Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة أربع وعشرين وثلاثمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة322 وخلافة الراضى بالله
سنة323
سنة324
سنة325 وسنة326
سنة327 وسنة328 وسنة329

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
ذكر القبض على ابن مقلة
ووزارة عبد الرحمن بن عيسى

لّما عاد الرُّسل من عند ابن رائق بغير مال رأى الوزير أن يسيّر ابنه، فتجهّز، وأظهر أنّه يريد الأهواز، فلمّا كان منتصف جمادى الأولى حضر الوزر دار الراضي لينفذ رسولاً إلى ابن رائق يُعرّفه عزمه على قصد الأهواز لئلاّ يستوحش لحركته فيحتاط، فلمّا دخل الدار قبض عليه المظفَّر بن ياقوت والحجريّة، وكان المظفَّر قد أُطلق من محبسه على ما نذكره.
ووجهوا إلى الراضي يعرّفونه ذلك، فاستحسن فعلهم، واختفى أبو الحسين بن أبي عليّ بن مقلة وسائر أولاده وحُرَمه وأصحابه، وطلب الحجريّة والساجيّة من الراضي أن يستوزر وزيراً، فردّ الأختيار إليهم، فأشاروا بوزارة عليّ بن عسى، فأحضره الراضي للوزارة، فامتنع وأشار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره، وسلّم إليه ابن مقلة فصادره وصرف بدراً الخَرشنيَّ عن الشُّرطة، ثم عجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق عليه، فاستعفى من الوزارة.
ذكر القبض على عبد الرحمن
ووزارة أبي جعفر الكَرخيّ
لّما ظهر عجز عبد الرحمن للراضي، ووقوف الأمور، قبض عليه وعلى أخيه عليّ بن عيسى، فصادره على مائة ألف دينار، وصادر أخاه عبد الرحمن بسبعين ألف دينار.
ذكر قتل ياقوت
وفي هذه السنة قُتل ياقوت بعسكر مُكَرم. وكان سبب قتله ثقته بأبي عبدالله البريديّ فخانه، وقابل إحسانه بالإساءة على ما نذكره.
وقد ذكرنا أنّ أبا عبدالله ارتسم بكتابة ياقوت مع ضمان الأهواز، فلمّا كتب إليه وثق به وعوّل على ما يقوله، وكان إذا قيل له شيء في أمره وخُوّف من شرّه يقول: أنّ أبا عبدالله ليس كما تظنّون، لأنّه لا يحدّث نفسه بالإمرة، وقود العساكر، وإنّما غايته الكتابة. فاغترّ بهذا منه.
وكان، رحمه الله، سليم القلب، حسن الاعتقاد، فلهذا لم يخرج عن طاعة الخليفة حين قبض على ولدَيْه بل دام على الوفاء.
فأمّا حاله مع البريديّ، فإنّه لّما عاد مهزوماً من عماد الدولة بن بويه إلى عسكر مُكرَم كتب إليه أبو عبدالله أن يقيم بعسكر مُكرَم ليستريح، ويقع التدبير بعد ذلك، وكان بالأهواز، وهو يكره الاجتماع معه في بلد واحد، فسمع ياقوت قوله وأقام، فأرسل إليه أخاه أبا يوسف البريديَّ يتوجّع له ويهنّيه بالسلامة، وقرّر القاعدة على أن يحمل له أخوه من مال الأهواز خمسين ألف دينار، واحتجّ بأنّ عنده من الجند خلقاً كثيراً منهم البربر، والشفيعيّة، والنازوكيّة، والبليقيّة، والهارونيّة. كان ابن مقلة قد ميّز هذه الأصناف من عسكر بغداد وسيّرهم إلى الأهواز ليخفّ عليه مؤونتهم، فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء متى رأوا المال يخرج عنهم إليك شغبوا، ويحتاج أبو عبدالله إلى مفارقة الأهواز، ثم يصير أمرهم إلى أنّهم يقصدونك ولا نعلم كيف يكون الحال؛ ثم قال له: إنّ رجالك مع سوء أثرهم يقنعون بالقليل.
