المقريزى من سنة 462 - 487 هـ
*************************************************************************************************************
هذه الصفحة تاريخ المستنصر خامس الخلفاء الفاطميين الشيعة الذين حكموا مصر من سنة 462 - 487 هـ نقلت من كتاب اتعاظ الحنفا - أحمد بن علي المقريزي ج 2 ص 20 لفائدة القارئ الدارس وكعادة الموقع لم نزيد أو ننقص منها وضعناها كما هى ولكننا وضعنا لكل مقطع عناوين للتسهيل على الدارس
**********************************************************************************************************************************
سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها بعث ناصر الدولة حسين بن حمدان الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد بن البخاري رسولاً منه إلى السلطان ألب أرسلان ملك العراق يسأله أن يسير إليه العساكر ليقيم الدعوة العباسية بديار مصر وتكون مصر له.
فتجهز ألب أرسلان من خراسان في عساكر عظيمة وبعث إلى محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس صاحب حلب أن يقطع دعوة المستنصر ويقيم الدعوة العباسية فقطعت دعوة المستنصر من حلب ولم تعد بعد ذلك.
وانتهى ألب أرسلان إلى حلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وحاصرها شهرا فخرج إليه صاحبها محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس فأكرمه وأقره على ولايته.
وأخذ يريد المسير إلى دمشق ليمر منها إلى مصر وإذا بالخبر قد طرقه أن متملك الروم قد قطع بلاد أرمينية يريد أخذ خراسان فشغله ذلك عن الشام ومصر ورجع إلى بلاده فواقع جمائع الروم على خلاط وهزمهم.
وكان قد ترك طائفة من عسكره الأتراك ببلاد الشام فامتدت أيديهم إليها وملكتها كلها فخرجت عن أيدي المصريين ولم تعد إليهم.
وبلغ المستنصر إرسال ناصر الدولة إلى ألب أرسلان فجهز إليه ثلاث عساكر من الأتراك وغيرهم وتقدم أحد العساكر إليه وهو في أهل البحيرة فجمع له ابن حمدان وأوقع به وقعة انكشفت عن أسر مقدم العسكر وقتل كثير من أصحابه وانهزام من بقي والاستيلاء على ما بقي معهم فتقوى به.
ووافاه العسكر الثاني ولا علم عندهم بما اتفق على من تقدم فكانت الدائرة لابن حمدان عليهم أيضا فسار وهجم على العسكر الثالث وقتل منهم وأسر وانتهب عامة ما كان معهم فكثرت أمواله وكبرت نفسه واستأسد على المستنصر واستخف به وبمن معه فقطع الميرة عن القاهرة ومصر وعاث في البلاد ونهب أكثر الوجه البحري.
وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط وجميع الوجه البحري وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي.
وامتدت الحرب بين الأتراك وعبيد الشراء ثمانية أشهر يتحاربون ليلا ونهارا فامتنع الناس من الحركة وجاء النيل ووفى فلم يقدروا على الزرع فتفاقم البلاء بالناس واشتد جوعهم وعظمت رزاياهم.
وفشا مع ذلك الموت في الناس فكان يموت الواحد من أهل البيت في القاهرة أو مصر فلا يمضي ذلك اليوم أو تلك الليلة حتى يموت سائر من في ذلك البيت.
وعجز الناس عن مواراة الأموات فكفنوهم في الأنخاخ ثم عظمت شناعة الموت وتضاعف العجز فصاروا يحفرون الحفائر الكبار ويلقون فيها الأموات بعضهم على بعض حتى تمتلئ الحفيرة بالرمم من الرجال والنساء والصغار والكبار ثم يهال عليها التراب.
ومع هذا تكاثر انتهاب الجند للعامة واختطافهم من الطرقات فخرج أهل القوة من القاهرة ومصر يريدون بلاد الشام والعراق هرباً من الجوع والفتن فصار إلى تلك البلاد عامة التجار وأصحاب القوة ومعهم ثياب المستنصر وذخائره وآلاته التي تقدم ذكر طرف منها.
وفيها حاصر أمير الجيوش بدر مدينة صور وبها عين الدولة أبو الحسن علي الملقب بالناصح ثقة الثقات ذي الرئاستين ابن عبد الله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل القاضي وضايقها فسير عين الدولة إلى الأمير لواء مقدم الأتراك الواردين من العراق إلى بلاد الشام لينجده واتصل ذلك بأمير الجيوش فخاف من الأتراك فرحل عن صور.
