جريدة وطنى بتاريخ 19/ 8 / 2007م السنة 49 العدد 2382 عن مقالة بعنوان [ العذراء المتألمة ] للمتنيح العلامة الأنبا غريغوريوس أسقف الدراسات العليا
إن شاء الله نستقبل في يوم الأربعاء عيد صعود جسد العذراء إلي السماء,وبه نختم صوم العذراء,كلنا نطوب العذراء ونشيد بمدحها.لكن هل عاشت العذراء حياة رخوة؟أي نوع من الحياة عاشتها العذراء مريم؟ هناك الجانب المشرق,ظهور الملائكة في حياة العذراء في البشارة والميلاد,وميلاد السيد المسيح منها,وتحية أليصابات المملوءة روحانية,والتي فيها نطقت بالروح القدس بالكرامة التي نالتها مريم العذراء من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي وهي نفسها مجدت الرب وقالت منذ الآن جميع الأجيال تطوبني هذا هو الجانب المشرق في حياة العذراء,ولكن هناك جانبا آخر كان لابد منه ولامفر وهو جانب الآلام...جميع الذين يعيشون في التقوي في المسيح يسوع يضطهدون وقد عاشت العذراء حياة مضطهدة متعبة لاحقتها الآلام منذ الصغر.حرمت من أبيها ومن أمها,أولا من أبيها وهي في السادسة من عمرها,وثانيا من أمها وهي في الثامنة من عمرها,فأصبحت يتيمة,وفي الهيكل لم يكن لها أحد يسأل عنها,وكانت أمها وأبوها يأتيان إليها في كل عيد,لأنها نذيرة الرب,مرة في عيد الفصح في كل سنة يأتي أبوها وأمها إليها,فلما أصبحت يتيمة أصبحت محرومة وهي طفلة صغيرة من عطف الأب والأم.
عاشت إذن حياة ضيقة منذ طفولتها المبكر,وكانت الحيرة يوم أن بلغت الثانية عشرة من عمرها,وكان لابد أن تخرج من الهيكل ولكن لمن تعطي؟ومن هذا الذي يأخذها؟ومن هذا الذي يضمها؟ إلي أن تدخلت السماء,والملاك ظهر لزكريا رئيس الكهنة وأمره بأن يجمع عصي شيوخ سبط يهوذا وشبابها,ويكتب علي كل عصا اسم صاحبها,وفي اليوم التالي كانت العصا المكتوب عليها اسم يوسف قد أفرخت بمعني اخضرت وأورقت وازدهرت زهورا وأوراقا وبراعم.تدخلت السماء بهذا الأسلوب وحل الإشكال,وجاءت إرادة الله واضحة في أن يكون يوسف هو الذي يأخذ مريم إلي كنفه,وأحاطتها إرادة الله حتي تنتقل في أمان إلي بيت يوسف,عقد الكهنة عقد زواج رسمي علي يوسف وعلي مريم علي الرغم من أن مريم كانت تعشق البتولية,,ولابد أنها كانت في ذهنها متحيرة,لماذا الظروف تضيق عليها بهذا الشكل.
وعلي الرغم أنها تعتزم البتولية لكنها تضطر إلي هذا النوع من الزواج,لأنه لم يكن هناك مفر من أن يعقد لها عقد رسمي علي رجل,يأخذها إلي كنفه,لم تكن مريم تدرك ما أدركته فيما بعد,لكن كطفلة في الثانية عشرة من عمرها لابد أنها تضايقت داخلها.كيف علي الرغم من ميلها إلي التبتل,ومن رغبتها في أن تحفظ عفافها كاملا,تضطرها الظروف راغمة في أن تتزوج؟ هذه ضيقة نفسية مرت بها مريم,وبعد ذلك مريم تنتقل إلي بيت يوسف,ويجيئها الملاك ويبشرها ويطمئنها أن الحبل لن يتم بما يتعارض مع رغبتها في التبتل,لأن الروح القدس هو الذي يحل عليها وقوة العلي تظللها,وبذلك أقنعها بأن هذا الحمل لا يتعارض مع احتفاظها ببكارتها وبتوليتها,ولكن كانت هناك مشكلة أخري,مشكلة ماذا يدور في عقل يوسف,حينما يري علامات الحمل ظاهرة علي مريم,وكل ابنة وكل شابة وكل فتاة في مثل هذا الموقف,يمكنها أن تشعر بالضيقة وبالألم وبالحرج,وبالموقف الصعب الذي اضطرت إليه مريم كيف يمكنها أن تشرح الأمر ليوسف,كيف يمكنها أن تبرر ذاتها,هل يمكن أن يقبل عذرها ؟