Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة ثمان وتسعين ومائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
باقى سنة 193 وخلافة الأمين
سنة 194
سنة195
سنة196
سنة196
سنة198

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

حوادث سنة ثمان وتسعين ومائة
ذكر استيلاء طاهر على بغداد

في هذه السنة لحق خزيمة بن خازم بطاهر، وفارق الأمين، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقي.
وكان سبب ذلك أن طاهراً أرسل إلى خزيمة أن انفصل الأمر بيني وبين محمد، ولم يكن لك في نصرتي، ألا أقصر في أمرك! فأجابه بالطاعة، وقال له: لوكنت أنت النازل الجانب الشرقي في مكان هرثمة لحمل نفسه إليه، وأخبره قلة ثقته بهرثمة، إلا أن يضمن له القيام دونه لخوفه من العامة، فكتب طاهر إلى هرثمة يعجزه، ويلومه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وقد وقفت وقوف المحجم عمن بإزائك، فاستعد للدخول إليهم، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر، وقطع الجسور، وأرجوأن لا يختلف عليك اثنان.
فأجابه هرثمة بالسمع والطاعة، فكتب طاهر إلى خزيمة بذلك، وكتب إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك؛ فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم، وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وخلعا محمد الأمين، وسكن أهل عسكر المهدي، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر من القواد وحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهأن فدخل إليهم، فقال الحسين الخليع في ذلك.
علينا جميعاً من خزيمة منة ... بما أخمد الرحمن نائرة الحرب
تولى أمور المسلمين بنفسه ... فذب وحامى عنهم أشرف الذب
ولولا أبوالعباس ما انفك دهرنا ... ينيب على عتب ويعدوعلى عتب
خزيمة لم يذكر له مثل هذه ... إذ اضطربت شرق البلاد مع الغرب
أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ... شوارع والأرواح في راحة الغضب
وهي عدة أبيات، فلما كان الغد تقدم طاهر إلى المدينة والكرخ، فقاتل هناك قتالاً شديدأن فهزم الناس، حتى الحقهم بالكرخ، وقاتلهم فيه، فهزمهم، فمروا لا يلوون على شيء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه، فنادى: من لزم بيته فهوآمن؛ ووضع بسوق الكرخ وقصر الوضاح جنداً على قدر حاجته، وقصد إلى مدينة المنصور، وأحاط بهأن وبقصر زبيدة، وقصر الخلد، من باب الجسر إلى باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة، وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة.
وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، والأفارقة، فنصب المجانيق بإزاء قصر زبيدة، وقصر الخلد؛ وأخذ الامين أمه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في الطريق، لا يلوي أحد على احد، وتفرق السفلة والغوغاء، وتحصن محمد بمدينة المنصور، وحصره طاهر، وأخذ عليه الأبواب.
وبلغ خبر هذه الوقعة عمر الوراق، فقال لمخبره: ناولني قدحاً؛ ثم تمثل:
خذها فللخمرة أسماء ... لها دواء ولها داء
يصلحها الماء إذا اصفقت ... يوماً وقد يفسدها الماء
وقائل كانت لهم وقعة ... في يومنا هذا وأشياء
قلت له: أنت امرؤ جاهل ... فيك عن الخيرات إبطاء
إشرب ودعنا من أحاديثم ... يصطلح الناس إذا شاؤوا  (3/136)
وحكى إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين لما حصره طاهر، قال: فخرج الأمين ذات ليلة يريد أن يتفرج من الضيف الذي هوفيه، فصار إلى قصر له بناحية الخلد، ثم أرسل إلي فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء على شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب؟ فقلت: شأنك؛ فشرب رطلأن وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن ضرب عليك؟ ما أحوجني إليه! فدعا بجارية متقدمة عنده، اسمها ضعف، فتطيرت من اسمه أن ونحن في تلك الحال، فقال لها: غني، فغنت بشعر الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فاشتد ذلك عليه، وتطير منه، وقال: غني غير ذلك، فغنت:
أبكي فراقكم عيني فأرقها إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدوعليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقال: ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه، ثم غنت آخر:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار وما ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبداً ... ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: قومي، غضب الله عليك ولعنك فقامت، وكان له قدح من بلور، حسن الصنعة، كان يسميه رب رياح، وكان موضوعاً بين يديه، فعثرت الجارية به، فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من سر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا وقد قرب! فقلت: يديم الله ملكك، ويعز سلطانك، ويكبت عدوك! فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتاً من دجلة: (قضي الأمر الذي فيه تسفيان) يوسف: 41. فقال: يا إبراهيم أما سمعت ما سمعت؟ قلت: ما سمعت شيئأن وكنت قد سمعت: قال تسمع حسنأن فدنوت من الشط، فلم أر شيئاً ، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتماً إلى مجلسه بالمدينة، فما مضى إلا ليلة أوليلتان حتى قتل.


