قوارير تحمل تصاوير مارمينا العجائبي
وطنى 21/11/2009م د. شيرين صادق الجندي
يعتبر القديس مينا المصري أو مارمينا العجائبي من أشهر القديسين المصريين, فلقد تمتع هذا القديس بشعبية هائلة وقاعدة جماهيرية كبيرة علي مر العصور. كما بلغت شهرته الآفاق تارة بسبب سيرته الذاتية التي كتبت للمرة الأولي في حوالي القرن الثامن الميلادي, وتارة أخري بسبب ديره الأثري بغرب الإسكندرية المشيد تقريبا في محاذاة محطة بهيج. وذاعت شهرة الشهيد مارمينا أيضا بسبب تلك المعجزات التي ظهرت من جسده التي تكاثرت وأدت إلي تحول هذا الموقع الأثري إلي مزار عالمي يتوافد عليه الحجاج بشكل مستمر لنيل بركة القديس والمكان. ويخلط البعض بين مارمينا العجائبي القديس وبين مينا رئيس دير القديس أبولو بباويط بالقرب من ملوي بمحافظة أسيوط. كما يخلط بعض الباحثين الغربيين بين مارمينا الجندي الشهيد وبين قديس آخر يحمل الاسم نفسه ولكنه أثيني المولد.
ولد القديس مارمينا العجائبي في فريجية في سنة 258م لأبوين مصريين. وبعد وفاة أبيه, اهتم به أصدقاء والده فانضم إلي الجيش الروماني ولكنه هرب منه عندما بدأ الإمبراطور الروماني دقلديانوس اضطهاده الكبير للمسيحيين منذ سنة 284م وحتي عام 305م. غير أن الشاب مينا عاد مرة أخري إلي وحدته بعد عدة سنوات وسلم نفسه وأعلن اعتناقه للدين الجديد. وعندما رفض الارتداد عن المسيحية, تم تعذيبه إلي أن صدرت الأوامر بقطع رأسه. وهكذا استشهد شابا وكان عمره حينذاك حوالي 24عاما. وكان من المقرر أن يتم إحراق جسده إلا أن البعض من أصدقائه تمكن من إنقاذ الجسد. وعندما صدرت التعليمات في ذلك الحين إلي الوحدة العسكرية التي كان ينتمي إليها الجندي الشهيد مينا بالتوجه إلي أرض مصر لإخماد غارات البربر المستمرة علي منطقة مريوط, أصر كل أعضاء القوة العسكرية علي اصطحاب جسد الشهيد معهم. وفي طريقهم للعودة منتصرين إلي فريجية, توقفت الجمال التي كانت تحمل جسد الشهيد مارمينا عن المسير وأبت أن تتحرك مرة أخري. واعتقادا من الجنود بأن ما حدث هذا كان إعلانا عن رغبة القديس في أن يدفن في هذه المنطقة, قاموا بإنزال جسده وتم دفنه في هذا الموقع بالقرب من قرية أست. وبعد مرور عدة سنوات علي هذه الواقعة, اكتشف سكان المنطقة الكثير من معجزات القديس مينا لا سيما معجزاته في شفاء العديد من الأمراض. فسارعوا بتشييد مزار صغير فوق قبره وكان يرتكز علي أربعة قوائم تعلوها قبة. وسرعان ما ذاعت شهرة القديس والمنطقة معا, فأقبل الناس من كل مكان علي زيارة الموقع للتبرك بالقديس ولتعميد أنفسهم وأطفالهم هناك أو للشفاء من الأمراض.
