Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة اثنتين وثلاثين ومائة قتل الخليفة مروان الحمار

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة 127 مبايعة مروان
سنة ثمان وعشرين ومائة
سنة تسع وعشرين ومائة
سنة ثلاثين ومائة
سنة إحدى وثلاثين ومائة
سنة 132 قتل الخليفة مروان

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

الجزء الثالث

ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة
ذكر هلاك قحطبة وهزيمة ابن هبيرة

وفي هذه السنة هلك قحطبة بن شبيب.
وكان سبب ذلك أن قحطبة لما عبر الفرات وصار في غربيه، وذلك في المحرم لثمان مضين منه، كان ابن هبيرة قد عسكر على فم الفرات من أرض الفلوجة العليا على رأس ثلاثة وعشرين فرسخاً من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، فأمده مروان بحوثرة الباهلي، فقال حوثرة وغيره لابن هبيرة: إن قحطبة قد مضى يريد الكوفة فاقصد أنت خراسان ودعه ومروان فإنك تكسره وبالحري أن يتبعك، قال: ما كان ليتبعني ويدع الكوفة، ولكن الرأي أن أبادره إلى الكوفة؛ فعبر دجلة من المدائن يرير الكوفة، فاستعمل على مقدمته حوثرة وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على جانبي الفرات. وقال قحطبة: إن الإمام أخبرني أن لي في هذا المكان وقعة يكون النصر فيها لنا.
ونزل قحطبة الجبارية، وقد دلوه على مخاضة، فعبر منها وقال حوثرة ومحمد بن نباتة، فانهزم أهل الشام وفقدوا قحطبة، فقال أصحابه: من كان عنده عهد من قحطبة فليخبرنا به. فقال مقاتل بن مالك العتكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن ابني أمير الناس.
فبايع الناس حميد بن قحطة لأخيه الحسن، وكان قد سيره أبوه في سرية فأرسلوا إليه فأحضروه وسلموا إليه الأمر.
ولما فقدوا قحطبة بحثوا عنه فوجدوه في جدول وحرب بن سالم بن أحوز قتيلين، فظنوا أنكل واحد منهما قتل صاحبه.
وقيل: إن معن بن زائدة ضرب قحطبة لما عبر الفرات على حبل عاتقة فسقط في الماء فأخرجوه، فقال: شدوا يدي إذ أنا مت وألقوني في الماء لئلا يعلم الناس بقتلي.
وقاتل أهل خراسان فانهزم محمد بن نباتة وأهل الشام، ومات قحطبة، وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير آل محمد أبو سلمة الخلال فسلموا هذا المر إليه.
وقيل: بل غرق قحطبة.
ولما انهزم ابن نباتة وحوثرة لحقوا بابن هبيرة، فانهزم ابن هبيرة بهزيمتهم، ولحقوا بواسط وتركوا عسكرهم وما فيه من الأموال والسلاح وغير ذلك. ولما قام الحسن بن قحطبة بالأمر أمر بإحصاء ما في العسكر.
وقيل: إن حوثرة كان بالكوفة فبلغه هزيمة ابن هيرة فسار إليه فيمن معه.
ذكر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسوداً
وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد عبد الله القسري بالكوفة وسود قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة وأخرج عنها عامل ابن هبيرة ثم دخلها الحسن.
وكان من خبره أن محمداً خرج بالكوفة ليلة عاشوراء مسوداً وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، وعلى شرطة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وسا محمد إلى القصر، فارتحل زياد ومن معه من اهل الشام، ودخل محمد القصر، وسمع حوثرة الخبر فسار نحو الكوفة، فتفرق عن محمد عامة من معه لما بلغهم الخبر وبقي في نفر يسير من أهل الشام ومن اليمانيين من كان هرب من مروان، وكان معه مواليه وارسل أبو سلمة الخلال، ولم يظهر بعد، إلى محمد يأمره بالخروج من القصر تخوفاً عليه من حوثرة ومن معه، ولم يبلغ أحداً من الفريقين هلاك قحطبة، فأبى محمد أن يخرج، وبلغ حوثرة تفرق أصحاب محمد عنه فتهيأ للمسير نحوه.
فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه فقال له: قد جاءت خيل من أهل الشام، فوجه إليهم عدة من مواليه، فناداهم الشاميون: نحن بجيلة وفينا مليح ابن خالد البجلي جئنا لندخل في طاعة الأمير، فدخلوا؛ ثم جاءت خيل أعظم من تلك فيها جهم بن الأصفح الكناني؛ ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل؛ فلما رأى تلك حوثرة من صنع أصحابه ارتحل نحو واسط. وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة، وهو لا يعلم بهلاكه، يعلم أنه قد ظفر بالكوفة.
فقدم القاصد على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس ثم ارتحل نحو الكوفة يوم الجمعة ويم السبت والأحد وصبحه الحسن يوم الأثنين. [ج3 (2/485)]
وقد قيل: إن الحسن بن قحطبة أقبل نحو الكوفة بعد هزيمة ابن هبيرة وعليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها، فسود محمد بن خالد وخرج في أحد عشر رجلاً وبايع الناس، ودخلها الحسن من الغد، فلما دخلها الجسن هو وأصحابه أتوا أبا سلمة، وهو في بني سلمة، فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين قثم ارتحل إلى حمام أعين، ووجه الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هيرة، وبايع الناس أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكان يقال له وزير آل محمد، واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله على الكوفة، وكان يقال له الأمير، حتى ظهرأبو العباس السفاح.
ووجه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد، وبعث المسيب بن زهير وخالدب بن برمك إلى دير قنى، وبعث المهلبي وشراحيل إلى عين التمر، وبسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد بن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عنها عبد الواحد إلى البصرة بعد أن قاتله وهزمه بسام، وبعث إلى البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب عاملاً عليها، فقدمها وكان عليها سلم بن قتيبة الباهلي عاملاً لابن هبيرة، وقد لحق به عبد الواحد بن هبيرة، كما تقدم ذكره.
فأرسل سفيان بن معاوية إلى سلم يأمره بالتحول من دار الإمارة ويعلمه ما أتاه من رأي أبي سلمة، وامتنع وجمع معه قيساً ومضر ومن بالبصرة من بني أمية، وجمع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة وغيرهم، وأتاهم قائد من قواد ابن هبيرة كل بعثه مدداً لسلم في ألفي رجل من كلب، فأتى سلم سوق الإبل ووجه الخيول في سكك البصة ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة، ومن جاء بأسير فله ألف درهم.
ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة وخاصته، فلقيه خيل تميم، فقل معاوية وأتي برأسه إلى سلم، فأعطى قاتله عشرة آلاف، وانكسر سفيان بقتل ابنه فانهزم، وقدم على سلم بعد ذلك أربعة آلاف من عند مروان فأرادوا نهب من بقي من الأزد، فقالتلهم قتالاً شيداً، وكثرت القتلى بينهم، وانهزمت الأزد، ونهبت دورهم، وسبيت نساؤهم، وهدموا البيوت ثلاثة أيام، ولم يزل سلم بالبصرة حتى أتاه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها، واجتمع من بالبصرة من ولد الحارث بن عبيد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم، فوليهم أياماً يسيرة حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم. فلما قدم أبو العابس ولا ها سفيان بن معاوية.
