Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

موت الأمبراطور قسطنطيوس وعودة مؤقته لأثناسيوس من المنفى 

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس هناكتفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
بولس اسقف القنسطنطينية
مجمع انطاكية وخلع أثناسيوس

 

هذه الفترة تقع بعد 30 سنة من بدء نزاع الهرطقة الأريوسية وأثناسيوس لا يزال يقاوم شرورها وجنونها وإرهابها حتى النهاية ، ولا يزال أمامها أيضاً 20 سنة أيضاً .

 وينبغى لنا أن نهئ أنفسنا إذ بلغنا " نهاية المتاهة " (3) وقد رأينا كيف قد بلغنا غاية اليقين عوض التذبذب والإرتباك ، وإلى الترتيب والنظام بدلاً من الفوضى والإرتباك .

موت الأمبراطور قسطنطيوس

وأثناء إقامة الأمبراطور قسطنطيوس فى أنطاكية أرسل يوليانوس ( إبن اخت قسطنطيوس) لحرب برابرة (إقليم الشمال ) ودحر جيشاً عظيماً منهم ، فأحبه الفرنسيون وأقاموه إمبراطور عليهم فأعلن نفسه قيصراً على الغرب يؤيده كل الشعب ، فلما علم بهذا الأمبراطور قسطنطيوس (خاله) تألم وغضب غضباً شديداً وعزم على إعلان الحرب عليه فجهز جيشاً بسرعة ، وتقبل قبل سفره المعمودية المؤجلة على يد الأريوسى الأسقف أيزويوس ، وإنطلق بعدها لقيادة الحملة ضد يوليانوس ، ولكن بينما كان يعبر جبال جوروس بدت عليه علامات التعب والقلق والإنهاك العقلى ، أصيب بعدها بالشلل ( إنفجار شريان فى المخ) فوقع ومات فى 3 نوفمبر سنة 361م بعد أن عاش 45 سنة (4)

وبموت قسطنطيوس صار يوليانوس إمبراطوراً على الغرب والشرق ، وقد كان مسيحياً ثم انكرها منذ شبابه وعاد إلى الوثنية ، وأشتهر فى التاريخ بأسم يوليانوس الجاحد .

قتل الأسقف الأريوسى الدخيل  جورج الكبادوكى

وأعلن فى الأسكندرية خبر تولى يوليانوس مقاليد الإمبراطورية شرقاً وغرباً رسمياً فى 30 نوفمبر سنة 361م ، ويقول الأب متى المسكين (1) [ وأيضاً راجع ص 270 من الكتاب السابق] فهلل وثنى الأسكندرية وأعتبروها فرصتهم فكان اول عمل عملوه أن قاموا على الأسقف الأريوسى الدخيل  جورج الكبادوكى الذى لم يمضى على وصله للأسكندرية أكثر من شهر ، وأخرجوه خارج الكنيسة وقتلوه فى 24 ديسمبر سنة 361م .

أمر من الأمبراطور يوليانوس برجوع الأساقفة المنفيين

بعد أن جلس يوليانوس على كرسى الإمبراطورية الرومانية أصدر أمراً برجوع الأساقفة الذين نفاهم الأمبراطور السابق قسطنطيوس إلى بلادهم ( ولكنهم لم يرجعوا لكراسيهم) ولم يكن ذلك منه توقيراً للكنيسة ومحبه لها لأنه كان يكن البغضاء ضد المسيحية ، ولكن إحتقاراً منه للمناقشات التى دارت بين هؤلاء الأساقفة (الجليلين حسب تعبيره) وإمعاناً فى الإستهزاء بقرارات الإمبراطور سلفه (5)

إنتهز البابا أثناسيوس هذه الفرصة ، ولأول مرة بعد ست سنوات ظهر ليلاً فى الإسكندرية بصحبة لوسيفر أسقف كلاريس بسردينيا ويوسابيوس أسقف فرشللى بإيطاليا اللذان كانا منفيين فى صعيد مصر ، وكان ذلك فى 22 فبراير سنة 362م فكان فرح شعب السكندرية والشعب القبطى كان عظيماً ولا يمكن التعبير عنه !! 

 ***************************************

المــــــــــــــــــــــــــــــراجع

(1) كتاب حقبة مضيئة فى تاريخ مصــر - بمناسبة مرور 16 قرناً على نياحته - القديس أثناسيوس الرسولى البابا العشرون 296 - 273 م سيرته , دفاعه عن الإيمان عند الأريوسيين , لاهوته - العلامة الروحانى الأب متى المسكين - عدد صفحاته 824 صفحة - الطبعة الثانية 2002 م  ص 315

(2) الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - كنيسة علم ولاهوت - طبعة تحضيرية 1986 م - القمص تادرس يعقوب ملطى

(3) Socrates. II. 41.

(4)  Socrates. II. 47.

(5)  D.C.B. Athanas p. 197.

 
الجزء التالى من كتاب التاريخ الكنسى لسوزمينوس  THE ECCLESIASTICAL HISTORY - OF Sozomen .. ترجمه من اليونانية : Chester d. Hartranft .. ونقله الى العربية : الدكتور/ بولا سـاويرس نقلا عن : NPNF, II, 1890 A.D.
**********************************************************************************************
الكتــاب الخـامـس
الكتاب الخامس: الفصل الأول
(ارتداد يوليانوس الخائن. وموت الامبراطور قنستانتيوس)

(5/1/1) هكذا كانت المعاملات التى جرت فى الكنيسة الشرقية. ومع ذلك هاجم فى نفس الوقت يوليانوس القيصر البرابرة الذين يسكنون على ضفاف نهر الراين Rhine وهزمهم، وقتل الكثيرين وأسر آخرين.
(5/1/2) ولما صعَّد النصر صيته بشدة، وكان محبوبا من الكتائب لِلُطفه واعتداله، جعلوه أوغسطسا. ولكن لكى لا يُتِح لقنستانتيوس أى عذرٍ فى هذا العمل قام بتغيير الضباط الذين انتخبهم قنستانتيوس، ونشر بحماس خطابات دورية حث فيها قنستانتيوس البرابرة على دخول المقاطعات الرومانية ومساعدته ضد ماجننتيوس. ثم غيَّر فجأة ديانته على الرغم من أنه كان قد أعلن سابقا مسيحيته. وأعلن نفسه رئيسَ كهنة([370])، وتردد مرارا على المعابد الوثنية، وقدَّم الذبائح، ودعا تابعيه على تبنى شكل العبادة هذا.
(5/1/3) ولما كان الغزو الفارسى على المقاطعات الرومانية([371]) وشيكا، وكان قنستانتيوس قد توجه إلى سوريا لهذا السبب ؛ ففكر يوليانوس فى أن يقيم نفسه سيدا على ايلليريكوم Illyricum بدون معركة. لذلك انطلق مسافرا إلى هذه المقاطعة تحت ستار أنه ينوى تقديم اعتذار لقنستناتيوس على أنه قبل بدون موافقته شعار السلطة الرومانية.
(5/1/4) ويقال أنه عندما وصل إلى حدود ايلليريا، ظهرت الكروم ممتلئة بعناقيد عنب أخضر على الرغم من أن وقت المحصول كان قد مضى، وظهرت ثريا([372])، وسقطت على اتباعه قطرات بإندفاع من ندى الجو كانت كل قطرة منها تطبع علامة الصليب. وقد اعتبر هو وكثيرون ممن معه ظهور العنب فى غير موسمه فألا حسنا بينما عمل الندى لهذه العلامة على الثياب التى تقع عليها هى من قبيل المصادفة([373]).
(5/1/5) بينما ذهب آخرون بالنسبة للرمزين إلى أن الأول وهو العنب الأخضر يعنى أن الإمبراطور سيموت قبل أوانه، وأن عهده سيكون قصيرا جدا، وأما الرمز الثانى وهو الصلبان الناجمة عن قطرات الندى، فهو يشير إلى أن الديانة المسيحية هى من السماء، وأن على جميع الأشخاص أن ينالوا علامة الصليب.
(5/1/6) وأنا، من جانبى، مقتنعٌ أن أولئك الذين كانوا يعتبرون هاتين الظاهرتين كفأل غير مواتٍ ليوليانوس لم يكونوا مخطئين، فإن مرور الزمن برهن على دقة رأيهم.
(5/1/7) وعندما سمع قنستانتيوس أن يوليانوس زاحف ضده على رأس جيش، عدَل عن حملته المزمعة ضد الفارسيين، ورحل إلى القنسطنطينية، ولكنه مات أثناء السفر عندما كان قد وصل إلى موبسوكرانيا Mopsucrenæ التى تقع بالقرب من طورس Taurusبين كيليكية وكبادوكيا.
(5/1/8) وقد مات فى السنة الخامسة والأربعين من عمره بعد أن حكم ثلاثة عشر سنة بالاشتراك مع أبيه قنسطنطين، وخمسة وعشرين سنة عقب موت ذلك الإمبراطور.
(5/1/9) وبعد موت قنستانتيوس بقليل، دخل يوليانوس الذى كان قد جعل نفسه بالفعل سيد تيراقية، القنسطنطينية وأُعلِن امبراطورا. ويؤكد الوثنيون أن الشياطين والآلهة قد تنبأوا بموت قنستانتيوس وبالتغير فى الأمور قبل سفره إلى غلاطية، فنصحوه([374])بالقيام بحملته.
(5/1/10) وكان ذلك يمكن أن يكون نبوة صحيحة لو لم تكن حياة يوليانوس قد انتهت بعد ذلك بوقت قصير جدا، وعندما ذاق فقط السلطة الإمبراطورية كما فى حلم. ولكنه يبدو لى أنه من السخف أن نصدّق أنها قد تنبأت بعد أن سمعت بموت قنستانتيوس، وأنه قد حُذِّر من أن مصيره سيكون السقوط فى المعركة على يد الفارسيين، وأن عليه أن يركض إلى موت ظاهر لا يقدِّم له أية شهرة فى العالم أكثر من نقص المشورة، وبؤس القيادة. ومَن ذا الذى كان سيسمح، لو كان قد عاش، بسقوط الجزء الأكبر من المقاطعات الرومانية تحت النير الفارسى. ومع ذلك أدرجتُ هذه الملاحظة لئلا أُلاَم على حذفها، تاركا كلَّ أحدٍ يكوّن رأيه الخاص.