هل يمكن أن يصدق قصتها؟ هل من الممكن أن يصدق أمرا لم يسبق إليه ولم يحدث قبل ذلك,كانت هذه ضيقة أخري عانتها مريم.كيف؟ أيمكن أن تقنع يوسف,وأن تحكي له وأن تبرر موقفها؟.وأخيرا يتدخل الملاك,ويظهر في حلم ليوسف,ويقنعه بأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس,لاتخف أن تأخذ مريم زوجة لك لا تخف...معني ذلك أن يوسف كانت تغلي في نفسه أفكار,وهذا أمر طبيعي ومنطقي,حتي قال الكتاب إن يوسف إذ كان بارا أراد أن يطلق سراحها وأن يخلي سبيلها,لم يشأ أن يشهرها,لم يشأ أن يشهر أمرها,برارة يوسف دفعته أنه لايشهر أمرها,ولكنه في ذاته شك فيها,ولذلك أراد أن يطلق سراحها سرا,هذه فضيلة يوسف,وإنما هوشك فيها ولولا ذلك ما كان يقول الكتاب وإذ كان يوسف رجلها بارالم يشأ أن يشهر أمرها.أي أمرها أصبح فيه سمعة رديئة,وهو من برارته لم يشأ أن يسئ إلي سمعتها,فأراد أن يكتفي فقط بأن يطلق سراحها,وأن يتركها لحال سبيلها,انظروا في أي وضع كانت العذراء وهي اليتيمة,حتي الرجل الذي شاء الله أن يربطها به بهذا الرباط المقدس,حتي هذا الرجل شك فيها,وأكثر من شك بل لعله أيقن.والكتاب المقدس يذكر له هذه الفضيلة,أنه لم يرد أن يشهر أمرها,كأن أمرها أصبح شيئا محققا بالخطأ والفساد, ولذلك كان فضلا منه أن يطلق سراحها سرا حتي لا ترجم وحتي لا يعرف الناس قصة الفضيحة التي سقطت فيها مريم,هذا هو الوضع المؤلم,كلنا ننظر لمريم من الناحية المشرقة ولانفكر في قدر ماعانت مريم من آلام,ثم بعد ذلك حملت وأقنع الملاك يوسف بأن هذا الحمل أمر إلهي,ولذلك أبقي علي مريم في بيته,ثم تأتي ساعة الميلاد للسيد المسيح,وكانا يسكنان في الناصرة,ولكن يجئ الاكتتاب وبالأمر يذهب كل واحد إلي قريته التي ينتسب إليها,فكان لابد أن يذهبا إلي بيت لحم,ثم يجيئها المخاض والآلام والأوجاع وهي في غربة ولاتجد حتي المكان الذي تنام فيه في هذا اليوم,أعتقد لايوجد أحد مهما كان فقيرا عاني ماعانته العذراء.أي بنت وأي سيدة ولدت ابنها في ظروف قاسية جافة مثل هذه الظروف التي ولدت فيها العذراء مريم ابنها الإلهي.لماذا هذا كله؟فكروا معي لماذا هذا كله,حتي ميلادها للمسيح وهو ملك السماء والأرض,لاتلده في مكان هادئ في مكانها وفي بيتها,تشاء الظروف أنه لابد أن تذهب مريم وهي حامل ومثقلة بحملها في أيامها الأخيرة,وتسافر وتركب علي حمار من مكانها إلي أن تصل إلي بيت لحم وهناك لاتجد مكانا.لم تجد مكان إلا المذود الذي تأكل فيه البهائم لتضع فيه مولودها,فكروا معي لو أحد منا رأي هذه الظروف كلها,هل هي ظروف عادية؟ بل هي ظروف آلام غير عادية,لايوجد أحد في الدنيا ولد في مثل هذه الظروف,لايوجد أم في الدنيا,ممكن أن نقول نتحدي إذا وجدت امرأة أو إذا وجدت ابنة طاهرةكمريم وتعاني الظروف التي عانتها مريم في الحمل وفي الوضع.
وبعد أن وضعت ابنها يجئ الاضطهاد من هيرودس,ثم التشتيت,انظر يجئ الملاك ويقول خذ الصبي وأمه واهرب إلي أرض مصر يخرجا هربا بالليل,وكثير من الأحداث تحدث ,تصوروا ظروف ابنة في الثالثة عشر من عمرها ,وتهرب في الليل وهي تعلم أن هناك من يتعقبها,وأن هيرودس أرسل وراءهم عشرة جواسيس ,انظروا هذا كله...