وكان حرب سفيان وسلم بالبصرة في صفر.
وفيها عزل مروان عن المدينة الوليد بن عروة واستعمل أخاه يوسف بن عروة في شهر ربيع الأول.
انقضت الدولة الأموية.
ذكر ابتداء الدولة العباسية
وبيعة أبي العباس

في هذه السنة بويع أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في شهر ربيع الأول، وقيل: في ربيع الآخر لثلاث عشرة مضت منه، وقيل في جمادى الأولى.
وكان بدء ذلك وأوله أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، أعلم العباس بن عبد المطلب أن الخلافة تؤول إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقعون ذلك ويتحدثون به بينهم.
ثم إن إبا هاشم بن الحنفية خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله ابن عابس فقال له: يا ابن عم إن عندي علماً أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحداً، إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس فيكم. قال: قد علمت فلا يسمعنه منكم أحد.
وقد تقدم في خبر ابن الأشعث قول خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك ابن مروان: أما إذ كان الفتق من سجستان فليس عليك منه بأس، إنما كنا نتخوف لو كان من خراسان.
وقال محمد بن علي بن عبد الله: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد ابن معاوية، ورأس المائة، وفتق إفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيلهم المغرب ويستخرجوا ما كنز الجبارون.
فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية ونقضت البربر بعث محمد بن علي إلى خراسان داعياً وأمره أن يدعوه إلى ارضا ولا يسمي أحداً؛ وقد ذكرنا فيما تقدم خبر الدعاة وخبر أبي مسلم وقبض مروان على إبراهيم بن محمد، وكان مروان لما أرسل المقبوض عليه وصف للرسول صفة أبي العابس، لأنه كان يجد في الكتب: إن من هذه صفته يقتلهم وسلبهم ملكهم! وقالله ليأتيه بإبراهيم بن محمد. [ج3 (2/486)]
فقدم الرسول فأخذ أبا العباس بالصفة، فلما ظهر إبراهيم وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم وهذا عبد الله. فترك أبا العباس وأخذ إبراهيم فانطلق به إلى مروان، فلما رآه قال: ليس هذه الصفة التي وصفت لك. فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت وإنما سميت إبراهيم فهذا إبراهيم. فأمر به فحبس وأعاد الرسل في طلب أبي العابس فلم يروه.
وكان سبب مسيره من الحميمة أن إبراهيم لما أخذه الرسول نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العابس وجعله الخليفة بعده فسار ابو العابس ومن معه من أهل بيته، منهم: أخوه أبو جعفر المنصور، وعبد الوهاب ومحمد ابنا أخيه إبراهيم، وأعمامه داود وعيسى وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس، وابن عمه داود، وابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، ويحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس، حتى قدموا الكوفة في صفر، موسى بن محمد بن علي، ويحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس، حتى قدموا الكوفة في صفر، وشيعتهم من أهل خراسان، بظاهر الكوفة بحمام أعين، فأنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني داود وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من جميع القواد والشيعة.
وأراد فيما ذكر أن يحول الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم الإمام، فقال له أبو الجهم: ما فعل الإمام؟ قال: لم يقدم بعد فألح عليه. فقال: ليس هذا وقت خروجه لأن واسطاً لم تفتح بعد.
وكان أبو سلمة إذ سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا. فلم يزل ذلك من امره حتى دخل أو حميد محمد بن إبراهيم الحميري من حمام أعين يريد الكناسة، فلقي خادماً لإبراهيم الإمام ياقل له سابق الخوارزمي، فعرفه، فقال له: ما فعل إبراهيم الإمام؟ فأخبره أن مروان قتله، وأن إبرايم أوصى إلى أخيه أيب العباس واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غداً في هذا الموضع؛ وكره سابق أن يدله عليهم إلا بإذنهم.
فرجع أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره وهو في عسكر أبي سلمة، فأمره أن يلطف للقائهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي واعد فيه سابقاً فلقيه، فانطلق به إلى أبي العابس وأهل بيته، فملا دخل عليهم سأل أبو حميد من الخليفة منهم. فقال داود بن علي: هذا إمامكم وخليفتكم. وأشار إلى أبي العباس، فسلم عليه بالخلافة وقبل يديه ورجليه وقال: مرنا بأمرك وعزاة بإبراهيم الإمام.
ثم رجع وصحبه إبارهيم بن سلمة، رجل كان يخدم بني العباس، إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم وأن الإمام أرسل إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار يعطيها الجمال كراء الجمال التي حملتهم، فلم يبعث بها إليهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم بن سلمة إلى موسى بن كعبوقصوا عليه القصة، وبعثوا إلى الإمام؛ فمضى موسى ابن كعب، وأبو الجهم، وعبد الحميد ابن ربعي، وسلمة بن محمد، وإبارهيم بن سلمة، وعبد الله الطائي، وإسحاق ابن إبارهيم، وشرا حيل، وعبد الله بن بسام، وأبو حميد محمد بن إبراهيم، وسليمان بن الأسود، ومحمد بن الحصين إلى الإمام أبي العباس.
وبلغ ذلك أبا سلمة فسأل عنهم، فقيل: غنهم دخلوا الكوفة في حاجة لهم؛ وأتى القوم أبا العابس، فقال: وأيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم، ورجع موسى بن كعب وأبو الجهم، وأمر أبو الجهم الباقين فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامي، فركب أو سلمة إلى الإمام، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد: إن أبا سلمة قد أتاكم فلا يدخلن على الإمام إلا وحده. فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده فسلم بالخلافة على أبي العباس. فقال له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماص بظر أمه! فقال له أبو العباس: مه! وأمر أبا سلمة بالعود إلى معسكره، فعاد. [ج3 (2/487)]
وأصبح الناس يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول فلبسوا السلاح واصطفوا لخروج أبي العباس وأتوا بالدواب، فكرب برذوناً أبلق، وركب من معه من أهل بيته فدخلوا دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فخطب وصلى بالناس، ثم صعد المنبر حين بويع له بالخلافة فقام في أعلاه، وصعد عمه داود بن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه وكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا فأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوامبه والذابين عنه والناصرين له، فألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، وقرابته، وأنشأنا من آبائنا، وأنبتنا من شجرته، واستقنا من نبعته، جعله من أنفسنا عزيزاً عليه ما عنتنا حريصاً علنا بالمؤمنين رؤوفا رحيماً، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم، تبارك وتعالى فيما أنزل من محكم كتابه: " إما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " الأحزاب:23؛ وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين " الشعراء:214؛ وقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ولرسول ولذي القربى " الحشر:7؛ وقال: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى " الأنفال:41؛ فأعلمه جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا وفضلاً علينا، والله ذو الفضل العظيم.
وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! ولم أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتها، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنفذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وتمم بنا النقيصة، وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل التعاطف والبر والمواساة في دنياهم، وإخواناً على سرر متقالبلين في آخرتهم، فتح الله ذلك منةً ومنحةً لمحمد، صلى الله عليه وسلم .فلما قبضه الله إليه قام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصاً منها. ثم وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما ملأ الله لهم حيناً حتى آسفوه، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقايم بأمرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا.
وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله.
يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح.
وكان موعوكاً فاشتد عليه الوعك. فجلس على المنبر وقام عمه داود على مراقي المنبر فقال: الحمد الله، شكراً للذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محم، صلى الله عليه وسلم .