الكتاب الخامس: الفصل الثانى
(حياة وتعلّم وتدّرب يوليانوس، وإعتلائه للإمبراطورية)

(5/2/1) وفى الحال عقب موت قنستانتيوس، ثار رعب الاضطهاد فى الكنيسة، وكان فزع المسيحيين من توقع هذه المصيبة أكثر مما لو كانت قد حدثت بالفعل. وقد نبعت هذه الحالة من حقيقة أن طول الزمن المنقضى جعلتهم غير معتادين على مخاطر كهذه، ومن تذكر العذابات التى حلت على أبائهم، ومن معرفتهم بكراهية الإمبراطور([375])لعقائدهم. فيقال أنه قد جحد الايمان بالمسيح بالكلية، وأنه طهَّر نفسه من معموديتنا بالذبائح والأضاحى التى يسميها الوثنيون الجحد، وبدماء الحيوانات.
(5/2/2) ومنذ ذلك الوقت انغمس فى احتفالات الطقوس الوثنية جهرا وسرا. ويُروَى أنه بينما كان يفحص فى ذات يوم أحشاء ذبيحة، وجد فيها صليبا مزخرفا بتاج، فأرعب هذا المظهر أولئك الذين كانوا يساعدون فى الاحتفال لأنهم أدركوا أن ذلك إشارة إلى قوة الدين وإلى ديمومة العقائد المسيحية الخالدة، بقدر ما أن التاج الذى تُوِّج به هو رمز الغلبة، وبسبب استمراريته([376]) لأن الدائرة تبدأ من نقطة وتنتهى فى ذاتها وليس لها أى حد فى أى اتجاه([377]). ولذا أمر رئيس العرافين يوليانوس أن يطمئن لأن الأضاحى فى تقديره كانت مواتية لأن شعار العقيدة المسيحية مغروس فى الحقيقة فيها على نحو لا ينتشر كما يريد بل محصُور بمحيط الدائرة([378]).
(5/2/3) وقد سمعتُ أيضا أن يوليانوس قد نزل ذات يوم إلى آديتومadytum ([379]) مشهور وأكثر رعبا، إما بقصد المشاركة فى شعائر الاستهلال([380])، وإما لإستشارة الوحى، وأنه بواسطة الحيل الخداعية التى تدبَّر لهذه الغاية، أو عن طريق السحر، ظهرت أمامه بغتة اشباح مرعبة ومن ثمة نتيجة للخوف والاضطراب من أولئك الذين ظهروا أمامه سقط بلا وعى فى عادته الأقدم ورسم نفسه بعلامة الصليب( إذ أنه دخل الدين الجديد وهو رجل) مثلما يفعل المسيحيون عندما يواجهون خطرا ما، فاختفت الأشباح فى الحال وتبدد قصدهم.([381])
(5/2/4) وإندهش المعلِّم([382])initiator من ذلك فى البداية، ولكنه عندما تقصى عن سبب هروب الشياطين، أعلن أن هذا الاجراء([383]) كان دنسا([384]). وبعد أن وعظ الإمبراطور بأن يتشجع ولا يتردد فى العمل أو الفكر من أى شىء يخص الديانة المسيحية، وجههه ثانية إلى شعائر الإنضمام.
(5/2/5) وأحزن حماس الملك لمثل هذه الأمور، المسيحيين ليس قليلا وجعلهم قلقين بشدة، وبالأخص لأنه هو نفسه كان مسيحيا فيما سبق، ووُلِد من أبوين تقيين واعتمد فى طفولته حسب عادة الكنيسة([385]) وترعرع فى معرفة الأسفار المقدسة، ورضع من الاساقفة ورجال الكنيسة.
(5/2/6) وكان هو وجالوس ابناء قنستانتيوس أخو أبى قنسطنطين الإمبراطور، وأخو دالماتيوس. وكان لدالماتيوس ابنا بذات الاسم الذى أُعلِن قيصرا، وقُتِل على يد الجنود بعد موت قنسطنطين. وكان سيشاركه فى مصيره جالوس ويوليانوس اللذين كانا آنذاك يتيمان، لولا أن جالوس كان يُعانى وقتها من مرض وأُفتُرِض أنه سيموت سريعا بسببه موتا طبيعيا، فنجا. أما يوليانوس فبسبب صباه، إذ كان يبلغ وقتها من العمر ثمانى سنوات، فقد نجا هو أيضا. وبعد هذا الحفظ العجيب أقام الأخوان معا فى قصر يُدعَى ماكلوم Macellum يقع فى كبادوكيا، وكان هذا الموقع الامبراطورى بالقرب من جبل أرجوس Argeus وليس بعيدا عن قيصرية وكان يشتمل على قصر فخم مزودا بحمامات وبساتين وينابيع عامرة. وهنا تثقفا وتعلّما على نحو يليق بكرامة مولدهما، وتعلَّما العلوم والممارسات البدنية التى تناسب عمرهما بواسطة مدرسين لغة ومفسرين للأسفار المقدسة لدرجة أنهما أحصيا بين الاكليروس وقرأ الأسفار المقدسة للشعب، ولم يكن سلوكهما ولا أعمالهما تشير إلى أى تقصير أو إهمال فى التقوى. لقد احترما الاكليروس والصالحين الآخرين والأشخاص الغيورين على العقيدة. وكانوا يتوجهون بإنتظام إلى الكنيسة ويُقدِّمون الإكرام لمقابر الشهداء.
(5/2/7) ويُقال أنهما تعهدا بإيداع قبر الشهيد ماماس فى مبنى ضخم، وأن يقسِّما العمل بينهما، وأنه بينما كانا يتنافسان فى الشرف، حدثت واقعة مدهشة جدا لدرجة أنها لا تصدَّق بتاتا لولا شهادة كثيرين مازالوا بيننا قد سمعوها ممن كانوا شهود عيان لهذا العمل. كان الجزء من البناء الذى يعمل فيه جالوس يتقدم بسرعة وحسب المطلوب، لكن الجزء الذى كان يعمل فيه يوليانوس تخرب بعضه، وقُلِع آخر من الأرض، وجزء ثالث لم يثبت عند مجرد لمسه إذ كان يرجع إلى الوراء كما لو كانت قوة قوية ومقاومة تدفع الجدار من أسفل.