وهم في الطريق يتعرض لهم اللصان اللذان صلبا علي يمين المسيح وعلي شماله,فيطمعا في الذهب الذي قدمه المجوس,ويهجما عليهم ويأخذا الذهب منهم,وأحد اللصين بعد أن تمت السرقة يؤنبه ضميره,ويقول لأخيه اللص الآخر نحن بلغنا من القسوة ومن الجفاف أننا نعتدي علي هذه الابنة الشابة الصغيرة وعلي هذا الابن.لم نجد إلا هؤلاء ,كم سرقنا وكم خطفنا وكم نهبنا!! ضميره يؤنبه ويختلف مع زميله ثم بعد مناقشة طويلة بين اللصين ينتصر أحد اللصين علي زميله ويرجعان هدايا المجوس للعائلة المقدسة مرة أخري,ومخلصنا له المجد ينطق بهذا التصريح ويقول لها:هذان اللصان سيصلبان,أحدهما عن يميني والآخر عن يساري.صاحب القلب الرحيم سيكون عن يميني,وصاحب القلب القاسي سيكون عن يساري.
وهكذا تحركت العائلة المقدسة في ظروف غير عادية,في اضطهادات مرة,الجواسيس وراءهم الذين أرسلهم هيرودس,والعائلة المقدسة تسير في وسط الصحراء,في أماكن وفي مواضع لا يعرفونها,كيف يسيرون؟كم من تجارب كثيرة مرت بهم؟ كم من مرة اشتاقوا أحيانا لكوب من الماء؟ أحيانا يجدون وأحيانا كثيرة تغلق الأبواب في وجوههم,والشيطان كان يحرك الناس ضدهم,وكان المسيح بيده المباركة يرسم علي الأرض دائرة فينبع منها ماء,حدث هذا عدة مرات,في تل بسطة بجوار الزقازيق عندما أنبع المسيح نبع ماء,وفي المطرية أيضا وفي مواضع أخري متعددة,وهذه تعطينا فكرةعن مقدار ما عانت العذراء في هذه الرحلة من مطاردة,حالة نفسية مضطربة,هروب مستمر,وعدم قدرة علي الاستقرار في مكان واحد,كانوا يتحركون في كل يوم من مكان إلي آخر,في ظروف غير عادية حتي وصلوا إلي منطقة دير المحرق,ثم ظهر لهم الملاك غبريال مرة أخري ليوسف,ويقول له ارجع إلي أرض فلسطين لأنه مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي ويرجع في نفس الطريق مرة أخري,آلام متواصلة,أوجاع,اضطهادات,مضايقات من كل نوع.
بعد ذلك نستطيع أن نقدر ما عانته العذراء في الناصرة في تربيتها للمسيح,وحياة القسوة التي عاشتها كامرأة مع نجار,والمسيح نفسه أيضا كان صبي لهذا النجار,إلي أن بدأ المسيح خدمته,وكون الكنيسة وأخيرا انتهي الأمر بأن يصلب المسيح.
انظروا ظروف العذراء عندما يؤخذ ابنها,وحيدها,عائلها,كل رجائها,الذي تعلقت به والذي احتملت من أجله الآلام,يؤخذ ليصلب,انظروا العذراء وهي تري المسيح في طريق الصليب,وتراه يقع ثلاث مرات من شدة الإعياء ويتلطخ وجهه بالدماء,وإكليل الشوك فوق رأسه وجسمه كله مضروب بالجلدومضروب بالقصبة,,وفي أشد حالات الإعياء,ونزف الدم ونزف الماء من جسمه,كل هذا رأته العذراء في طريق الصليب,ورأت سيدها وابنها معلقا علي الصليب,كما نقول في القطعة في صلاة الساعة التاسعة أما العالم فيفرح بقبوله الخلاص,أما أحشائي فتلتهب بالنار عند نظري إلي صلبوتك ,الذي أنت صابر عليه من أجل الكل ياابني وإلهي هذه صورة لم تبرز بوضوح في الأناجيل,ولكن تقدرون أن تتصوروا شعور الأم,شعور خيبة الأمل,شعور الحزن والضيقة,شعور الاضطهاد,كل هذا الإحساس الذي تحس به الأم نحو ابنها,حينما تراه علي هذا الوضع الأليم.وهي بعد ذلك ليس لها أحد آخر غيره,انظروا كيف تتحمل إنسانة تعيش في مثل تلك الظروف وكيف تفكر,كيف يكون عقلها وكل رجائها يصلب وتبقي هي لوحدها,حتي التلاميذ تركوها وهربوا كلهم ماعدا يوحنا الذي تبعه من بعيد ,تصورالوضع الذي كانت فيه وإحساسها وشعورها أنها ستترك وحيدها ,وهي امرأة لا صديق لها بعد أن مات يوسف,والمسيح الآن يموت علي الصليب,تصور شعورها وإحساسها في هذه اللحظة المرة ,وهي تري كل رجائها علي هذه الصورة المؤلمة.وفي آخر لحظة تدخل المسيح وقال ليوحنا خذ هذه أمك وقال لها خذي هذا ابنك وأخذها التلميذ إلي خاصته من هذه الساعة.
