أسم إله القمر سين جزء من أسماء الملوك الآشوريين والبابليين
وكانت فكرة تسمية الملوك بأسماء الآلهة شائعة في الحضارات القديمة لا سيما الحضارات الرافدية ، فالملك الآشوري " نارام سين"، الذي يعني اسمه "محبوب سين" قد ابتدع لأول مرة فكرة تأليه نفسه، ثم وضع المخصص الدال على الإله أمام اسمه، كما نراه على لوحة النصر يلبس على رأسه التاج ذا القرون الدالة على الألوهية(1) (ص 16 من الرسالة)
وقد عُرف أحد ملوك بابل قبل حمو رابي باسم "شمس، ايلونا" أي الشمس إلهنا ( 2) . مما يدلل بوضوح على انتشار هذه الفكرة في الحضارات البابلية .
من الملاحظ أن الآشوريين لم يساهموا بشيء جديد في عبادتهم للقمر بل استمدوا أصولها وطقوسها من الحضارتين البابلية والسومرية، فبقيت آلهة القمر البابلية والسومرية تهيمن على مجمع آلهتهم القمرية .
وهكذا يمكننا القول: إن عبادة القمر في الديانة العراقية القديمة بطقوسها وآلهتها قد تميزت بالاستمرارية والتواصل، وذلك بمحافظتها على جوهرها، وتأثيرها الواضح على الديانات التي جاءت بعدها. كما أنها انتشرت بين الأقوام التي جاءت بعدها، مما أكسبها بعدًا عالميًا. وهذا يدعو إلى القول: إن الميثولوجيا القمرية العراقية كانت حجر الزاوية الذي قامت عليه الميثولوجيا القمرية العالمية القديمة .
وسار الفينيقيون على خطى الرافديين في عبادتهم لمظاهر الطبيعة، وكان المجتمع الفينيقي مجتمعًا زراعيًا، وانعكس هذا على عبادتهم، حيث تعايشت فيها العبادة الرسمية مع العبادة الزراعية، فقد كانوا يتوسلون إلى الآلهة كي تمدهم دائما بالخبز والماء والصوف والكتان والزيت والخمر والحليب والعسل ( 3) لاعتقادهم بقدرتها المطلقة على ذلك . ربط الإنسان القديم بين القمر من جهة وبين خصب الأرض والمرأة من جهة أخرى، من خلال ملاحظته أن تتابع الفصول، نتاج لدورة القمر، وأن هذا التتابع هو الذي يؤدي إلى اكتمال الدورة الزراعية، وتتوج حركتها بفصل الربيع الذي يحيي الأرض بعد موتها (4)
وكان للقمر دورٌ كبيرٌ في حساباتهم الزراعية، يتضح ذلك من خلال حساب الفلاح للأيام الملأى والفارغة قبل قيامه بزراعة الأرض، لما يحمله ذلك من أهمية تضمن نجاح موسمه الزراعي، وذلك على النحو التالي: أول خمسة أيام ملأى ثم يعقبها خمسة أيام فارغة ويعاد أربعة أيام ملأى وأربعة فارغة، ثم ثلاثة أيام ملأى وثلاثة فارغة ويليها اثنان ملأى واثنان (ص17 من الرسالة) فارغة ثم يوم ملآن ويوم فارغ، حتى يُتم أيام الشهر القمري وهي ثلاثون يومًا(5) يبدو تأثير الديانات السابقة والمجاورة جليًا في معتقدات الفينيقيين، حيث قامت عبادتهم . ( على تقديس الثالوث الأعظم الذي تمثل في القمر والشمس والمبدأ الإلهي في عمل الناس(6) ومن الآلهة التي عظمها الفينيقيون، إلهة القمر "عشتروت " زوجة الإله بعل إله الشمس، الذي يظهر غالبًا إلى جانبها، كما هو واضح في آثارهم "(7) حيث أدى ارتباطها بالإله القمر إلى إكسابها هذه المكانة الدينية الكبيرة " فكانت ذات خاصة قمرية، وكانوا يدعونها "ملكات شمائيم "أي ملكة السموات "(8) وورد في الميثولوجيا الفينيقية مجموعة من الابتهالات الدينية التي كانت تقدم من قبل الآلهة القمرية للإله بعل (أبو الآلهة والبشر) كي يساعدها على الزواج، وفيها ما يشير إلى الهلال وعلاقته بالخصب والزراعة، ومنها :
" إّني أنْ ُ شدُ للآلِهاتِ بَناِت هِلا ل السُّنونو
بناتِ هلا ل سيِّد المِنْجَل اّللواتي يَنْزلْن مَعَ النَّباتِ .... مَعَ النَّباتِ َنعم إنَّ ُقوَّتي مَعَ بَعْل الرَّحيم ذي الَقلْب ال َ كبير وعلى َ شَفتي َتعْويذُتهُم إنَّها مَهْرُه وَمُمْتَلكاُتهُ" (9)
