Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة322 وخلافة الراضى بالله
سنة323
سنة324
سنة325 وسنة326
سنة327 وسنة328 وسنة329

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
ذكر قتل مرداويج

في هذه السنة قُتل مرداويج الديلميُّ صاحبُ بلاد الجبل وغيرها.
وكان سبب قتله أنّه كان كثير الإساءة للأتراك، وكان يقول أنّ رُوح سليمان بن داود، عليه السلام، حلّت فيه، وإنّ الأتراك هم الشياطين والمردة، فإن قهرهم، وإلاّ أفسدوا؛ فثقلت وطأته عليهم وتمنّوا هلاكه.
فلمّا كان ليلة الميلاد من هذه السنة، وهي ليلة الوَقود، أمر بأن يُجمع الحطب من الجبال والنواحي، وأن يُجعل على جانَبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة، ويُعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان، من أسفله إلى أعلاه، بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب يصير الجبل كلّه ناراً، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك، وأمر فجُمع له النِّفط ومن يلعب به، وعمل من الشموع ما لا يحصى، وصِيدَ له من الغِربان والحدإ زيادة على ألفَيْ طائر ليجعل في أرجلها النِّفط وترسل لتطير بالنار في الهواء، وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه: مائة فرس، ومئتان من البقر مشوية، صحاحاً، سوى ما شُوي من الغنم فإنّها كانت ثلاثة آلاف رأس، سوى المطبوخ، وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد، وعمل من ألوان الحَلواء ما لا يُحدّ، وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط، فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرّج.
فلمّا كان آخر النهار ركب وحده، وغلمانه رجّالة، وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب، فاستحقر الجميع لسعة الصحراء، فتضجّر وغضب، ولعن من صنعه ودبّره، فخافه من حضر، فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام، فلم يجسر أحد أن يكلّمه.
واجتمع الأمراء والقوّاد وغيرهم، وأرجفوا عليه، فمن قائل أنّه غضب لكثرته لأنّه كان بخيلاً، ومن قائل أنّه قد اعتراه جنون؛ وقيل بل أوجعه فؤاده؛ وقيل غير ذلك، وكادت الفتنة تثور.
وعرف العميد وزره صورة الحال فأتاه ولم يزل حتّى استيقظ وعرّفه ما الناس فيه، فخرج وجلس على الطعام، وأكل ثلاث لقم ثم قام ونهب الناس الباقي، ولم يجلس للشراب، وعاد إلى مكانه، وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيّام لا يظهر.
فلمّا كان اليوم الرابع تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من منزلته إلى داره بأصبهان، فاجتمع ببابه خلق كثير، وبقيت الدوابّ مع الغلمان، وكثر صهيلها ولعبها، والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب، وكانت مزدحمة فارتفع من الجميع أصوات هائلة.
وكان مرداويج نائماً، فاستيقظ، فصعد فنظر فرأى ذلك، فسأل فعرف الحال، فازداد غضباً، وقال: أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام، وما أرجعوا به، حتّى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ؟ ثم سأل عن أصحاب الدوابّ، فقيل: أنّها للغمان الأتراك، وقد نزلوا إلى خدمتك، فأمر أن تُحطّ السروج عن الدوابّ وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك، ويأخذوا بأرسان الدوابّ إلى الإسطبلات، ومن امتنع من ذلك ضربه الدَّيلم بالمقارع حتّى يطيع، ففعلوا ذلك بهم وكانت صورة قبيحة يأنف منها أحقر الناس.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته، وهو يتوعّد الأتراك، حتّى صار إلى داره قرب العِشاء، وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك، فحقدوا عليه، وأرادوا قتله، فلم يجدوا أعواناً، فلمّا جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة، وقال بعضهم: ما وجه صبرنا على هذا الشيطان ؟ فاتّفقوا، وتحالفوا على الفتك به، فدخل الحمّام، وكان كورتكين، يحرسه في خلواته وحمّامه، فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه، فتأخرّ عنه مغضباً، وكان هو الذي يجمع الحرس، فلشدة غضبه لم يأمر أحداً أن يحضر حراسته؛ وإذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه. (3/458)
وكان له أيضاً خادم أسود يتولى خدمته بالحمّام، فاستمالوه، فمال إليهم، فقالوا للخادم ألاّ يحمل معه سلاحاً، وكانت العادة أن يحمل معه خنجراً طوله نحو ذراع ملفوفاً في منديل، فلمّا قالوا ذلك للخادم قال: ما أجسر؛ فاتّفقوا على أن كسروا حديد الخنجر وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد، فلفّوه في المنديل كما جرت العادة لئلاَّ ينكر الحال.
