة فى أيامه. وهو يشير أيضا إلى اكزنودوكياXenodochia ، ونوسوكوميا Nosocomia، وكيروتروفيا Cherotrophia، وبوتوكتروفيا Ptochotrophia (20:4، 27، 9:8). وكانت هناك مقرات للأساقفة والكهنة. ولكن هذه ألمح إليها فقط (14:7، 14:8). ولكنه لم يخصص ولا حتى اهتم بمجموعة المستوطنات التى أسستها وأنعمت عليها بولخاريا(8:9) وقد ذَكر القصُور والساحات على نحو عام، ولكن المجلس الفخم الذى احترق مع صوفيا قد وُصِف بأنه جنوب هذا المبنى. وأشار إلى هيبودروم فى الاقليم الثالث، مع وصف قليل لشكله القديم وموضعه (39:6، 21:8). وذَكر الحمامات العامة الثمانية. والمسرح الذى دُعِى على اسم زيوكيسبوس (9:3) قد ذُكِر كمبنى ضخم وكبير، والقصر القريب من شاطىء البحر، وكان ذلك فى الاقليم الثانى. ويتحدث بصواب عن حمامات تحمل أسماء انسطاسيا وكاروسا بنات فالنس، كانت قائمة فى أيامه(9:6) وحمامات قونسطانتيوس كانت متميزة بأنها فسيحة جدا عندما يخبرنا كيف لجأ اتباع يوحنا هناك لعيد البصخة(21:8).
ولدينا بعض الملاحظات القصيرة عن بضعة أصدقاء خارج الدوائر الأقدم فى بثيليا وغزة. فبناء على مشورة بعض الأتقياء المتضلعين فى السرائر الإلهية قرر ألا ينشر شِعار نيقية([46]).
ويُخبرنا سوزمينوس عن قصة شفاء رفيقه أكويلينوس المحامى الذى كان من بين الذين اختبروا الراحة فى ميخائيليوم، بعبارات مُسجَّلة من رفيقه(3:2). ولم يكن على صلة جيدة بكيليكس Cilix الكاهن المطوب فى طرسوس(19:7). وكان له صديق أو أصدقاء كانوا مصاحبين لأحداث ثيوفيلس(12:8). وبالمثل مع بعض الذين كانوا حميمين ليوحنا فم الذهب(9:8). وليس من غير المحتمل أن يكون قد عرف نيكَريت Nicareteفى شيخوختها، وهى سيدة بيثينية متميزة بحياتها الباذلة والتى حُفِظت ذِكراها بواسطته هو فقط (23:8). والحقائق الخاصة ببولخاريا التى سلط عليها الأضواء. وخضوع عمله لثيودوسيوس الشاب، يُظهِر أنه كان يَلقى إكراما من كل منهما.

(خطاب من سالامينيوس سوزمينوس إلى الامبراطور ثيودوسيوس، بمشروع "التاريخ الكنسى").
إن القول السائر هو أن الأباطرة السابقين كانوا مُولعين ببعض الأمور النافعة أو بأخرى. فالبعض كان مُغرَما بالزخارف مثلا أو بالاهتمام بالأرجوان الملكى أو بالتاج وما شابه ذلك. وأولئك الذين كانوا يهوون الرسائل، ألَّفوا بعض المقالات أو الأعمال الميثولوجية القادرة على إثارة خيال القراء. وهؤلاء الذين تمرَّسوا فى الحرب سعوا مباشرة إلى تصويب الأسلحة نحو هدفها، أو صيد الحيوانات المفترسة([47])، أو رشق الرماح، أو إمتطاء الجياد.
وكل واحد تخصص فى مهنة تَسُّر الحُكام، أعلن عن نفسه للقصر. فواحد يُحضِر حجارة كريمة ليس من السهل التشكك فيها. وآخر يهتم بإحضار لون أكثر لمعانا للثوب الأرجوانى. وواحد يهدى قصيدة أو مقالة، وآخر يُدخِل نمط عدة حربية غريبة ومختبرة.
لذلك يُعتبَر أمرٌ فاخرٌ وأعظم، لحَاكم كل الشعوب أن يمتلك على الأقل واحدة من الفضائل الخالية من التكلف. ولكن ما أعظم التقدير الذى للتقوى التى هى، فوق كل شىء، الزينة الحقيقية للامبراطورية.