أيها الناس الآن أقشعت حنادس الدينا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من طلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم. [ج3 (2/488)]
أيها الناس! إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجيناً ولا عقياناً، ولا نحفر نهراً، ولا نبني قصراً؛ وإنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاهم حقنا، والغضب لبني عمنا، وما كرهنا من أموركم، فلقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتد علنا سوء سيرة بني أمية فيكم واستنزالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصداقتكم ومغانمكم عليكم، لكم ذمة الله، تبارك وتعالى، وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمة العابس، رحمه الله، علينا أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تباً لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا بالجرائم، وجاروا باستدراج الله وأمناً لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعداً لقوم الظالمين، وأدلنا الله من مروان، وقد غرة بالله الغرور، أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خاصمه، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراء وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه ونقمته ما امات باطله، وحا ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شر فنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا.
أيها الناس! إن أمير المؤمنين، نصره الله نصراً عزيزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة لنه كاره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فاعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد بدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان، المتبع السفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى.
فعج الناس له بالدعاء، ثم قال.
يا أهل الكوفة! إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أباح الله شيعنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا، وأبلج بهم حجتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله بهم ما لستم تنتظرون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشام، ونقل إليكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم، فإن الأمر أمركم، وإن لكل أهل بين مصراً وإنكم مصرنا، وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد؛ وأشار بيده إلى أبي العابس السفاح.
واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم، عليه السلام، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
ثم نزل أبو العباس وداود بن علي أمامه حتى دخل القصر وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم حتى صلى بهم العصر ثم المغرب وجنهم الليل فدخل.
وقيل: إن داود بن علي لما تكلم قال في آخر كلامه: أيها الناس إن والله ما كان بينكم وبين رسول الله،صلى الله عليه وسلم ، خليفة إلا علي ابن أبي طالب وأمير المؤمنين الذي خلفي.
ثم نزل. وخرج أبو العباس يعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة ونزل معه في حجرته بينهما ستر وحاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ يحاصر ابن هبيرة بواسط، وبعث يحيى ابن جعفر بن تمام بن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف.
وأقام السفاح بالعسكر أشهراً ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة، وكان تنكر لأبي سلمة قبل تحوله حتى عرف ذلك. [ج3 (2/489)]
وقد قيل: إن داود بن علي وابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بنب العباس إلى العراق، إنما كانا بالعاق أو بغيره فخرجا يريدان الشام، فلقيهما أبو العابس قصتهم وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها ويظهروا أمرهم. فقال له داود: يا أبا العباس تأتي الكوفة وشخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن هيرة بالعراق في جند العرب! وقال: يا عمي من أحب الحياةذل؛ ثم تمثل بقول الأعشى:
فما ميتة إن متها غير عاجزٍ ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها
فالتفت داود إلى ابنة موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزاء أو نمت كرماء. فرجعوا جميعاً.
فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفراً أربعة عشر رجلاً خرجوا من دارهم وأهلهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة همتهم، كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم.
ذكر هزيمة مروان بالزاب
قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور، وأنه قتل عثمان بن سفيان وأقام بناحية الموصل، وأن مروان ابن محمد سار إليه من حران حتى بلغ الزاب وحفر خندقاً وكان في عشرين ومائة ألف، وسار أبو عون إلى الزاب، فوجه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى، والمنهال بن فتان، وإسحاق بن طلحة، كل واحد في ثلاثة آلاف.
فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين، وعبد الله الطائي في ألف وخمسائة، وعبد الحيمد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسائة إلى أبي عون، ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال: عبد الله بن علي: أنا. فسيره إلى أبي عون، فقدم عليه، فتحول أبو عون عن سرادقة وخلاه له وما فيه.
فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنممة اثنتين ومائة سأل عبد الله بن علي عن مخاضة فدل عليها بالزاب، فامر عيينه بن موسى، فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورجع إلى عبد الله بن علي.
وأصبح مروان فعقد الجسر وعبر عليه، فنهاه وزراؤه عن ذلك، فلم يقبل وسير ابنه عبد الله، فنزل أسفل من عسكر علد الله بن علي، فبعث عبد الله ابن علي المخارق في أربعة آلاف نحو عبد الله بن مروان، فسرح إليه ابن موران الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، فالتقيا، فانهزم أصحاب المخارق وثبت هو فأسر هو وجماعة وسيرهم إلى مروان مع رؤوس القتلى، فقال مروان: أدخلوا علي رجلاً من الأسرى. فاتوه بالمخارق، وكان نحيفاً. فقال: أنت المخارق؟ قال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر. قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم. قال: فنظر هل تراه في هذه الرؤوس. فنظر إلى رأس منها فقال: هو هذا. فخلى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم.
وقيل: إن المخارق لما نظر إلى الرؤوس قال: ما أرى رأسه فيها ولا أراه إلا قد ذهب. فخلى سبيله.
ولما بلغت الهزيمة عبد الله بن علي أرسل إلى طريق المنهزمين من يمنعهم من دخول العسكر لئلا ينكر قومهم،وأشار عليه أبو عون أن يبادر مروان بالقتال قبل أن يظهر أمر المخارق فيفت ذلك في أعضاد الناس، فنادى فيهم بلبس السلاح والخروج إلى الحرب، فركبوا، واستخلف على عسكره محمد ابن صول وسار نحو مروان، وجعل على ميمنته أبا عون، وعلى ميسرته الوليد ابن معاوية، وكان عسكره عشرين ألفاً، وقيل: اثني عشر ألفاً وقيل غير ذلك.
فلما التقى العسكران قال مروان لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عن زالت اليوم الشمس ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى المسيح، عليه السلام، وإن قاتلونا فأقبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون. [ج3 (2/490)]
وأرسل مروان إلى عبد الله يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشام: قفوا لا نبدأهم بالقتال، وجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم، وهو ختن مروان بن محمد على ابنته، فغضب وشتمه، وقاتل ابن معاوية أبا عون، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال لموسى ابن كعب: يا عبد الله مر الناس فلينزلوا. فنودي: الأرض فنزل الناس وأشرعوا الرماح وجثوا على الركب فقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرون كأنهم يدفعون، ومشى عبد الله بن علي قدماً وهو يقول: يار رب حتى متى نقتل فيك؟ ونادى: يا أهل خراسان! يال لثارات إبراهيم! يا محمد! يا منصور! واشتد بينهم القتال. فقال مروان لقضاعة: انزلوا. فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا. فأرسل إلى السكاسك أن احملوا. فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا. فأرسل إلى السكون أن احملوا، فالوا: قل لغطفان فليحملوا. فقال لصاحب شرطته: انزل. فقال: والله ما كنت لأحعل نفسي غرضاً. قال: أما والله لأسؤنك! فقال: وددت والله أنك قدرت على ذلك.
وكان مروان ذلك اليوم لا يدبر شيئاً إلا كان فيه الخلل، فأمر بالأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم. فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك، فقيل له: إن الناس قد مالوا على هذا المال ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله: أن سر في أصحابك إلى قوم عسكرك فاقتل من أخذ من المال وامنعهم.
فكان ممن غرق يومئذ: إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن المخلوع، فاستخرجوه في الغرقى، فقرأ عبد الله: " وإذا فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " وقيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام.