فلمّا دخل مرداويج الحمّام فعل الخادم ما قيل له، وجاء خادم آخر، وهو أستاذ داره، فجلس على باب الحمّام، فهجم الأتراك إلى الحمّام، فقام أستاذ داره ليمنعهم، وصاح بهم، فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده، فصاح بالأسود وسقط، وسمع مرداويج الضجة، فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه، فوجده مكسوراً، فأخذ سريراً من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل، فترّس به باب الحمّام من داخل، ودفع الأتراك الباب، فلم يقدروا على فتحه، فصعد بعضهم إلى السطح، وكسروا الجامات، ورموه بالنشاب، فدخل البيت الحارّ، وجعل يتلطّفهم، ويحلف لهم على الإحسان، فلم يلتفتوا إليه، وكسروا باب الحمّام ودخلوا عليه فقتلوه.
وكان الذين ألّبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون، وهو الذي صار أمير العساكر ببغداد وياروق، وابن بغرا، ومحمّد بن ينال الترجمان، ووافقهم بجكم، وهو الذي وليَ أمر العراق قبل توزون، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. فلمّا قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم، فركبوا ونهبوا قصره وهربوا، ولم يعلم بهم الديلم لأنّ أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم وتخلف الأتراك معه لهذا السبب.
فلمّا علم الديلم والجيل ركبوا في أثرهم، فلم يلحقوا منهم إلاّ نفراً يسيراً وقفت دوابّهم، فقتلوهم، وعادوا لينهبوا الخزائن، فرأوا العميد قد ألقى النار فيها، فلم يصلوا إليها، فبقيت بحالها.
ومن عجيب ما يحكى أنّ العساكر في ذلك اليوم لّما رأوا غض مرداويج قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور، وشدّة عتوّه، وتمرّده عليهم، ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد، وهو راكب، فقال: قد زاد أمر هذا الكافر، واليوم تكفنونه ويأخذه الله؛ ثمّ سار، فلحقت الجماعة دهشة، ونظر بعضهم في وجوه بعض، ومرّ الشيخ، فقالوا: المصلحة أنّنا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث، لئلاّ يسمع مرداويج ما جرى، فلا نلقى منه خيراً؛ فتبعوه فلم يروا أحداً.
وكان مرداويج قد تجبّر قبل أن يُقتل وعتا، وعمل له كرسيّاً من ذهب يجلس عليه، وعمل كراسي من فضّة يجلس عليها أكابر قوّاده، وكان قد عمل تاجاً مرصّعاً على صفة تاج كسرى، وقد عزم على قصد العراق والاستيلاء عليه، وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه، وأن يخاطَب، إذا فُعل ذلك، بشاهنشاه، فأتاه أمرُ الله وهو غافل عنه، واستراح الناس من شرّه، ونسأل الله تعالى أن يريحَ الناس من كلّ ظالم سريعاً.
ولّما قُتل مرداويج اجتمع أصحابه الديلم والجيل وتشاوروا، وقالوا: إن بقينا بغير رأس هلكنا؛ فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار، وهو والد قابوس، وكان بالرَّيّ، فحملوا تابوت مرداويج، وساروا نحو الريّ، فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير، فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة، حفاة، وكان يوماً مشهوداً.
وأمّا أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها فإنّهم لّما بلغهم الخبر كتموه، وساروا نحو الريّ، فأطاعوا وشمكير أيضاً، واجتمعوا عليه.