(5/2/8) وأُعتبر ذلك معجزة على نطاق واسع، ومع ذلك لم يستخلص الناس أية نتيحة من هذه الواقعة، إلى أن أظهرت الأحداث التالية مغزاها. وكان هناك قلة بدأوا يتشككون فى حقيقة ايمان يوليانوس، وتشككوا فى أنه يتظاهر بمظهر التقوى خوفا من عدم رضا الإمبراطور الذى كان آنذاك مسيحيا، ولذلك أخفى مفاهيمه الخاصة إذ لم يكن من الآمان أن يبوح بها. وتأكد أنه كان مُقادا إلى التنكر لأبائه بإتصاله بالعرافين، لأنه عندما خفتت ضغينة قنستانتيوس ضد الأخوين ذهب جالوس إلى أسيا وأقام فى افسس بينما ظل الجزء الأكبر من ممتلكاته قائما.
(5/2/9) وتوجه يوليانوس إلى القنسطنطينية وتردد على المدارس حيث لم تعد قدراته الطبيعية واستعداده للتحصيل بخفية. وقد ظهر للعامة بثياب الشخص العادى وكانت له صحبة كبيرة، ولكن لمَّا كان قريبا للإمبراطور، وقادرا على تسيير الأمور إذ كان من المتوقع أن يصير امبرطورا، فقد كان الكلام السائد عنه، كما هو الحال فى المدينة الامبراطورية الكثيفة السكان، أنه شخص جدير بالإعتبار. لذلك أُمِر بالإعتزال فى نيقوميديا.
(5/2/10) وهنا تعرَّف على مكسيموس الفيلسوف الأفسسى الذى علَّمه الفلسفة([386]) وشحنه بالكراهية إزاء الديانة المسيحية([387])، وأكثر من ذلك أكد له أن النبوات التى قيلت عنه صحيحة. ومن ثمة تلطف([388]) يوليانوس، مثلما يحدث فى حالات كثيرة، وهو يتوقع ظروف قاسية بهذه الأمنيات الرقيقة واتخذ مكسيموس صديقا له. وعندما بلغت هذه الوقائع إلى آذان قنستانتيوس، جبن يوليانوس، وبناء عليه حلق وتبنى خارجيا نمط الحياة الرهبانية([389])، بينما كان يتمسك سراً بالديانة الأخرى.
(5/2/11) وعندما بلغ سن الرجولة، صار مفتونا بالأكثر ومعجبا بفن(إن كان ذلك فنا) قراءة الطالع ومنشغلا بهذه الميول، وظن أن معرفته([390]) أمرا ضروريا، ومن ثمة ازداد فى مثل هذه الأمور كما لو كان ليس أمينا للمسيحيين. ومنذ هذه اللحظة اتحذ له اصدقاء ممن يتبعون هذه الحرفة. وبهذا الفكر جاء إلى اسيا من نيقوميديا، وهناك تآلف مع أناس من اصحاب هذه الممارسات وصار اكثر حماسا فى تتبع العرافين.
(5/2/12) وعندما قُتِل جالوس أخيه الذى قد أُعلِن قيصرا عقب إتهامه بثورة، شك قنستانتيوس أيضا فى تطلع يوليانوس إلى الإمبراطورية لذلك وضعه تحت الحراسة. وحصلت يوسيبيا Eusebiaزوجة قنستانتيوس([391]) على إذن من أجله بالإعتزال فى اثينا، ومن ثمة أقام هناك تحت زعم حضور المدارس والممارسات الوثنية، ولكن كما تقول الإشاعات كان يتصل بالعرافين بشأن مشروعاته المستقبلية.
(5/2/13) فإستدعاه قنستانتيوس وجعله قيصرا، ووعده بتزويجه من أخته، وأرسله إلى الغال لأن البرابرة الذين استأجرهم سابقا ضد ماجننتيوس إذ وجدوا أن خدماتهم غير مطلوبة، استولوا على ذلك البلد. ولما كان يوليانوس شابا فقد أُرسِل معه جنرالات على دراية بالأمور التحوطية. ولكن لما كان هؤلاء الجنرالات قد سلَّموا ذواتهم للملذات، وكان هو مهيأ للحرب كقيصر لذا هيأ جنوده معنويا للمعركة وحثهم على مواجهة الخطر وأمر بأن تُوهَب مكافأة معينة لكل مَن يقتل بربريا. وبعد أن ألهب هكذا عواطف الجنود، كتب إلى قنستانتيوس ليُطلعه على خفة الجنرالات. فلما أرسل إليه جنرالا آخر هاجم البربر وحقق نصرا، فأرسلوا سفارة يلتمسون السلام وأظهروا الرسالة التى يطلب فيها قنستانتيوس منهم دخول المقاطعات الرومانية.
(5/2/14) فأجَّل عن عمد عودة السفارة، وهاجم عددا من الأعداء وغلبهم. وقد قيل أن قنستانتيوس من باب العداوة له قد دبَّر هذه الحيلة، ولكن هذا لا يبدو محتملا لى لأنه لما كان قنستانتيوس قد استقر من نفسه على جعله قيصرا، فلماذا يُسبِغ عليه هذا اللقب ويعطيه أخته زوجة، ويستجيب لشكواه من عدم كفاءة الجنرالات ويرسل له جنرالا مناسبا بدلا منهم ليُكمِل الحرب إن لم يكن صديقا ليوليانوس؟.
ولكن، حسب تخمينى، أنعم عليه بلقب قيصر لأنه كان حسن النية نحو يوليانوس، ولكن لما أُعلِن امبراطورا بدون موافقته، تآمر ضده بواسطة برابرة الراين. وأظن أن هذه النتيجة ناتجة عن الخوف من أن يسعى يوليانوس إلى الانتقام من سوء المعاملة له هو وأخوه جالوس الذى عانا منها فى شبابهما، أو كما هو طبيعى من الغيرة لحصوله على شرف مماثل. ولكن آراء متعددة كثيرة ترِد بشأن هذا الموضوع.