فصدّقه ياقوت فيما قال، وأخذ ذلك المال وفرّقه، وبقي عدّة شهور لم يصله منه شيء، إلى أن دخلت سنة أربع وعشرين فضاق الرزق على أصحاب ياقوت، واستغاثوا، وذكروا ما فيه أصحاب البريديّ بالأهواز من السعة، وما هم فيه من الضيق.
وكان قد اتّصل بياقوت طاهر الجيليُّ، وهو من كبار أصحاب ابن بويه، في ثمانمائة رجل، وهو من أرباب المراتب العالية، وممّن يسمو إلى معالي الأمور.(3/463)
وسبب اتّصاله به خوفه من ابن بويه أن يقبض عليه خوفاً منه، فلمّا رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربيّ تُستَر، وأراد أن يتغلّب على ماه البصرة، وكان معه أبو جعفر الصَّيمريُّ، وهو كاتبه، فسمع به عماد الدولة بن بويه، فكبسه، فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه، وأسر الصَّيمريَّ، فأطلقه الخيّاط وزير عماد الدولة بن بويه، فمضى إلى كَرمان، واتّصل بالأمير معزّ الدولة أبي الحسن بن بويه وكان ذلك سبب أقباله.
فلمّا سار طاهر من عند ياقوت ضعفت نفسه، واستطال عليه أصحابه، فخافهم، وراسل البريديَّ، وعرّفه ما هو فيه، وأعلمه أنّ معوّله على ما يدبّره به، فأنفذ إليه البريديُّ يقول: إنّ عسكرك قد فسدوا، وفيهم مَن ينبغي أن يخرج، والرأي أن يُنفذهم إليه ليستصلحهم، فإنّه له أشغال تمنعه أن يحضر عنده، ولبو حضر عنده، والجند مجتمعون، لم يتمكّن منه الانتصاف منهم لأنّهم يظاهر بعضهم بعضاً، وإذا حضروا عنده بالأهواز متفرّقين فعل بهم ما أراد ولا يمكنهم خلافه.
ففعل ذلك ياقوت، وأنفذ أصحابه إليه، فاختار منهم مَن أراد لنفسه، وردّ مَن لا خير فيه إلى ياقوت، بعد أن كسرهم وأسقط من أرزاقهم، فقيل ذلك لياقوت، فأشير عليه بمعاجلة البريديّ قبل أن يستفحل أمره، فلم يلتفت وقال: إنّما جعلتُهم عنده عدّة لي.
وأحسن البريديُّ إلى من عنده من الجند، فقال أصحاب ياقوت له في ذلك، وطلوا أرزاقهم التي قرّرها البريديُّ، فكتب إليه فلم ينفذ شيئاً، فراجعه فلم ينفذ شيئاً، فسار ياقوت إليه جريدة لئلاّ يستوحش منه، فلمّا بلغه ذلك خرج إلى لقائه، وقبّل يده وقدمه، وأنزله داره، وقام بين يديه، وقدّم بنفسه الطعام ليأكل.
وكان قد وضع الجند على إثارة الفتنة، فحضروا الباب وشغبوا واستغاثوا، فسأل ياقوت عن الخبر، فقيل له: إن الجند بالأبواب قد شغبوا، ويقولون قد اصطلح ياقوت والبريديُّ، ولا بدّ لنا من قتل ياقوت؛ فقال له البريديُّ: قد ترى ما دُفعنا إليه، فانجُ بنفسك وإلاّ قُتلنا جميعاً ! فخرج من باب آخر خائفاً يترقّب، ولم يفاتح البريديَّ بكلمة واحدة، وعاد إلى عسكر مُكرَم؛ فكتب إليه البريديُّ يقول له: إنّ العسكر الذين شغبوا قد اجتهدتُ في إصلاحهم وعجزتُ عن ذلك، ولست آمنهم أن يقصدوك، وبين عسكر مُكرَم والأهواز ثمانية فراسخ، والرأي أن تتأخّر إلى تُستَر لتبعد عنهم، وهي حصينة؛ وكتب له على عامل تُستَر بخمسين ألف دينار.
