Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة320 وخلافة القاهر بالله
سنة321
سنة322

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************


ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
ذكر حال عبد الواحد بن المقتدر ومن معه

قد ذكرنا هرب عبد الواحد بن المقتدر، وهارون بن غريب، ومفلح، ومحمّد بن ياقوت، وابني رائق، بعد قتل المقتدر، إلى المدائن، ثمّ إنّهم انحدروا منها إلى واسط، وأقاموا بها، وخافهم الناس؛ فابتدأ هارون بن غريب وكتب إلى بغداد يطلب الأمان، ويبذل مصادرة ثلاثمائة ألف دينار على أن يطلق له أملاكه، وينزل عن الأملاك التي استأجرها، ويؤدّي من أملاكه حقوق بيت المال القديمة؛ فأجابه القاهر ومؤنس إلى ذلك، وكتبا له كتاب أمان وقُلّد أعمال ماه الكوفة، وماسَبَذان، ومهرجان قذَق، وسار إلى بغداد.
وخرج عبد الواحد بن المقتدر من واسط فيمن بقي معه، ومضوا إلى السُّوس وسوق الأهواعز، وجبوا المال، وطردوا العمّال، وأقاموا بالأهواز، فجهّز مؤنس إليهم جيشاً كثيفاً، وجعل عليهم بُليقاً. (3/441)
وكان الذي حرّضهم على إنفاذ الجيش أبو عبدالله البرِيديُّ، فإنّه كان قد خرج من الحبس فخوّفهم عاقبةَ إهمال عبد الواحد ومَن معه، وبذلل مساعدة معجّلة خمسية ألفَ دينار على أن يتولّى الأهواز، وعند استقراره بتلك البلاد يعجّل باقي المال، وأمر مؤنس بالتجهّز، وأنفق ذلك المال، وسار العسكر وفيهم أبو عبدالله.
وكان محمّد بن ياقوت قد استبدّ بالأموال والأمر، فنفرت لذلك قلوب مَن معه من القوّاد والجند، فلمّا قرب العسكر من واسط أظهر مَن معه من القوّاد ما في نفوسهم، وفارقوه، ولّما وصل بُليق إلى السُّوس فارق عبدُ الواحد ومحمّد بن ياقوت الأهواز وسارا إلى تُستَر، فعمل القراريطيُّ، وكان مع العسكر، فأهل الأهواز ما لم يفعله أحد: نهب أموالهم، وصادرهم جميعهم، ولم يسلم منهم أحد.
ونزل عبد الواحد وابن ياقوت بتُستر، وفارقهما من معهما من القوّاد إلى بُلّيق بأمان، وبقي مفلح وسرور الخادم مع عبد الواحد، فقالا لمحمّد بن ياقوت: أنت معتصم بهذه المدينة، وبمالك ورجالك، ونحن فلا مال معنا، ولا رجال، ومقامنا معك يضرّك ولا ينفعك، وقد عزمنا على أخذ الأمان لنا ولعبد الواحد بن المقتدر؛ فأذن لهما في ذلك، فكتبا إلى بليق فأمّنهم، فعبروا إليه وبقي محمّد بن ياقوت منفرداً، فضعفت نفسه، وتحيّر، فتراسل هو وبُليق، واستقرّ بينهما أنّه يخرج إلى بُلَيق على شرط أنّه يؤمِّنه، ويضمن له أمان مؤنس والقاهر، ففعل ذلك وحلف له، وخرج محمّد بن ياقوت معه إلى بغداد، واستولى أبو عبدالله البريديُّ على البلاد، وعسف أهلها، وأخذ أموال التجار، وعمل بأهل البلاد ما لا يعلمه الفرنج، ولم يمنعه أحد عمّا يريد؛ ولم يكن عنده من الدين ما يزعه عن ذلك، وعاد إخوته إلى أعمالهم؛ ولّما عاد عبد الواحد ومحمّد بن ياقوت وفي لهم القاهر، وأطلق لعبد الواحد أملاكه، وترك لوالدته المصادرة التي صادرها بها.
ذكر استيحاش مؤنس وأصحابه من القاهر
في هذه السنة استوحش مؤنس المظفَّر وبُليق الحاجب وولده عليّ والوزير أبو عليّ بن مقلة من القاهر، وضيّقوا عليه وعلى أسبابه.
وكان سبب ذلك أنّ محمّد بن ياقوت تقدّم عند القاهر، وعلت منزلته، وصار يخلو به ويشاورهن فغلظ ذلك على ابن مقلة لعداوة كانت بينه وبين محمّد، فألقى إلى مؤنس أنّ محمّداً يسعى به عند القاهر، وأنّ عيسى الطبيب يسفر بينهما في التدبر عليه، فوجّه مؤنس عليَّ بن بُليق لإحضار عيسى الطبيب، فوجده بين يدي القاهر، فأخذه وأحضره عند مؤنس، فسيّره من ساعته إلى الموصل، واجتمعوا على الإيقاع بمحمّد بن ياقوت، وكان في الخيام، فركب عليُّ بن بُليق في جنده ليكبسه، فوجده قد اختفى، فنهب أصحابه واستتر محمّد بن ياقوت.
ووكّل عليُّ بن بُليق على دار الخليفة أحمدَ بن زيرك، وأمرهُ بالتضييق على القاهر، وتفتيش كلّ من يدخل الدار ويخرج منها، وأن يكشف وجوه النساء المنقّبات، وإن وجد مع أحد رقعة دفعها إلى مؤنس، ففعل ذلك، وزاد عليه، حتّى إنّه حُمل إلى دار الخليفة لبَن، فأدخل يدَه فيه لئلاّ يكون فيه رقعة، ونقل بُليق من كان بدار القاهر محبوساً إلى داره كوالدة المقتدر وغيرها، وقطع أرزاق حاشيته.