الكتاب الخامس: الفصل الثالث
( عندما استقر يوليانوس فى الحكم بدأ يُدخِل بمكر الوثنية، ويهيج المعارضين للمسيحية)

(5/3/1) وعندما وجد يوليانوس نفسه الحائز المفرد للإمبراطورية، أمر بإعادة فتح سائر المعابد الوثنية فى سائر أرجاء الشرق، وإصلاح تلك التى أُهمِلت وإعادة بناء ما قد تخرب، واسترداد المذابح. وخصص مبلغا معقولا لهذا الغرض. وأعاد عادة الاحتفال بالسلف، وبالعاديات فى المدن وممارسة تقديم الأضاحى. وقدَّم هو نفسه سكيبا جهرا، وذبائح صراحة. وأنعم بالكرامة على المتحمسين بإنجاز مثل هذه الاحتفالات؛ وأعاد للكهنة والمعلميِّن والهيروفانتس([392]) hierophants ، وخدم الاصنام امتيازاتهم القديمة؛ وأكد شرعية الأباطرة السابقين فى سلوكهم، ومنحهم اعفاء من الواجبات والأعباء الأخرى كما كانت حقوقهم السابقة. وردَّ لحرس المعابد المؤن التى كانت قد أُلغيت، وأمرهم أن يتنقوا من اللحوم وأن يمتنعوا عن كل ما هو حسب الأقوال الوثنية ملائما لذاك الذى جعل غرضه السلوك فى حياة نقية [!!]. كما أمر بأن يُعهَد بمقياس النيل والرموز والألواح السلفية السابقة لمعبد سيرابيس بدلا من وضعها حسب التشريع الذى وضعه قنسطنطين فى الكنيسة. وكتب مرار إلى سكان تلك المدن التى عرف أن الوثنية قد تلاشت فيها، وسألهم أية هبات يريدون.
(5/3/2) أما بالنسبة للمسيحيين، فقد أظهر لهم صراحة مقته، رافضا تشريفهم بحضرته، أو السماح بإستقبال مبعوثيهم الذين كانوا مكلفين بإخطاره بأحزانهم. وعندما التمس سكان نصيبين معونته ضد الفارسيين الذين كانوا على وشك غزو المقاطعات الرومانية، رفض أن يساعدهم لأنهم كانوا جميعا مسيحيين ورفضوا إعادة فتح المعابد[الوثنية] أو العودة إلى المواضع المقدسة[الوثتية].
(5/3/3) وبالمثل اتهم سكان قنسطانطيا بفلسطين بإلتصاقهم بالمسيحية وأعطى جزية مدينتهم لمدينة غزة. وكانت قنسطانطيا تُدعى سابقا مايوما، وكانت تُستخدَم كمرفأ لبواخر غزة، ولكن عند سماع أن غالبية سكانها من المسيحيين رفعها قنسطنطين إلى مرتبة مدينة وأسبغ عليها اسم ابنه ووهبها شكلا معينا للحكم، لأنه اعتبر أنه لا ينبغى أن تعتمد على غزة المدينة المدمنة للطقوس الوثنية.
(5/3/4) وعند اعتلاء يوليانوس[للعرش] ذهب مواطنو غزة لمقاضاة مواطنى قنسطانطيا، وجلس الإمبراطور بنفسه كقاضى، وحكم لصالح غزة وأمر أن تكون قنسطانطيا ملحقة لغزة على الرغم من أنها تقع على مسافة عشرين استدايا منها، وألغى اسمها القديم، وظهرت منذ ذلك الحين كمنطقة بحرية لغزة، ولها الآن نفس ماجستريت المدينة والضباط الحربيين والتشريعات العامة.
(5/3/5) أما بخصوص الأمور الكنسية فما زالا مع ذلك تُعتبران مدينتان. فلكل منهما اسقفها الخاص بها واكليروس خاص بها وهما يحتفلان بأعياد قديسيهما الخاصين بكل منهما، وبتذكار الكهنة([393]) الذين قادوهما على التوالى. ومازالت حدود الحقول المتاخمة التى بها مذابح تخص كل من الاسقفيتيَن، محفوظة.
(5/3/6) وقد حدث على ما أذكر أن محاولة قد جرت من اسقف غزة عند وفاة رئيس كهنة مايوما، لضم اكليروس تلك المدينة إلى أولئك الذين تحت اشرافه، وكانت الحجة التى أوردها أنه ليس شرعيا أن يكون هناك اسقفان على مدينة واحدة. فإعترض سكان مايوما على هذا المخطط، ولما علِم مجمع الإقليم بهذه المنازعة رسم اسقفا آخر. وقرر المجمع أنهم جميعا على صواب لأن اولئك المستحقين لكرامة مدينة بسبب تقواهم يجب ألا يُحرَموا من الامتياز الممنوح لهم بالكهنوت ورتبة كنائسهم بسبب قرار اتخذه امبراطور وثنى على اساس مختلف.

الكتاب الخامس: الفصل الرابع
(يوليانوس يجلب الشرور على قيصرية. شجاعة ماريس اسقف خلقيدون)

(5/4/1) وفى نفس ذلك الوقت محا الإمبراطور قيصرية، متروبولية كبادوكية الكبيرة والثرية، والتى كانت تقع بالقرب من جبل أرجوس، من كتالوج المدن؛ بل وحرمها من اسم قيصرية ذلك الإسم الذى أُنعِم به عليها فى عهد كلوديوس قيصر، فقد كان اسمها مازقا Mazaca.
(5/4/2) فلقد نظر إلى سكان هذه المدينة بمقت شديد للغاية لأمد طويل لأنهم كانوا متعلقين بالمسيحية بشدة، وكانوا قد أزالوا سابقا معبدى ابوللو وجوبيتر حارسى المدينة. وكان المعبد المخصص [لإلهة] الحظ([394]) هو الوحيد الباقى فى تلك المدينة. وهذا كان قد هدمه المسيحيون عقب اعتلائه.
(5/4/3) وعندما سمع الإمبراطور بذلك كره كل المدينة بشدة وبالكاد صبر عليها. ولكنه لام الوثنيين أيضا، الذين كانوا عددا قليلا، لأنه كان عليهم أن يسرعوا إلى المعبد وإذا اقتضت الضرورة أن يتألموا بإبتهاج من أجل "فورتانا". وأمر بالاستيلاء على الممتلكات والأموال التى تخص كنائس المدينة وضواحى قيصرية. وحصل من هذا المصدر على نحو ثلاثمائة جنيه ذهب ونقلها إلى الخزانة العامة.
(5/4/4) وأمر أيضا بضم سائر الاكليروس إلى الكتائب التى تحت اشراف حاكم المقاطعة([395])، وكانت تعتبر اكثر الخدمات انحطاطا، وأكثرها شقاءَ بين الرومان. وأمر بإحصاء المسيحيين وخاصة النساء والأطفال على وجه الحصر، وفرض عليهم ضريبة شاقة كتلك التى تخضع لها القرى([396]). وهدد أيضا أنه ما لم يُعَاد بناء المعابد بسرعة فلن يكبح سخطه بل سيصبه على المدينة إلى أن لا يبقى أحدٌ من الجليليين فى الوجود، لأن هذا كان الإسم الذى يُطلقه على المسيحيين([397]).
وما من شك فى أن دنائته كانت ستتم بالتمام لو لم يحل موته سريعا.
(5/4/5) ولم يكن من قبيل أية مشاعر شفقة نحو المسيحيين أن عاملهم أولا بإنسانية كبيرة عما ظهر من مضطهديهم السابقين، ولكن لأنه اكتشف أن الوثنية لم تكسب أى شىء من تعذيبهم بينما تزايدت المسيحية بصفة خاصة، وصارت أكثر تكريما بموت أولئك الذين ماتوا دفاعا عن الايمان. لقد كان، ببساطة، الحسد من مجدهم([398])، فبدلا من استخدام النار ضدهم وتشويه أبدانهم مثل المضطهدين السابقين، وبدلا من رميهم فى البحار أو دفنهم أحياء لإجبارهم على تغيير مفاهيمهم لجأ إلى الحجة والاقناع، وظن أنه بهذ الوسيلة يردهم إلى الوثنية، وتوقع تحقيق مبتغاه بأكثر سهولة بهجر كل وسائل العنف وبإظهار الأريحية غير المتوقعة.
(5/4/6) ويُقال أنه فى إحدى المرات التى كان يُقدِّم فيها الذبائح فى معبد "فورتانا" يالقنسطنطينية، ظهر ماريس اسقف خلقيدون بنفسه أمامه ووبخه كرجل لا دينى وملحد وجاحد. ولم يجد يوليانوس ردا على توبيخه سوى [نعته] بالعمى لأن بصره كان قد كلَّ بالشيخوخة، وأنه يُقَاد كطفل ثم أضاف بعد ذلك، كعادته فى التكلم بالتجاديف، ساخرا أن الجليلى إلهك لن يشفيك. فأجاب ماريس "اشكر الله على عماى الذى يمنعنى من مشاهدة ذاك الذى سقط من ديانتنا". ولم يرد يوليانوس على هذا لأنه اعتبر الوثنية ستنمو بإظهار الصبر والرقة نحو المسيحيين.