ذكر قتل الأمين
لما دخل محمد إلى مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرهأن كما تقدم، وقر بالمدينة، علم قواده وأصحابه أنهم ليس لهم فيها عدة الحصر، وخافوا أن يظفر بهم طاهر، فأتاه محمد بن حاتم بن الصقر، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي، وغيرهمأن فقالوا: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، فانظر واعزم عليه، فإنا نرجوأن يجعل الله فيه الخيرة.
قال: وما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك، وقد بقي معك من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارهأن فنرى أن نختار ممن عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعة آلاف، فتحملهم على هذه الخيل، وتخرج ليلاً على باب من هذه الأبواب؛ فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج، حتى نلحق بالجزيرة والشام، فنفرض الفروض، ونجبي الخراج، ونصير في مملكة واسعة وملك جديد، فينصاع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجند ويحدث الله أموراً.
فقال لهم: نعم ما رأيتم! وعزم على ذلك، وبلغ الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن المنصور، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والسندي بن شاهك: والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتهأن ولا يكون لي همة إلا أنفسكم.
فدخلوا على الأمين، قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك، إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ بهم الحصار إلى ما ترى، فهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك، وعند طاهر، لجدهم في الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن يأخذوك أسيرأن أ يأخذوا رأسك، فيتقربوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا فيه الأمثال؛ فرجع إلى قولهم، وأجاب إلى طلب الأمان والخروج، فقالوا له: إمنا غايتك السلامة، واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويجعل لك فيه كل ما يصلحك، وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين. (3/137)
فدخل عليه أولئك النفر الذين أشاروا بقصد الشام، وقالوا: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك، وهوالصواب، وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة؛ فقال: أنا أكره طاهرأن لأني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس، لم أر مثله في الطول والعرض، وعلي سوادي، ومنطقي، وسيفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضربه حتى سقط، وسقطت، وطارت قلنسوتي عن رأسي، فأنا أتطير منه، وأكرهه وهرثمة مولانأن وهوبمنزلة الوالد، وأنا أشد أنساً به وثقة إليه.
فأرسل يطلب الأمان، فأجابه هرثمة إلى ذلك، وحلف له أنه يقاتل دونه إن هم المأمون بقتله، فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة، وقال: هوفي جندي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أحرجته، بالحصار، حتى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون له الفتح دوني.
فلما بلغ ذلك هرثمة والقواد اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم، وحضر طاهر وقواده، وحضر سليمان بن المنصور، والسندي، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وأداروا الرأي بينهم، وأخبروا طاهراً أنه لا يخرج إليه أبدأن وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن إلا أن يكون الأمر مثله أيام الحسين بن علي بن عيسى ماهان. وقالوا: أنه إن يخرج إلى هرثمة بدنه، ويدفع إليك الخاتم والقضيب، والبردة وذلك هوالخلافة، فاغتمن هذا الأمر ولا تفسده! فأجاب إلى ذلك رضي به.
