روحانية الله
جريدة وطنى 17/6/2007م السنة 49 العدد 2373 مقالة للمتنيح العلامة الأنبا غريغوريوس اسقف الدراسات العلمية
تعد الوصية الثانية امتدادا للوصية الأولي,
الآلهة الوثنية
غير أنها تتعرض لما انحدر اليه البشر في تجسيد الإله وتصويره في صورة مادية,وهذا التجسيد هو الذي خلق ما يسمي بالوثنية,وعرفنا أن التبرير لهذا التجسيد هو أن الإنسان لا يري الله,لأن اللاهوت لا يري ولا يقدر أحد أن يراه,إنما الإنسان قد رأي الله متجليا في مظاهر الطبيعة ومنها الشمس والقمر والنجوم والهواء والنيل وما إلي ذلك,ورآها أيضا متمثلة في الحيوانات مثل العجل أو البقرة,أو الكبش أو ابن آوي أو في الطيور مثل أبو قردان.ثم انحدر الإنسان الانحدار الأكثر فصنع لمظاهر الطبيعة وللحيوانات وللطيور تماثيل من حجر أو ذهب أؤ من خشب أو من بعض المعادن.ومع الجهل عبد العامة هذه التماثيل الحجرية أو الخشبية أو المعدنية كآلهة,واستغلت الشياطين جهل الناس وكانت تدخل في هذه التماثيل وتحدث منها أصواتا.وهذه الأصوات كانت تسمعها الناس وفي جهلهم ظنوا أن الآلهة تتكلم.وهناك بعض الناس الأشرار استغلوا جهل الناس وأخذوا يترجمون للناس هذه الأصوات كإعلانات,فالآلهة تعلن أمرا أو تستجيب لطلب.وقد تكون مصر أحسن حالا,لكن بلغ الجهل للبعض في بعض البلاد مثل اليونان,كانت تبلغ المسأله بهم لدرجة أن صورة التمثال تكون مربوطة بحبل معين بطريقة سرية,فإذا اراد الكاهن أن تكون الاستجابة بالإيجاب لموضوع معين,فيذهب ويشد الحبل فيتحرك الإله بإيماءة يترجها للناس أن الإله استجاب للطلب بالإيجاب.وعندما يكون الكاهن في هذه الشعوب المتأخرة يريد أن يجعل الاجابة بالرفض,فيحرك الحبل بطريقة أخري بحيث رأس التمثال تعمل حركة أخري يفهم منها عدم الاستجابة أو الاجابة بالرفض.
وقد شرح آباء الكنيسة الكثير في كتاباتهم عن المستوي الذي انحدرت إليه الوثنية,خصوصا عند اليونان وعند الرومان,وعند الشعوب الأخري,قد تكون في مصر أقل إنحدارا لأن مصر كانت من القديم روحانية,ولم تصل إلي المستوي الذي وصلت اليه الشعوب الأخري التي سمعت أن الآلهة تتقاتل فيما بينها وبين بعض وتحارب بعضها البعض,وأن الآلهة تفسق وتزني وتعشق,فأخذت هذا كتبرير لحياة الفساد والخطيئة,علي اعتبار أن الآلهة نفسها تعمل ذلك فهي إذن ترضي عن هذه الأشياء.
وعلي أي الأحوال الله غضب جدا علي هذه الوثنية التي أنزلت الإله من روحانيته إلي أن صار في مفهوم الناس إلها ماديا يتشكل في تمثال,من هنا كانت الوصية الثانية دعوة إلي رفض مادية الإله وإلي العودة إلي روحانية الإله.وهذه هي النقطة التي نتكلم فيها أن الإله روحانيا وليس ماديا.
'لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صنما
بمعني أنه ليس فيه مادة كالمادة التي تبرز في جسم الحيوان أو في جسم الحيوان,أو لا يتمثل في حجر أو في ذهب أو في خشب أو في معدن أيا كان هذا المعدن,فالإله روحاني وهذه الصفة من الأساسية لفهمنا للإله.وهذه الصفة أكدتها المسيحية وأكدتها الشريعة كما جاءت في الوصايا العشر,كلمة 'لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صنما صورة شئ مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت'هذا ينهي عن تصوير الإله أو تصور الإله بأنه مادي,وهذه دعوة إلي روحانية الإله,إن الله روحاني ومعني الروحانية أنه غير مادي,نحن كبشر,لأننا مرتبطين بالمادة ومرتبطين بالحواس,ومغلق علينا في هذا الجسد,بحيث لا نستطيع أن نصل إلي الأشياء في ذاتها,إلا عن طريق الحواس ولذلك يسمونها أبواب المعرفة,فصعب علينا أن نتصور ما هو الروحاني,ولذلك الروحاني في مفهومنا هو غير المادي,أي مفهوم سلبي,فالروحانية للعقل البشري كما يتصورها هي روحانية سلبية,هي غير المادية أو اللامادية,لأن الإنسان سهل عليه أن يتصور المادة,فينفي عن الله المادة,وهذه الحقيقة تظهر في كلام أكليمنضدس الأسكندري عندما قال: 'نحن بالحقيقة لا نعرف ما هو الله,ولكننا نعرف ما ليس هو' أي أن تصورنا لله تصور غير مبني علي المعرفة الحقيقية لطبيعة الله,إنما كبشر نقدر نتصور المعني المادي والوجود المادي لأننا نحن في عالم المادة,إنما تصورنا للروح والروحانية والمعني أن الله روح,هذا التصور أو كون الإنسان يجعل الفكر يحيط بالمعني,هذه الإحاطة إحاطة فاشلة بالنسبة للإنسان,الإنسان لا يحيط علما بالروحانية لأنه إنسان مادي ممكن أن يتصورالمادة,ولا يقدر أن يتصور الروحانية,وعندما يقال إن الله روحاني,نحن في الواقع لا نعرف ما هو الروحاني,إنما نعرف ما هو المادي,وننفي عن الله أنه مادي,فنقول عن الله أنه غير مادي,وحتي عندما نقول روحاني يكون الروحاني في ذهننا هو غير المادي,لكن هل هناك إدراك إيجابي لمعني الروحانية؟صعب علي الإنسان أن يصل معني الروحانية في ذاتها,أو معني روحانية الإله,أو معني أن الله روح كما قال السيد المسيح,كل هذه المعاني صعب علي الإنسان أن يدركها لأنه صعب عليه أن يحيط بها.