الكتاب الخامس: الفصل الخامس
(يوليانوس يرد الحرية للمسيحيين ليُحدِث متاعبا أكثر داخل الكنائس. والمعاملة الشريرة المبتكرة للمسيحيين)

(5/5/1) وانطلاقا من هذه الدوافع([399])، استدعى يوليانوس جميع المسيحيين الذين نفيوا خلال عهد قنستانتيوس بسبب مفاهيمهم الدينية ورد لهم ممتلكاتهم التى صودرت حسب القانون. وأمر الشعب بعدم القيام بأى ظلم للمسيحيين أو أى إهانة وعدم اجبارهم على تقديم الذبائح بالإكراه. وأمر أنه إذا اقتربوا من المذابح([400]) بكامل إرادتهم فعليهم أولا أن يسترضوا الشياطين الذين يعتبرهم الوثنيون قادرين على منع الشر، وأن يتنقوا([401]) بواسطة اسلوب الفدية المعتادة.
(5/5/2) ومع ذلك حرم الكهنة من الحصانة والشرف والمؤونة التى كان قنستانتيوس قد أنعم بها عليهم. وألغى القوانين التى سنها لصالحهم وعزز التزاماتهم، بل ألزم حتى العذارى([402]) والأرامل اللواتى حُسِبن بسبب فقرهن ضمن الاكليروس على رد المؤونة التى خُصِصت لهن من المصادر العامة([403]). لأن قنسطنطين عندما نظم الشؤون الزمنية للكنيسة خصص قدرا معقولا من الضرائب المفروضة على كل مدينة لخدمة الاكليروس فى كل مكان. ولكى يضمن استقرار هذه الترتيبات سن قانونا ظل سارى المفعول منذ وفاة يوليانوس([404])Julian وإلى يومنا هذا.
(5/5/3) وقالوا أن هذه المعاملة كانت قاسية جدا وصارمة كما هو ظاهر من الايصالات التى كانت يعطيها المتلقون للأموال لأولئك المغتصبون والتى يُنَص فيها على أن الممتلكات المستلمة طبقا لقانون قنسطنطين قد تم ردها.
(5/5/4) ومع ذلك لم يستطع شىء أن يُنقِص من كراهية هذا الحاكم ضد الديانة [المسيحية]. ففى كراهيته الشديدة للإيمان، انتهز كل فرصة لتدمير الكنيسة. فقد جردها من كل مِلكية ونذور وأوانى مقدسة. وحكم على أولئك الذين دمروا المعابد خلال عهود قنسطنطين وقنستانتيوس بإعادة بناؤها أو بتزويد نفقات إعادة تشييدها. وعلى هذا الأساس إذ كانوا غير قادرين على دفع المبالغ أيضا بسبب مصادرة الأموال المقدسة، عُذِّب الكثيرون من الاكليروس والكهنة والمسيحيين الآخرين بقسوة، وطُرِحوا فى السجن.
(5/5/5) ويمكننا أن نخلص مما قيل أنه إذا كان يوليانوس قد سفك دماءً أقل من المضطِّهدين السابقين للكنيسة، وأنه إن كان قد أوقع عقوبات تعذيب أقل للبدن إلاَّ أنه كان اقساهم من جميع النواحى، إذ ألحق بهم الشر بكافة الطرق. [وحتى] إعادته للكهنة الذين حُكِم عليهم بالنفى من قِبل الإمبراطور قنستانتيوس، يُقال([405]) أنه قد أصدر هذا الأمر لصالحهم ليس من باب الرحمة ولكن لإثارة النزاع فيما بينهم([406])، ولكى ما تنغمس الكنائس فى الكراهية المتبادلة أيضا([407]) وتخفق فى حقوقها الخاصة. أو لأنه أراد أن يذم قنستانتيوس، فقد افترض أنه يقدر أن يجلب البغضة للمَلكية المائته من جميع النواحى، وذلك بإظهار العطف على الوثنيين الذين كانت لهم نفس مفاهيمه، وبإظهار الشفقة نحو أولئك الذين تألموا من أجل المسيح وعوملوا بغبن.
(5/5/6) وطرد الخصيان من القصر لأن الإمبراطور السابق كان ودودا معهم. وحكم على يوسيبيوس حاكم البلاط الامبراطورى بالموت عندما شك فى أنه بمشورته قد قُتِل جالوس أخيه. واستدعى اتيوس قائد الهرطقة الأنومية من الاقليم الذى نفاه إليه قنستانتيوس والذى كان محل شك بسبب صداقته لجالوس، وأرسل إليه يوليانوس خطابات مفعمة بالعطف وزوده بوسيلة نقل عامة. ولسبب مماثل حكم على ايليوسيوس اسقف سيزيكوس بغرامة ثقيلة لإعادة بناء كنيسة تخص النوفاتيين، كان قد دمرها فى عهد قنستانتيوس وذلك خلال شهرين وعلى نفقته الخاصة. وهناك أشياء ثقيلة فعلها من كراهيته لسلفه، سواء نفذها بنفسه أو سمح لآخرين بإنجازها.
الكتاب الخامس: الفصل السادس
(أثناسيوس بعد اختبائه لسبع([408]) سنوات فى دار عذراء حكيمة وجميلة، يعود للظهور جهرا فى ذلك الوقت، ويدخل كنيسة الأسكندرية )
(5/6/1) وفى هذه الفترة إذ سمع أثناسيوس الذى ظل مدة طويلة فى مخبأه عن موت قنستانتيوس، ظهر ليلا فى كنيسة الأسكندرية. وأثار ظهوره غير المتوقع أقصى اندهاش. فقد كان قد هرب من الوقوع فى يد حاكم مصر الذى، بناء على أمر الإمبراطور وطلب اصدقاء جورج، كان قد خطط للقبض عليه كما سبق أن دونا. فإختبأ فى منزل عذراء قديسة فى الأسكندرية. ويُقال أنها كانت موهوبة بجمال غير عادى لدرجة أن مَن كان يُشاهدها كان كمن شاهد ظاهرة طبيعية. وكان الفطنون والكابحين لأنفسهم يبتعدون عنها حتى لا يُوجَّه ضدهم أى لومٍ بسبب أى شكٍ. وكانت فى عز زهرة شبابها، وكانت فطنة للغاية ووديعة، وهى صفات كفيلة وحدها لأن تزين الجسد حتى لو لم تكن الطبيعة مُعِينة [له] بهباتها. لأنه ليس صحيحا كما يدَّعِى البعض أنه حسبما يكون الجسد هكذا تكون النفس؛ بل على العكس يتشكل سلوك الجسد تبعا لنشاط النفس. وأى شخص نشيط على نحو ما سيظهر بتلك الطبيعة طالما هو منشغل بهذا النشاط. وهذه الحقيقة كما نظن مقبولة من جميع الذين فحصوا الأمر بدقة.
(5/6/2) فيُروَى([409]) أن أثناسيوس قد لجأ إلى منزل هذه العذراء القديسة برؤيا من الله الذى قصد أن ينقذه بهذا الأسلوب.
(5/6/3) وعندما أفكر فى النتيجة التى تلت ذلك، لا أقدر أن أشك فى أن جميع الأحداث قد وُجِّهت من الله، لدرجة أن اقارب أثناسيوس ما كانوا ليحزنوا لو أن شخصا ما حاول أن يُزعجهم بسببه وأجبرهم على أن يُقسِموا. ولم يكن لدى الكهنة ما يوحى بشبهة اختفائه لدى هذه العذراء المحبوبة. ومع ذلك كان لديها الشجاعة فى أن تستقبله؛ وتحفظ بفطنتها حياته. لقد كانت حارسه الأمين، وخادمه المجتهد إذ كانت تغسل قدميه وتُحضِر له الطعام؛ وكانت تخدمه وحدها فى سائر الضرورات الأخرى التى تتطلبها الطبيعة، وكانت تُحضِر له ما يحتاج إليه من كتب بواسطة آخرين. وخلال الزمن الطويل الذى كانت تتم فيه هذه الخدمات لم يعرف أحدُ من سكان الأسكندرية أى شىء عنه.