فسار ياقوت إليها، وكان له خادم اسمه مؤنس، فقال: أيّها الأمير أن البريديَّ يحزُّ مفاصلنا ويفعل بنا ما ترى، وأنت مُغْتَرّ به، وهو الذي وضع الجند بالأهواز حتّى فعلوا ذلك، وقد شرع في إبعادك بعد أن أخذ وجوه أصحابك، وقد أطلق لك ما لا يقو بأوَد أصحابك الذين عندك، وما أعطاك ذلك أيضاً إلاّ حتّى تتبلّغ به، وتضيق الأرزاق علينا، ويفنى ما لنا من دابّة وعُدّة فننصرف عنك على أقبح حالٍ، فحينئذ يبلغ منك ما يريده، فاحفظ نفسك منه، ولا تأمنه، ولم يثق للجند الحجريّة ببغداد شيخ غيرك، وقد كاتبوك، فسِرْ إليهم، فكلّ من ببغداد يسلّم إليك الرئاسة، فإن فعلتَ، وإلاّ فسرْ بنا إلى الأهواز لنطرد البريديَّ عنها وإن كان أكثر منّا، فأنت أمير وهو كاتب.
فقال: لا تقُل في أبي عبدالله هذا، فلو كان لي أخ ما زاد على محبّته.
ثم إنّ ياقوتاً ظهر منه ما يدلّ على ضعفه وعجزه عن البريديّ، فضعفت نفوس أصحابه، وصار كلّ ليلة يمضي منهم طائفة إلى البريديّ، فإذا قيل ذلك لياقوت يقول: إلى كاتبي يمضون؛ فلم يزل كذلك حتّى بقي ثمانمائة رجل.
ثم إنّ الراضي قبض على المظفَّر بن ياقوت في جمادى الأولى، وسجنه أسبوعاً ثم أطلقه وسيّره إلى أبيه، فلمّا اجتمع به بتُستَر أشار عليه بالمسير إلى بغداد، فإن دخلها فقد حصل له ما يريد، وإلاّ سار إلى الموصل وديار ربيعة فاستولى عليها، فلم يسمع منه، ففارقه ولده إلى البريديّ، فأكرمه وجعل مؤكَّلين يحفظونه. (3/464)
ثم إنّ البريديَّ خاف مَن عنده من أصحاب ياقوت أن يعاودوا الميل والعصبية له، وينادوا بشعاره، فيهلك، فأرسل إلى ياقوت يقول له: إن كتاب الخليفة ورد عليّ يأمرني أن لا أتركك تقيم بهذه البلاد، وما يمكنني مخالفة السلطان، وقد أمرني أن أخيّرك إمّا أن تمضي إلى حضرته في خمسة عشر غلاماً، وإمّا إلى بلاد الجبل ليولّيك بعض الأعمال، فإن خرجتَ طائعاً، وإلاّ أخرجتُك قهراً.
فلمّا وصلت الرسالة إلى ياقوت تحيّر في أمره، واستشار مؤنساً غلامه، فقال له: قد نهيتُك عن البريديّ وما سمعتَ، وما بقي للرأي وجه؛ فكتب ياقوت يستمهله شهراً ليتأهّب، وعلم حينئذٍ خبث البريديّ حيث لا ينفعه علمه.
فلمّا وصل كتاب ياقوت يطلب المهلمة أجابه أنّه لا سبيل إلى المهلة، وسيّر العساكر من الأهواز إليه، فأرسل ياقوت الجواسيس ليأتوه بالأخبار، فظفر البريديُّ بجاسوس، فأعطاه مالاً على أن يعود إلى ياقوت ويخبره أن البريديَّ وأصحابه قد وافوا عسكر مُكرَم، ونزلوا في الدور متفرّقين مطمئنّين، فمضى الجاسوس وأخبر ياقوتاً بذلك، فأحضر مؤنساً وقال: قد ظفرنا بعدوّنا وكافر نعمتنا؛ وأخبره بما قال الجاسوس، وقال: نسير من تُستَر العتمة، ونصبح عسكر مُكرَم وهو غارّون، فنكبسهم في الدور، فإن وقع البريديُّ فالله مشكور، وإن هرب اتّبعناه.