وقتل في هذه الوقعة يعيد بن هشام بن عبد الملك. وقيل: بل قتله عبد الله بالشام.
وأقام عبد الله بن علي غي عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد اب العاص يعير مروان:
لج الفرار بمروان فقلت له: ... عاد الظلوم ظليماً همه الهرب
أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... عنك الهوينا فلا دين ولا حسب
فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب
وكتب يومئذ عبد الله بن علي إلى السفاح بالفتح، وحوى عسكر مروان بما فيه فوجد سلاحاً كثيراً وأموالاً، ولم يجد فيه امرأة إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان.
فلما أتى الكتاب السفاح صلى ركعتين وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة دينار، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين.
وكانت هزيمة مروان بالزاب يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس، فلما تقدم إلى القتال رأى عبد الله ابن علي فتى عليه أبهة الشرف ياقتل مستقتلاً فناداه: يا فتى لك المان ولو كنت مروان بن محمد! فقال: إن لم أكنه فلست بدونه. قال: فلك الأمان ولو كنت من كنت. فأطرق ثم قال:
أذل الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما ... فسير إلى الموت سيراً جميلا
ثم قاتل حتى قتل؛ فإذا هو مسلمة بن عبد الملك.
ذكر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمام
قد ذكرنا سبب حبسه. واختلف الناس في موته، فقيل: إن مروان حبسه بحران، وحبس سعيد بن هشام بن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، والعباس بن الوليد بن عبد الملكل، وأبا محمد السفياني، هلك منهم في وباء وقع بحران العابس بن الوليد، وإبارهيم بن محمد ابن علي الإمام، وعبد الله بن عمر.
فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب بجمعة خرج سعيد بن هشام وابن عمه ومن معه من المحبوسين فقتلوا صاحب السجن وخرجوا، فقتلهم أهل حران ومن فيها من الغوغاء، وكان فيمن قتله أهل حران شراحيل بن مسلمة ابن عبد الملك، وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة واسمه كوشان، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس فلم يخرج فيمن خرج ومعه غيره لم يستحلوا الخروج من الحبس، فقدم مروان منهزماً من الزاب فجاء فخلى عنهم.
وقيل: إن مروان هدم على إبراهيم بيتاً فقتله. [ج3 (2/491)]
وقد قيل: إن شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك كان محبوساً مع إبارهيم فكانا يتزاوران، فصار بينهما مودة، فأتى رسول من شراحيل إلى إبراهيم يوماً بلبن فقال: يقول لك أخوك إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه؛ فشرب منه فتكسر جسده من ساعته، وكان يوماً يزور في شراحيل فأبطأ عليه فأرسل إليه شراحيل: إنك قد أبطأت فما حبسك؟ فأعاد إبراهيم: إني لما شربت اللبن الذي أرسلت به قد أسهلني. فاتاه شراحيل فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً ولا أرسلت به إليك! فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل والله عليك. فبات أبراهيم ليلته وأصبح ميتاً؛ فقال إبراهيم ابن هرثمة يرثيه يرثيه:
قد كنت أحسبني جلداً فضعضعني ... قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم ... بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته ... وعيلت كل ذي مالٍ ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمةً ... لكن عفا الله عمن قال آمين
وكان إبراهيم خيرأ فاضلاً كريماً، قدم المدينة مرةً ففرق في أهلها مالاً جليلاً، وبعث إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بخمسمائة دينار، وبعث إلى جعفر بن محمد بألف دينار، فبعث إلى جماعة العلويين بمال كثير، فأتاه الحسين بن زيد بن علي وهو صغير فأجلسه في حجرة قال: من أنت؟ قال: أنا الحسين بن زيد بن علي. فبكى حتى بل رداءه وأمر وكيله بإحضار ما بقي من المال، فأحضر أربعمائة دينار، فسلمها إليه وقال: لو كان عندنا شيء آخر لسلمته إليك، وسير معه بعض مواليه إلى أمه رابطة بنت عبد الملك بن محمد بن الحنفية يعتذر إليها.
وكان مولده سنة اثنتين وثمانين، وأمه أم ولد بربرية اسمها سلمى.
وكان ينبغي أن يقدم ذكر قتله على هزيمة مروان، وإنما قدمنا ذلك لتتبع الحادثة بعضها بعضاً.
ذكر قتل مروان بن محمد بن الحكم
وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد، وكان قتله ببوصير، من أعمال مصر، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان مروان لما هزمه عبد الله بن علي بالزاب أتى مدينة الموصل وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر! فناداهم أهل الشام: هذا أمير المؤمنين مروان! فقالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفر! وسبه أهل الموصل، وقالوا: ياجعدي! يا معطل الحمد لله الذي أزال سلطانكم وذهب بدولتكم! الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبينا! فلما سمع ذلك سار إلى بلد فعبر دجلة وأتى حران، وبها ابن أخيه أبان بن يزيد بن محمد بن مروان عامله عليها، فأقام بها نيفاً وعشرين يوماً.
وسار عبد الله بن علي حتى أتى الموصل فدخلها وعزل عنها هشاماً واستعمل عليها محمد بن صول، ثم سار في أثر مروان بن محمد، فلما دنا منه عبد الله حمل مروان أهله وعياله ومضى منهزماً وخلف بمدينة حران ابن أخيه أبان بن يويد وتحته أم عثمان ابنة مروان.
وقدم عبد الله بن علي حران، فلقيه أبان مسوداً مبايعاً له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحران والجزيرة.
ومضى مروان إلى حمص، فلقيه أهلها بالسمع والطاعة، فأقام بها يومين أو ثلاثة ثم سار منها. فلما رأوا قلة ممن معه طمعوا فيه وقالوا: مرعوب منهزم؛ فاتبعوه بعدما رحل عنهم فلحقوه على أميال. فلما رأى غبرة الخيل كمن لهم، فلما جاوزوا الكمين صافهم مروان فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا قتاله، فقاتلهم وأتاهم الكمين من خلفهم، فانهزم أهل حمص وقتلوا حتى انتهوا إلى قريب المدينة.
وأتى مروان دمشق وعليها الوليد بن معاوية بن مروان، فخلفه بها وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشام. ومضى مروان حتى أتى فلسطيم فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره، وكان بيت المال في يد الحكم. [ج3 (2/492)]
وكان السفاح قد كتب إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار حتى أتى الموصل، فتلقاه من بها مسودين وفتحوا له المدينة؛ ثم سار إلى حران، فتلقاه أبان بن يزيد مسوداً، كما تقدم، فآمنه وهدم عبد الله الدار التي حبس فيها إبراهيم. ثم سار من حران إلى منبج، وقد سودوا، فأقام بها، أياماً، ثم سار إلى بعلبك فأقام يومين، ثم سار فنزل مزة دمشق، وهي قرية من قرى الغوطة؛ وقدم عليه أخوه صالح بن علي مدداً فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف؛ ثم تقدم بعبد الله فنزل على الباب الشرقي، ونزل صالح على باب الجابية، ونزل أبو عون على باب كيسان، ونزل بسام بن إبراهيم على باب الصغير، ونزل حميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس، وفي دمشق الوليد بن معاوية، فحصروه ودخلوها عنوة يوم الأربعاء لخمس مضين من رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
وكان أول من صعد سور المدينة من باب شرقي عبد الله الطائي، ومن ناحية باب الصغير بسام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وقتل الوليد ابن معاوية فيمن قتل.