الكتاب الخامس: الفصل السابع
(موت جورج اسقف الاسكندرية المفجع. نتائج أحداث معبد ميثرا. خطاب يوليانوس فى هذه الظروف العصيبة)

(5/7/1) وبعد أن حُفِظ أثناسيوس بهذه الطريقة الحكيمة، وظهر فجأة فى الكنيسة دون أن يعرف أحدٌ متى جاء، ابتهج مع ذلك شعب الأسكندرية بعودته واستردوا له كنائسه.
(5/7/2) وإذ طُرِد الاريوسيون هكذا من الكنائس، اضطروا إلى عقد اجتماعاتهم فى المنازل الخاصة، واقاموا لوكيوس Lucius محل جورج اسقفا لهرطقتهم. وكان جورج قد قُتِل بالفعل لأنه عندما أعلن الماجستريت للعامة موت قنستانتيوس، وأن يوليانوس هو الحاكم المفرد أثار الوثنيون الاسكندريون شغبا وهاجموا جورج وهم يصيحون ويوبخون وكأنهم سيقتلونه فى الحال. وأخذه قادة هذا الهياج وسجنوه. وبعد ذلك بقليل، اندفعوا باكرا فى الصباح إلى السجن وقتلوه ووضعوا جثته فوق جمل. وبعد أن عرَّضوها طوال النهار لكل إهانة أحرقوها عند قدوم الليل.
(5/7/3) ولست أجهل أن الهراطقة الأريوسيين قد أشاعوا أن جورج قد لقى هذه المعاملة القاسية من اتباع أثناسيوس([410]).
(5/7/4) ولكن، يبدو لى أن الأكثر إحتمالا هو أن الجناة لهذه الأعمال هم الوثنيون لأن لهم أكثر من سبب، أكثر من أى جماعة أخرى من الناس، لكراهيته وبصفة خاصة بسبب الإهانات التى ألحقها بأصنامهم ومعابدهم؛ وأكثر من ذلك حظره لهم من إقامة الذبائح أو ممارسة طقوس السلف بالإضافة إلى النفوذ الذى حازه فى القصُور والذى عمَّق الكراهية له، فاعتبروه، كمثل شعور الناس نحو مَن هم فى سلطة، [شخصا] لا يُطَاق.
(5/7/5) وأيضا وقعت مصيبة فى بقعة تُدعَى ميثريم Mithrium. وكانت أصلا صحراء وهبها قنستانتيوس لكنيسة الأسكندرية. وبينما كان جورج([411]) ينظف الارض لكى يقيم بيتا للصلاة، اكتشف آديتوم([412])، واكتشف فيه تماثيل وبعض أدوات الانضمام أو التطهر التى بدت غريبة ومضحكة للمشاهدين([413]). فطلب المسيحيون([414]) أن تُعرَض جهارا، وعملوا موكبا لأجل إغاظة الوثنيين.
(5/7/6) ولكن الوثنيين احتشدوا معا واندفعوا وهاجموا المسيحيين، بعدما سلَّحوا أنفسهم بالسيوف والحجارة وبأى سلاح تصل إليه أياديهم، وقتلوا الكثيرين من المسيحيين. وللسخرية بديانتهم صلبوا آخرين، وتركوا كثيرين جرحى. وأدى ذلك إلى هجر العمل الذى بدأه المسيحيون، بينما قتل الوثنيون جورج بمجرد أن سمعوا عن اعتلاء يوليانوس لعرش الامبراطورية.
(5/7/7) وهذ الواقعة، قد سلَّم بها الإمبراطور نفسه والذى ما كان ليعترف بها لولا أن الحقيقة قد أجبرته على ذلك. فأننى أظن أنه كان يود أن يكون المسيحيين أيا كانوا، وليس الوثنيون، هم قتلة جورج، ولكن ذلك لم يستطع أن يخفيه. وهذا ظاهر فى الخطاب([415]) الذى كتبه فى هذا الصدد إلى سكان الاسكندرية، والذى يعرض فيه آراء قاسية. ففى هذا الخطاب يوبخ فقط، ويعبر على العقاب، لأنه يقول أنه يخشى سيرابيس معبودهم الحارس[للمدينة] والاسكندر مؤسسها، ويوليانوس عمه الذى كان سابقا حاكما لمصر والاسكندرية. وهذا الأخير كان محبوبا جدا من الوثنيين، ويكره المسيحيين للغاية حتى أنه وضدا لرغبة الإمبراطور اضطهدهم إلى الموت.
الكتاب الخامس: الفصل الثامن
(بشأن ثيودور حارس الأوانى المقدسة فى انطاكية، وكيف سقط يوليانوس عم هذا الطاغية بسبب هذه الأوانى فريسة للدود)
(5/8/1) ويُقال أنه عندما عزم يوليانوس عم الإمبراطور على نقل هبات نذور كنيسة انطاكية التى كانت كثيرة وباهظة القيمة إلى الخزانة الإمبراطوية، وعلى غلق أماكن الصلاة أيضا، فر جميع الإكليروس.
(5/8/2) ولكن كاهنا اسمه ثيودوريتس Theodoritus وحده، لم يغادر المدينة. فقبض عليه يوليانوس بوصفه حارس الكنوز وقادر على إعطائه معلومات عنها وشوهه بدرجة مرعبة، وأخيرا أمر بقتله بالسيف بعد أن أجاب بشجاعة تحت كل عذاب وشهد جيدا لإعترافه العقيدى.
(5/8/3) وعندما حصل يوليانوس على غنيمة الأوانى المقدسة طرحها على الأرض وبدأ يسخر ويُجدِّف على المسيح بقدر ما شاء، ثم جلس عليها وتمادى بأعمال مشينة. وفى الحال تلفَت أعضاءه التناسلية والمستقيم، وتعفن لحمها وتحول إلى دود. وكان المرض يجاوز مهارة الأطباء، ومع ذلك من باب الاحترام للإمبراطور والخوف منه، لجأوا إلى تجربة كل أنواع الأدوية وذُبِِحت أغلى الطيور ليدهن بشحمها الأجزاء التالفة على أمل أن يخرج الدود إلى السطح، ولكن جميعها كان بلا أثر إذ كان [الدود] غائرا بعمق ويزحف إلى الأعضاء الحية، ولم يكف عن إلتهامها إلى أن وضع نهاية لحياته.
(5/8/4) ويبدو أن هذه المصيبة كانت بلاء من الغضب الإلهى لأن حارس الخزانة الإمبراطورية ورئيس ضباط البلاط اللذان سطيا على الكنيسة قد ماتا بأسلوب غير عادى ومرعب كحُكم من السخط الإلهى.