وكأن هذه الوصيةالمقدسة إلي العذراء مريم بأن تحتضن الكنيسة كلها,,وأن تكون هي أم المؤمنين,تحنو عليهم وتصلي لأجلهم وتشفع فيهم,ونحن بدورنا لنا هذه الأم التي تشرفنا بنسبتنا إليها,فإذا كان المسيح أبونا,والعذراء أمنا...فهي أقرب الأقربين إلي العرش الإلهي.
وإذ كان الرسل في الأيام الثلاثة بعد صلب المسيح,اغلقوا العلية يقول الكتاب وأبوابها مغلقة وهناك فرق بين مغلقة وبين مغلقة ,أي هم الذين غلقوها بسبب الخوف من اليهود,هؤلاء التلاميذ الذي كان منهم بطرس الرسول وهو شيخ كان هذا حالهم ,من كثرة الخوف غلقوا الأبواب,فماذا كانت حالة العذراء وهي امرأة وحيدة؟!
رأيت صورة في فينيسيا,في قصر اسمه قصر الطرقات.لم أر صورة في حياتي بهذه الروعة,العذراء في قبر المسيح وهي تري ابنها يدفن,لم أر في حياتي أبدا صورة بهذا الشكل الذي يوضح عيني العذراء من كثرة البكاء ومنظر وجهها وحالة الأمومة الممزقة في أقسي لحظة من لحظات الحياة ,كل هذه الأمور نريد أن نفكر فيها ,لنعلم قدر ما في حياة القديسين من آلام واضطهادات ومتاعب.
وحتي بعد أن قام المسيح من بين الأموات وصعد إلي السموات,لاحقتها اضطهادات أخري ,إذأصبحت المسيحية هرطقة في نظر اليهود,وأصبح هناك اضطهاد علي المسيحيين وعلي الرسل وأضعاف هذا الاضطهاد كان علي مريم لأنها في نظرهم أنها السبب في كل هذا,ولذلك عانت العذراء معاناة شديدة بعد صعود المسيح إلي السماء ظلت باستمرار تذهب إلي قبر المسيح وهناك تصلي ومن كثرة الآلام التي تحملتها أن السيد المسيح ظهر لها,وقال لها أنا أعلم مقدار تعبك من أجلي,,ولكن في كل مكان أنت ذهبتي معي فيه سيكون هناك كنيسة علي اسمك إكراما لك,لأن اسمك سيظل معروفا في السماء وعلي الأرض إلي الأبد.
إننا نتذكر دائما العذراء التي نمجدها والتي نكرمها والتي نتغني بفضائلها,أما الجانب الآخر من حياة العذراء مريم كثيرا ما ننساه وقدلانفكر فيه ,جانب الآلام التي تحملتها العذراء وعاشت فيها ,لكن هذه الآلام لا تنسي أمام الرب,بل تعتبر الثمن الذي يشتري الإكليل ,وتتحول الجروح من أجل المسيح إلي لآلئ في إكليل المجد الذي يعطي للقديسين المجاهدين.
وأنا أريد أن أقول كلمة,ما هو تاريخ الإنسان؟ تاريخ الإنسان هو تاريخ آلامه,الآلام هي التي تصنع التاريخ ,ومن دون الآلام يمر الإنسان مرورا عابرا في هذه الحياة ولايترك أثراوكل الآباء الذين صنعواالتاريخ ,وكتب عنهم التاريخ طويلا هم الآباء الذين احتملوا,وهم الآباء الذين تألموا,وعلي قدر ما تكون السفينة قوية تكون حمولتها ومن هنا كانت آلام القديسين أضعاف مضاعفة عن آلام غير القديسين,ولذلك يقول الله لا يدعكم تجربون فوق ما لا تستطيعون فهذه الاستطاعة متغيرة بالنسبة للناس,وهناك من يتحمل وهناك من لا يتحمل.ومن يتحمل أكثر يأخذ آلاما أكثرلكن هذه الآلام لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا.
بركة العذراء الطاهرة تشملنا جميعا ولإلهنا المجد والكرامة آمين.