وأقام عبد الله بن علي في دمشق خمسة عشر يوماً، ثم سار يريد فلسطين، فلقيه أهل الأردن وقد سودوا، وأتى أبي فطرس وقد ذهب مروان، فأقام عبد الله بفلسطين، ونزل بالمدينة يحيى بن جعفر الهاشمي، فأتاه كتاب السفاح يأمره بإرسال صالح بن علي في طلب مروان. فسار صالح من نهر أي فطرس في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل، فقدم صالح أبا عون وعامر بن إسماعيل الحارثي، فساروا حتى بلغوا العريش. فأحرق مروان ما كان حوله من علف وطعام.
وسار صالح فنزل النيل، ثم سار حتى أتى الصعيد، وبلغه أن خيلاً لمروان يحرقون الأعلاف فوجه إليهم فأخذوا وقدم بهم على صالح وهو بالفسطاط، وسار فنزل موضعاً يقال له ذات السلاسل، وقدم أبو عون عامر ابن إسماعيل الحارثي وشعبة بن كثير المازني في خيل أهل الموصل فلقوا خيلاً لمروان فهزمهم وأسروا منهم رجالاً فقتلوابعضاً واستحيوا بعضاً، فسألوهم عن مروان فأخبروهم بمكانه على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلاً في كنيسة في بوصير، فوافوه ليلاً، وكان أصحاب أبي عون قليلين، فقال لهم عامر بن إسماعيل: إن أصبحنا وأوا قلتنا أهلكونا ولم ينج منا أحد. وكسر جفن سيفه وفعل أصحابه مثله وحملوا على أصحاب مروان فانهزموا، وحمل رجل من أهل الكحوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه، فأخذه عامر فبعث به إلى أبي عون، وبعثه أبو عون إلى صالح.
فلما وصل إليه أمر أن يقص لسانه، فانقطع لسانه، فأخذه هر، فقال صالح: ماذا ترينا الأيام من العجائب والعبر! هذا لسان مروان قد أخذه هر؛ وقال شاعر:
قد فتح الله مصراً عنوةً لكم ... وأهلك الفاجر الجعدي إذ ظلما
فلاك مقوله هر يجرره ... وكان ربك من ذي الكفر منتقما
وسيره صالح إلى أبي العباس السفاح.
وكان قتله لليلتين بقيتا من ذي الحجة، ورجع صالح إلى الشام وخلف أبا عون بمصر وسلم إليه السلاح والأموال والرقيق.
ولما وصل الرأس إلى السفاح كان بالكوفة، فلما رآه سجد ثم رفع رأسه فقال: الحمد الله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين! وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني
ولما قتل مروان هرب ابناه عبد الله وعبيد الله إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء، قاتلهم الحبشة فقتل عبيد الله ونجا عبد الله وعدة ممن معه، فبقي إلى خلافة المهدي، فاخذه نصر بن محمد بن الشعث، عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي.
ولما قتل مروان قصد عامر الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن خادماً وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين! حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه، نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمكفليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا. [ج3 (2/493)]
قال: والله لا استبقي منكم واحداً! ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الإمام؟ ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين وصلبه في الكوفة؟ ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان؟ أل يقتل ابن زياد الدعي مسلم بن عقيل؟ ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي وأهل بيته؟ ألم يخرج إليه بحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا فوقفهن موقف السبي؟ ألم يحمل رأس الحسين وقد قرع دماغه؟ فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن؟! قالت: فليسعنا عفوكم! فقال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل! فقالت: وأي عز خير من هذا! بل تلحقنا بحران. فحملهن إليها، فلما دخلنها ورأين منازل مروان رفعن أصواتهن بالبكاء.
قيل: كان يوماً بكير بن ما هان مع أصحابه قبل أني قتل مروان يتحدث إذ مر به عامر بن إسماعيل وهو لا يعرفه فأتى دجلة واستقى من مائها ثم رجع، فدعاه بكير فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر بن إسماعيل بن الحارث. قال: فكن من بني مسلية. قال: فأنا منهم. قال: أنت والله تقتل مروان! فكان هذا القول هو الذي قوى طوع عامر في قتل مروان.
ولما قتل مروان كان عمره اثنتين وستين سنة، وقيل: تسعاً وستين سنة؛ وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يوماً؛ وكان يكنى أبا عبد الملك؛ وكانت أمه أم ولد كردية، كانت لإبراهيم بن الأشتر، أخذها محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم فولدت مروان فلهذا قال عبد الله بن عياش المشرف للسفاح: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن عبد المطلب.
وكان مروان يلقب بالحمار والجعدي لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وقيل: إن الجعد كان زنديقاً، وعظمه ميمون بن مهران فقال: لشاه قباذ أحب إلي مما تدين به. فقال له: قتلك الله، وهو قاتلك، وشهد عليه ميمون، وطلبه هشام فظفر به وسيره إلى خالد القسري فقتله، فكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه.
وكان مروان أبيض أشهل شديد الشهلة، ضخم الهامة، كث اللحية أبيضها، ربعة؛ وكان شجاعاً حازماً إلا أن مدته انقضت فلم ينفعه حزمه ولا شجاعته.
عياش بالياء تحتها نقطتان، والشين المعجمة.
ذكر من قتل من بني أمية
دخل سديف على السفاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه، فقال سديف:
لا يغرنك ما ترى من الرجال ... إن تحت الضلوع داء دوياً
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح، وأخذ سليمان فقتل.
ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلاً على الطعام، فأقبل عليه شبل فقال:
أصبح الملك ثابت الآساس ... بالبهاليل من بني العابس
طلبوا وتر هاشم فشفوها ... بعد ميلٍ من الزمان وياس
لا تقيلن عبد شمسٍ عثاراً ... واقطعن كل رقلةٍ وغراس
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحر المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربهم من تنمارقٍ وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
والقتل الذي بحران أضحى ... ثاوياً بين غربةٍ وتناس
فأمر بها عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط عليهم الأنطاع فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعهم حتى ماتوا جيمعاً، وأمر عبد الله ابن علي بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان، فلم يجدوا فيه إلا خيطاً مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان فوجدوا فيه حطاماً كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك فإنه وجد صحيحاً لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح. [ج3 (2/494)]
وتتبع بني امية من أولاد الخلفاء وغيرهم فأخذهم، ولم يفلت منهم إلا رضيع أو من هرب إلى الأندلس، فقتلهم بنهر أبي فطرس، وكان فيمن قتل: محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وسعيد بن عبد الملك، وقيل: غنه مات قبل ذلك، وأبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك، وقيل: إن إبراهيم بن يزيد المخلوع قتل معهم، واستصفى كل شيء لهم من مال وغي ذلك؛ فلما فرغ منهم قال:
بني أمية قد أفنيت جمعكم ... فكيف لي منكم بالأول الماضي
يطيب النفس أن النار تجمعكم ... عوضتم منم لظاها شر معتاض
منيتم، لا أقال الله عثرتكم، ... بليث غاب إلى الأعداء نهاض
إن كان غيظي منكم لفوتٍ فلقد ... منيت منكم بما ربي به راض
وقيل: إن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة، هو الذي قتلهم.