الكتاب الخامس: الفصل التاسع
(استشهاد القديسين يوسيبيوس ونستابوس وزينو فى مدينة غزة)

(5/9/1) وإذ تقدمتُ هكذا فى تاريخى إلى هذا الحد ورويتُ موت جورج وثيودريتوس، فإننى احسب من الصواب أن أروى بعض الأمور الخاصة بشأن وفاة الإخوة الثلاث يوسيبيوس ونستابوس وزينو سكان غزة الذين اندفعوا إليهم وهم ملتهبون بالغضب عليهم وجرّوهم من منزلهم الذى اختفوا فيه وطرحوهم فى السجن، وضربوهم. ثم اجتمعوا فى المسرح وصاحوا ضدهم بصوتٍ عالى معلنين أنهم قد دنسوا مقدسات معابدهم وأنهم انتهزوا الفرصة الماضية لإلحاق الضرر وإهانة الوثنية. وبهذا الصياح وتحريض بعضهم بعضا على قتل الإخوة امتلأوا حنقا وتحريضا متبادلا، وكما يفعل الجمهور عادة فى ثورة اندفعوا إلى السجن وعاملوا الرجال بقسوة شديدة [وطرحوهم] أرضا على ظهورهم تارة وعلى وجوههم تارة أخرى وجروا الضحايا وسحقوهم إربا على حجارة الطريق.
(5/9/2) وقد قيل لى أنه حتى النساء قد تركن فلكات مغازلهن، وثقبوهم بمثاقب الغزل، وأن الطهاة فى الأسواق قد انتشلوا من قدورهم الرغاوى مع ماء ساخن وسكبوه على الضحايا، وأشبعوهم بصاقا. وعندما مزقوا لحومهم وسحقوا جماجمهم حتى سالت مخاخهم على الأرض جرَّوا أجسادهم خارج المدينة، وألقوها فى موضع يُستخدَم بصفة عامة كبِركة لجثث الحيوانات وأشعلوا فيها نارا كبيرة وأحرقوها، وخلطوا العظام الباقية بدون إحتراق بعظام الجمال والحمير حتى لا توجد بسهولة.
(5/9/3) ولكنها لم تختف طويلا ذلك أن إمرأة مسيحية كانت ساكنة هناك رغم أنها لم تكن من مواطنى غزة قد جمعت العظام ليلا بتوجيه من الله، ووضعتها فى إناء من الفخار وأعطتها لزينو ابن عمهم ليحفظها، لأن الله أعلمها بذلك فى حلم وارشدها إلى أين يعيش الرجل، وأظهره لها قبل أن تراه لأنها لم تكن تعرف قبلا زينو، لأنه لما ثار الاضطهاد حديثا ظل مختفيا، فقد كان على وشك القبض عليه من شعب غزة وإماتته، ولكنه استطاع الهرب فى وسط انشغال الناس بقتل أبناء عمه وهرب إلى أنثيدون Anthedonالمدينة البحرية على مسافة عشرين استناديا من غزة، وكانت بالمثل مشايعة للوثنية ومخصصة لعبادة الاصنام. وعندما اكتشف سكان هذه المدينة أنه مسيحى ضربوه بشدة بالعصى على ظهره وطردوه من المدينة. فهرب عندئذ إلى ميناء غزة وأخفى نفسه. وهنا وجدته المرأة وأعطته البقايا، فإحتفظ بها بعناية إلى زمن ثيودوسيوس عندما رُسِم اسقفا وأقام بيتا للصلاة فى خارج أسوار المدينة ووضع مذبحا هناك، وأودع العظام بالقرب من تلك التى لنستور المعترف.
(5/9/4) وكان نستور هذا على علاقة وثيقة بأبناء عمه وقُبِض عليه معهم من شعب غزة وسُجِن وأُهِين. ولكن هؤلاء الذين جرّوه فى المدينة تأثروا بجماله الشخصى فأشفقوا عليه، وألقوه قبل أن يموت بالفعل خارج المدينة. فوجده بعض الأشخاص وحملوه إلى منزل زينو حيث لفظ أنفاسه أثناء تضميد جروحه وقطوعه. وعندما بدأ سكان غزة يفكرون فى عدد الجرائم التى ارتكبوها ارتعدوا لئلا ينتقم منهم الإمبراطور.
(5/9/5) وقد أُفِيد أن الإمبراطور قد استشاط غضبا وصمَّم على معاقبة الديكوريا decuria([416])، ولكن هذا الخبر زائف وليس له أى أساس خلاف الخوف والإتهام الذاتى بالجرائم. فلقد كان يوليانوس أبعد ما يكون عن الغضب ضدهم، فكما ظهر ضد الاسكندريين عند مقتل جورج، لم يكتب حتى خطاب تأنيب ضد شعب غزة. بل على العكس، عزل حاكم المقاطعة واعتبره محل شبهات، وتظاهر بأن الرأفة وحدها تمنعه من إماتته. وكانت الجريمة المنسوبة إليه هى أنه قبض على بعض سكان غزة الذين أفادت التقارير أنهم قد بدأوا الشغب والقتل، وسجنهم إلى أن تتم محاكمتهم طبقا للقانون.
(5/9/6) فقد تساءل الإمبراطور بأى حق قد فعل ذلك أن يقبض على المواطنين لمجرد الثأر لحفنة من الجليليين تعرضوا للأذى هم وآلهتهم؟. هذه هى حقيقة الأمر كما يُقال.

الكتاب الخامس: الفصل العاشر
(بشأن القديس هيلاريون، وعذارى هليوبوليس اللواتى هلكن بالخنازير، والاستشهاد الغريب لأسقف أرثوسا)

(5/10/1) وفى نفس الوقت بحث سكان غزة عن الراهب هيلاريون، ولكنه كان قد فر إلى صقلية. وهناك اشتغل بجمع الخشب من الصحارى ومن على الجبال، وكان يحملها على كتفيه ليبيعها فى المدن. وبهذه الوسيلة يحصل على الطعام الكافى للجسد. وأخيرا، تعرف عليه رجل ذو جودة كان قد طرد منه شيطانا، فإعتزل فى دلماطيا Dalmatiaوهناك بقوة الله انجز العديد من المعجزات، وبواسطة الصلاة حجز فيضان البحر، وحجز الأمواج فى حدودها ثم رحل ثانية، إذ لم تكن مسرته أن يعيش بين مَن يمدحوه، ولذا كان يُغيِّر محل اقامته لأنه كان يرغب فى أن يعيش بلا ملاحظة، وبإنتقاله المتكرر كان يتخلص من الشهرة التى تسود عليه. وأخيرا أبحر إلى جزيرة قبرص، وأقام فى بافوس Paphos. وبمناشدة اسقف قبرص، أحب الحياة هناك ومارس الفلسفة([417]) فى مكان يُدعى كاربوريس Charburis.
(5/10/2) لقد هرب من الاستشهاد بالفرار عملا بالوصية الإلهية ألاَّ نعرِّض أنفسنا للإضطهاد ولكن إن وقعنا فى يد مضطهدينا نتغلب على ظلم المقاومين بجلَدنا([418]).
(5/10/3) ولم يكن سكان غزة والأسكندرية هم فقط الذين يمارسون هذه الأعمال الوحشية ضد المسيحيين كما وصفتها. فإن سكان هليوبوليس([419]) بالقرب من جبل ليبانوس Libanus وجبل ارثوسا Arethusa([420]) بسوريا، يبدو أنهم قد فاقوهم فى القسوة، إذ كانوا مذنبين بعمل بربرى يمكن بالكاد أن يُصدَّق لولا أنه قد ثبت بشهادات أولئك الذين عاينوه.
(5/10/4) فقد جرَّدوا العذارى من ثيابهن، أولئك اللواتى لم يُشاهِدهُن أحدُ من الجمهور، وعرضوهن عراة كمشهد عام، وموضوع إهانة. وبعد إهانات أخرى عديدة حلقوهن أخيرا، ومزقوهن وحشوا أمعائهن بطعام الخنازير المعتاد. ولما كانت الخنازير لا تقدر أن تميز([421])، وإنما تندفع بحاجتها إلى الطعام المعتاد فقد مزقت بالتالى اللحم البشرى.
(5/10/5) وأنا مقتنع أن مواطنى هليوبوليس قد ارتكبوا هذه البربرية ضد العذارى القديسات بسبب حظر العادة القديمة لتسليم العذارى للدعارة مع أى وافدٍ يتصادف [مروره] قبل أن تتزوج من عريسها. فقد حُظِرَت هذه العادة بقانون سنه قنسطنطين بعد أن دمَّر معبد فينوس بهليوبوليس وشيَّد كنيسة على خرائبه([422]).
(5/10/6) وقد خضع مرقس اسقف أرثوسا، وهو رجل مسن ومكرَّم لشيبته وحياته، لموت شنيع جدا على يد سكان تلك المدينة الذين كانوا يحملون ضغينة ضده لأمد طويل، لأنه فى خلال عهد قنسطنطين كان يشجع الوثنيين بروحانياته أكثر من الاقناع، على الارتفاع إلى المسيحية([423]). وأبطل العديد من عجائب ومقدسات المعبد.
(5/10/7) وعند اعتلاء يوليانوس[للعرش] رأى الشعب([424]) هائجا ضد الاسقف، فأصدر مرسوما يأمر فيه الاسقف إما أن يدفع نفقات إعادة بناء المعبد، أو أن يعيد بناؤه. وإذ فكرَّ [الاسقف] أن الأول مستحيل، والثانى غير شرعى للمسيحى وبالأكثر للكاهن، فقد فرَّ أولا من المدينة.
(5/10/8) ولكن لمَّا سمع أن كثيرين قد تضرروا بسببه، وأن البعض قد أُقتيد إلى المحاكم، وعُذِّب آخرون، عاد وتقدَّم للآلام التى اختار الجمهور أن يفرضوها عليه أيا كانت. وبدلا من أن يُعجَب الشعب كله بأعماله الحسنة التى اظهرها لهم كفيلسوف، تصُوروا أنه كان مدفوعا بدافع الاحتقار لهم، فإندفعوا نحوه وجرّوه خلال الشوارع وهم يركلونه ويضربونه فى أى موضع كان. وانضم إليهم الناس من كل جنس ومن كل عمر بكل خفة وحنق فى هذه الاعمال الوحشية، ورُبِطت آذانه بحبال رفيعة، وتبارى أطفال المدارس عليه ودحرجوه أمامهم أكثر وأكثر، وأمسكوه ومزقوه بأدواتهم. وعندما تغطى جسده. بالجروح ولم يعد يتنفس، دهنوه بعسل ومخلوط معين ووضعوه فى سلة سمك مصنوعة من البوص ورفعوه على ربوة.
(5/10/9) ويُقال أنه بينما كان فى هذا الوضع وكانت الهوام والنحل، تلتهم لحمه قال لسكان ارثوسا أنه قد رُفِع أمامهم وأنه يقدر أن ينظر إليهم وهم أسفل، وهذا يذّكِره بالفارق الذى سيكون بينهم فى الحياة الآتية.
(5/10/10) ويُروى أيضا أن البريفكت([425]) الذى كان، رغم أنه وثنى، ذا أسلوب نبيل حتى أن ذكراه ما زالت مكرَّمة فى ذلك البلد، قد أُعجِب بضبط نفس مرقس، فنطق بشجاعة بتوبيخ ضد الإمبراطور لقبوله أن يُهزَم من رجل مسن عرَّضه لعذابات بلا حصر. وأضاف أن مثل هذه الاجراءات ستجلب للإمبراطور السخرية، بينما فى نفس الوقت ستُشتَهر أسماء المضطَّهدين.
(5/10/11) وهكذا تحمَّل المبارك كل العذابات التى لحقت به بجَلَدٍ لا يهتز حتى أن الوثنيين قد مدحوه.