فأمّا والدة المقتدر فإنّها كانت قد اشتدّت علّتها لشدّة الضرب الذي ضربها القاهر، فأكرمها عليُّ بن بُليق وتركها عند والدته، فماتت في جمادى الآخرة، وكانت مكرّمة مرفّهة، ودُفنت بتربتها بالرُّصافة.
وضيّق عليُّ بن بُليق على القاهر، فعلم لقاهر أنّ العتاب لا يفيد، وأن ذلك بأري مؤنس وابن مقلة، فأخذ في الحيلة والتدبير على جماعتهم.
وكان قد عرف فساد قلب طريق السبكريّ وبشرى خادم مؤنس لبليق وولده عليّ، وحسدهما على مراتبهما، فشرع في أغرائهما ببليق وابنه. (3/442)
وعلم أيضاً أنّ مؤنساً وبُليقاً أكثر اعتمادهما على الساجيّة، أصحاب يوسف بن أبي الساج وغلمانه المنتقلين إليهما بعده، وكانا قد وعدا الساجيّة بالموصل مواعيد أخلفاها، فأرسل القاهر إليهم يغريهم بمؤنس وبُليق، ويحلف لهم على الوفاء بما أخلفاهم، فتغيّرت قلوب الساجيّة، ثمّ إنّه راسل أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عُبيد الله، وكان من أصحاب ابن مقلة وصاحب مشورته، ووعده الوزارة، فكان يطالعه بالأخبار، وبلغ ابن مقلة أنّ القاهر قد تغيّر عليه، وأنّه مجتهد في التدبير عليه وعلى مؤنس، وبليق، وابنه عليّ، والحسن ابن هارون، فأخبرهم ابن مقلة بذلك.
ذكر القبض على مؤنس وبُليق
في هذه السنة، أوّل شعبان، قبض القاهر بالله على بُليق وابنه، ومؤنس المظفَّر.
وسبب ذلك أنّه لّما ذكر ابن مقلة لمؤنس وبُليق ما هو عليه القاهر من التدبير في استئصالهم خافوه، وحملهم الخوف على الجدّ في خلعه، واتّفق رأيهم على استخلاف أبي أحمد بن المكتفي وعقدوا له الأمر سرّاً، وحلف له بُليق وابنه عليٌّ، والوزير أبو عليّ بن مقلة، والحسن بن هارون، وبايعوه، ثمّ كشفوا الأمر لمؤنس فقال لهم: لستُ أشكّ في شرّ القاهر وخبثه، ولقد كنتُ كارهاً لخلافته، وأشرتُ بابن المقتدر، فخالفتم وقد بالغتم الآن في الاستهانة به، وما صبر على الهوان إلاّ من خبث طويّته ليدبّر عليكم، فلا تعجلوا على أمر حتّى تؤنسوه وينبسط إليكم، ثم فتّشوا لتعرفوا من مواطأة من القوّاد ومن الساجيّة والحجريّة، ثم اعملوا على ذلك، فقال عليُّ بن بُليق، والحسن بن هارون: ما يحتاج إلى هذا التطويل، فإنّ الحجبة لنا، والدار في أيدينا، وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحدٍ لأنّه بمنزلة طائر في قفص.
وعملوا على معاجلته، فاتّفق أن سقط بُليق من الدابّة، فاعتلّ ولزم منزله، واتّفق ابنه علٌّيُّ وأبو عليّ بن مقلة وزيّنا لمؤنس خلع القاهر، هوّنا عليه الأمر، فأذن لهما، فاتّفق رأيهما على أن يُظهروا أنّ أبا طاهر القرمطيّ قد ورد الكوفة في خلق كثير، وأنّ عليَّ بن بُليق سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداد، فإذا دخل على القاهر ليودّعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه.
فلمّا اتّفقا على ذلك جلس ابن مقلة، وعنده الناس، فقال لأبي بكر ابن قرابة: أعلمتَ أنّ القُرمُطيَّ قد دخل الكوفة في ستّة آلاف مقاتل بالسلاح التامّ ؟ قال: لا ! قال ابن مقلة: قد وصلَنا كتب النوّاب بها بذلك؛ فقال ابن قرابة: هذا كذب ومُحال، فإنّ في جوارنا إنساناً من الكوفة، وقد أتاه اليوم كتاب على جَناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامته، فقال له ابن مقلة: سبحان الله، أنتم أعرف منّا بالأخبار ؟ فسكت ابن قرابة، وكتب ابن مقلة إلى الخليفة يعرّفه ذلك، ويقول له: إنّي قد جهّزت جيشاً مع عليّ بن بُليق ليسير يومنا هذا، والعصرَ يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه، فكتب القاهر في جوابه يشكره، ويأذن له في حضور ابن بُليق، فجاءت رقعة القاهر وابن مقلة نائم، فتركوها ولم يوصلوها إليه، فلمّا استيقظ عاد وكتب رقعة أخرى في المعنى، فأنكر القاهر الحال، حيث قد كتب جوابه، وخاف أن يكون هناك مكرٌ.