وقتل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس بالبصرة أيضاً جماعةً من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة وأمر بهم فجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق فأكلتهم الكلاب.
فلما رأى بنو أمية ذلك اشتد خوفهم وتشتت شملهم واختفى من قدر على الاختفاء وكان ممن اختفى منهم عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة بن أبي سفيان. قال: وكنت لا اتي مكاناً إلا عرفت فيه،فضاقت على الأرض، فقدمت على سليمان بن علي، وهو لا يعرفني، فقلت: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فامنت. فقال: ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال: مرحباً بك، ما حاجتك؟ فقتل: إن الحرم اللواتي أنت أولى الناس بهن وأقربهم إليهن قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى كثيراً ثم قال: يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك. ثم كتب إلى السفاح: يا أمير الؤمنين إنه قد وفد وافد من بني أمية علينا، وإنا قتلناهم على عقوقهم لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف والرحم تبل ولا تقتل وترفع ولا توضع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان نشكر الله تعالى على نعمه عندنا وإحسانه إلينا. فأجابه إلى ما سأل، فكان هذا أول أمان بني أمية.
ذكر خلع حبيب بن مرة المري
وفي هذه السنة بيض حبيب بن مرة المري وخلع هو ومن معه من أهل البثنية وحوران، وكان خلعهم قبل خلع أبي الورد، فسار إليه عبد الله وقاتله دفعاتٍ، وكان حبيب من قواد مروان وفرسانه.
وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم. فلما بلغ عبد الله خروج أبي الورد ةتبييضه دعا حبيباً إلى الصلح، فصالحه وآمنه ومن معه وسار نحو أبي الورد.
ذكر خلع أبي الورد وأهل دمشق
وفيها خلع أبو الورد مجزاة بن الكوثرة بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وقواده.
وكان سبب ذلك أن مروان لما انهزم قام أبو الورد بقنسرين، فقدمها عبد الله بن علي فبايعه أبو الورد ودخل فيما دخل فيه جنده، وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قواد عبد الله بن علي فبعث بولد مسلمة ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، فخرج من مزرعة له يقال لها خساف فقتل ذلك القائد ومن معه وأظهر التبييض والخلع لعبد الله، ودعا أهل قنسرين إلى ذلك، فبيضوا أجمعهم، والسفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشتغل بحرب حبيب بن مرة المري بأرض البلقاء وحوران والبثنية، على ماذكرناه. [ج3 (2/495)]
فلما بلغ عبد الله بييض أهل قنسرين وخلعهم صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين للقاء أبي الورد، فمر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف، وكان بدمشق أهل عبد الله وأمهات أولاده وثقله، فلما قدم حمص انتقض له أهل دمشق وبيضوا وقاموا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي فلقوا أبا غانم ومن معه فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلةً عظيمة وانتهبوا ما كان عبد الله خلف من ثقله ولم يعرضوا لأهله واجتمعوا على الخلاف. وسار عبد الله، وكان قد اجتمع مع أبي الورد جماعة من أهل قنسرين وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، فقدم منهم ألوف عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، ودعوا إليه، وقالوا: هذا السفياني الذي كان يذكر، وهم في نحو من أربعين ألفاً، فعسكروا بمرج الأخرم، ودنا منهم عبد الله بن علي ووجه إليهم أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف، وكان أبو الورد هو المدبر لعسكر قنسرين وصاحب القتال، فناهضهم القتال، وكثر القتل في الفريقين، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم ألوف ولحق بأخيه عبد الله.
فأقبلى عبد الله معه وجماعة القواد فالتقوا ثانيةً بمرج الأخرم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثبت عبد الله، فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو من خمسمائة من قومه وأصحابه فقتلوا جميعاً، وهرب أبو محمد ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ودخلوا في طاعته.
ثم انصرف راجعاً إلى أهل دمشق لما كان من تبييضهم عليه، فلما دنا منهم هرب الناس ولم يكن منهم قتال، وآمن عبد الله أهلها وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم.
ولم يزل أبو محمد السفياني متغيباً هارباً ولحق بأرض الحجاز وبقي كذلك إلى أيام المنصور، فبلغ زياد بن هبد الله الحارثي عامل المنصور مكانه، فبعث إليه خيلاً فقاتلوه فقتلوه وأحذوا ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد بن عبد الله السفياني وبابنيه، فأطلقهما المنصور وآمنهما.
وقيل: إن حرب عبد الله وأبي الورد كانت سلخ ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
ذكر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم
وفي هذه السنة بيض أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس السفاح وساروا إلى حران وبها موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من جند السفاح فحاصروه بها وليس على أهل الجزيرة رأس يجمعهم، فقدم عليهم إسحاق بن مسلم العقيلي من أرمينية، وكان سار عنها حين بلغه هزيمة مروان، فاجتمع عليه أهل الجزيرة وحاصر موسى بن كعب نحواً من الشهرين.
ووجه أبو العباس السفاح أخاه أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود بواسط محاصرين ابن هبيرة، فسار فاجتاز بقرقيسيا والرقة، وأهلهما قد تبيضوا، وسار نحو حران، فرحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء، وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بن كعب من حران فلقي أبا جعفر.
ووجه إسحاق بن مسلم أخاه بكار بن مسلم إلى ربيعة بدارا ومادرين، ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحرورية يقال له بريكة، فعمد إليهم أبو جعفر فلقيهم، فقاتلوه قتالاً شديداً، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء، فخلفه إسحاق بها وسار إلى سميساط في عظم عسكره،وأقبل أبو جعفر إلى الرهاء، وكان بينهم وبين بكار وقعات.
وكتب السفاح إلى عبد الله بن علي يأمره أن يسير في جنوده إلى سمياط، فسار حتى نزل بإزاء إسحاق بسمياط، وإسحاق في ستين ألفاً وبينهم الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء وحاصر إسحاق بسميساط سبعة أشهر، وكان إسحاق يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا ادعها حتى أعلم أن صاحبها مات أوقتل.
فأرسله إليه أبو جعفر: إن مروان قد قتل. فقالك حتى أتيقن. فلما تيقن قتله طلب الصلح والأمان، فكتبوا إلى السفاح بذلك وأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، فكتبوا بينهم كتاباً بذلك، وخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وكان عنده من آثر صحابته، واستقام أهل الجزيرة والشام، وولى أبو العباس أخاه أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل عليها حتى استخلف.
وقد قيل: إن عبد الله بن علي هو الذي آمن إسحاق بن مسلم.
ذكر قتل أبي سلمة الخلال وسليمان بن كثير [ج3 (2/496)]
قد ذكرنا ما كان من أبي سلمة في أمر أبي العباس السفاح ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة بحيث صار عندهم متهماً، وتغير السفاح عليه وهو بعسكره بحمام أعين، ثم تحول عنه إلى المدينة الهاشمية فنزل قصر الإمارة بها وهو متكر لأبي سلمة.وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه فيه وما كان هم به من الغش، وكتب إليه أبو مسلم: إن كان أمير المؤمنين اطلع على ذلك منه فليقتله.
فقال داود بن علي للسفاح: لا تفعل يا أمير المؤمنين فيحتج بها أبو مسلم عليك واهل خراسان الذين معك أصحابه، وحاله فيهم حاله، ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله.