فقال مؤنس: ما أحسن هذا أن صحّ وأن كان الجاسوس صادقاً ! فقال ياقوت: إنّه يحبّني ويتولاّني وهو صادق؛ فسار ياقوت فوصل إلى عسكر مُكَرم طلوع الشمس، فلم يرَ للعسكر أثراً، فعبر البلد إلى نهر جارود، وخيّم هناك، وبقي يومه ولا يرى لعسكر البريديّ أثراً، فقال له مؤنس: إنّ الجاسوس كذبنا، وأنت تسمع كلام الكاذبين، وإنّني خائف عليك.
فلمّا كان بعد العصر أقبلت عساكر البريديّ، فنزلوا على فرسخ من ياقوت، وحجز بينهم الليل، وأصبحوا الغد، فكانت بينهم مناوشة، واتّعدوا للحرب الغد.
وكان البريديُّ قد سيّر عسكراً من طريق أخرى ليصيروا وراء ياقوت من حيث لا يشعر، فيكون كميناً يظهر عند القتال فهم ينتظرونه، فلمّا كان الموعد باكروا القتال، فاقتتلوا من بُكرة إلى الظهر، وكان عسكر البريديّ قد أشرف على الهزيمة مع كثرتهم، وكان مقدّمهم أبا جعفر الحمّال. فلمّا جاء الظُّهر ظهر الكمين من وراء عسكر ياقوت، فردّ إليهم مؤنساً في ثلاثمائة رجل، فقاتلهم وهم في ثلاثة آلاف رجل، فعاد مؤنس منهزماً، فحينئذ انهزم أصحاب ياقوت، وكانوا، سوى الثلاثمائة، خمسمائة، فلمّا رأى ياقوت ذلك نزل عن دابّته، وألقى سلاحه، وجلس بقميص إلى جانب جدار رِباط. ولو دخل الرباط واستتر فيه لخفي أمره، وكان أدركه الليل، فربّما سلم، ولكنّ الله إذا أراد أمراً هيّأ أسبابه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
فلمّا جلس مع الحائط غطى وجهه بكمّه، ومدّ يده كأنّه يتصدّق ويستحيي أن يكشف وجهه، فمرّ به قوم من البربر من أصحاب البريديّ فأنكروه، فأمروه بكشف وجهه فامتنع، فنخسه أحدهم بمزارق معه، فكشف وجهه وقال: أنا ياقوت، فما تريدون منّي ؟ احملوني إلى البريديّ؛ فاجتمعوا عليه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر، وكتب أبو جعفر الحمّال كتاباً إلى البريديّ على جناح طائر يستأذنه في حمل رأسه إلى العسكر، فأعاد الجواب بأعادة الرأس إلى الجثة وتكفينه ودفنه، وأُس غلامه مؤنس وغيره من قوّاده فقُتلوا، وأرسل البريديّ إلى تُستَر فحمل ما فيها لياقوت من جوارٍ ومال وغير ذلك، فلم يظهر لياقوت غير اثني عشر ألف دينار، فحُمل الجميع إليه، وقبض على المظفَّر بن ياقوت فبقي في حبس البريديّ مدّة ثم نفذه إلى بغداد.
وتجبّر البريديُّ بعد قتل ياقوت وعصى، وقد أطلنا في ذكر هذه الحادثة وأنّما ذكرناها على طولها لما فيها من الأسباب المحرِّضة على الاحتياط والاحتراز، فإنّها من أوّلها إلى آخرها فيها تجارب وأمور يكثر وقوع مثلها.
ذكر عزل أبي جعفر
ووزارة سليمان بن الحسن

لّما تولّى الوزير أبو جعفر الكرخيُّ، على ما تقدّم، رأى قلّة الأموال وانقطاع الموادّ، فازداد عجزاً إلى عجزه، وضاق عليه الأمر. (3/465)
وما زالت الإضافة تزيد، وطمع مَن بين يديه من المعاملين فيما عنده من الأموال، وقطع ابن رائق حمل واسط والبصرة، وقطع البريديُّ حمل الأهواز وأعمالها، وكان ابن بويه قد تغلّب على فارس، فتحيّر أبو جعفر، وكثرت المطالبات عليه، ونقصت هيبته، واستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وزارته، فلمّا استتر استوزر الراضي أبا القاسم سليمان بن الحسن، فكان في الوزارة كأبي جعفر في وقوف الحال وقلّة المال.