وهو في هذا إذ وصلت رقعة طريق السبكريّ يذكر أنّ عنده نصيحة، وأنّه قد حضر في زيّ إمرأة لينهيها إليه، فاجتمع به القاهر، فذكر له جميع ما قد عزموا عليه، وما فعلوه من التدبير ليقبض ابن بليق عليه إذا اجتمع به، وأنّهم قد بايعوا أبا أحمد بن المكتفي، فلمّا سمع القاهر ذلك أخذ حذره، وأنفذ إلى الساجيّة فأحضرهم متفرّقين، وكمّنهم في الدهاليز، والممرّات، والرواقات، وحضر عليُّ بن بُليق بعد العصر، وفي رأسه نبيذ، ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف، في طيارة، وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة، وصعد من الطيارة، وطلب الإذن، فلم يأذن له القاهر، فغضب وأساء أدبه، وقال: لا بدّ من لقائه شاء أو أبى.
وكان القاهر قد أحضر الساجيّة، كما ذكرنا، وهم عنده في الدار، فأمرهم القاهر بردّه، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه، وشهروا سلاحهم وتقدّموا إليه جميعهم ففرّ أصحابه عنه، وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربيّ واختفى من ساعته، فبلغ ابن مقلة الخبر، فاستتر واستتر الحسن بن هارون أيضاً. (3/443)
فلمّا سمع طريق الخبر ركب في أصحابه، وعليهم السلاح، وحضروا دار الخليفة، ووقف القاهر، فعظم الأمر حينئذٍ على ابن بُليق وجماعتهم، وأنكر بُليق ما جرى على ابنه، وسبّ الساجيّة، وقال: لا بدّ من المضي إلى دار الخليفة، فإن كان الساجيّة فعلوا هذا بغير تقدُّم قابلتُهم بما يستحقّونه، وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك.
فحضر دار الخليفة ومعه جميع القوّاد الذين بدار مؤنس، فلم يوصله القاهر إليه، وأمر بالقبض عليه وحبسه، وأمر بالقبض على أحمد بن زيرك، صاحب الشُّرطة، وحصل الجيش كلّهم في الدار، فأنقذ القاهر وطيّب نفوسهم، ووعدهم الزيادة، وأنّه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثمّ يطلقهم ويحسن إليهم، فعادوا، وراسل القاهر مؤنساً يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه، وقال: إنّه عندي بمنزلة الوالد، وما أُحبُّ أن أعمل شيئاً إلاّ عن رأيه؛ فاعتذر مؤنس عن الحركة، ونهاه أصحابه عن الحضور عنده.
فلمّا كان الغد أحضر القاهر طريفاً السبكريَّ وناوله خاتمه وقال له: قد فوّضتُ إلى ولدي عبد الصمد ما كان المقتدر فوّضه إلى ابنه محمّد، وقلّدتُك خلافته، ورئاسة الجيش، وإمارة الأمراء، وبيوت الأموال، كما كان ذلك إلى مؤنس، ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار، فإنّه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشرّ ولا نأمن تولُّد شغل، فيكون ها هنا مرفهاً، ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته.
فمضى إلى دار مؤنس، وعنده أصحابه في السلاح، وهو قد استولى عليه الكبر والضعف، فسأله أصحاب مؤنس عن الحال، فذكر سوء صنيع بُليق وابنه، فكلّهم سبّهما، وعرّفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود، فسكتوا، ودخل إلى مؤنس وأشار عليه بالحضور عند القاهر، وحمله عليه، وقال له: إنّ تأخّرت طمع، ولو رآك نائماً ما تجاسر أن يوقظك؛ وكان موافقاً على مؤنس وأصحابه لما نذكره، فسار مؤنس إليه، فلمّا دخل الدار قبض القاهر عليه وحبسه ولم يره.
قال طريف: لّما أعلمتُ القاهر بمجيء مؤنس ارتعد، وتغيّرتْ أحواله، وزحف من صدر فراشه، فخفتُه أن أكلّمه في معناه، وعلمتُ أنّني قد أخطأتُ، وندمتُ، وتيقّنتُ أنّني لاحق بالقوم عن قريب، وذكرتُ قول مؤنس فيه إنّه يعرفه بالهوج، والشرّ، ولإقدام، والجهل؛ وكان أمر الله مقدوراً؛ وكانت وزارة ابن مقلة هذه تسعة أشهر وثلاثة أيّام.
واستوزر القاهر أبا جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله، مستهلّ شعبان، وخلع عليه، وأنفذ القاهر وختم على دور مؤنس، وبُليق وابنه عليّ، وابن مقلة، وأحمد بن زيرك، والحسن بن هارون، ونقل دوابّهم، ووكّل بحرمهم، وأنفذ فاستقدم عيسى المتطّبب من الموصل، وأمر بنقل ما في دار ابن مقلة وإحراقها، فنُهبت وأُحرقت، ونُهبت دور المتعلّقين بهم، وظهر محمّد ابن ياقوت وقام بالحجبة، ثمّ رأى كراهية طريق السبكريّ والساجيّة له، فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس، فكاتبه القاهر يلومه على عجلته بالهرب، وقلّده كور الأهواز.
وكان السبب في ميل طريف السبكريّ، والساجيّة، والحجريّة، إلى القاهر، ومواطأتهم على مؤنس وبُليق وابنه ما نذكره، وهو أن طريفاً كان قد أخذ قوّاد مؤنس وأعلاهم منزلة، وكان بُليق وابنه ممّن يقبّل يده ويخدمه، فلمّا استخلف القاهر بالله تقدّم بُليق وابنه، وحكما في الدولة كما ذكرناه، وأهمل ابن بُليق جانب طريف، وقصده وعطله من أكثر أعماله؛ فلمّا طالت عُطلته استحيا منه بُليق، وخاف جانبه، فعزم على استعماله على ديار مصر ليقضي حقّه، ويبعده، ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم، وقال ذلك للوزير أبي عليّ بن مقلة، فرآه صواباً، فاعتذر بُليق إلى طريق لسبب عُطلته، وأعلمه بحديث مصر، فشكره، وشكر الوزير أيضاً، فمنع عليَّ بن بُليق من إتمامه، وتولّيى هو العمل، وأرسل إليه من يخلفه فيه، فصار طريف عدوّاً يتربّص بهم الدوائر.