فكتب إليه، فبعث أبو مسلم مرار بن أنس ال2ضبي لقتله، فقدم على السفاح فأعلمه بسبب قدومه، فأمر السفاح منادياً فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه فكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلة فلم يزل عنده حتى ذهب عامل الليل، ثم انصرف إلى منزله وحده، فعرض له مرار ابن أنس ومن معه من أعوانه فقتلوه وقالوا: قتله الخوارج، ثم أخرج من الغد فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي ودفن بالمدينة الهاشمية عند الكوفة، فقال سليمان بن المهاجر البجلي.
إن الوزير وزير آل محمد ... وأدى فمن يشناك صار وزيرا
وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبي مسلم، فملا قدم على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسن الأعرج وسلميان بن كثير، فقال سليمان بن كثير لعبيد الله: يا هذا إنا كنا نرجو أن يتم أمركم، فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون. فظن عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فأتى أبا مسلم فأخبره وخاف أن يعلمه أن يقتله، فاحضر أبو مسلم سليمان بن كثير وقال له: احفظ قوزل الإمام لي من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم. قال: فإني اتهمتك. قال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني، فانت منطوٍ على غش الإمام، وأمر بضرب عنقه.
ورجع أبو جعفر إلى السفاح فقال: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله. قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد. قال أبو العباس: فاكتمها.
وقد قيل: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم قبل أن يقتل أبو سلمة.
وكان سبب ذلك أن السفاح لما ظهر تذاكروا ما صنع أبو سلمة فقال بعض من هناك: لعل ما صنع كان من رأي أبي مسلم. فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لنعرفن بلاء إلا أن يدفعه الله عنا. وأرسل أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم ليعلم رأيه. فسار إليه وأعلمه ما كان من أبي سلمة فأرسل مرار بن أنس فقتله.
ذكر محاصرة ابن هبيرة بواسط
قد ذكرنا ما كان من أمر يزيد بن هليرة والجيش الذين لقوه من أهل خاسان مع قحطبة، ثم مع ابنة الحسن، وانهزامه إلى واسط وتحصنه بها، وكان لما انهزم قد وكل بالأثال قوماً، فذهبوا بها، فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم؟ يعني قحطبة، امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر. قال: بل نأتي واسطاً فننظر. قال: مكا تريد على أن تمكنه من نفسك وتقتل.
وقال يحيى بن حضين: غنك لو تأتي مروان بشيء أحل إليه من هذه الجنود، فالزم الفارت حتى تأتيه، وأياك وواسطاً فتصير في حصار ولي بعد الحصر إلا القتل. لإابى.
وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه بالأمر فيخالفه، فخاف أن يقتله، فأتى واسطاً فتحصن بها؛ وسير أبو سلمة إليه الحسن بن قحطبة فحصره، وأول وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء. قال أهل الشام لابن هيرة: ايذن لنا في قتالهم. فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة وعلى ميمنته ابنه داود، فالتقوا وعلى ميمنة الحسن خازم بن خزيمة، فحمل خازم على ابن هبيرة، فانهزم هو ومن معه وغص الباب بالناس، ورمى أصحابه بالعرادات، ورجع أهل الشام، فكر عليهم الحسن واضطرهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقوهم بالسفن وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام ثم خرجوا إليهم فاقتتلوا وانهزم أهل الشام هزيمةً قبيحة، فدخلوا المدينة، فمكثوا ما شاء الله لا يقاتلون إلا رمياً. [ج3 (2/497)]
وبلغ ابن هبيرة، وهو في الحصار، أن أبا أمية التغلبي قد سود فأخذه وحبسه، فتكلم ناس من ربيعة في ذلك ومعن بن زائدة السيباني وأخذوا ثلاثة من فزارة رهط ابن هبيرة فحبسوهم. وشتموا ابن هبيرة وقالوا: لا نترك ما في أيدينا حتى يترك ابن هبيرة صاحبنا، وابى أبن هبيرة أن يطلقه، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما. فقيل لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم، وإن تماديت في ذلك كانوا أشد عليك ممن حصرك. فدعا أبا أمية فكساه وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه.
وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناحية سجستان إلى الحسن، فأوفد الحسن وفداً إلى السفاح بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيلان بن عبد الله الخزاعي، وكان غيلان واجداً على الحسن لأنه سرحه إلى روح بن حاتم مدداً له، فلما قدم على السفاح وقال: أشهد أنط أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين. قال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك. قال: غفر الله لك. قال غيلان: يا أمير المؤمنين من علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه وتقر عيننا به. فبعث أخاه أبا جعفر لقتال ابن هبيرة عند رجوعه من خراسان. وكتب إلى الحسن: إن العسكر عسكرك، والقواد قوادك، ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً، فاسمع له وأطع وأحسن موازرته. وكتب إلى مالك بن الهيثم بمثل ذلك.وكان الحسن هو المدبر لأمر ذلك العسكر.
فلما قدم أبو جعفر المنصور على الحسن تحول الحسن عن خيمته وأنزله فيها، وجلعل الحسن على حرس المنصور عثمان بن نهيك.
وقاتلهم مالك بن الهيثم يوماً فانهزم أهل الشام إلى خنادقهم وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذامي. فملا جازهم أصحاب مالك خرجوا عليهم فقاتلوهم حتى جاء الليل، وابن هبيرة على برج الخلالين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل، وسرح ابن هبيرة إلى معن يأمره بالآنصاف، فانصرف، فمكثوا أياماً، وخرج أهل واسط أيضاً مع معن ومحمد بن نباتة، فقاتلهم أصحاب الحسن فهزموهم إلى دجلة حتى تساقطو فيها ورجعوا وقد قتل ولد مالك بن الهيثم، فملا رآه أبوه قتيلاً قال: لعن الله الحياة بعدك! ثم حملوا على أهل واسط فقاتلوهم حتى المدينة.
وكان مالك يملأ السفن حطباً ثم يضرمها ناراً لتحرق ما مرت به، فكان ابن هبية يجر تلك السفن بكلاليب، فمكثوا كذلك أحد عشر شهراً.
فلما طال عليم الحصار طلبوا لصلح، ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسري وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم وقد قتل مروان؟ وتجنى أصحاب ابن هبيرة عليه، فقالت اليمانية: لا نعين مروان زآثاره فينا آثاره. وقالت النزارية: لا تقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية، وكان يقاتل معه صعاليك الناس وفتيانهم.
وهم ابن هبيرة بأن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، فكتب إليه، فأبطأ جوابه، وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهم، فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبد الله الحارثيان ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية ابن العباس، فلم يفعلا، وجرت السفراء بين أبي جعفر وابن هبيرة حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً مكث ابن هبية يشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه فأنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بأمضائه.
وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان السفاح لا يقطع أمراً دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عيناً لأبي مسلم على السفاح، فكتب السفاح إلى أبي مسلم يخبره أمر ابن هبية، فكتب أبو مسلم إليه: إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارةفسد، ولا واله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة.