ثم لما اطمأن عاد إلى صور ونازلها فلم يظفر منها بشيء.
وفيها قطعت دعوة المستنصر من مكة ودعي بها للقائم العباسي وللسلطان عضد الدولة ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن مسلجوق بن دقاق.
وكان سبب انقطاع دعوة المستنصر بها أنه كان ينفق في كل سنة على القافلة المجهزة إلى مكة في الموسم مائة ألف وعشرون ألف دينار منها عن الطيب والخلوق والشمع راتباً في كل سنة عشرة آلاف دينار ونفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة أربعون ألف دينار وعن الجرايات والصدقات وأجرة الجمال ومعونة من يسير من العسكرية وأمير الموسم وخدم القافلة والضعفاء وحفر الآبار ونفقات العربان ستون ألف دينار.
ثم زادت النفقة في وزارة اليازوري حتى بلغت إلى مائتي ألف دينار في السنة ولم تبلغ النفقة على موسم الحج مثل ذلك في دولة من دول الإسلام قط.
فلما ضعفت الدولة في هذه السنين وزحف عضد الدولة من خراسان إلى حلب بعث إلى محمد ابن أبي القاسم الحسني أمير مكة بثلاثين ألف دينار وبخلع سنية وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار وبعث إلى صاحب المدينة عشرين ألف دينار فقطع خطبة المستنصر بعدما قامت الدعوة والخطبة للمستنصر ولآبائه بمكة والمدينة مائة سنة ودعا للقائم العباسي ولعضد الدولة وقرر عضد الدولة ما يحمل إلى الحرمين على ارتفاع واسط.
سنة ثلاث وستين وأربعمائة
فيها اصطلح الأتراك بمصر مع ناصر الدولة ابن حمدان وهو مقيم بالوجه البحري وذلك لشدة ما نالهم من قطعه الميرة عنهم فوقع الاتفاق بينهم وبينه على أن يكون مقيماً بمكانه وتحمل إليه الأموال التي تقرر له وأن يكون تاج الملوك شادي نائباً عنه بالقاهرة.
فتقرر الحال على ذلك ودخلت الغلال إلى البلد فطابت قلوب الناس وانجلى الأمر نحو شهر ثم وقع الخلاف بين الأتراك وبينه فرحل من البحيرة بعساكر كثيرة ونازل البلد وحاصرها محاصرةً شديدة في ذي القعدة وامتدت أيدي أصحابه فانتهبوا الناس في الدور وأخذوهم من الطرقات وأحرقوا كثيراً من دور الساحل.
ثم عاد إلى البحيرة.
سنة أربع وستين وأربعمائة
وفيها كانت الحرب بين تاج الملوك شادي وبين ناصر الدولة ابن حمدان وعادت الفتنة بالقاهرة ومصر.
وكان سبب محاربتهما أن تاج الملوك لما دخل إلى القاهرة نائباً عن ناصر الدولة تغير عما كان قد تقرر بينهما واستبد بالأمور فضن بالمال عليه ولم يصل ابن حمدان منه إلا دون ما كان يؤمله.
فقلق لذلك ابن حمدان واتفق هو وجمائع العربان على المسير إلى القاهرة وأخذها.
فسار بهم ونزل إلى الجيزة فاستدعى تاج الملوك وغيره من أكابر المقدمين فخرجوا إليه مطمئنين لأنه واحد منهم يهوى هواهم فما هو إلا أن صاروا إليه حتى قبض عليهم وزحف بجموعه وألقى النار في دور السادة وانبثت أصحابه ينتهبون ما قدروا عليه.
فجهز المستنصر إليه عسكراً كانت فيه طائفة لهم قوة وفيهم منعة فوافقوه.
وكانت بينهم وبينه حرب انجلت عن هزيمته ففر على وجهه وتلاحق به أصحابه وصاروا إلى البحيرة فقطع خطبة المستنصر من جميع الوجه البحري وكتب إلى الخليفة القائم ببغداد يسأله أن يجهز إليه الخلع والألوية السود فاضمحل قدر المستنصر وتلاشى أمره.