ولذما قُتل مرداويج كان ركن الدولة بن بويه رهينة عنده، كما ذكرناه، فبذل للموكّلين مالاً فأطلقوه، فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن، وعليها أصحابه وغلمانه، فأُلقي التبن، وكسر أصحابه قيودَه، وركبوا الدوابّ، ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.
ذكر ما فعله الأتراك بعد قتله
لّما قتل الأتراك مرداويج هربوا وافترقوا فرقَتيْن، ففرقة سارت إلى عِماد لدولة بن بُوَيه مع خَجخج الذي سلمه تُوزون فيما بعد، وسنذكره.
وفرقة سارت نحو الجبل مع بَجكم، وهي أكثرها، فجبَوا خراج الدّيَنور وغيرِها، وساروا إلى النَّهروان، فكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد، فأذن لهم، فدخلوا بغداد، فظنّ الحجريّة أنّها حيلة عليهم، فطلبوا ردّ الأتراك إلى بلد الجبل، فأمرهم ابن مُقلة بذلك، وأطلق لهم مالاً، فلم يرضوا به، وغضبوا، فكاتبهم ابن رائق، وهو بواسط، وله البصرة أيضاً، فاستدعاهم، فمضوا إليه، وقدّم عليهم بجكم، وأمره بمكاتبة الأتراك والديلم من أصحاب مرداويج، فكاتبهم، فأتاه منهم عدّة وافرة، فأحسن إليهم، وخلع عليهم، وإلى بجكم خاصّة، وأمره أن يكتب إلى الناس بجكم الرائقيّ، فأقام عنده، وكان من أمرهما ما نذكره.
ذكر حال وشمكير بعد قتل أخيه
وأمّا وشمكير فإنّه لَما قُتل أخوه، وقصدته العساكر التي كانت لأخيه، وأطاعته، أقام بالريّ، فكتب الأمير نصر بن أحمد السامانيُّ إلى أمير جيشه بخُراسان، محمّد بن المظفَّر بن محتاج، بالمسير إلى قُومِس، وكتب إلى ما كان ابن كالي، وهو بكَرمان، بالمسير عنها إلى محمّد بن المظفَّر، ليقصدوا جُرجان والرَّيّ.
فسار ما كان إلى الدامغان على المفازة، فتوجّه إليه بانجين الديلميُّ، من أصحاب وشمكير، في جيش كثيف، واستمدّ ما كان محمّدَ بن المظفّر، وهو ببِسطام، فأمدّه بجمع كثير أمرهم بترك المحاربة إلى أن يصل إليهم، فخالفوه وحاربوا بانجين، فلم يتعاونوا، وتخاذلوا فهزمهم بانجين، فرجعوا إلى محمّد بن المظفّر، وخرجوا إلى جُرجان، فسار إليهم بانجين ليصدّهم عنها، فانصرفوا إلى نَيسابور وأقاموا بها وجُعلت ولايتها لما كان ابن كالي وأقام بها، وكان ذلك آخر سنة ثلاث وعشرين وأوّل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ولّما سار ما كان عن كَرمان عاد إليها أبو عليّ محمّد بن إلياس فاستولى عليها، وصفت له بعد حروب له مع جنود نصر بكَرمان، وكان الظفر له أخيراً، وسنذكر باقي خبرهم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر القبض على ابنَيْ ياقوت
في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض الراضي بالله على محمّد والمظفَّر ابنَيْ ياقوت.
وكان سبب ذلك أنّ الوزير أبا عليّ بن مُقلة كان قد قلق لتحكّم محمّد بن ياقوت في المملكة بأسرها، وأنّه هو ليس له حكم في شيء، فسعى به الراضي، وأدام السعاية، فبلغ ما أراده.
فلّما كان خامس جمادى الأولى ركب جميع القوّاد إلى دار الخليفة على عادتهم، وحضر الوزير، وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد أعمالاً، وحضر محمّد بن ياقوت للحجبة، ومعه كاتبه أبو إسحاق القراريطيُّ، فخرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فاستدعوه إلى الخليفة، فدخل مبادراً، فعدلوا به إلى حجرة هناك، فحبسوه فيها، ثم استدعوا القراريطيَّ فدخل فعدلوا به إلى حجرة أُخرى، ثمّ استدعوا المظفَّر بن ياقوت من بيته، وكان مخموراً، فحضر، فحبسوه أيضاً.