وأمّا الساجيّة فإنّهم كانوا عُدّة مؤنس وعضده، وساروا معه إلى الموصل، وعادوا معه إلى قتال المقتدر، ووعدهم مؤنس المظفَّر بالزيادة؛ فلمّا قُتل المقتدر لم يروا لميعاده وفاء، ثناه عنه ابن بُليق، وطرّحهم ابن بُليق أيضاً، وأعرض عنهم. (3/444)
وكان من جملتهم خادم أسود اسمه صندل، وكان من أعيانهم، وكان له خادم اسمه مؤتَمَن، فباعه، فاتّصل بالقاهر قبل خلافته، فلمّا استخلف قدّمه وجعله لرسائله، فلمّا بُلي القاهر بابن بُليق وسوء معاملته كان كالغريق يتمسّك بكلّ شيء، وكان خبيراً بالدهاء والمكر، فأمر مؤتمناً أن يقصد صَندلاً الساجيَّ الذي باعه، ويشكو من القاهر، فإن رأى منه ردّاً لما يقوله أعلمه بحال القاهر وما يقاسي من ابن بُليق وابنه، وإن رأى منه خلاف ذلك سكت، فجاء إليه وفعل ما أمره.
فلمّا شكا قال له صندل: وفي أيّ شيء هو الخليفة حتّى يعطيك، ويوسّع عليك ؟ إن فرّج الله عنه من هذا المفسد احتجتُ أنا وغيري إليك، ولله عليّ صوم وصدقة أن ملك الخليفة أمره، واستراح، وأراحنا من هذا الملعون؛ فأعاد المؤتمن الحديث على القاهر، فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره، إلى زوجة صندل، وقال له: تحمله إليها، وزوجها غائب عنها، وتقول لها: إنّ الخليفة قسم فينا شيئاً، وهذا من نصيبي أهديتُه إليكم، ففعل هذا، فقبلته، ثمّ عاد إليها من الغد وقال: أيّ شيء قال صندل لّما رأى انبساطي عليكم ؟ فقالت: اجتمع هو وفلان وفلان، وذكرتْ ستّة نفر من أعيانهم، ورأوا ما أهديتَ إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة.
فبينما هو عندها إذ حضر زوجها، فشكر مؤتمناً، وسأله عن أحوال الخليفة، فأثنى عليه، ووصفه بالكرم، وحُسن الأخلاق، وصلابته في الدين، فقال صندل إنّ ابن بليق نسبَه إلى قلّة الدين، ويرميه بأشياء قبيحة، فحلف مؤتمن على بُطلان ذلكن وأن جميعه كذبٌ.
ثمّ أمر القاهر مؤتّمناً أن يقصد زوجة صندل، ويستدعيها إلى قهرمانة القاهر، فتحضر متنكرة على أنّها قابلة يأنس بها مَن عند القاهر، لّما كانوا بدار ابن طاهر، وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها، ففعلت ذلك، ودخلت الدار وباتت عندهم، فحملها القاهر رسالة إلى زوجها ورفقائه، وكتب إليهم رقعة بخطّة يعدهم بالزيادة في الإقطاع والجاري، وأعطاها لنفسها مالاً، فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه، فوصل الخبر إلى ابن بُليق أنّ امرأة من دار ابن طاهر دخلت إلى دار الخليفة، فلهذا منع ابن بُليق من دخول امرأة حتّى تُبصَر وتُعرف.
وكان للساجيّة قائد كبير اسمه سيما، وكلّهم يرجعون إلى قوله، فاتّفق صندل ومَن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بدّ لهم منه، وأعلموه برسالة القاهر إليهم، فقال: هذا صواب، والعاقبة فيه جميلة، ولكن لا بدّ من أن يُدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم، يعني أصحاب بُليق ومؤنس، وليكن من أكابرهم، فاتّفقوا على طريق السبكريّ، وقالوا: هو أيضاً متسخّط؛ فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه، وقالوا: لو كان الأستاذ، يعنون مؤنساً، يملك أمره لبلغنا مرادنا، ولكن قد عجز وضعف، واستبدّ عليه ابن بُليق بالأمور؛ فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا، فأعلموه حينئذ حالهم، فأجابهم إلى موافقتهم، واستحلفهم أنّه لا يلحق مؤنساً وبُليقاً وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم، وإنّما يلزم بُليق وابنه بيوتهم، ويكون مؤنس على مرتبته لا يتغيّر، فحلفوا على ذلك، وحلف لهم على الموافقة، وطلب خطّ القاهر بما طلب، فأرسلوا إلى القاهر بما كان، فكتب إليهم بما أرادوا، وزاد بأن قال: إنّه يصلّي بالناس، ويخطب أيّام الجمع، ويحجّ بهم، ويغزو معهم، ويقعد للناس، ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حُسن السيرة.