وتعاظمت الشدائد بمصر وجلت رزايا الناس.
فلما كان في شعبان سار ناصر الدولة بعساكره وقد تيقن عجز المستنصر عن مقاومته لضعف أمره وممالاة كثير من الأتراك له.
وموافقتهم لما قرره معهم من محبة فدخل إلى مصر فاستولى على الأمر وبعث إلى المستنصر يطلب منه المال فدخل عليه قاصد ابن حمدان وهو جالس على حصير بغير فرش ولا أبهة وليس عنده غير ثلاثة من الخدم وقد زال ما كان يعهده من شارة المملكة وعظمة الخلافة.فلما أدى إليه الرسالة.
قال له المستنصر: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على هذه الحال! فلما سمع بذلك قاصد بن حمدان بكى وخرج فأعلم ناصر الدولة ما شاهده من هيئة المستنصر وعرفه بما صار إليه من سوء الحال فرق له وكف عنه وأطلق له في كل شهر مائة دينار.
واستبد بسائر أمور الدولة وبالغ في إهانة المستنصر في الاعتقاد وزاد في إيصال الضرر إليه وإلى سائر حواشيه وأسبابه حتى قبض على أم المستنصر وعاقبها بعقوبات متعددة واستخلص منها أموالاً جمة.
فتفرق عن المستنصر جميع أهله وسائر أقاربه وأولاده وحواشيه فمنهم من سار إلى المغرب ومنهم من خرج إلى العراق وبقي فقيراً وحيداً خائفاً يترقب.
وقيل إن أم المستنصر فرت أيضاً إلى العراق.
وفي شهر ربيع الأول استقر ابن أبي كدينة في الوزارة والدعوة والقضاء.
واستمر الحال على ما وصفنا جميع سنة أربع وستين.
وفيها فقد الطعام فسارت التجار من صقلية والمهدية في الطعام والمرتب.
فبيع القمح كل كيل قروي زنته تسعة أرطال بدينار نزاري ثم بيع بمثقالين ثم بثلاثة ثم فقد.
وطبخ الناس جلود البقر وباعوها رطلاً بدرهمين وبلغ الزيت أوقيةً بدرهمين وأوقية اللحم بدرهم وبيعت الأمتعة بأبخس ثمن وباع الناس أملاكهم.
ووقع الوباء فألقى الناس موتاهم في النيل بغير أكفان.
وفيها مات القاضي الأجل أمين الدولة أبو طالب عبد الله بن عمار بن الحسين بن قندس بن عبد الله بن إدريس بن أبي يوسف الطائي بطرابلس الشام ليلة السبت نصف رجب.
وفيها ملك القمص رجار بن تنقرد صاحب مدينة قلبريو وهي مقابل مدينة جربة جزيرة صقلية.
سنة خمس وستين وأربعمائة
فيها قتل ناصر الدين الحسين بن ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن عبد الله أبي الهيجاء بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن الرشيد بن المثنى بن رافع بن الحارث ابن غطيف بن مجربة بن حارثة بن مالك بن جشم أحد الأراقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب بن وائل بن قاسط بن فيد بن أقصى بن داغمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان التغلبي.
وكان سبب فنائه أنه لما استولى على أمور الدولة وبالغ في إهانة المستنصر وتتبع أقاربه وحواشيه وأخذ من قدر عليه منهم وفر من وجد سبيلا إلى الفرار كان يولي الرجل بعض الأعمال ويسيره إليه فلا يتمكن من ذلك العمل حتى يكتب إليه بأن يعود ويبعث غيره.
وشرع في قطع دعوة المستنصر وإعمال الرأي في إقامة الخطب للخليفة القائم بمصر والقاهرة وأن يزيل من البلاد دولة الفاطميين ويمحو آثارها فلم يستطع ذلك ولا قدر عليه لكثرة الأعوان والأتباع.
وكان من جملة رجال الدولة إلدكز وهو أحد الأمراء ففطن لما يريده ناصر الدولة من قطع خطبة المستنصر وإقامة دعوة بني العباس فتشاور هو والأمير يلدكوز وكانا من أكابر الأتراك وأنكرا ما يتفق من ناصر الدولة وتخوفا من عاقبة ذلك.