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من الخارية وأراد أن يدخل على دابته، فقام إليه الحاجب سلام بن سليم فقال: مرحباً بك أبا خالد، انزل راشداً! وقد أطاف بحجرة المنصور عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، وأدخل القواد ثم أذن لابن هبيرة وحده، فدخل وحادثه ساعةً ثم قام ثم مكث يأتيه يوماً ويتركه يوماً، فكان يأتيه في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل. فقيل لأبيجعفر: إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء. فأمره أبو جعفر أن لا يأتي إلا في حاشيته فكان يأتي في ثلاثين، ثم صار يأتي في ثلاثة أو أربعة. [ج3 (2/498)]
وكلم ابن هبيرة المنصور يوماً، فقال له ابن هبيرة: يا هناه! أو: يا أيها المرء! ثم رجع فقال: أيها الأمير إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به لقريب فسبقني لساني إلى ما لم أرده.
فألح السفاح على أبي جعفر يأمره بقتل ابن هبيرة وهو يراجعه حتى كتب إليه: والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يتولى قتله.
فعزم على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير وأمرهما بختم بيوت الأموال، ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة من القيسية والمضرية فأحضرهم، فأقبل محمد بن نباتة وحوثرة بن سهيل في اثني وعشرين رجلاً، فخرج سلام بن سليم فقال: أين ابن نباته وحوثرة؟ فدخلا وقد أجلس أبوز جعفر عثمان بن نهيك وغيره في مائة في حجة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتفا، واستدعى رجلين رجلين يفعل بهما مثل ذلك، قال بعضهم: أعطينمونا عهد الله ثم غدرتم بنا! إنا لنرجو ان يدرككم الله! وجعل ابن نباتة يضرط فيلحية نفسه وقال: كأني كنت أنظر إلى هذا.
وانطلق خازم والهيثم بن شعبة في نحو من مائة إلى ابن هبيرة فقالوا: نريد حمل المال. فقال لحاجبه: دلهم على الخزائن. فأقاموا عند كل بيت نفراً، وأقبلوا نحوه وعنده ابنه داود وعدة من مواليه وبني له صغير في حجرة. فلما أقبلوا نحوه قام حاجبه في وجوههم، فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود، وأقبل هو إليه ونحى ابنه من حجرة فال: دونكم هذا الصبي، وخر ساجاً فقتل؛ وحملت رؤوسهم إلى أبي جعفر، ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك بن بشر، وخاد بن سلمة المخزومي، وعمر، بن ذر، فاستأمن زياد بن عبد الله لابن ذر، فأمنه، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالداً فقتله السفاح ولم يجز أمان أبي جعفر ، فقال أبو العطاء السندي يرثي ابن هبيرة.
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسطٍ ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وصفقت ... أكف بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
فإنك لم تبعد على متعهدٍ ... بلى كل من تحت التراب بعيد
ذكر قتل عمال أبي سلمة بفارس
وفي هذه السنة وجه أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث على فارس وأمره أن يقتل عمال أبي سلمة، ففعل ذلك، فوجه السفاح عمه عيسى ابن علي إلى فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فأراد محمد قتل عيسى، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك. فقال: بلى أمرني أبو مسلم أن لايقدم أحد علي يدعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه؛ ثم ترك عيسى خوفاً من عاقبة قتله واستحلف عبيسى بالأيمان المحرجة أن لا يعلو منبراً ولا يتقلد سيفاً إلا في جهاد، فلم يل عيسى بعد ذلك ولاية ولا تقلد سيفاً إلا في غزو، ثم وجه السفاح بعد ذلك إسماعيل بن علي والياً على فارس.
ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل وما قيل فيها
وفي هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى بن محمد على الموصل عوض محمد بن صول.
وكان سبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة محمد بن صول، وقالوا: يلي علينا مولى الخثعم، وأخرجوه عنهم. فكتب إلى السفاح بذلك واستعمل عليهم أخاه يحيى بن محمد وسيره إليها في اثني عشر ألف رجل، فنزل قصر الإمارة مجانب مسجد الجامع، ولم يظهر لأهل الموصل شيئاً ينكرونه ولم يعترض فيما يفعلونه، ثم دعاهم فقتل منهم أثني عشر رجلاً، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فأعطاهم الأمان، وأمر فنودي: من دخل الجامع فهو آمن؛ فأتاه الناس يهرعون إليه، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجمع، فقتلوا الناس قتلاً ذريعاً أسرفوا فيه، فقيل: إنه قتل فيه أحد عشر ألفاً ممن له خاتم وممن ليس له خاتم خلقاً كثيراً. [ج3 (2/499)]
فلما كان الليل سمع يحيى صراخ النساء اللاتي قتل رجالهن، فسأل عن ذلك الصوت فأخبر به، فقال: إذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان. ففعلوا ذلك، وقتل منهم ثلاثة أيام، وكان في عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجي، فأخذوا النساء قهراً.فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل في اليوم الثالث ركب اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف المسلولة، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد أصحابه قتلها فنهاهم عن ذلك، فقالت: له:ألست من بني هشام؟ أست ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟ أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج؟ فأمسك عن جوابها وسير معها من يبلغها مأمنها، وقد عمل كلامها فيه. فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء، فاجتمعوا، فأمر بهم فتلوا عن آخرهم.
وقيل: كان السبب في قتل أهل الموصل ما ظهر منهم من محبة بني أمية وكراهة بني العباس، وأن امرأة غسلت رأسها وألقت الخطمي من السطح فوقع على رأس بعض الخراسانية فظنها فعلت ذلك تعمداً، فهاجم الدار، وقتل أهلها، فثار أهل البلد وقتلوه، وثارت الفتنة وفيمن قتل معروف بن أبي معروف، وكان زاهداً عابداً، وقد أدرك كثيراً من الصحابة ز
ذكر عدة حوادث
وفيها وجه السفاح أخاه المنصور والياً على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، وفيها عزل عمه داود بن علي عن الكوفة وسوادها وولاه المدينة ومكة واليمن واليمامة،وولى موضعه من عمل الكوفة ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد، فاستقضى عيسى على الكوفة ابن أبي ليلى.
وكان العامل على البصرة هذه السنة سفيان بن عينة المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان أبو جعفر بن محمد بن علي، وعلى الموصل يحيى بن محمد بن علي، وعلى الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد لملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحج بالناس هذه السنة داود بن علي.
وفيها قتل يحيى بن معاوية بن هشام بن عبد الملك مع مروان بن محمد بالزاب، ويحيى أخو عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس. وفيها قتل يونس ابن مغيرة بن حلين بدمشق لما دخلها عبد الله بن علي، وكان عمره عشرين ومائة سنة، قتله رجلان من خراسان ولم يعرفاه، فلما عرفاه بكيا عليه، وقيل: بل عضته دابة من دوابه فقتلته، وكان ضريراً. وفيها مات صفوان بن سليم مولى حميد بن عبد الحمن. وفيها توفي محمد بن أبي كبر نب محمد بن عمرو بن حزم بالمدينة، وكان قاضيها. وفيها مات همام بن منبه. وعبد الله ابن عوف. وسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت الأنصاري. وخبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن يسار الأنصاري، وهو خال عبيد الله بن عمر العمري؛ خبيب بضم الخاء المعجمة، وفتح الحاء والراء المهملتين.
وفيها توفي عبد الله بن طاووس بن كيسان الهمداني من عباد أهل اليمن وفقهائهم.
 

This site was last updated 07/07/11