ثم إن الهرش لما علم بالخبر أراد التقرب إلى طاهر، فأخبره أن الذي جرى بينهم مكر، وأن الخاتم والقضيب والبردة تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه، وجعل حول قصر أم الأمين، وقصور الخلد، قوماً معهم العتل، ولم يعلم بهم أحد؛ فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة، عطش قبل خروجه عطشاً شديداً فطلب له في خزانة الشراب ماء، فلم يوجد، فلما أمسى، ليلة الأحد، لخمس بقين من محرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج بعد العشاء الآخرة إلى صحن الدار، وعليه ثياب بيض، وطيلسان أسود، فأرسل إليه هرثمة: وافيت للميعاد لأحملك، ولكني أرى أن لا تخرج الليلة، فإني قد رأيت على الشط أمراً قد رابني، وأخاف أن أغلب، وتؤخذ من يدي، وتذهب نفسك ونفسي، فأقم الليلة، حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك.
فقال الأمين للرسول: ارجع إليه، وقل له لا يبرح، فإني خارج إليه الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد.
وقلق، وقال: قد تفرق عني الناس من الموالي والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل عليّ فيأخذني؛ ثم دعا بابنيه، فضمهما إليه، وقبلهمأن وبكى، وقال: أستودعكما الله، عز وجل، ودمعت عيناه، فمسح دموعه بكمه، ثم جاء راكباً إلى الشط، فإذا حراقة هرثمة، فصعد إليها.
فذكر احمد بن سلام، صاحب المظالم، قال: كنت مه هرثمة في الحراقة، فلما دخلها الأمين قمنا له، وجثا هرثمة على ركبتيه، واعتذر إليه من نقرس به، ثم احتضنه، وضمه إليه، وجعله إلى حجره، وجعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة بالحراقة أن تدفع، إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق، وعطعطوأن ونقبوا الحراقة، ورموهم بالآجر والنشاب، فدخل الماء إلى الحراقة، فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، وسقطنأن فتعلق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنه لما سقط إلى الماء شق ثيابه وخرج إلى الشط، فأخذني رجل من أصحاب طاهر، وأتى بي رجلاً من أصحاب طاهر، وأعلمه أني من الذين خرجوا إلى الحراقة، فسألني من أنا؟ فقلت أنا أحمد بن سلام، صاحب المظالم، مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقني! قلت: قد صدقتك. قال: فما فعل المخلوع؟ رأيته وقد شق ثيابه؛ فركب، وأخذني معه أعدوأن وفي عنقي حبل، فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقي، فاشتريت نفسي منه بعشرة آلاف درهم، فتركني في بيت، حتى يقبض المال، وفي البيت بواري وحصر مدرجة ووسادتان.
فلما ذهب من الليل ساعة، وإذا قد فتحوا الباب، وأدخلوا الأمين، وهوعريان، وعليه سراويل، وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فتركوه معي، فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي؛ فسألني عن اسمي فعرفته، فقال: يا أحمد! ما فعل أخي؟ قلت: حي هو. قال: قبح الله بريدهم، كان يقول: قد مات شبه المعتذر من محاربته؛ فقلت: بل قبح اله وزراءك؛ فقال: ما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يفون لي بأمانهم؟ فقلت: بل يفون لك. (3/138)
وجعل يضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطنة كانت عليّ، وقلت: ألق هذه عليك! فقال: دعني، فهذا من اله، عز وجل، في مثل هذا الموضع خير كثير.
فبيمنا نحن كذلك، إذا دخل علينا رجل، فنظر في وجوهنأن فاستثبتهأن فلما عرفته انصرف، وإذا هومحمد بن حميد الطاهري، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول؛ فلما انتصف الليل فتح الباب، ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائمأن وجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت، والله، نفسي في سبيل الله، أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟ وجاؤوأن حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضأن وأخذ الأمين بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخوالمأمون، الله الله في دمي.
