وفى ظهر الأحد 29/12/1929م نال ربان الباخرة بركة مقابلة البابا يوأنس وقال له فى أثناء الزيارة أنه كان مقرر أن تصل الباخرة إلى ميناء جيبوتى (1) فى العاشرة مساء الأثنين ولكنه مراعاه لضيفه الكبير أمر بتخفيف سرعة سير الباخرة لتصل صباح الثلاثاء وبما أنها ستظل فى الميناء حتى ظهر اليوم عينه فإن لقداسته الحق فى أن يختار الساعة التى يشاء فيها النزول إلى الشاطئ ، كما وضع إحدى الصالونات الفاخرة تحت تصرف البابا لإستقبال الضيوف الذين سيحضرون للترحيب به ، وما كان من البابا إلا أن شكره وأعطاه صورته موقعاً عليها بيده تذكاراً للرحلة كما وزع مختلف الهدايا على الملاحين والركاب.

البابا يوأنس فى جيبوتى

ولقد كان إستقبال الأثيوبيين ورؤسائهم لقداسة البابا إستقبالاً يليق حقاً بمن هو خليفة مار مرقس ، فلم تعلوا العتافات ولم تتدافع الجماهير الفقيرة فقط ، بل خشعت أمامه الأبصار وطأطأت الهامات ، وإنحنت الرؤوس ، ولمست الجباى أديم الأرض ، وإمتلأت النفوس خشية وهيبى بعامل الإحترام والتقديس والحب لرئيس الكنيسة الأعلى (2)

وكانت الوفود الرسمية بدأت تتجمع فى ميناء جيبوتى قبل وصول الباخرة التى أقلت البابا بأربعة أيام وإنتدب الإمبراطور وفدين إستقبال البابا يوأنس فى ميناء جيبوتى : ألأول يمثل الكنيسة والثانى يمثل الحكومة ، كذلك أعدت قطاراً خاصاً مؤلفاً من صالونين فخمين وثلاث عربات من عربات الدرجة الأولى ، وقد أوصل هذا القطار الوفدين الرسميين ومعهما قنصل مصر وسكرتير القنصلية المصرية ومسيحة عبد السيد مستشار وزارة المعارف الأثيوبية ووديع زكى مدير مدرسة منليك (3) وعبد الملك بطرس التاجر فى أديس أبابا ، وهؤلاء المستقبلون ظلوا مع قداسة البابا ومرافقية وصحبوهم فى السفر إلى أديس أبابا

وكان الوفدين قد حمل رسائل من الإمبراطورة زوديتو والملك تفرى والملكة منن يعبرون فيها عن غبطتهم التى لا توصف بزيارته ، ويعتذرون عن عدم إمكانهم الحضور شخصياً إلى جيبوتى ، وذكروا شعورهم وما يجتاحهم من إنفعالات إشتياقاً لرؤيته ، كذلك حمل الوفد الكنسى رسالبة من ألنبا كيرلس يعتذر فيها عن إضطراره إلى البقاء إلى جانب الملك نفرى فى حداده على عمه كما يقضى بروتوكول البلاط الأثيوبى .(4) 

وغادر البابا يوأنس الباخرة هو ومرافقوه حوالى الظهر وصحبهم الوفود إلى فندق الكونتنتال أكبر فنادق المدينة حيث تناولوا العداء وكانوا قد أعدوا جناحاً خاصاً ليستريح فيه قداسة البابا من عناء السفر / كما رفعوا على مدخل الفندق الأعلام المصرية والأثيوبية وقد سارع الصوماليون إلى إستقبال البابا المسيحيون منهم والمسلمون معبرين عن عميق إحترامهم (5)

وبعد أن إستراح البابا يوأنس قليلاً أخبره رئيس وفد الحكومة أن الإمبراطورة زوديتوا والملك تفرى لم يحددا موعد تحرك القطار الخاص تاركين الأمر تبعاً لرغبته وما تسمح به صحته ، فأجب البابا أنه مشتاق إلى الدخول إلى أثيوبيا فى أقرب وقت ، فيفضل السفر حالاً إذا أمكن ، فأجاب رئيس الوفد بأن كل ما يأمر به البابا المكرم أمرا مطاعاً ، وخرج فى الحال ليشرف بنفسه على إعداد القطار الخاص ، وبالفعل غادر القطار الخاص ميناء جيبوتى فى الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم نفسه.

محطة ديراداوا

وإندفع الشعب الأثيوبى نحو البابا يوأنس تماما كما يتدافع ألأقباط محو باباهم بنفس الحرارة ونفس المحبة فغصت محطات السكك الحديدية التى كان القطار سيمر عليها بالجماهير وكانت أول محطة توقف فيها القطار محطة ديراداوا وكانت المحطة مزينة بالأعلام المصرية والأثيوبية فتقدم الكهنة والشمامسة يحيون البابا يتبعهم الجنود وأحاطوا به وبمرافقيه ، فآلفوا بذلك موكب ضخماً وساروا به من المحطة إلى سراى حاكم  المنطقة وهى فى الواقع سراى الملك تفرى (هيلاسيلاسى) وكان الحاكم يقيم بها نيابة عنه أثناء وجوده فى أديس أبابا وتقع هذه السراى على ربوة عالية تمكن ساكنيها من الإشراف على المدينة فى مجملها .