ومع ذلك أنتَ أيها الامبراطور الأقوى ثيودوسيوس([48])، تمتلك بمعونة الله، بإختصارٍ، كل فضيلة. فإذ تلتحف بثياب الأرجوان والتاج رمزا الكرامة لمشاهديك، إنما ترتدى داخليا زينة السيادة الحقيقية، الشفقة ومحبة العمل الخيرى. ومن ثمة انشغل بك وبأعمالك الشعراء والكُتَّاب والقَدْر الأوفر من ضباطك وتابعيك. وعندما كنتَ تترأس كحَاكم على الأفعال وقاضى للأقوال، لم تُسلَب دقتك بأى صوت أو شكل اصطناعى، بل كنتَ تهب الجائزة عن اخلاص مراعيا ما إذا كان المرسوم مناسبا لقصد الانشاء أم لا. وهكذا أيضا بالنسبة لشكل الكلمات والأقسام والترتيب والوحدة وتركيب العبارات، والبناء، والحجج والفكر والرواية. وكنت تكافىء المتكلمين بقضاء العادل وبإستحسانك، وأيضا بصُور ذهبية وإقامة تماثيل وهبات وكل نوع من الإكرام. لقد أظهرت اهتماما شخصيا بالمتكلمين أعظم مما كان الكريتيون القدماء يُظهِروه للمغنيين لهومر، أو الألفاديون Alevadæ لسيموندس Simonides، أو [يُظهِره] ديونيسيوس Dionysius طاغية سيسلى Sicily لأفلاطون رفيق سقراتيس، أو فيليب المقدونى لثيوبومبوس Theopompus المؤرخ. أو الامبراطور ساويرس لأوبيانوس Oppianusالذى روى عن أنواع وطبيعة وصيد السمك. لأنه بعد أن كافأ الكريتيون هومر بألف نومى([49]) نقشوا كمية الهبة على عمود عام كما لو كانوا يفتخرون بهبتهم المفرطة. ولم يكن الألفادوديون وديونيسيوس وفيليب بأفضل منهم، حيث افتخروا بقدرتهم الفلسفية المتواضعة، وسرعان ما قلدوا عمودهم لكى لا يكونوا أدنى فى هباتهم. ولكن ساويرس عندما وهب أوبيانوس هبة ذهبية عن كل سطر من إصداره المتواضع أدهش كل أحدٍ بسخائه لدرجة أن قصائد أوبيانوس أُشتُهِرَت بالكلمات الذهبية إلى هذا اليوم([50]). هكذا كانت هبات المُحبين السابقين للعِلم والخطابة.
ولكنك أيها الامبراطور قد فقت كل أحدِ من القدماء فى سخائك للرسائل، وإنك لتبدو لى أنك تفعل ذلك ليس بلا فطنة. لأنك بينما تجاهد فى التغلب على الجميع بفضائلك، فإنك تدير أيضا شئونك بنجاح وفقا لمعرفتك العميقة بقصة تلك الأمور القديمة التى حدثت من اليونان والرومان. وتقول الاشاعات أنه خلال النهار تقوم بتدريبات بدنية وحربية وتنظيم شئون الدولة بإصدار قرارات وبأخذ ملاحظات بما هو ضرورى، وبالمتابعة جهرا وسرا للأمور التى ينبغى عملها، وفى الليل تشغل نفسك بالكتب. ويقال أن مصباحا يتدفق منه الزيت تلقائيا فى الفتيل بمكانيكية ما يخدمك فى دراسة هذه الأعمال حتى أن أحدا ما من خدم القصر لا يكون مضطرا إلى ازعاجك فى عملك أو يقتحم طبيعة جهادك ضد النوم. وهكذا أنت انسان ولطيف للقريبين وللجميع إذ أنك تحاكى الملك السمائى الذى هو نموذجك الذى يحب أن يُرسِل المطر وأن تشرق الشمس على البار والأثيم، مثلما يهب أيضا البركات بلا حد.
ومن الطبيعى أيضا، أن أسمع أنه بعلمك المتنوع لست أقل دراية بطبيعة الأحجار وفوائد الجذور لأن سليمان صار عبدا لمسراته ولم يحترس إلى المنتهى، تلك التقوى التى كانت له سبب الحكمة والرخاء. ولكنك أنت أيها الامبراطور القوى بالأكثر لأنك جعلت عقلك محصُورا ضد الهزل فلم تستطع فقط حُكم الناس، ولكن أيضا [ضبط] أوجاع النفس والجسد، كما يُفترَض فى المرء طبيعيا. وهذا أيضا ينبغى ملاحظته، فأنا أفهم أنك هزمت كل رغبة فى الأكل والشرب. فإذا تحدثنا شعريا، لا تين شهى ولا أى نوع آخر من الفاكهة فى موسمها، يمكن أن يأسرك فيما عدا ما تلمسه وما تتذوقه بعد أن تُقدِّم الشكر لصانع كل الأشياء. لقد أردتَ أن تهزم العطش والحرارة، والبرد بتدريباتك اليومية لدرجة أن ضبط النفس بدت طبيعة ثانية لك. وأخيرا، كما هو معروف جيدا، كنتَ مهتما بزيارة مدينة هيراكليا([51]) Heracleaفى بونطس وأن تستردها ثانية، واجتزت فى موسم الصيف خلال بيثنية([52]). وعندما كانت الشمس فى منتصف النهار تقريبا وشديدة القيظ، رآك أحد حراسك الشخصيين تتصببُ عرقا بغزارة وسُحب الغبار. وكما لو كان يريد أن يصنع معروفا قدَّم لك صحنا يعكس اشعة الشمس وسكب من الشراب الحلو فيه ، وأضاف إليه ماءً باردا. ولكنك أيها الإمبراطور الأقوى أخذته ومدحت الرجل على نيته الصالحة وأعلنتَ حالا أنك ستكافأه على صنيعه الجيّد بهبة ملكية. ولكن عندما اندهش سائر الجنود وفغروا أفواههم من الطبق واعتبروه مُباركا ذاك الذى سيشربه أعدت أيها الامبراطور النبيل ذلك الطبق إليه، وأمرته أن يستخدمه فى أى شىء يسره. لدرجة أنه يبدو لى أنك قد فُقتَ بفضيلتك الكسندروس بن فيليب ذاك الذى أشُتهِر بين معجبيه بأنه عندما كان يمر مع المقدونيّن خلال مكان بلا ماء وجد جنديا قلقا، ماءً فإستقى منه وأحضره إلى الكسندروس، فلم يشأ أن يشرب ولكنه سكبه([53]).