ثم إنّ طريفاً اجتمع بجماعة من رؤساء الحجريّة، وكان ابن بُليق قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه، فهم حنقون عليه، فلمّا أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه، فظهر شيء من هذا الحديث إلى ابن مقلة وابن بليق، ولم يعلموا تفصيله، فاتّفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قوّاد الساجيّة والحجريّة، فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة. (3/445)
وكان القاهر قد أظهر مرضاً من دماميل وغيرها، فاحتجب عن الناس خوفاً منهم، فلم يكن يراه أحدٌ إلاّ خواصّ خدمه من الأوقات النادرة، فتعذّر على ابن مقلة وابن بليق الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون، فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة ليظهروا لهم ويفعلوا به ما أرادوا؛ ولّما قبض القاهر على مؤنس وجماعته استعمل القاهرّ على الحجَبة سلامة الطولونيَّ، وعلى الشُّرطة أبا العبّاس أحمد بن خاقن، واستوزر أبا جعفر محمّد بن القاسم ابن عبيدالله، وأمر بالنداء على المستترين، وأباحة مال من أخفاهم وهدْم داره، وجدّ في طلب أحمد بن المكتفي، فظفر به، فبنى عليه حائطاً وهو حيّ فمات، وظفر بعليّ بن بليق فقتله.
ذكر قتل مؤنس وبُليق
وولده عليّ والنوبختيّ

وفيها، في شعبان، قتل القاهر مؤنساً المظفَّر، وبُليقاً، وعليَّ بن بُليق.
وكان سبب قتلهم أنّ أصحاب مؤنس شغبوا وثاروا، وتبعهم سائر الجند، وأحرقوا روشَن دار الوزير أبي جعفر، ونادوا بشعار مؤنس، وقالوا: لا نرضى إلاّ بإطلاق مؤنس.
وكان القاهر قد ظفر بعليّ بن بليق، وأفرد كلّ واحد منهم في منزل، فلمّا شغب الجند دخل القاهر إلى عليّ بن بليق، فأمر به فذُبح واحتُزّ رأسه، فوضعوه في طشت، ثم مضى القاهر والطشت يُحمَل بين يديه حتّى دخل على بليق فوضع الطشت بين يديه، وفيه رأسه ابنه، فلمّا رآه بكى، وأخذه يقبّله ويترشفه، فأمر به القاهر فذُبح أيضاً، وجُعل رأسه في طشت، وحُمل بين يدي القاهر، ومضى حتّى دخل على مؤنس فوضعهما بين يديه، فلمّا رأى الرأسَيْن تشهَّد واسترجع، ولعن قاتلهما؛ فقال القاهر: جُرّوا برجل الكلب الملعون ! فجرّوه وذبحوه وجعلوا رأسه في طشت، وأمر فطيفَ بالرؤوس في جانبَيْ بغداد، ونودي عليها: هذا جزاء من يخون الإمام، ويسعى في فساد دولته؛ ثم أُعيدت ونُظِّفت وجُعلت في خزانة الرؤوس، كما جرت العادة.
وقيل إنّه قتل يُليقاً وابنه مستخفٍ، ثمّ ظفر بابنه بعد ذلك، فأمر به فضُرب، فأقبل ابن بُليق على القاهر، وسبّه أقبح سبّ، وأعظم شتم، فأمر به القاهر فقُتل، وطيف برأسه في جانبَيْ بغداد، ثمّ أرسل إلى ابن يعقوب النّوبختيّ، وهو في مجلس وزيره محمّد بن القاسم، فأخذه وحبسه؛ ورأى الناس من شدّة القاهر ما علموا معه أنّهم لا يسلمون من يده، وندم كلّ من أعانه من سُبُك، والساجيّة، والحجريّة، حيث لم ينفعهم الندم.
ذكر وزارة محمّد بن القاسم للخليفة
وعزله ووزارة الخصيبيّ
لّما قبض القاهر بالله على مؤنس وبُليق وابنه سأل عمّن يصلح للوزارة، فدُل على أبي جعفر محمّد بن القاسم بن عبيدالله، فاستوزره، فبقي وزيراً إلى يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة، فأرسل القاهر فقبض عليه، وعلى أولاده، وعلى أخيه عبيدالله، وحُرَمه، وكان مريضاً بقُولَنْج، فبقي محبوساً ثمانية عشر يوماً، ومات، فحُمل إلى منزله، وأطلق أولاده، واستوزر أبا العبّاس أحمد بن عبيدالله بن سليمان الخصيبيّ، وكانت وزارة أبي جعفر ثلاثة أشهر واثني عشر يوماً.
ذكر القبض على طريف السبكريّ
لّما تمكّن القاهر، وقبض على مؤنس وأصحابه، وقتلهم، ولم يقف على اليمين والأمان اللذين كتبهما لطريف، وكان القاهر يُسمع طريفاً ما يكره، ويستخفّ به، ويعرض له بالأذى، فلمّا رأى ذلك خافه، وتيقّن القبض عليه والقتل، فوصَّى وفرغ من جميع ما يريده.
واشتغل القاهر عنه بقبض مَن قبض عليه من وزير وغيره، ثم أحضره بعد أن قبض على وزيره أبي جعفر، فقبض عليه، فتيقّن القتل أُسوةً بمن قتل من أصحابه ورفقائه، فبقي محبوساً يتوقّع القتل صباحاً ومساء إلى أن خُلع القاهر.