وأنفذ الوزير أبو عليّ بن مُقلة إلى دار محمّد يحفظها من النهب، وكان ياقوت حينئذ مقيماً بواسط، فلمّا بلغه القبض على ابَنيه انحدر يطلب فارس ليحارب ابن بُوَيه، وكتب إلى الراضي يستعطفه، ويسأله إنفاذ ابنَيْه ليساعداه على حروبه، فاستبدّ ابن مقلة بالأمر.
ذكر حال البريديّ
وفيها قوي أمر عبدالله البريديَّ، وعظم شأنه.
وسبب ذلك أنّه كان ضامناً أعمال الأهواز، فلمّا استولى عليها عسكر مرداويج وانهزم ياقوت، كما ذكرنا، عاد البريديُّ إلى البصرة، وصار يتصرّف في أسافل أعمال الأهواز، مضافاً إلى كتابة ياقوت، وسار إلى ياقوت فأقام معه بواسط.
فلمّا قبض على ابنَيْ ياقوت كتب ابن مُقلة إلى ابن البريديّ يأمره أن يسكّن ياقوتاً، ويعرّفه أنّ الجند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولدَيْه، فقُبضا تسكيناً للجند، وأنّهما يسيران إلى أبيهما عن قريب، وأنّ الرأي أن يسير هو لفتح فارس، فسار ياقوت من واسط على طريق السُّوس، وسار البريديُّ على طريق الماء إلى الأهواز، وكان إلى أخويه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجُندَيسَابور، وادّعيا أنّ دَخْل البلاد لسنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج، وأنّ دَخْل سنة ثلاث وعشرين لا يحصل منه شيء لأنّ نوّاب مرداويج ظلموا الناس، فلم يبق لهم ما يزرعونه. (3/460)
وكان الأمر بضدّ ذلك في السنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مُقلة، فأنفذ نائباً له ليحقّق الحال، فواطأ ابنَي البريديّ، وكتب يصدّقهم، فحصل لهم بذلك مال عظيم، وقويت حالهم، وكان مبلغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار.
وأشار ابن البريديّ على ياقوت بالمسير إلى أرّجان لفتح فارس، وقام هو بجباية الأموال من البلاد، فحصل منها ما أراد.
فلمّا سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بُويه بباب أرّجان، فانهزم أصحاب ياقوت، وبقي إلى آخرهم، ثم انهزم وسار ابن بُويه خلفه إلى رَامَهُرْمُز، وسار ياقوت إلى عسكر مُكرَم، وأقام ابن بويه برَامَهُرْمُز إلى أن وقع الصلح بينهما.
ذكر فتنة الحنابلة ببغداد
وفيها عظم أمر الحنابلة، وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القوّاد والعامّة، وإن وجدوا نبيذاً أراقوه، وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسروا آلة الغناء، واعترضوا في البيع والشراء، ومشى الرجال مع النساء والصبيان، فإذا رأوا ذلك سألوه عن الذي معه مَن هو، فأخبرهم، وإلاّ ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة، وشهدوا عليه بالفاحشة، فأرهجوا بغداد.
فركب بدر الخرشَنيُّ، وهو صاحب الشُّرطة، عاشر جمادى الآخرة، ونادى في جانبَيْ بغداد، في أصحاب أبي محمّد البربهاريّ الحنابلة، ألاّ يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم ولا يصلّي منهم إمام إلاّ إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشاءَين، فلم يفد فيهم، وزاد شرّهم وفتنتهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد، وكانوا إذا مرّ بهم شافعيُّ المذهب أغروا به العميان، فيضربونه بعصيهم، حتّى يكاد يموت.
فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه تارة أنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال ربّ العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكفّ والأصابع والرجلَيْن والنعلَيْن المُذهّبَين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تبارك الله عمّا يقول الظالمون والجاحدون، علوّاً كبيراً، ثم طعنكم على خيار الأئمّة، ونسبتكم شيعة آل محمّد، صلى الله عليه وسلم، إلى الكفر والضلال، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمّة، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوامّ ليس بذي شرف، ولا نسب، ولا سبب برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرون بزيارته، وتدّعون له معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، فلعن الله شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات، وما أغواه.