وصارا إلى بقية الأتراك وأعلماهم أنه إن تم لناصر الدولة ما يحاوله لم يبق منهم أحدا والرأي مبادرته قبل أن يستفحل أمره فتقرر الأمر على القيام عليه وقتله.
وكان ناصر الدولة قد اغتر بقوته وظن أنه قد أمن وأن أعداءه قد تلاشوا وتلفوا فأتاه الله من حيث لم يحتسب وأناخ به عواقب بغيه فلم يشعر إلا وقد ركب الأتراك بأجمعهم على حين غفلة من ليلة من رجب ووافوا داره بمصر سحراً وكان يسكن في منازل العز فهجموا عليه من غير دستوره ولا طلب إذن فإذا هو في صحن داره وعليه رداء فبادره أحدهم بسيفه وأتبعه إلدكز فحز رأسه.
وخرج كوكب الدولة مسرعا إلى فخر الدولة أخيه في عدة فطرقه وهو آمن وقتله واحتمل رأسه وأخذ سيفه وجاريةً من جواريه.
وامتدت الأيدي إلى من بقي منهم فقتل أخوهما تاج المعالي وجماعة من بني حمدان وتتبعوا أسبابهم وحواشيهم حتى لم يبق منهم أحد بديار مصر وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وما أصدق قول أبي على الفكيك إذ يقول هجاء لناصر الدولة هذا: فالدولة الغراء قد غلطت بأن سمّتك ناصرها وأنت الخاذل وقتل في هذه النوبة الوزير أبو غالب عبد الطاهر بن فضل بن الموفق بن الدين ابن العجمي.
وفيها قطعت خطبة المستنصر من بيت المقدس.
سنة ست وستين وأربعمائة
فيها تشدد الأتراك وكبيرهم سلطان الجيش يلدكوش التركي والأمير إلدكز والوزير يومئذ ابن أبي كدينة فضاق خناقه وعظم روعه وساءت حاله وكان المستنصر بالله يظن أن في قتل ابن حمدان راحةً له فاستطال إلدكز وابن أبي كدينة عليه وناكداه.
فتحير في أمره وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي وهو يومئذ بعكا يستدعيه للقدوم لنجدته وإعانته ويعده بتملك البلاد والاستيلاء عليها.
فاشترط عليه أنه يقدم بعسكر معه وأنه لا يبقى أحداً من عساكر مصر ولا وزرائهم فأجابه المستنصر إلى ذلك.
فأخذ في الاستعداد للمسير إلى مصر واستخدم معه عدةً من العساكر وركب بحر الملح من عكا وكان الوقت في كانون وهو أشد ما يكون من البلاء ومن العادة أن البحر لا يركب في الشتاء.
فسار في مائة مركب وقد حذر من ركوبه وخوف من سوء العاقبة فلم يصغ لذلك وكأن الله سبحانه قد صنع له ومكن له في الأرض وقضى بأن يصلح على يديه ما قد فسد من إقليم مصر.
فترحل بعساكره في المراكب وأضحت السماء وواتتهم ريح طيبة سارت بهم إلى دمياط ولم يمسسهم سوء فكان يقال إنه لم ير في البحر قط صحوة تمادت أربعين يوماً إلا في هذا الوقت فكان هذا ابتداء سعادته وأول عظيم جده.
فنزل بدمياط وطلب إليه التجار من تنيس وافترض عليهم مالا.
وقدم عليه سليمان اللواتي وهو يومئذ كبير أهل البحيرة وأكثرهم مالا وأوسعهم حالا وقدم إليه وأضافه وأمده بالطرقات حتى قدم قليوب فنزل بها.
وبعث إلى المستنصر سراً بأني لا يمكنني القدوم إلى الحضرة ما لم يقدم على يلدكوش فبادر المستنصر إلى إجابته وقبض عليه.
ودخل بدر عشية يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى فتلقاه أهل الدولة وأنزلوه وبالغوا في إكرامه فأظهر أنه ما جاء إلا شوقاً إليهم وخدعهم بما أبداه من المحبة لهم وكثرة التملق وأعرض عن المستنصر ولم يذكره إلا بالسوء وصار من معه يدخلون إلى القاهرة وحداناً ورجالا في الخفية حتى تكامل منهم تسعمائة.