وقد عثر في هذا الموقع الأثري لمارمينا علي ما يطلق عليه قوارير مينا أو قوارير الحجاج التي كانوا يملأونها بمياه البئر الواقعة بالقرب من قبر مارمينا ويأخذونها معهم إلي بلادهم. وهكذا كان ولازال زائرو المكان يقومون بشرائها كتذكار لهم من هذه المنطقة المباركة. وقد ساعد ذلك علي ازدهار النشاط التجاري بالمنطقة لإنتاج هذه الهدايا والتذكارات الصغيرة التي كانت تصنع من الفخار أو الطين المحروق وهو مادة متوفرة في مصر بكثرة كما أن أسعارها تعتبر مناسبة لكل فئات الشعب. ولقد برع الأقباط في صناعة التحف الفخارية مثل أجدادهم المصريين القدماء, وهو ما تؤكده لنا المناظر الفريدة من نوعها التي نقشت علي جدران المعابد والمقابر المصرية القديمة في المناطق الأثرية المختلفة كما هو الحال في سقارة وبني حسن والأقصر ومدينة هابو. وكما برع رهبان وآباء الكنائس والأديرة في نسخ المخطوطات وفي رسم الأيقونات,تجلت مهارتهم الفائقة أيضا في إنتاج التحف الفخارية المختلفة لتوفير متطلبات الحياة الديرية.
الصورة الجانبية قارورة أثرية قديمة
وتم العثور علي بقايا مصانع لإنتاج هذه القوارير وأيضا محلات لبيعها كهدايا وكتذكارات في جنوب غرب مدينة أبو مينا التي اكتشفها العالم الألماني الشهير ك.م.كوفمان C.M.Kaufmann في عام 1905م أثناء الحفائر التي قام بها في هذا الموقع الأثري الفريد بالقرب من البازيليكا. كما عثر هذا الأثري الكبير علي الأفران التي كان يحرق بها الفخار. وترجع هذه الأفران غالبا إلي القرن الثالث - الرابع الميلادي. ووجد كوفمان بها أيضا مجموعات متنوعة من قوارير مارمينا العجائبي.
واستمرت أعمال التنقيب في منطقة أبو مينا الأثرية بعد ذلك من خلال ما قام به المتحف اليوناني الروماني (1925 - 1929م) من حفائر, أكملها في عام 1936م العالمان الألمانيان ف.ف.دايشمان F.W.Deichmann وأ.فون جيركان A.von Gerkan وفي سنة 1942م واصل العالم الإنجليزي ج.ب.وارد بركنز J.B.Ward Perkins أعمال الحفر والتنقيب في نفس المكان. واستمرت الحفائر تحت إشراف المتحف القبطي في سنة 1951 - 1952م. ولقد أمدتنا كل هذه الحفائر بكميات كبيرة من قوارير القديس مينا.
وعثر كذلك علي نماذج مهمة من هذه القوارير في منطقة كوم الدكة بمدينة الإسكندرية. ووفقا لتقسيم العالم الأثري البولندي Kiss Zsolt, يمكن إرجاع هذه التحف الأثرية إلي القرن الخامس - السابع الميلادي.
ويبدو أن قوارير مارمينا وجدت أيضا في أماكن متفرقة في أرجاء العالم القديم كاليونان وإيطاليا وسردينيا وصقلية وآسيا الصغري بالإضافة إلي جزر الأرخبيل وأزمير وشمال أفريقيا. ومن الواضح أن وصول مثل هذه القوارير إلي تلك الأماكن البعيدة تم عن طريق التجار وبعض حجاج مدينة أورشليم.
وتم اكتشاف أمثلة أخري من قنينات مارمينا في 1947م بالقرب من جسر مونوري فوق نهر مارن في القارة الأوربية ومنها ما هو محفوظ حاليا بمتحف جراتيان بفرنسا. ويظهر عليها القديس واقفا في وضع الصلاة بين جملين ويكتنف رأسه صليبان صغيران.