لذلك بإختصار، من المناسب أن ندعوك وفقا لهومر أكثر فخرا من الملوك الذين سبقوك لأننا نسمع عن البعض أنهم لم يحظوا بإعجاب ذى قيمة. وآخرون زينوا بالكاد عهدهم بعمل أو اثنين أما أنتَ أيها الامبراطور الأكثر قوة فقد جمعتَ سائر الفضائل معا وفُقتَ كل أحدِ فى التقوى ومحبة الخير للبشر والشجاعة والفطنة والعظمة والكرامة الملكية. وكل عصر سيفتخر بحكمك بأنه وحده كان غير ملوث ونقى من القتل عن سائر الحكومات التى وُجِدَت طرا. لقد عَلَّمتَ تابعيك أن يسعوا وراء الأمور المهمة بسرور لدرجة أنهم أظهروا غيرة لك وللشؤون العامة بكل احترام وإرادة جيدة.
لذلك، ولكل هذه الأسباب كان علىَّ ككاتب لتاريخ كنسى أن أقدِّم نفسى لك، لأنه مَن يكون أكثر ملائمة لأقدِّم له نفسى، حيث أننى عتيد أن أروى فضائل رجال أتقياء كثيرين، وأحداث الكنيسة الجامعة، ولما كان صراعها مع أعداء كثيرين قد قادنى [للإلتجاء] إلى حمايتك وحماية آبائك؟. فاقبل منى يا مَن تعرف كل هذه الأمور وتمتلك كل فضيلة وبصفة خاصة تلك الشفقة التى قال عنها الكلمة الإلهى أنها بداية الحكمة، هذا المكتوب ورتِّب حقائقه ونقيه بعملك الناجم عن معرفتك الدقيقة إما بالإضافة أو الحذف لأنه متى بدا الخطاب سارا لك، وكان ذا مزايا براقة وتامة للقراء، فلن تمتد إليه يد بعد استحسانك.
ان تاريخى يبدأ من القنصلية الثالثة للقياصرة: كريسبوس([54]) Crispus وقنسطنطين Constantine، ويمتد إلى قنصليتك السابعة عشر. وقد وجدتُ من المناسب تقسيم العمل كله إلى تسعة أجزاء:
الكتابان الأول والثانى يتضمنان الشؤون الكنسية فى عهد قنسطنطين.
الثالث والرابع تلك التى فى عهد ابنائه.
الخامس والسادس: تلك التى فى عهد يوليانوس Julian، ابن عم أبناء قنسطنطين الكبير وجوفيانوس Jovian، وفالنتنيانوس Valentinian، وفالنس Valens.
السابع والثامن: أيها الامبراطور الأقوى يتناول الشؤون فى عهد الاخوين جراتيان Gratian وفالنتنيانوس([55]) Valentinian إلى إعلان ثيودوسيوس Theodosius جدك التقى.
وبقدر ما تحتفل بأبيك اركاديوس Arcadiusمع عمك التقى هونوريوس Honorius بقدر ما شاركتَ واشتركت فى تنظيم العالم الرومانى.
أما الكتاب التاسع، فخصصته لجلالتك([56]) يا محب المسيح لعل الله يحفظك دائما بإرادة جيدة لا تنقطع وينصرك على الأعداء ويضع كل شىء تحت قدميك وينقل الامبراطورية المقدسة إلى أبناء ابناءك بمشيئة المسيح الذى [يليق] به ومعه المجد لله الآب مع الروح القدس إلى الابد. آمين.

This site was last updated 12/28/17