جارى العمل فى هذه الصفحة
الجزء التالى من كتاب السيرة النبوية - تأليف: عبد الملك بن هشام المعافري - الجزء الرابع - 79 / 116
ما نزل من القرآن في الخندق وبني قريظة
قال ابن إسحاق : وأنزل الله تعالى في أمر الخندق ، وأمر بني قريظة من القرآن ، القصة في الأحزاب ، يذكر فيها ما نزل من البلاء ، ونعمته عليهم ، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم ، بعد مقالة من قال من أهل النفاق : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ) . والجنود : قريش وغطفان وبنو قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة .
يقول الله تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا ) . فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة ، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان .
يقول الله تبارك وتعالى : ( هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غرورا ) لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال .
( وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ( ولو دُخلت عليهم من أقطارها ) : أي المدينة .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : الأقطار : الجوانب ؛ وواحدها : قطر ، وهي الأقتار ، وواحدها : قتر .
قال الفرزدق :
كم من غِنى فتح الإله لهم به * والخيل مُقْعية على الأقطار
ويُروى : ( على الأقتار ) . وهذا البيت في قصيدة له .
( ثم سئلوا الفتنة ) : أي الرجوع إلى الشرك ( لآتوها وما تلبثُّوا بها إلا يسيرا . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ، وكان عهد الله مسئولا ) ، فهم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يوم أحد ، ثم عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكر لهم الذين أعطوا من أنفسهم ، ثم قال تعالى : ( قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا . قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أراد بكم رحمة ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . قد يعلم الله المعوِّقين منكم ) : أي أهل النفاق ( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا ) : أي إلا دفعا وتعذيرا ( أشحة عليكم ) : أي للضغن الذي في أنفسهم ( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت ) : أي إعظاما له وفرقا منه ( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) : أي في القول بما لا تحبون ، لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تحملهم حِسبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : سلقوكم : بالغوا فيكم بالكلام ، فأحرقوكم وآذوكم . تقول العرب : خطيب سلاّق ، وخطيب مِسْلق ومِسْلاق .
قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
فيهم المجد والسماحة والنَّجْـ * ـدة فيهم والخاطب السلاقُ
وهذا البيت في قصيدة له .
( يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ) قريش وغطفان ( وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا الا قليلا ) .
ثم أقبل على المؤمنين فقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) : أي لئلا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ، ولا عن مكان هو به .
ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به ، فقال : ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم الا إيمانا وتسليما ) : أي صبرا على البلاء وتسليما للقضاء ، وتصديقا للحق ، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ) : أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : قضى نحبه : مات ، والنحب : النفس ، فيما أخبرني أبو عبيدة ، وجمعه : نحوب . قال ذو الرمة :
عشية فر الحارثيون بعد ما * قضى نحبه في ملتقى الخيل هَوْبَرُ
وهذا البيت في قصيدة له . وهوبر : من بني الحارث بن كعب ، أراد : يزيد بن هوبر . والنحب أيضاً : النذر . قال جرير بن الخَطَفَى :
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا * عشية بسطام جرين على نحب
يقول : على نذر كانت نذرت أن تقتله فقتلته ، وهذا البيت في قصيدة له . وبسطام : بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني ، وهو ابن ذي الجدين . حدثني أبو عبيدة : أنه كان فارس ربيعة بن نزار . وطِخْفة : موضع بطريق البصرة .
والنحب أيضا : الخِطار ، وهو الرهان . قال الفرزدق :
وإذ نحبت كلب على الناس أينا * على النحب أعطى للجزيل وأفضل
والنحب أيضا : البكاء . ومنه قولهم : ينتحب . والنحب أيضا : الحاجة والهمة ؛ تقول : ما لي عندهم نحب . قال مالك بن نويرة اليربوعي :
وما لي نحب عندهم غير أنني * تلمست ما تبغي من الشُّدُن الشُّجْرِ
وقال نهار بن توسعة ، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل - قال ابن هشام : هؤلاء موالي بني حنيفة - :
ونجَّى يوسفَ الثقفي ركض * دراك بعد ما وقع اللواء
ولو أدركنه لقضين نحبا * به وكل مُخطَأَة وقاء
والنحب أيضاً : السير الخفيف المَرِّ .
قال ابن إسحاق : ( ومنهم من ينتظر ) : أي ما وعد الله به من نصره ، والشهادة على ما مضى عليه أصحابه . يقول الله تعالى : ( وما بدلوا تبديلا ) : أي ما شكوا وما ترددوا في دينهم ، وما استبدلوا به غيره . ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء ، أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما . و ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ) : أي قريشا وغطفان ( لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ) : أي بني قريظة ( من صياصيهم ) ، والصياصي : الحصون والآطام التي كانوا فيها .