ذكر استيلاء ابن رائق على أمر العراق وتفرّق البلاد
لّما رأى الراضي وقوف الحال عنده ألجأته الضرورة إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق، وهو بواسط، يعرض عليه إجابته إلى ما كان بذله من القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد، فلمّا أتاه الرسول بذلك فرح به، وشرع يتجهّز للمسير إلى بغداد، فأنفذ إليه الراضي الساجيّة، وقلّده إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد والدواوين، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر، وأنفذ إليه الخِلَع.
وانحدر إليه أصحاب الدواوين والكتّاب والحجّاب، وتأخّر الحجريّة عن الانحدار، فلمّا استقرّ الذين انحدروا إلى واسط قبض ابن رائق على الساجيّة سابع ذي الحجّة، ونهب رحلهم ومالهم ودوابّهم، وأظهر أنّه إنّما فعل ذلك لتتوفّر أرزاقهم على الحجريّة، فاستوحش الحجريّة من ذلك وقالوا: اليوم لهؤلاء وغداً لنا؛ وخيّموا بدار الخليفة، فأُصعد ابن رائق إلى بغداد ومعه بجكم، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وأتاه الحجريّة يسلّمون عليه، فأمرهم بقلع خيامهم، فقلعوها وعادوا إلى منازلهم.
وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور إنما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمور جميعها، وكذلك كلّ من تولّى إمرة الأمراء بعده، وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون ويطلقون للخليفة ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال، وتغلب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم.
وأمّا باقي الأطراف فكانت البصرة في يد ابن رائق؛ وخوزستان في يد البريديّ؛ وفارس في يد عماد الدولة بن بويه؛ وكرمان في يد أبي عليّ محمّد بن إلياس؛ والرَّيّ وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكر أخي مرداوجي يتنازعان عليها؛ والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حَمدان؛ ومصر والشام في يد محمّد بن طُغْج؛ والمغرب وإفريقية في يد أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهديّ العلويّ، وهو الثاني منهم، ويلقّب بأمير المؤمنين؛ والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمّد الملقّب بالناصر الأموي؛ وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد السامانيّ؛ وطبرستان وجُرجان في يد الديلم؛ والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القُرمُطيّ.
ذكر مسير مُعزّ الدولة بن بويه إلى كرمان وما جرى عليه بها
في هذه السنة سار أبو الحسين أحمد بن بُويه، الملقّب بمُعزّ الدولة، إلى كَرمان.
وسبب ذلك أنّ عماد الدولة بن بويه وأخاه ركن الدولة لّما تمكّنا من بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أن يسيّراه إلى كَرمان، ففعلا ذلك، وسار إلى كَرمان في عسكر ضخم شجعان،؛ فلمّا بلغ السيرجان استولى عليها، وجبى أموالها وأنفقها في عسكره.
وكان إبراهيم بن سيمجور الدواتيُّ يحاصر محمّد بن إلياس بن ألِيسع بقلعة هناك، بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بلغه إقبال معزّ الدولة سار عن كَرمان إلى خُراسان، ونفّس عن محمّد بن إلياس، فتخلّص من القلعة، وسار إلى مدينة بَمّ، وهي على طرف المفازة بين كَرمان وسِجشسْتان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرحل من مكانه إلى سِجِسْتان بغير قتال، فستار أحمد إلى جِيرَفْت، وهي قصبة كَرمان، واستخلف على بَمّ بعض أصحابه. (3/466)
فلمّا قارب جِيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجيّ المعروف بعليّ كلويه، وهو رئيس القُفْص، والبَلُوص، وكان هو وأسلافه متغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد البلاد، ويطيعونه، ويحملون إليه مالاً معلوماً ولا يطأون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد من قبوله إلاّ بعد جِيرَفت، فتأخّر عليُّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونزل بمكان صعب المسلك، ودخل أحمد بن بويه جِيرَفت واصطلح هو وعليّ، وأخذ رهائنه وخطب له.
فلمّا استقرّ الصلح وانفصل الأمر أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بأن يقصد عليّاً ويغدر به، ويسري إليه سرّاً على غفلة، وأطمعه في أمواله، وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك، لحداثة سنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة.