الكتاب الخامس: الفصل الحادى عشر
(بخصوص استشهاد مقدونيوس وثيودولوس وجراتيان وبوسيريس وباسيليوس ويوبسكوس)

(5/11/1) وفى حوالى نفس الفترة، نال مقدونيوس وثيودلوس Theodulus وتاتيان الذين كانوا فريجيين بالمولد، الشهادة بشجاعة. فقد أعيد فتح معبد ميسوس Misos بمدينة فريجيا بواسطة حاكم المقاطعة بعد أن أُغلِق لسنوات كثيرة. فدخل هؤلاء الشهداء ليلا وحطَّموا التماثيل. ولما قُبِض على أفراد آخرين وكانوا على وشك المعاقبة على هذا العمل. قدَّموا أنفسهم كفاعلين للأمر. فعُرِض عليهم الهرب من القصاص بتقديم الذبائح للأصنام([426])، ولكن الحاكم لم يستطع إغوائهم بقبول الإعفاء بهذه الشروط. ولمَّا باءت إغراءاته بالإخفاق أساء معاملتهم بطرق شتى. وأخيرا مدّدهم على مشواة أسفلها نار مشتعلة.
(5/11/2) وبينما كانوا يهلكون، قالوا للحاكم آماخوس(فهذا كان اسمه) إذا أردت أن تطهى لحما، فإصدر أوامرك لكى ما يقلبوا أجسادنا من جنب إلى جنب على النار حتى لا نبدو غير ناضجين لمذاقك. وهكذا تحمل هؤلاء الرجال بنبل ووضعوا حياتهم للعقوبات.
(5/11/3) ويقال أن بوصيرس Busiris أيضا قد نال شهرة فى انقيرا، مدينة بغلاطية، بإعترافه الباهر والأكثر قوة بالدين. لقد كان ينتمى إلى هرطقة يوقراتيس Eucratites، فعزم حاكم المقاطعة على اساءة معاملته لسخريته بالوثنيين. فقاده جهرا لغرفة التعذيب وأمر برفعه، فرفع بوصيرس يديه إلى رأسه لكى يعرض جنبيه، وقال للحاكم لا لزوم لرفع المنفذين له ثم إنزاله بعد ذلك فهو جاهز لأداة التعذيب حسبما يُريد. فإندهش الحاكم من هذا العرض. ولكن دهشته إزدادت بالآتى: إذ ظلَّ بوصيرس رافعا يديه بثبات، وهو يتلقى الضربات ويُمزَّق جنبيه بالخطافات حسب توجيهات الحاكم. وفى الحال أُودِع بوصيرس السجن بعد ذلك، ولكنه أُطلِق سراحه بعد ذلك ليس بوقت طويل.
(5/11/4) ويقال أنه فى ذات الفترة استشهد باسيليوس كاهن كنيسة انقيرا ويوبسكيوس([427]) Eupsychius أحد نبلاء قيصرية كبادوكية الذى كان مازال عريسا. وأعتقدُ أن يوبسكيوس قد أُدِين بناء على تدمير معبد [إلهة] الحظ الذى قد سجلته، والذى أثار غضب الإمبراطور ضد كل سكان قيصرية. وفى الواقع أُدِين بعض الفاعلين بالموت وآخرين بالنفى. وقد أظهر باسيليوس غيرة شديدة فى الدفاع عن الايمان وعارض الاريوسيين خلال عهد قنستانتيوس، ومن ثم منعه حزب يودكسيوس من إقامة الإجتماعات العامة. ومع ذلك عند اعتلاء يوليانوس للعرش سافر هنا وهناك جهارا وعلنا يحض المسيحيين على الالتصاق بعقائدهم، وتجنب تدنيس أنفسهم بذبائح الوثنيين وسكائبهم. وحثهم على الازدراء بالشرف الذى يُنعِم به الإمبراطور عليهم، فمثل هذا الشرف يدوم لوقت قصير لكنه يقود إلى خزى أبدى. فعرَّضته غيرته لشك وكراهية الوثنيين. وعندما مرَّ ذات يوم ورآهم يقدمون ذبيحة، تنهد بعمق وصلى لأجل ألاَّ يسقط أى مسيحى فى خداع مماثل. فقُبِض عليه فى فى الموقع، وأُرسِل إلى حاكم المقاطعة. ووُقِّعت عليه عذابات كثيرة، فتحمل برجولة هذا الكرب ونال إكليل الشهادة.
(5/11/5) وحتى إن كانت هذه الاعمال الوحشية قد أُرتُكِبت ضد إرادة الإمبراطور، إلاَّ أنها تُقدِّم دليلا على أن عهده قد اتسم بشهداء ليسوا مجهولين، ولا هم قليلون. ولقد رويتُ هذه الوقائع على وجه الإجمال، من أجل التوضيح على الرغم من أن الاستشهاد كان، فى الحقيقة، فى فترات مختلفة.

 

 

 

This site was last updated 11/21/17