فدخل عليه رجل منهم فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه، وضربه الأمين بالوسادة على وجهه، وأراد أن يأخذ السيف منه، فصاح: قتلني! قتلني! فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، فركبوه، فذبحوه ذبحاً من قفاه، وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.
فلما كان السحر أخذوا جثته، فأدرجوها في جل وحملوهأن فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد للنظر، وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد.
فلما قتل ندم بغداد وجند طاهر على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر برأس محمد إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسين بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ الرأس ذوالرياستين فأدخله على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث معه طاهر بالبردة والقضيب والخاتم.
ولما بلغ أهل المدينة أن طاهراً أمر مولاه قريشاً فقتله، قال شيخ من أهل المدينة: سبحان الله! كنا نروي أنه يقتله قريش، فذهبنا إلى القبيلة فوافق الاسم الاسم.
ولما قتل الأمين نودي في الناس بالأمان، فأمن الناس كلهم، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطب للمأمون، وذم الأمين، وكتب إلى المعتصم، وقيل إلى ابن المهدي: أما بعد فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى إلى الناكث المخلوع، فإن كان كذلك، فكثير ما كتبت إليك، وإن كان غير ذلك، فالسلام عليك، أيها الأمير، ورحمة الله وبركاته.
ولما قتل الأمين قال إبراهيم بن المهدي يرثيه:
عوجاً بمعنى الطلل الداثر ... بالخلد ذات الصخر والآجر
والمرمر المنسوب يطلى به ... والباب باب الذهب الناضر
عوجاً بها فاستيقنا عندها ... على يقين قدرة القادر
وأبلغا عني مقالاً إلى ... المولى على المأمور والآمر
قولاً له يابن أبي الناصر ... طهر بلاد الله من طاهر
لم يكفه أن حز أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر
حتى أتى سيحب أوداجه في شطن، هذا مدى السائر
قد برد الموت على جنبه ... فطرفه منكسر الناظر
فلما بلغ المأمون قوله اشتد عليه.


ذكر صفة الأمين وعمره وولايته
قيل إن محمداً ولي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة؛ وكنيته أبوموسى، وقيل أبوعبد الله.
وهوابن الرشيد هارون بن أبي عبد الله المهدي بن أبي جعفر المنصور، وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر ابن المنصور؛ وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام، وقيل كانت ولايته النصف من جمادى الآخرة، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وكان سبطأن أنزع، صغير العينين، أقنى، جميلأن طويلأن عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، وكان مولده بالرصافة.
ولما وصل خبر قتله إلى المأمون أذن للقواد، وقرأ الفضل بن سهل الكتاب عليهم، فهنأوه بالظفر ودعوا له. وكتب إلأى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد، فخلعاه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وأكثر الشعراء في مراثي الأمين وهجائه، تركنا أكثره لأنه خارج عن التاريخ، ففما قيل في مراثيه قول الحسين بن الضحاك، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه: (3/139)
يا خير أسرته وإن زعموا ... إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبداً ... حري عليك ومقلة تكف
ولئن شجبت لما رزئت به ... إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفاً سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم ... إني لرهطك بعدها شنف
هتكوا بحرمتك التي هتكت ... حرم الرسول ودونها السجف
ونبت أقاربك التي خذلت ... وجميعها بالذل معترف
تركوا حريم أبيهم نفلاً ... والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش ... أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجزهن واختلست ... ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب ... در تكشف دونه الصدف
سلك تخوف نظموقدر ... فوهي وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا ... عز وأن يبقى لنا شرف
أفبعد عهد الله تقتله ... والقتل بعد أمانه سرف
فستعرفون غداً بعاقبة ... عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من تخون نومه أرق ... هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملاً غنيت به ... فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا ... عرفاً وأنكر بعده العرف
والشمل منتشر لفقدك والدن ... يا سدى والباب منكشف
وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أمه زبيدة، وتخاطب المأمون، وكنية زبيدة أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كآبة ... وأرق عيني يابن عمي تفكري
وهمت لما لا قيت بعد مصابه ... فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكوالذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المستضيمالمقتر
وأرجولما قد مر بي مذ فقدته ... فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهراً ... فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهب أموالي وأخرب أدوري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق اعور
فإن كان ما أبدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر
فلما قرأها المأمون بكى، وقال: أنأن والله، الطالب بثأر أخي، قتل الله قتلته.