ذكر أخبار خُراسان
في هذه السنة سار مرداويج من الرَّيّ إلى جُرجان، وبها أبو بكر محمّد ابن المظفَّر مريضاً، فلمّا قصده مرداويج عاد إلى نَيسابور، وكان السعيد نصر بن أحمد بنَيسابور، فلمّا بلغها محمّد بن المظفّر سار السعيد نحو جُرجان، وكاتب محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ مطرفَ بن محمّد وزير مرداويج، واستماله، فمال إليه، فانتهى الخبر بذلك إلى مرداويج، فقبض على مطرف وقتله. (3/446)
وأرسل محمّدُ بن عبيدالله البلغميُّ إلى مرداويج يقول له: أنا أعلم أنّك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد، وأنّك أنّما حملك على قصد جُرجان وزيرك مطرفٌ ليرى أهلُها محلّه منك، كما فعله أحمد بن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث، حمل عَمراً على قصد بلْخْ ليشاهد أهلها منزلته من عمرو، فكان منه ما بلغك، وأنا لا أرى لك مناصبة ملكٍ يطيف به مائة ألف رجل من غلمانه ومواليه وموالي أبيه، والصواب أنّك تترك جُرجان له، وتبذل عن الريّ مالاً تصالحه عليه؛ ففعل مرداويج ذلك، وعاد من جُرجان، وبذل عن الريّ مالاً، وعاد إليها، وصالحه السعيد عليها.
ذكر ولاية محمّد بن المظفَّر على خُراسان
ولّما فرغ السعيد من أمر جُرجان، وأحكمه، استعمل أبا بكر محمّد ابن المظفَّر بن محتاج على جيوش خراسان، وردّ إليه تدبير الأمور بنواحي خراسان جميعها، وعاد إلى بخارى مقرّ عزّه، وكرسيّ ملكه.
وكان سبب تقدُّم محمّد بن المظفَّر أنّه كان يوماً عند السعيد، وهو يحادثه في بعض مهمّاته خالياً، فلسعته عقرب في إحدى رجليه عدّة لسعات، فلم يتحرّك، ولم يظهر عليه أثر ذلك، فلمّا فرغ من حديثه، وعاد محمّد إلى منزله، نزع خفّه فرأى العقرب فأخذها.
فانتهى خبر ذلك إلى السعيد، فأُعجب به وقال: ما عجبتُ إلاّ من فراغ بالك لتدبير ما قلتُه لك، فهلاّ قمتَ وأزلتَها ! فقال: ما كنت لأقطعَ حديث الأمير بسبب عقرب، وإذا لم أصبر بين يديك على لسعة عقرب فكيف أصبر، وأنا بعيد منك، على حدّ سيوف أعداء دولتك إذا دفعتهم عن مملكتك ؟ فعظم محلّه عنده، وأعطاه مائتَيْ ألف درهم.
ذكر ابتداء دولة بني بُوَيْه
وهم عماد الدولة أبو الحسن عليّ، وركن الدولة أبو عليّ الحسن، ومعزّ الدولة أبو الحسن أحمد، أولاد أبي شجاع بُوَيه بن فنّاخَسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شير كنده بن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه ابن شيرويه بن سشتان شاه بن سيس فيروز بن شيروزيل بن سنباد ابن بهرام جول الملك ابن يزدجرد الملك ابن هُرمُز الملك ابن شابور الملك ابن شابور ذي الأكتاف، وباقي النسب قد تقدّم في أوّل الكتاب عند ذكر ملوك الفرس؛ هكذا ساق نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا، رحمه الله.
وأمّا ابن مِسكويه فإنه قال إنّهم يزعمون أنّهم من ولد يزدجُرد بن شَهريَار، آخر ملوك الفرس، إلاّ أنّ النفس أكثر ثقة بنقل ابن ماكولا لأنّه الإمام العالم بهذه الأمور، وهذا نسب عريق في الفرس، ولا شكّ أنّهم نُسبوا إلى الديلم حيث طال مقامهم ببلادهم.
وأمّا ابتداء أمرهم، فإنّ والدهم أبا شجاع بُوَيه كان متوسّط الحال، فماتت زوجته وخلّفت له ثلاثة بنين، وقد تقدّم ذكرهم، فلمّا ماتت اشتدّ حزنه عليها، فحكى شهريار بن رستم الديلميّ قال: كنتُ صديقاً لأبي شجاع بويه، فدخلتُ إليه يوماً فعذلتُه على كثرة حزنه، وقلتُ له: أنت رجل يحتمل الحزن، وهؤلاء المساكين أولادك يهلكهم الحزن، وربّما مات أحدهم، فيجدّد ذلك من الأحزان ما ينسيك المرأة؛ وسلّيتُه بجهدي، وأخذتُه ففرّجته، وأدخلتُه ومعه أولاده إلى منزلي ليأكلوا طعاماً، وشغلتُه عن حزنه.
فبينما هم كذلك اجتاز بنا رجل يقول عن نفسه: أنّه منجّم، ومعزّم، ومعبّر للمنَامات، ويكتب الرُّقى والطلّسمات، وغير ذلك، فأحضره أبو شجاع وقال له: رأيتُ في منامي كأنّني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت حتّى كادت تبلغ السماء، ثم انفجرت فصارت ثلاث شعب، وتولّد من تلك الشعب عدّة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لتلك النيران.
فقال المنجّم: هذا مَنام عظيم لا أفسّره إلاّ بخلعة، وفرس، ومركب؛ فقال أبو شجاع: والله ما أملك إلاّ الثياب التي على جسدي، فإن أخذتَها بقيتُ عرياناً؛ قال المنجّم: بعشرة دنانير؛ قال: والله ما أملك ديناراً فكيف عشرة ! فأعطاه شيئاً، فقال المنجّم: اعلم أنّه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومَن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق كما علت تلك النار، ويولد لهم جماعة ملوك بقدر ما رأيتَ من تلك الشعب.
فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منّا ؟ أنا رجل فقير وأولادي هؤلاء فقراء مساكين كيف يصيرون ملوكاً ؟ ؟ (3/447)
فقال المنجّم: أخبرني بوقت ميلادهم؛ فأخبره، فجعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن عليّ فقبّلها وقال: هذا والله الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي عليّ الحسن، فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده: إصفعوا هذا الحكيم، فقد أفرط في السخرية بنا ! فصفعوه، وهو يستغيث، ونحن نضحك منه، ثم أمسكوا، فقال لهم: اذكروا لي هذا إذا قصدتُكم وأنتم ملوك؛ فضحكنا منه وأعطاه أبو شجاع عشرة دراهم.
ثم خرج من بلاد الديلم جماعة تقدّم ذكرهم ليملك البلاد منهم ما كان بن كالي، وليلى بن النُّعمان، وأسفار بن شيرويه، ومرداويج بن زيار، وخرج مع كلّ واحد منهم خلق كثير من الدَّيلم، وخرج أولاد أبي شجاع في جملة من خرج، وكانوا من جملة قوّاد ما كان بن كالي، فلمّا كان من أمر كان ما ذكرناه من الإتفاق ثم الإختلاف، بعد قتل أسفار، واستيلاء مرداويج على ما كان بيد ما كان من طَبَرِستان وجُرجان، وعود ما كان مرّة أخرى إلى جُرجان والدامغان، وعوده إلى نَيسابور مهزوماً.
فلمّا رأى أولاد بُويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة: نحن في جماعة، وقد صرنا ثقلاً عليك وعيالاً، وأنت مضيق، والأصلح لك أن نفارقك لنخفّف عنك مؤونتنا، فإذا صلح أمرنا عُدنا إليك؛ فأذن لهما، فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة من قوّاده ما كان وتبعوهما، فلمّا صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابني بويه، وأكرمهما، وقلّد كلّد واحد من قوّاد ما كان الواصلين إليه ناحية من نواحي الجبل، فأمّا عليُّ بن بويه فإنّه قلّده كَرَج.
ذكر سبب تقدُّم عليّ بن بويه
كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه من بينهم، بعد الأقدار، أنّه كان سَمحاً، حليماً، شجاعاً، فلمّا قلّده مرداويج كَرَج، وقلّد جماعة القوّاد المستأمنة معه الأعمال، وكتب لهم العهود، ساروا إلى الريّ، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحسين بن محمّد الملقّب بالعميد، وهو والد أبي الفضل الذي وزر لركن الدولة بن بويه، وكان العميد يومئذ وزير مرداويج.
وكان مع عماد الدولة بغلة شهباء من أحسن ما يكون، فعرضها للبيع، فبلغ ثمنها مائتَيْ دينار، فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها، فلمّا حمل الثمن إلى عماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي، وجعل معه هدية جميلة.
ثم أنّ مرداويج ندم على ما فعل من تولية أولئك القوّاد البلاد، فكتب إلى أخيه وشمكر وإلى العميد يأمرهما بمنعهم من المسير إلى أعمالهم، وأن كان بعضهم قد خرج فيردّ.
وكانت الكتب تصل إلى العميد قبل وشمكير، فيقراها ثمّ يعرضها على وشمكير، فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذَ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير من ساعته إلى عمله، ويطوي المنازل، فسار من وقته، وكان المغرب، وأمّا العميد فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير، فمنع سائر القوّاد من الخروج من الريّ، واستعاد التوقيعات التي معهم بالبلاد، وأراد وشمكير أن يُنفذ خلف عماد الدولة من يردّه، فقال العميد: إنّه لا يرجع طوعاً، وربّما قاتل من يقصده وخرج عن طاعتنا؛ فتركه.
وسار عماد الدولة إلى كَرَج، وأحسن إلى الناس، ولطف بعمّال البلاد، فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه، ويصفون ضبطه البلد، وسياسته، وافتتح قِلاعاً كانت للخُرّميّة، وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرجال، والصلات، والهبات، فشاع ذكره، وقصده الناس وأحبّوه.
وكان مرداويج ذلك الوقت بَطَبرِستان، فلمّا عاد إلى الريّ أطلق مالاً لجماعة من قوّاده على كَرَج، فاستمالهم عماد الدولة، ووصلهم، وأحسن إليهم، حتّى مالوا إليه، وأحبّوا طاعته. (3/448)
وبلغ ذلك مرداويج، فاستوحش وندم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى الكرج، فكتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه، وتلطّف بهم، فدافعه عماد الدولة، واشتغل بأخذ العهود عليهم، وخوّفهم من سطوة مرداويج، فأجابوه جميعهم، فجبى مال كرَج، واستأمن إليه شيرزاد، وهو من أعيان قوّاد الدَّيلم، فقويت نفسه بذلك، وسار بهم عن كرج إلى أصبهان، وبها المظفَّر ابن ياقوت، في نحو من عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها أبو عليّ بن رستم، فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما، ويستأذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، ليمضي إلى الحضرة ببغداد، فلم يجيباه إلى ذلك، وكان أبو عليّ أشدّهما كراهة، فاتّفق للسعادة أنّ أبا عليّ مات في تلك الأيّام، وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ، وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمائة رجل، فاستأمنوا إلى عماد الدولة لما بلغهم من كرمه، فضعف قلب ابن ياقوت، وقوي جنان عماد الدولة، فواقعه، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن ياقوت، واستولى عماد الدولة على أصبهان، وعظم في عيون الناس لأنّه كان في تسعمائة رجل هزم بهم ما يقارب عشرة آلاف رجل، وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه، وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه، وخاف على ما بيده من البلاد واغتم لذلك غمّاً شديداً.