ولذلك يقال عن الله أنه 'ما لم يدرك وما لا يحاط به',وأحيانا نقول في القداس 'غير المحوي',أي الذي لا يستطيع أحد أن يحتويه,'غير المدرك' أي الذي لا يستطيع الإنسان اللحاق به أو إدراكه أو الإحاطة به,كما تحيط ذراعا الإنسان بالعمود من جميع الاتجاهات,ومن هنا كلمة 'المحيط'.لذلك نقول الله لا يحاط به,الله غير المحوي,غير المدرك,كل هذه تعبيرات في الواقع مبنية علي النفي,إنما صعب أن نتصور المعني الإيجابي لحقيقة روحانية الله,حتي كلمة الله في اللغة العربية من 'إله يأله'بمعني ما حير العقل,أو ما يحار العقل فيه,أي أن العقل لا يقدر أبدا أن يضبطه,أو يمسكه.
نفي الصورة المادية للإله:
ونحن نتأمل الوصية الثانية نفهم أن الدعوة الأساسية,أو جوهر الوصية الثانية,يتجه إلي أن ينفي الصورة المادية للإله,وأن يرفع الإنسان هذه الصورة المادية حينما يتكلم عن الله أو حينما يتأمل في الله أو يتحدث عنه,الله روحاني,الله روح,نحن صعب علينا أن نتصور الروح الإنسانية مع العلم إنها روح محدودة,وهي في الجسم الذي له طول 160أو170أو180سم وله عرض50سم أو70سم أو80سم,ليكن ما يكون,أي أن في هذا المحيط توجد الروح,ومع ذلك يكون صعبا علينا أن نفهم الروح,حتي إخوتنا المسلمين يعتمدون علي كلمة 'قل الروح من أمر ربي',فالسكة مغلقة لا يوجد طريق لإدراكها.
وكذلك الملائكة وهي تسمي أرواح,حتي اليوم التصور للملائكة صعب علينا,إلا إذا كان واحد في يوم من الأيام أمكنه أن يري ملاكا,أو علي الأقل رآه في رؤيا أو في حلم,هذه الرؤية وهذه الصورة تساعد علي التصور.
الروح
وهذا هو السبب أننا في الحقيقة نشعر بصعوبة في أن نتصور عالم الأرواح-ولذلك يعد فن الرسم فنا إنسانيا لأنه يساعد الإنسان علي أن يقدر أن يتصور الأشياء التي هي ترتفع فوق مستواه المادي,ويحاولون أن يعطوا صورة حتي للأشياء غير المنظورة,ولذلك نجد مثلا في بعض الصور يصورون فيها المسيح والآب من فوق من السماء بشكل شخص كبير,شيخ ذقنه بيضاء,ولكن نصف جسمه الأسفل بين السحب غير ظاهر,لكن الظاهر هو الجزء الأعلي,طبعا هذه الصورة غير حقيقية,ولكن من خيال الرسام لأنه يريد أن يساعد الشخص الذي يري الصورة,أن يتصور المعني الذي وراءها,فيصور الآب,في شكل أب كبير في السن ينظر من فوق,وأيضا الروح القدس يصوره مثل حمامة,لأنه لا يوجد في عالم الإنسان ما يمكن لتقريب هذه المدركات العالية إلا عن طريق تصويرها بصورة مادية,ومثل ذلك الهالة الروحانية التي تحيط وجوه القديسين,القديسون وهم في الحياة ليست من حولهم هالة,ونادرا ما يمكن لأحد من الناس أن يري ذلك,إلا إذا كان عنده ما يعرف بالجلاء البصري,نادرا ما يستطيع أحد أن يتصور هذه الهالة أو يري الهالة,فلذلك الرسام يحاول أن يساعد الإنسان علي التصور,بأن يرسم هالة في شكل دائرة محيطة بوجه القديس,وأصبحت اليوم في الفن علامة علي أن الشخص المرسوم وحوله هالة هو أحد القديسين حتي لو كان الإنسان لا يعرفه.