الصورة الجانبية : صورة لقنينة حديثة مشابهه للقنينة الأثرية التى كان يصنعها أجدادهم يشتريها زوار دير مار مينا عند زيارتهم دير ا مار مينا الحديث الذى أنشأه ألنبا كيرلس
ونظرا لضخامة الكميات التي اكشتفت من هذه القوارير في الحفائر الأثرية التي أجريت في أماكن متفرقة, قام علماء الآثار بتقسيمها إلي ما يقرب من إحدي وثمانين مجموعة تختلف في أحجامها وأبعادها وزخارفها. فهذه القوارير إما دائرية وإما بيضاوية الشكل. وهي من الفخار أو من المعدن. كما أنها مزودة بمقبضين غفل من الزخرفة. وزخرفة البدن تكون دائما علي الوجهين. وقوام الزخرفة عليها الأشكال الآدمية والحيوانية إلي جانب بعض الزخارف الهندسية البسيطة والرموز المسيحية كالصلبان بالإضافة إلي بعض العبارات اليونانية أو القبطية البسيطة المتضمنة بعض أبيات الشعرأو اسم القديس مينا. وعادة ما تكون هذه الزخرفة منقوشة نقشا بارزا علي القارورة. وبعض القوارير التي تم العثور عليها في حالة جيدة من الحفظ والبعض الآخر في حالة يرثي لها. وجميع القوارير مزودة بجزء يصب منه الماء يسبقه شكل به ثقوب أشبه بشبابيك القلل.
ويتوالي ظهور القديس مينا العجائبي علي الكثير من التحف الأثرية المحفوظة حاليا بالمتحف القبطي بالقاهرة وأيضا بالمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية. وأغلب هذه التحف من الفخار والبعض منها من المعدن والقليل منها من العاج. ويظهر القديس دائما وهو يقف بين جملين, أو وهو يمتطي جوادا علي هيئة فارس يرتدي الملابس العسكرية. وتزخر متاحف العالم بقوارير القديس مينا العجائبي مثل متحف اللوفر بباريس والمتحف البريطاني بلندن ومتحفي تورين وميلان بإيطاليا.
ويتكرر ظهور مارمينا علي الأيقونات الأثرية في الكنائس والأديرة القبطية. فيظهر القديس مينا دائما علي شكل فارس يطعن حيوانا خرافيا شأنه في ذلك شأن العديد من القديسين أمثال مارجرجس وأبي سيفين ومار بقطر. ومناظر القديسين الفرسان من المناظر التقليدية والمعتادة في الفن القبطي, فهي تظهر بكثرة علي الألواح الخشبية والتحف المعدنية والمخطوطات والمنسوجات القبطية. وربما كان هذا الموضوع الزخرفي يحمل في طياته تأثير الحضارة المصرية القديمة حيث يذكرنا بأسطورة انتصار الإله حورس Horus علي الإله ست Seth أي انتصار الخير علي الشر. ويمكن تقبل هذا الرأي بما يتوافق مع مفاهيم الديانة المسيحية ولكن بتعبير جديد. فمنظر الفارس الممتطي جوادا في الفن القبطي هو رمز لانتصار الكنيسة أو الدين الجديد علي كل مظاهر الوثنية التي كانت سائدة في العصور السابقة.
ومما سبق يتضح لنا كيف ذاعت شهرة القديس مينا العجائبي وبلغت الآفاق في كل مكان داخل وخارج مصر, كما نستطيع أن ندرك أيضا مدي حرص الزائرين والحجاج علي التردد الدائم علي منطقة أبو مينا الأثرية في الصحراء الغربية للتبرك بالمكان وللتعميد في أيام عيد الفصح وللاحتفال سنويا بعيد القديس مينا يوم 15 من هاتور 11 من نوفمبر أو في يوم 24 من نفس الشهر الميلادي نظرا لأن الكنيسة الأرثوذكسية لا زالت تتبع التقويم اليولياني. كما يتبين لنا أيضا كثرة التحف الأثرية الموزعة في كل متاحف العالم الأثرية والتي تحمل تصاوير القديس مينا ومدي ثرائها بالعناصر الزخرفية المختلفة التي تشهد بمهارة ودقة الفنان الذي أنتجها في هذا العصر.
د. شيرين صادق الجندي
مدرس بقسم الإرشاد السياحي بآداب عين شمس