ذكر استيلاء ابن بُوَيْه على أرّجان
وغيرها وملك مرداويج أصبهان

لّما سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه، وهو مطمئن إلى الرسالة التي تقدّمت، فعلم ابن بويه بذلك، فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرَيْن، توجّه إلى أرّجان، وبها أبو بكر بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال، وقصد رامهرمُز، واستولى ابن بويه على أرّجان في ذي الحجّة؛ ولّما سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها، فلّما سمع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان ويسلّمها إلى محمّد بن ياقوت، ففعل ذلك ووليها محمّد.
وأمّا ابن بويه فإنّه لّما ملك أرّجان استخرج منها أموالاً فقوي بها، ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن عليّ النوبندجانيّ يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شِيراز، ويهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه، ويعرّفه تهوره، واشتغاله بجباية الأموال، وكثرة مؤونته ومؤونة أصحابه، وثقل وطأتهم على الناس، مع فشلهم وجُبنهم، فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتاً مع كثرة عساكره وأمواله، ويحصل بين ياقوت وولده، فلم يقبل مشورته، ولم يبرح من مكانه، فعاد أبو طالب وكتب إليه يشجّعه، ويعلمه أنّ مرداويج قد كتب إلى ياقوت يطلب مصالحته، فإنّ تمّ ذلك اجتمعا على محاربته، ولم يكن له بهما طاقة، ويقول له إنّ الرأي لمن كان في مثل حاله أن يعاجل مَن بين يديه، ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة وأن يحدقوا به من كلّ جانب، فإنّه إذا هزم مَن بين يديه خافه الباقون ولم يقدموا عليه.
ولم يزل أبو طالب يراسله إلى أن سار نحو النُّوبَندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد سبقه إليهما مقدّمه ياقوت في نحو ألفَيّ فارس من شجعان أصحابه، فلّما وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لّما لقيهم، وانهزموا إلى كرَكان، وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع، وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنُّوبندجان بخدمة ابن بويه، والقيام بما يحتاج إليه، وتنحى هو عن البلد إلى بعض القرى، حتّى لا يعتقد فيه المواطأة له، فكان مبلغ ما خسر عليه في أربعين يوماً مقدار مائتَيْ ألف دينار.
وأنفذ عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج منها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم ركن الدولة، فهزمهم وهو في نفر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.
ثمّ أنّ عماد الدولة انتهى إليه مراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما، فخاف اجتماعهم؛ فاسر من النّوبندجان إلى إصْطَخْر ثم إلى البيضاء وياقوت يتبعه، وانتهى إلى قنطرة على طريق كَرمان، فسبقه ياقوت إليها ومنعه من عبورها، واضطر إلى الحرب، وذلك في آخر سنة إحدى وعشرين، ودخلت سنة اثنتين وعشرين.
ذكر عدّة حوادث (3/449)
في هذه السنة اجتمعت بنو ثعلبة إلى بني أسد القاصدين إلى ارض الموصل ومن معهم من طيّ، فصاروا يداً واحدة على بني مالك ومَن معهم من تغلب، وقرب بعضهم من بعض للحرب، فركب ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في أهله ورجاله، ومعه أبو الأغرّ بن سعيد بن حَمدان للصلح بينهم، فتكلّم أبو الأغرّ، فطعنه رجل من حزب بني ثعلبة فقتله، فحمل عليهم ناصر الدولة ومن معه، فانهزموا وقُتل منهم، ومُلكت بيوتهم، وأُخذ حريمهم وأموالهم ونجوا على ظهور خيولهم، وتبعهم ناصر الدولة إلى الحديثة، فلمّا وصلوا إليها لقيهم يأنس غلام مؤنس، وقد وليَ الموصل، وهو مُصعد إليها، فانضمّ إليه بنو ثعلبة وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد بوفاة تكين الخاصّة بمصر، وكان أميراً عليها، فوليَ مكانه ابنه محمد، وأرسل له القاهر بالله الخِلع، شارد الجند بمصر، فقاتلهم محمّد وظفر بهم.
وفيها أمر عليٌّ بن بليق، قبل قبضه، وكاتبه الحسن بن هارون بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد، فاضطربت العامّة، فأراد عليُّ بن بليق أن يقبض على البربهاريّ رئيس الحنابلة، وكان يثير الفتن هو وأصحابه، فعلم بذلك فهرب، فأُخذ جماعة من أعيان أصحابه وحُبسوا وجُعلوا في زورق وأحدروا إلى عُمان.
وفيها أمر القاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة، ونفى بعض مَن كان يُعرف بذلك إلى البصرة والكوفة؛ وأمّا الجواري المغنّيات فأمر ببيعهنّ على أنهنّ سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع من يشتري له كلّ حاذقة في صنعه الغناء، فاشترى منهنّ ما أراد بأرخص الأثمان، وكان القاهر مشتهراً بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقاً إلى تحصيل غرضه رخيصاً، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامّة الناس.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن الحسن بن دُريد اللغويُّ في شعبان، وأبو هاشم بن أبي عليّ الجُبّائيُّ المتكلّم المعتزليُّ في يوم واحد، ودْفنا بمقابر الخيزران.
وفيها توفّي محمّد بن يوسف بن مطر الفربريُّ، وكان مولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وهو الذي روي صحيح البخاريّ عنه، وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخاري فلم ينتشر إلاّ عنه، وهو منسوب إلى فربر بالفاء والرّاءَين المهملتين وبينهما باء معجمة موحدة وهي من قرى بخارى.

This site was last updated 07/15/11