ولقد أسرف الحسين بن الضحاك في مراثي الأمين، وذم المأمون، فلهذا حجبه المأمون عنه، ولم يسمع مديحه مدة، ثم أحضره يومأن فقال له: أخبرني! هل رأيت يوم قتل أخي هاشمية قتلت وهتكت؟ قال: لا! قال: فما قولك:
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النبي استحلت
ومعتوكة بالخلد عنها سجوفها ... كعاب كقرن الشمس حين تبدت
إذا خفرتها روعة من منازع ... لها المرط عاذت بالخشوع ورنت
وسرب ظباء من ذؤابة هاشم ... هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يداً مني إذا ما ذكرته ... على كبد حرى وقلب مفتت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالها ما تمنت
فقال: يا أمير المؤمنين! لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فانطفقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك.
فدمعت عين المأمون وقال: قد عفوت عنك، وأمرت بإدرار أرزاقك عليك، وعطائك ما فاتك متمماً وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
ثم إن المأمون رضي عنه وسمع مديحه، ومما قيل في هجائه: (3/140)
لم نبكيك، لماذا؟ للطرب ... يا أبا موسى، وترويج العب
ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصاً منك على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضى ... لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب
لم نبكيك؟ لما عرضتنا ... للمجانيق وطوراً للسلب
في عذاب وحصار مجهد ... سدد الطرق، فلا وجه الطلب
زعموا أنك حي حاشر ... كل من قد قال هذا فكذب
ليته قد قاله في وجدة ... من جميع ذاهب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله ... وإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنة ... غضب الله عليه وكتب
وقيل فيه غير ذلك تركنا ذكره خوف الإطالة.


ذكر بعض سيرة الأمين
لما ملك الأمين وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وأباعهم وغالى فيهم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره،وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، وفرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهن، وقيل فيه الأشعار، فمما قيل فيه:
ألا أيها المثوى بطوس ... عزيباً ما نفادي بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلاً تحمل منهم شوم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدر، فيا لك من جليس
وما للمعصمي شيء لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالاً ... لديه عند مخترق الكؤوس
لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيماً ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس
فلوعلم المقيم بدار طوس ... لغز على المقيم بدار طوس
ثم وجه إلأى جمع البلدان في طلب الملهين، وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه وأهل بيته، واستخف بهم وبقواده، وقسم ما في بيوت الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه، وجلسائه، ومدثيه، وأمر ببناء مجالس لمنزهاته، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد، والفيل، والعقاب، والحية، والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيمأن فقال أبونواس في ذلك:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن براً ... سار في الماء راكباً ليث غاب
عجب الناس إذا رأوك على صو ... رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذا رأوك سرت عليه ... كيف لوأبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي ... ن اشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بحية وذهاب
قال الكوثر: أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يومأن ففرش عليها بساط زرعي، ومنارق، وفرش مثله، وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان، يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشراً فاندفعن يغنين بصوت واحد:
هم قتلوه كي يكونوا مكانة ... فكما غدرت يوماً بكسرى مرازبة
فسبهن وطردهن، ثم أمرها فأصعدت عشراً غيرهن فغنينه:
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
ففعل مثل ما فعله، وأطرق طويلأن ثم قال: أصعدي عشرأن فأصعدتهن فغنين:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فقام من مجلسه، وأمر بهدم الدكان، تطيراً مما كان.