وكان عليّ محترزاً ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تحرّك بلغتْه الأخبار، فجمع أصحابه ورتّبهم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً من جوانبه، فقتلوا في أصحابه، وأسروا، ولم يُفلت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يده اليسرى فقطعتها من نصف الذراع، وأصاب يده اليمنى ضربة أخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخبر بذلك إلى جِيرَفت فهرب كلّ من كان بها من أصحابه.
ولّما أصبح عليّ كلويه تتّبع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جِيرَفت، وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رسله يعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويعرّفه غدر أخيه، ويبذل من نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده من الأسرى وأحسن إليهم.
ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار من سِجِستان إلى البلد المعروف بجنّابة، فتوجّه إليه ابن بويه، وواقعه ودامت الحرب بينهما عدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو عليّ كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المطر، فأثّروا فيهم وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته؛ فلمّا أصبح سار نحوهم، فقتل منهم عدداً كثيراً، وانهزم عليّ كلويه.
وكتب ابن بويه إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً من قوّاده يأمره بالعود إليه إلى فارس، ويُلزمه بذلك، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده بإصطَخْر إلى أن قصدهم أبو عبدالله البريديُّ منهزماً من ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق، وسهّل عليه ملكه، فسيّر معه أخاه معزّ الدولة أبا الحسين، على ما نذكره سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة.
ذكر استيلاء ما كان على جُرجان
وفي هذه السنة استولى ما كان بن كالي على جُرجان.
وسبب ذلك أنّنا ذكرنا أوّلاً ما كان لّما عاد من جرجان أقام بنَيسابور، وأقام بانجين بجُرجان، فلمّا كان بعد ذلك خرج بانجين يلعب بالكرة، فسقط عن دابّته فوقع ميّتاً.
وبلغ خبره ما كان بن كالي، وهو بنَيسابور، وكان قد استوحش من عارض جيش خراسان، فاحتجّ على محمّد بن المظفّر صاحب الجيش بخراسان بأنّ بعض أصحابه قد هرب منه، وأنّه قد يخرج في طلبه، فأذن له في ذلك، وسار عن نَيسابور إلى أسفرايين، فأنفذ جماعة من عسكره إلى جُرجان واستولوا عليها، فأظهر العصيان على محمّد بن المظفَّر، وسار من أسفرايين إلى نَيسابور، مغافصةً، وبها محمّد بن المظفّر، فخذل محمّداً أصحابُه ولم يعاونوه، وكان في قلّة من العسكر غير مستعدّ له، فسار نحو سَرْخَس، وعاد ما كان من نَيسابور خوفاً من اجتماع العساكر عليه، وكان ذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر وزراة الفضل بن جعفر للخليفة
وفيها كتب ابن رائق كتاباً عن الراضي إلى أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات يستدعيه ليجعله وزيراً، وكان يتولّى الخراج بمصر والشام؛ وظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر، فقدم إلى بغداد، ونفذت له الخلع قبل وصوله، فلقيته بهَيْت، فلبسها ودخل بغداد، وتولّى وزراة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعاً. (3/467)
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة قلّد الراضي محمّدَ بن طُغْج أعمال مصر مضافاً إلى ما بيده من الشام، وعزل أحمد بن كَيْغَلَغ عن مصر.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأوّل، وانخسف جميعه أيضاً لأربع عشرة خلت من شوّال.
وفيها قُبض على أبي عبدالله بن عبدوس الجهشياريّ، وصودر على مائتَيْ ألف دينار.
وفيها وُلد عضد الدولة أبو شجاع فنّاخَسرُو بن ركن الدولة أبي عليّ الحسن بن بويه بأصبهان.
وفيها توفّي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، المعروف بجحظه، وله شِعر مطبوع، وكان عارفاً بفنون شتّى من العلوم.
وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد في شعبان، وكان إماماً في معرفة القراءات؛ وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن المغلِّس أبو الحسن الفقيه الظاهريُّ، صاحب التصانيف المشهورة.
وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن زياد بن واصل أبو بكر النَّيسابوريُّ الفقيه الشافعيُّ في ربيع الأوّل، وكان مولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان قد جالس الربيع بن سليمان والمزنيَّ ويونس بن عبد الأعلى أصحاب الشافعيّ، وكان إماماً.
 

This site was last updated 07/15/11