قال ابن هشام : قال سحيم عبد بني الحسحاس ؛ وبنو الحسحاس من بني أسد بن خزيمة :
وأصبحت الثيران صرعى وأصبحت * نساء تميم يبتدرن الصياصيا
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضا : القرون . قال النابغة الجعدي :
وسادة رهطي حتى بَقِيْـ * ـتُ فردا كصيصية الأعضب
يقول : أصاب الموت سادة رهطي . وهذا البيت في قصيدة له . وقال أبو دواد الإيادي :
فذَعَرْنا سُحم الصياصي بأيديـ * ـهنّ نَضْحٌ من الكُحيل وقار
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضاً : الشوك الذي للنساجين ، فيما أخبرني أبو عبيدة . وأنشدني لدريد بن الصمة الجشمي ، جشم ابن معاوية بن بكر بن هوازن :
نظرت إليه والرماح تنوشه * كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وهذا البيت في قصيدة له . والصياصي أيضاً : التي تكون في أرجل الديكة ناتئة كأنها القرون الصغار ، والصياصي أيضاً : الأصول . أخبرني أبو عبيدة أن العرب تقول : جذّ الله صيصيته : أي أصله .
قال ابن إسحاق : ( وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ) : أي قتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) : يعني خيبر ( وكان الله على كل شيء قديرا ) .
إكرام سعد بن معاذ في موته
قال ابن إسحاق : فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه ، فمات منه شهيدا .
قال ابن إسحاق : حدثني معاذ بن رفاعة الزُّرقي ، قال : حدثني من شئت من رجال قومي : أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من إستبرق ، فقال : يا محمد ، من هذا الميت الذي فُتحت له أبواب السماء ، واهتز له العرش ؟ قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد ، فوجده قد مات .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت : أقبلت عائشة قافلة من مكة ، ومعها أسيد بن حضير ، فلقيه موت امرأة له ، فحزن عليها بعض الحزن ، فقالت له عائشة : يغفر الله لك يا أبا يحيى ، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمك ، وقد اهتز له العرش !
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن الحسن البصري ، قال : كان سعد رجلا بادنا ، فلما حمله الناس وجدوا له خفة ، فقال رجال من المنافقين : والله إن كان لبادنا ، وما حملنا من جنازة أخف منه ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن له حملة غيركم ، والذي نفسي بيده ، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد ، واهتز له العرش .
قال ابن إسحاق : وحدثني معاذ بن رفاعة ، عن محمود بن عبدالرحمن ابن عمرو بن الجموح ، عن جابر بن عبدالله ، قال : لما دُفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبح الناس معه ، ثم كبر فكبر الناس معه ؛ فقالوا : يا رسول الله ، مم سبحت ؟ قال : لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره ، حتى فرجه الله عنه .
قال ابن هشام : ومجاز هذا الحديث قول عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ .
قال ابن إسحاق : ولسعد يقول رجل من الأنصار :
وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
و قالت أم سعد ، حين احتُمل نعشه وهي تبكيه - قال ابن هشام : وهي كُبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن الأبجر ، وهو خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج - :
ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدا
وسُوددا ومجدا * وفارسا مُعدّا
سُدّ به مَسدّا * يَقُدُّ هاما قَدّا
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل نائحة تكذب ، إلا نائحة سعد بن معاذ .
الشهداء يوم الخندق
قال ابن إسحاق : ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر .
من بني عبدالأشهل
و من بني عبدالأشهل : سعد بن معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو ، وعبدالله بن سهل . ثلاثة نفر .
من بني جشم
ومن بني جشم بن الخزرج ، ثم من بني سلمة : الطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمة . رجلان .
من بني النجار
ومن بني النجار ، ثم من بني دينار : كعب بن زيد ، أصابه سهم غرب ، فقتله .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : سهمُ غَرْبٍ وسهمٌ غرب ، بإضافة وغير إضافة ، وهو الذي لا يُعرف من أين جاء ولا من رمى به .
قتلى المشركين
وقتل من المشركين ثلاثة نفر .
من بني عبدالدار
ومن بني عبدالدار بن قصي : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبدالدار ، أصابه سهم ، فمات منه بمكة .
قال ابن هشام : هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق .
عرض المشركين على الرسول شراء جسد نوفل
قال ابن إسحاق : ومن بني مخزوم بن يقظة : نوفل بن عبدالله بن المغيرة ؛ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده ، وكان اقتحم الخندق ، فتورط فيه ، فقُتل ، فغلب المسلمون على جسده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حاجة لنا في جسده ولا بثمنه ، فخلى بينهم وبينه .
قال ابن هشام : أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده عشرة آلاف درهم ، فيما بلغني عن الزهري .
من بني عامر
قال ابن إسحاق : ومن بني عامر بن لؤي ، ثم من بني مالك بن حسل : عمرو بن عبد ود ، قتله علي بن أبي طالب رضوان الله عليه .
قال ابن هشام : وحدثني الثقة أنه حدث عن ابن شهاب الزهري أنه قال : قتل علي بن أبي طالب يومئذ عمرو بن عبد ود وابنه حسل بن عمرو .
قال ابن هشام : ويقال عمرو بن عبد ود ، ويقال : عمرو بن عبد .
الشهداء يوم بني قريظة
قال ابن إسحاق : واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين ، ثم من بني الحارث بن الخزرج : خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ، طُرحت عليه رحى ، فشدخته شدخا شديدا ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن له لأجر شهيدين .
ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان ، أخو بني أسد بن خزيمة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة ، فدفن في مقبرة بني قريظة التي يدفنون فيها اليوم ، وإليه دفنوا أمواتهم في الإسلام .
بشر الرسول المسلمين بغزو قريش
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني : لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم . فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، وكان هو الذي يغزوها ، حتى فتح الله عليه مكة .