قيل وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان، فقال: كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً فقد أمكن الجهر (3/141)
فبلغت القصة الأمين، فحبس أبا نواس؛ ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم، أومعدله، أوتجربة، حتى نذكرهأن وهذا القدر كاف.
ذكر وثوب الجند بطاهر
وفي هذه السنة وثب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين بخمسة أيام.
وكان سبب ذلك أنهم طلبوا منه مالأن فلم يكن معه شيء، فثاروا به، فضاق بهم الأمر، وظن أن ذلك من مواطأة من الجند وأهل الأرباض، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك من أهل الأرباض أحد، فخشي على نفسه، فهرب، ونهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف.
وكان لما قتل الأمين أمر بحفظ الأبواب، وحول زبيدة أم الأمين وولديه موسى وعبد الله معهأن وحملهم في حراقة إلى همينيا على الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما المأمون بخراسان.
فلما ثار به الجند نادوا موسى يا منصور، وبقوا كذلك يومهم، ومن الغد، فصوب الناس إخراج طاهر ولدي الأمين؛ ولما هرب طاهر إلى عقرقوف خرج معه جماعة من القواد وتعبأ لقتال الجند، وأهل الأرباض ببغداد؛ فلما بلغ ذلك القواد المتخلفين عنه والأعيان من أهل المدينة خرجوا واعتذروأن وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم، وقبول عذرهم.
فقال طاهر: ما خرجت عنكم إلا لوضع السيف فيكم، وأقسم بالله العظيم، عز وجل، لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم! فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر.
وخرج إليه جماعة من مشيخة أهل بغداد، وعميرة أبوشيخ بن عميرة الأسدي، فحلفوا له أنه لم يتحرك من أهل بغداد ولا من الأبناء أحد، وضمنوا منه من وراءهم، فسكن غضبه، وعفا عنهم، ووضعت الحرب أوزارهأن واستوسق الناس في المشرق والمغرب على طاعة المأمون والانقياد لخلافته.
عميرة بفتح العين وكسر الميم.
ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلي على المأمون
في هذه السنة أظهر نصر بن سيار بن شبث العقيلي الخلاف على المأمون؛ وكان نصر من بني عقثيل يسكن كيسوم، ناحية شمالي حلب، وكان في عنقه بيعة للأمين، وله فيه هوى؛ فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب لذلك، وتغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وأهل الطمع، وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وحدثته نفسه بالتغلب عليه، فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
شبث بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة.
ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلاد
وفي هذه السنة استعمل المأمون الحسن بن سهل، أخا الفضل، على كل ما كان افتتحه طاهر من كور الجبال، والعراق ، وفارس، والأهواز، والحجاز، واليمن، بعد أن قتل الأمين، وكتب إلى طاهر بتسليم ذلك إليه، فقدم الحسن بين يديه علي بن أبي طاهر سعيد، فدافعه طاهر بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، وسلم إليه العمل.
وقدم الحسن سنة تسع وتسعين ومائة، وفرق العمال، وأمر طاهراً أن يسير إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث العقيلي، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فسار طاهر إلى قتال نصر بن شبث، وأرسل إليه يدعوه إلى الطاعة، وترك الخلاف، فلم يجبه إلى ذلك، فتقدم إليه طاهر، والتقوا بنواحي كيسوم، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى فيه نصر بلاءً عظيمأن وكان الظفر له، وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة.
وكان قصارى أمر طاهر حفظ تلك النواحي؛ وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالمسير إلى خراسان، وحج بالناس العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد.