وأمير المؤمنين يقسم بالله قسماً جهداً إليه يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنّكم ضرباً وتشريداً، وقتلاً وتبديداً، وليستعملنّ السيف في رقابكم، والنار في منازلكم ومحالّكم.
ذكر قتل أبي العلاء بن حمدان
وفيها قتل ناصرُ الدولة أبو محمّد الحسن بن عبدالله بن حَمدان عمّه أبا العلاء بن حمدان.
وسبب ذلك أنّ أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل وديار ربيعة سرّاً، وكان بها ناصر الدولة ابن أخيه أميراً، فسار عن بغداد في خمسين رجلاً، وأظهر أنّه متوجّه ليطلب مال الخليفة من ابن أخيه، فلمّا وصل إلى الموصل خرج ابن أخيه إلى تلقّيه، وقصد مخالفة طريقه، فوصل أبو العلاء، ودخل دار ابن أخيه، وسأل عنه فقيل: إنّه خرج إلى لقائك، فقعد ينتظره، فلمّا علم ناصر الدولة بمقامه في الدار أنفذ جماعة من غلمانه، فقبضوا عليه ثم أنفذ جماعة غيرهم فقتلوه.
ذكر مسير ابن مقلة إلى الموصل وما كان بينه وبين ناصر الدولة
لّما قتل ناصر الدولة عمّه أبا العلاء واتّصل خبره بالراضي عظم ذلك عليه وأنكره، وأمر ابن مُقلة بالمسير إلى الموصل، فسار إليها في العسكر، في شعبان، فلمّا قارها رحل عنها ناصر الدولة بن حَمدان، ودخل الزَّوَزَان، وتبعه الوزير إلى جبل التِّنّين، ثم عاد عنه وأقام بالموصل يجبي مالها. (3/461)
ولما طال مقامه بالموصل احتال بعض أصحاب ابن حمدان على ولد الوزير، وكان ينوب عنه في الوزارة ببغداد، فبذل له عشرة آلاف دينار ليكتب إلى أبيه يستدعيه، فكتب إليه يقول إنّ الأمور بالحضرة قد اختلّت، وإن تأخّر لم يأمن حدوث ما يبطل به أمرهم، فانزعج الوزير لذلك، واستعمل على الموصل عليَّ بن خلف بن طباب وماكرد الديلميَّ، وهو من الساجيّة، وانحدر إلى بغداد منتصف شوّال.
فلمّا فارق الموصل عاد إليها ناصر الدولة بن حمدان فاقتتل هو وماكرد الديلميُّ، فانهزم ابن حمدان، ثم عاد وجمع عسكراً آخر، فالتقوا على نصيبين في ذي الحجّة، فانهزم ماكرد إلى الرَّقّة، وانحدر منها إلى بغداد، وانحدر أيضاً ابن طبّاب، واستولى ابن حمدان على الموصل والبلاد، وكتب إلى الخليفة يسأله الصفح، وأن يضمن البلاد، فأُجيب إلى ذلك واستقرّت البلاد عليه.
ذكر فتح جنوة وغيرها
في هذه السنة سيّر القائم العلويُّ جيشاً من إفريقية في البحر إلى ناحية افرنج، ففتحوا مدينة جَنوة ومرّوا بسَردَانية فأوقعوا بأهلها، وأحرقوا مراكب كثيرة، ومرّوا بقَرقِيسيا فأحرقوا مَراكبها وعادوا سالمين.
ذكر القرامطة
في هذه السنة خرج الناس إلى الحجّ، فلمّا بلغوا القادسية اعترضهم أبو طاهر القُرمُطيُّ ثاني عشر ذي القعدة، فلم يعرفوه، فقاتله أصحاب الخليفة، وأعانهم الحجّاج، ثم التجأوا إلى القادسية، فخرج جماعة من العلويّين بالكوفة إلى أبي طاهر، فسألوه أن يكفّ عن الحجّاج، فكفّ عنه من وشرط عليهم أن يرجعوا إلى بغداد، فرجعوا، ولم يحجّ بهذه السنة من العراق أحد، وسار أبو طاهر إلى الكوفة فأقام بها عدّة أيّام ورحل عنها.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، في المحرّم، قلّد الراضي بالله ولدَيه أبا جعفر وأبا الفضل ناحيتَي المشرق والمغرب ممّا بيده، وكتب بذلك إلى البلاد.