وعندما وصلوا إلى السراى وجد قداسة البابا الكهنة والشمامسة المكلفين بإنتظاره هناك قد أتوا من كل جدب وصوب لهذه المناسبة العظمى ، وفى جانب من السراى أقيم سرادق فسيح ، فإستراح البابا على الكرسى الوثير المهيأ له ، ثم رفعت الستار عن مسرح مقام فى ركن كم السرادق وأخذ الكهنة والشمامسة ينشدون ويرقصون الأناشيد والرقصات الدينية القومية / وكانت وجوههم ونبرات أصواتهم نعبر عن الفرح والحماس اللذين إمتلأت بهم نفوسهم لرؤية راعيم الأول.

فلما إنتهوا تقدم كاهن الكنيسة اليونانية وألقى كلمة ترحيب باللغة العربية ، وتبعه توفيق ميخائيل (وهو قبطى) المدرس بمدرسة هرر فتحدث أولاً باللغة القبطية ثم بالعربية مرحباً بالبابا يوأنس الـ 19

وإختتم البابا يوأنس الحفلة بأن وقف وتحدث إلى المجتمعين ثم شكرهم وباركهم لتعبهم لأنهم جائوا من أماكن بعيدة ونائية ليروه مستهينين بمشاق السفر لكى يكونون موجودين فى حضرته وحدث أن تراكض الجميع يريد مصافحته ولأخذ بركته وكان المسئولين يخافون عليه من هذا التزاحم   فكانوا يبعدونهم عنه ولكنهم أصروا على تنفيذ رغبتهم فى تقبيل يده والحصول على بركته قائلين : " إننا لم نستهن بالسفر الطويل ومتاعبه إلا لننال بركة " فأمر قداسة البابا أن يتركوهم ، وقدم إلى كل منهم الصليب الذى فى يده لكى يقبلوه وفرحوا جميعاً بالحصول على هذه البركة الرسولية ثم صعد البابا إلى إلى غرفه ليستريح فيها ثم نزل الساعة الخامسة بعد الظهر وقصد إلى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل حيث رفع صلاة الشكر وتبعه   مرافقيه ومستقبلوه وعدد غير قليل من الشعب

وفى صباح الخميس 2/1/1930م غادر البابا والوفدان الرسميان ومرافقوا البابا مدينة ديراداوا مستقلين القطار الخاص الذى كان يقف فى كل محطة فى الطريق وكان المسئولون سكتفون أحياناً بمجرد الوقوف ، ولكنهم فى غيرها من المحطات كانوا يقفون الفترة الكافية لغداء الضيوف ولتقبلهم باقات الزهور التى كان يحملها الأطفال  غلى قداسة البابا وقد كان البابا فى مثل هذه المناسبات كان يقول لهم كلمات روحية عميثة ويمنحهم بركته الرسولية.

وحينما تحرك القاطار من محطة مودجو رأى الجميع طيارتين تطيران على إرتفاع منخفض وتلقيان باقات من الزهور مربوطة يشرائط حريرية بألوالن العلم الأثيوبى ومشبوكة بأوراق مذهبة اللون مطبوع عليها باللغتين الأثيوبية والفرنسية ما ترجمته : " تستقبل أثيوبيا بملئ الفرح قداسة أبونا (6)  يوأنس بطريرك الإسكندرية والنوبة وأثيوبيا وأنا الطيار بأمر الملك تفرى ماكونن جئت لأنثر من الطائرة هذه الزهور إشتراكا فى الفرح ، الطيار مانيه"     

***************************

المراجع

(1) كانت جيبوتى من ضمن الإمبراطورية الإثيوبية فى ذلك الوقت      

(2) هذا ما وصف به يوسف جرجس إحتفال الأثيوبيين بالبابا فى كتابه عن البابا يوأنس ص 151

(3) وجود مدير مدرسة منليك دليل على بداية نشاط الأقباط التعليمى فى أثيوبيا بناء على رغبة البابا كيرلس الخامس

(4) كان عم الملك قد لقى مصرعه أثر سقوط طيارته التى كان يقودها بنفسه وحدث هذا الحدث أثناء الفترة التى قضاها البابا فى بورسعيد .

(5) جيبوتى دولة مستقلة الآن وعضو فى جامعة الدول العربية والغالبية يقطنها الصوماليين وقد سقطت بعد ذلك تحت الإحتلال الفرنسى إلى أن تم إجراء التصويت على الاستقلال في مايو 1977م، وتم تأسيس جيبوتي في 27 يونيو 1977م يقدر عدد سكانها بنحو 864,000 نسمة

(6) إن أكبر لقب يعطيه الأثيوبيين للراعى الأول افى الكنيسة الأثيوبية هو "أبونأ" وما زال الكثير من الأقباط يستعملون نفس التعبير عن أبوة البابا أو الأسقف أو الكاهن فيسبقون لقب البطرك بقولهم أبونا البطرك أو أبونا الأسقف أو أبونا الكاهن أو الكلمة العامية أبويا وقد كادت هذه الكلمة تختفى بعد أن حل محلها كلمة البابا وتقول المؤرخة أيريس حبيب المصرى هذا بعد أن حاد المسئولون عن إنتخاب راهب لمنصب البطريركية وإختاروا اساقفة أو مطارنة لهم إيبارشيات بحدود