معني ذلك أن الإنسان صعب عليه جدا أن يتصور الأشياء الروحانية,أو أن الله روح,أو روحانية الإله,فالروحانية في مفهومنا هي غير المادية,وهذا معني كلام أكليمنضدس الأسكندري 'نحن في الواقع لا نعرف ما هو الله' أي لا نعرف الله في حقيقته وفي جوهره,لأننا لا نراه ولا نقدر أن نراه,وإن كنا مدعوين كما قال يوحنا الرسول بعد أن نغادر الجسد,وبعد أن نأخذ صورة التطور المأمول بها,مدعوين أننا سنري الله,لأنه قال 'الآن نحن أولاد الله,ولن نتبين بعد ماذا سنكون,غير أننا سنصير مثله,لأننا سنراه كما هو' (1يو3:2) فهنا وعد سنري الله كما هو في حقيقته,إنما طالما نحن في هذا الوضع وفي هذا الجسد وبهذه الحواس,فنحن لا نستطيع أن نري الله,ولذلك المسيح قال أكثر من مرة 'الله لم يره أحد قط,الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب,هو خبر' (يو1:18),وقال الرسول 'الله لم يره أحد قط ولا يقدر أن يراه'.يقصد أنه ما دمنا نحن في الصورة الحاضرة لا نقدر أن نري الله,إذن تصورنا لروحانية الإله صعب,ولكن الوصية تريدنا أن نفهم الله علي أنه روح وأنه روحاني وأنه غير مادي,لكن البشر معذورين لأنهم يريدون أن تكون هذه الحقيقة قريبة إلي حواسهم وإلي مفهوماتهم,ولذلك اضطروا أن يروا الله في الطبيعة,والله في الكون,والله في مظاهر الطبيعة.ولكن لأن الإنسان انحدر في مفهومات أضرت بتصوره الحقيقي,أو بالتصور الذي ينبغي أن يكون عليه لله,لذلك احتاج الأمر إلي أن يسجل هذا في وصية مكتوبة,تصحيحا لفكر الإنسان,ومعاونه له حتي يعود من جديد إلي أن يطرح التفكير المادي من تصوره لله,ويرتد بقدر الإمكان إلي التفكير الروحاني.
المسيح هو الصورة المنظورة للإله غيرالمنظور:
والحق أن ديانتنا المسيحية قدمت لنا الله غير المنظور في صورة منظورة وهو المسيح,فالمسيح هو الصورة المنظورة للإله غير المنظور,ولذلك نحن الآن أقدر في المسيحية علي أن نعرف الله,عن الناس الذين كانوا قبل أ يتجسد الله في المسيح.
فاليوم نحن عندما نتصور الله بالصورة المنظورة نري فيها الحقيقة غير المنظورة وغير المحسوسة,أي أن الله لم يره أحد قط الابن الذي في ذات الآب خبر عنه,فإن كنا نريد أن نري الله غير المنظور فنراه في المسيح,ولذلك قال السيد المسيح 'الذي رآني فقد رأي الآب' فالمسيحية قد خدمت الإنسان عموما في هذه الناحية,أعانته وساعدته علي أن يقدر أن يتصورالله بصورة قدتكون في منال الإنسان وفي قدرته أن يتوصل إليها.والحقيقة أن المسيح هو الصورة الوحيدة وليس له نظير,الصورة الوحيدة التي تقدم للإنسان الله علي حقيقته,لأن أي صورة أخري ناقصة,فمثلا الإنسان يعطي علي نوع ما صورة الله علي الأرض,لأنه مخلوق علي صورة الله ومثاله,لكن الإنسان فيه عيوب وفيه نقائص كثيرة,أما المسيح فهو الصورة الكاملة النقية الطاهرة,كل الكمالات الإلهية نراها في المسيح,المحبة التي لا حدود لها,الرحمة التي لا حدود لها,العدل ,الأبوة,الجمال,أبرع جمالا من بني البشر,الهيبة,المهابة,الوقار,الكمال,في جميع الصفات التي وصف الله بها,التي يمكن للعقل البشري أن يتصورها,هذه الصفات جميعا التي يتصف بها الله تظهر كاملة في المسيح,لا يوجد أي مخلوق أو أي كائن أو أي مظهر من مظاهر الطبيعة يستطيع أن يعطي الصورة الكاملة لله غير المنظور إلا المسيح,المسيح وحده الذي تجمع فيه كل الكمالات وكل صفات الكمال و فلذلك حينما نتكلم عن الله,قبل المسيح كان العقل البشري يحار,فالمسيح في تجسده قدم للإنسان الصورة التي يمكن أن تكون في منال الإنسان,والتي بها يدرك الله غير المنظور وغير المحسوس.
======================================================================
المــــــــــــــــراجع