وفيها، في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة، وهي الليلة التي أوقع القُرمُطيُّ بالحجّاج، انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً جدّاً لم يُعهد مثله.
وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت، في الحبس، بنفث الدم، فأحضر القاضي والشهود، وعُرض عليهم، فلم يروا به أثر ضرب ولا خنق، وجذبوا شعره فلم يكن مسموماً، فسُلّم إلى أهله، وأخذوا ماله وأملاكه ومعامليه ووكلاءه وكلّ من يخالطه.
وفيها كان بخراسان غلاء شديد، ومات من أهلها خلق كثير من الجوع، فعجز الناس عن دفنهم، فكانوا يجمعون الغرباء والفقراء في دار إلى أن يتهيّأ لهم تكفينهم ودفنهم.
وفيها جهّز عماد الدولة بن بويه أخاه ركن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل، وسيّر معه العساكر بعد عوده لّما قُتل مرداويج، فسار إلى أصبهان، فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدّة من بلاد الجبل نوّاب وشمكير، وأقبل وشمكير وجهّز العساكر نحوه، وبقي هو ووشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي أصبهان، وهَمَذان، وقُمّ، وقاجَان، وكرَج، والرَّيّ، وكنكور، وقَزوين وغيرها.
وفيها، في آخر جمادى الآخرة، شغب الجند ببغداد، وقصدوا دار الوزير أبي عليّ بن مقلة وابنه، وزاد شغبهم، فمنعهم أصحاب ابن مقلة، فاحتال الجند ونقبوا دار الوزير من ظهرها، ودخلوها، وملكوها وهرب الوزير وابنه إلى الجانب الغربيّ، فلمّا سمع الساجيّة بذلك ركبوا إلى دار الوزير، ورفقوا بالجند فردّوهم، وعاد الوزير وابنه إلى منازلهما.
واتّهم الوزير بإثارة هذه الفتنة بعض أصحاب ابن ياقوت، فأمر فنودي أن لا يقيم أحد منهم بمدينة السلام، ثم عاود الجند الشغب حادي عشر ذي الحجّة، ونقبوا دار الوزير عدّة نقوب، فقاتلهم غلمانه ومنعوهم، فركب صاحب الشُّرطة، وحفظ السجون حتّى لا تُفتح، ثم سكنوا من الشغب.
وفي هذه السنة أُطلق المظفَّر بن ياقوت من حبس الراضي بالله بشفاعة الوزير ابن مقلة، وحلف للوزير أنّه يواليه ولا ينحرف عنه، ولا يسعى له ولا لولده بمكروه، فلم يفِ له ولا لولده ووافق الحجريّة عليه، فجرى في حقّه ما يكره.
وكان المظفَّر حقد على الوزير حين قُتل أخوه لأنّه اتّهمه أنّه سمّه. (3/462)
وفيها أرسل ابن مقلة رسولاً إلى محمّد بن رائق بواسط، وكان قد قطع الحمل عن الخليفة، فطالبه بارتفاع البلاد واسط والبصرة وما بينهما، فأحسن إلى الرُّسل وردّهم برسالة ظاهرة إلى ابن مقلة مغالطة، وأخرى باطنة إلى الخليفة الراضي بالله وحده، مضمونها أنّه إن استدعي إلى الحضرة وفُوّضت إليه الأمور وتدبير الدولة قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات الخليفة وأرزاق الجند، فلمّا سمع الخليفة الرسالة لم يُعد إليه جوابها.
وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم بن عبدويه بن سدوس الهذليُّ من ولد عتبة بن مسعود بالكوفة، وهو من نَيسابور، وإبراهيم بن محمّد بن عرفة المعروف بنفطويه النحويّ، وله مصنّفات، وهو من ولد المهلَّب بن أبي صُفرة.

This site was last updated 07/15/11