ذكر وقعة الربض بقرطبة
في هذه السنة كانت بقرطبة الوقعة المعروفة بالربض؛ وسببها أن الحكم ابن هشام الأموي، صاحبهأن كان كثير التشاغيل باللهو، والصيد، والشرب، وغير ذلك مما يجانسه؛ وكان قد قتل جماعة من أعيان قرطبة، فكرهه أهلهأن وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب، إلى أن بلغ الأمر بالغوغاء أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان: الصلاة يا مخمور، الصلاة؛ وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف؛ فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارهأن وحفر خنادقهأن وارتبط الخيل على بابه، واستكثر المماليك، ورتب جمعاً لا يفارقون باب قصره بالسلاح، فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة، وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم. (3/142)
ثم وضع عليهم عشر الأطعمة، كل سنة، من غير حرص، فكرهوا ذلك، ثم عمد إلى عشرة من رؤساء سفهائهم، فقتلهم، وصلبهم، فهاج لذلك أهل الربض، وانضاف إلى ذلك أن مملوكاً له سلم سيفاً إلى صقيل ليصقله، فمطله، فأخذ المملوك السيف، فلم يزل يضرب الصقيل به إلى أن قتله، وذلك في رمضان من هذه السنة.
فكان أول من شهر السلاح أهل الربض، واجتمع أهل الربض جميعهم بالسلاح، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر، وفرق الحكم الخيل والأسلحة، وجعل أصحابه كتائب، ووقع القتال بين الطائفتين، فغلبهم أهل الربض، وأحاطوا بقصره، فنزل الحكم من أعلى القصر، ولبس سلاحه، وركب وحرض الناس، فقاتلوا بين يديه قتالاً شديداً.
ثم أمر ابن عمه عبيد الله، فثلم في السور ثلمة، وخرج منها ومعه قطعة من الجيش، وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم، ولم يعلموا بهم، فأضرموا النار في الربض، وانهزم أهله، وقتلوا مقتلة عظيمة، وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور، فأسروهم، فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم، فقتلهم، وصلبهم منكسين، وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام.
ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث، ولم يكن عنده من يوازيه في قربه، فأشار عليه بالصفح عنهم، والعفو، وأشار غيره بالقتل، فقبل قوله، وأمر فنودي بالأمان، على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه؛ فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيأن وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم، وما خف من أموالهم، وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون، ومن امتنع عليهم قتلوه.
فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس، وجمعهن إلى مكان، وأمر بهدم الربض القبلي.
وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن شهام محبوساً في حبس الدم بقرطبة، في رجليه قيد ثقيل، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا له، فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم، وأطلقوه، فخرج فقاتل قتالاً شديداً لم يكن في الجيش مثله، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن، فانتهى خبره إلى الحكم، فأطلقه وأحسن إليه، وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين.
ذكر الوقعة بالموصل المعروفة بالميدان
وفيها كانت الوقعة المعروفة بالميدان بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان سببها أن عثمان بن نعيم البجمي صار إلى ديار مضر، فشكا الأزد واليمن، وقال: إنهم يتهضموننأن ويغلبوننا على حقوقنأن واستنصرهم، فسار معه إلى الموصل ما يقارب عشرين ألفأن فأرسل إليهم علي بن الحسن الهمداني، وهوحينئذ متغلب على الموصل، فسألهم على حالهم، فاخبروه، فأجابهم إلى ما يريدون، فلم يقبل عثمان ذلك، فخرج إليهم علي من البلد في نحوأربعة آلاف رجل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديدأن عدة وقائع، فكانت الهزيمة على النزارية، وظفر بهم علي وقتل منهم خلقاً كثيراً وعاد إلى البلد.
ذكر عدة حوادث
وفي هذه السنة خرج الحسن الهرش في جماعة من سفلة الناس معه خلق كثير من الأعراب ودعا إلى الرضى من آل محمد، وأتى النيل، فجبى الأموال ونهب القرى.
وفيها مات سفيان بن عيينة الهلالي بمكة، وكان مولده سنة تسع ومائة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن المهدي وعمره ثلاث وستون سنة؛ ويحيى بن سعيد القطان في صفر، ومولده سنة عشرين ومائة.

This site was last updated 07/13/11