ثم أخذ مع الأمراء في الأكل والشرب واللذات إلى أن اشتد تآنسهم به فاستدعاه كل منهم إلى ضيافته وقدموا إليه وهو آخذ في أسباب ما دعى إليه.
فلما انقضت أيام ضيافتهم له استدعى أمراء الدولة ومقدميها في صنيع أعد لهم فمضوا إليه وقضوا نهارهم عنده وباتوا في أطيب عيش وأنعم بال وقد رتب أصحابه ليقتل كل واحد أميراً من الأمراء ويكون له جميع ما بيده.
فلما سكروا وامتد عليهم رواق الليل صار يخرج كل واحد من باب ويسلمه إلى غلام من غلمانه ويمضي إلى داره فيتسلمها بما فيها من الخدم والأموال.
فلم يصبح الصباح إلا ورؤوس الجميع بين يديه وقد استولى كل رجل من أصحابه على دار أمير من الأمراء وأحاط بجميع ما كان له.
وأخذ في القبض على الأتراك وتتبعهم حتى لم يدع منهم أحداً يشار إليه فقويت شوكته واشتدت وطأته وعظم أمره فحسر عن ساعد الجد وشمر ساعد الاجتهاد والتقط المفسدين فلم يبق على أحد منهم وتطلبهم في القاهرة ومصر حتى أتى على جميعهم القتل.
وفر ناصر الجيوش أبو الملوك وكان شاه بن يلدكوش إلى الشام.
وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقور وصار جميع أهل الدولة في حكمه والدعاة نواباً عنه وكذلك القضاة إنما يتولون منه.
فقلد أبا يعلى حمزة بن الحسين بن أحمد الفارقي قضاء القضاة.
وزيد في ألقاب أمير الجيوش على ألقاب من تقدمه من الوزراء: كافل قضاة المسلمين.
واتفق أنه لما لبس خلع الوزارة حضر إليه المتصدرون بالجوامع فقرأ ابن العجمي: " ولقد نصركم الله ببدر " وسكت عن تمام الآية فقال له أمير الجيوش بدر: والله لقد جاءت في مكانها فيها قتل أمير الجيوش من أماثل المصريين وقضاتهم ووزرائهم عدة كثيرة منهم الوزير أبو محمد الحسن بن ثقة الدولة علي بن أحمد المعروف بابن أبي كدينة وكان عندما قدم بدر إلى مصر هو الوزير وهو من ولد عبد الرحمن بن ملجم وتردد في القضاء والوزارة سبع مرات وكان قاسي القلب جبارا فلما قبض عليه سير إلى دمياط ودخل عليه السياف ليضرب عنقه فكان سيفه ثليلاً فضربه سبع ضربات بعدد ولايته القضاء والوزارة.
وقتل أيضا الوزير أبو المكارم أسعد والوزير أبو شجاع محمد بن الأشرف أبي غالب محمد بن علي والوزير عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف.
سنة سبع وستين وأربعمائة
فيها سار أمير الجيوش بدر إلى الوجه البحري فأوقع بلواتة وقتل مقدمهم سليم اللواتي وابنه واستصفى جميع ما كان له ولقومه من أنواع الأموال وأسرف في قتلهم حتى يقال إنه قتل منهم عشرين ألفا.
وسار إلى دمياط وقتل كثيراً ممن كان فيها من المفسدين وخرب وحرق وأصلح عامة أحوال الثغر.
ولم يدع بالبر الشرقي وجميع أسفل الأرض مفسداً إلا وقتله أو قمعه.
ثم عدى إلى البر الغربي فقتل كثيراً من الطائفة الملحية وأتباعهم وأقام على محاصرة الإسكندرية وفيها حاصر شكل التركي أحد الأتراك الواصلين من العراق إلى الشام ثغر عكا وأخذه بالسيف وكان فيه أولاد أمير الجيوش بدر وأهله وحرمه فأحسن إليهم وأكرمهم وقتل والي عكا.
ثم سار منها فنزل على طبرية وأخذها.
وفيها مات الخليفة القائم بأمر الله ببغداد يوم الخميس ثالث عشر شعبان وله من الخلافة أربع وأربعون سنة وتسعة أشهر وأيام وجلس بعده ابن ابنه أبو القاسم عبد الله ابن ذخيرة الدين ولقب بالمقتدي.