ومن الواضح في هذه الابتهالات ارتباطها الوثيق بإله القمر، حيث كان من الأسباب الرئيسة التي جعلت عبادتها تنتشر إلى أماكن بعيدة، حيث انتقلت عبادتها كإلهة للقمر إلى مدينة قرطاجة في أسبانيا، وأصبحت مركزًا مهمًا لعبادتها . (ص18 من الرسالة) ولكن طرأ عليها بعض التغيير بعد انتقال عبادتها إلى قرطاجة، ولا سيما في اسمها الذي أصبح "تينيت"، التي سميت بسيدة النجوم وإلهة القمر( 10)، وأعقبه تغيير على اسم زوجها الذي أصبح "بعل هامان" حيث عُبدا معًا، وظلت من الآلهة القمرية ومن آلهة الخصب، وأم لكل حي، وتتفق في العديد من مهامها مع عشتروت(11)
ولم يختلف جوهر العبادة عند الكنعانيين عن غيرهم من الشعوب التي سبقتهم، أو المجاورة لهم، وارتكزت ديانتهم على عبادة قوى الطبيعة المنتجة المولدة وقوى النمو والخصب، وهو ما يميز المجتمعات الزراعية، كما تأثروا مثل غيرهم من الأقوام التي استوطنت سوريا بأديان الحضارات المجاورة، لا سيما حضارة وادي الرافدين ووادي النيل (12) وتركت عبادة الظواهر الطبيعية أثرًا واضحًا في مصدر معيشتهم فكان " لكل وجه من أوجه النشاط الإنساني إله، فكان عندهم آلهة السماء والشمس والبحر والقمر والعواصف والمطر "((13)فعبدوا القمر، وأخذ عندهم شكلين مختلفين، أولهما أنثوي، متمث ً لا بالإلهة "نيكال"، إلهة القمر السومرية التي يرد اسمها على شكل "ننكال" وثانيهما الشكل الذكري متمث ً لا بالإله "يرح"ويسمى أيضًا "باريش" (14) وتدلل تسميتهم لإله القمر "يرح" على مدى اهتمامهم بالتاريخ والوقت. ولعل هذا الاهتمام، يعود إلى كون مجتمعهم مجتمعا زراعيا، يعتمد على التقويم القمري في توقيت مواعيد الزراعة والحصاد، وقد أدى ذلك إلى جعل القمر يلعب دورًا بارزًا في هذا، بسبب تغير شكله كل يوم خلال الشهر القمري(15) (ص19 من الرسالة)
******************************
المراجع
(1) مهران، محمد بيومي: تاريخ العراق القديم، ط 1, الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 2008 م، ص 134
(2) زكي، أحمد: الأساطير, دراسة حضارية مقارنة، ط 2، بيروت، دار العودة، 1979 م، ص 22
(3) مازيل، جان: تاريخ الحضارة الفينيقية والكنعانية، ترجمة ربا الخش ، ط 1، اللاذقي ة، دار الحل و، 1998 م،
(4) الديك: الوعل صدى تموز, مجلة جامعة القدس المفتوحة
(5) نعمة، حسن: ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، ص 33
(6) مازيل: تاريخ الحضارة الفينيقية, ص 34
(7) دروزة، محمد عزة: تاريخ الجنس البشري، ج 4، ط 1, صيدا، المكتبة العصرية، 1960 ، ص 98
(8) الدبس، يوسف: من تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ، ج 1، ط 1, دمشق، دار الجليل، 1993 ، ص 364
(9) لابارت وآخرون: سلسلة الأساطير السورية, ص 513
(10) نعمة, حسن: موسوعة الأديان السماوية والوضعية, ط 1, بيروت, دار الفكر اللبناني, 1994 , ص 192
(11) تسيركين، يولي بركوفيتش: الحضارة الفينيقية في اسبانيا، ترجمة يوسف أبي فاضل، ط 1، بيروت , جروس برس، 1988 ، ص 125
(12) باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص 262
(13) العريبي، محمد: الديانات الوضعية المنقرضة، ط 1، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1995 ، ص 182
(14) الماجدي، خزعل: المعتقدات الكنعانية، ط 1، عمان، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2001 ، ص 177
(15) الماجدي، خزعل: الآلهة الكنعانية، ط 1، عمان، أزمنة للنشر والتوزيع, 1999 ، ص 110