وفيها أعيدت الخطبة للمستنصر بمكة بعد أن خطب فيها للقائم بأمر الله العباسي أربع سنين.
وفيها قتل أمير الجيوش كثيراً من جند مصر وغيرهم ممن يومي إليه بفساد.
سنة ثمان وستين وأربعمائة
فيها حاصر أطسز بن أرتق المعروف بالأقسيس دمشق وألح على قتال من بها من عساكر المستنصر حتى ملكها بعد أن أقام يحاصرها نحو ثلاث سنين.
وكان عليها من قبل المستنصر حيدرة بن ميرزا الكتامي وقد كرهته الرعية لسوء سيرته فيهم وكثرة مصادرته للناس ففر منهزما إلى بانياس ثم خرج عنها إلى صور فأقام بها مدة ثم حمل إلى مصر فقتل بها.
وكان قد التحق بأطسز عدة ممن فر من مصر عند قدوم أمير الجيوش فتقوى بهم وبمن صار إليه من أهل دمشق فراراً من حيدرة لسوء سيرته.
فلما ملك دمشق دعا للمقتدي من خلفاء بني العباس وأبطل الخطبة للمستنصر فانقطعت دعوة الخلفاء الفاطميين منها ولم تعد بعد ذلك.
وقطعت دعوة المستنصر من مكة أيضا ودعي فيها للمقتدي.
فيها مات القاضي الشريف جلال الدولة أبو الحسين أحمد بن أبي القاسم علي بن محمد ابن الحسين بن إبراهيم بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب الحسيني النصيبيني قاضي دمشق وهو يومئذ متولي القضاء بها في يوم الجمعة الرابع من ذي القعدة وهو آخر قضاة الخلفاء الفاطميين بدمشق وسمع الحديث وحدث وله فيه مقال.
سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها اجتمع بمدينة طوخ من صعيد مصر عدد كبير من عرب جهينة والثعالبة والجعافرة لمحاربة أمير الجيوش فسار إليهم حتى قرب منهم فنزل ثم ارتحل بالليل وأمر بضرب الطبول وزعقت البوقات واشتعلت المشاعل وقد تزايد وقود النيران.
وجد في السير والعساكر لها صرخات وصيحات متتابعة في دفعة واحدة حتى طرقهم بغتة ووضع فيهم السيف فأفنى أكثرهم قتلا وفر منهم طوائف فغرقوا ولم ينج منهم إلا القليل.
وأحاط بأموالهم فحاز منها ما يتجاوز الوصف كثرة وسيرها إلى المستنصر.
وثار كنز الدولة محمد بأسوان وتغلب عليها وعلى نواحيها وكثرت أتباعه ونجم أمره فسار إليه أمير الجيوش بعساكره فالتقى معهم وحاربهم محاربة طويلة أسفرت عن قتله وهزيمة أصحابه بعد أن قتل منهم جم غفير فكانت هذه الواقعة آخر الوقائع التي قطع فيها دابر المفسدين وخمدت جمرتهم.
وفيها جمع أطسز صاحب دمشق العساكر وسار يريد تملك الديار المصرية وإزالة الدولة الفاطمية منها وإقامة الدعوة العباسية كما فعل في بلاد الشام.
وكان أكثر الأسباب الحاملة له على ذلك أن ابن يلدكوش لما فر من أمير الجيوش وصار إلى بلاد الشام اتصل بأطسز وقدم إليه ستين حبة لؤلؤ مدحرج زنة كل حبة منها ينيف على مثقال وحجر ياقوت زنته سبعة عشر مثقالا وتحفاً كثيرة مما كان قد وصل إلى أبيه من خزائن المستنصر في سني الشدة وأغراه بأهل مصر وحثه على قصد البلاد وهونها عنده.
فقوي طمعه وسار وقد حصل في قوة بمن صار إليه من عساكر مصر ومن انضاف إليه من أهل الشام.
وكان أمير الجيوش ببلاد الصعيد قد انتهى إلى بلاد أسوان فوصل الخبر بمسير أطسز إلى مصر فكتب بذلك إلى أمير الجيوش وكان عند موافاة الخبر إليه في شغل عن ذلك فقدم أطسز إلى أطراف مصر في جمادى الأولى وقد أشار عليه ابن يلدكوش بألا تشتغل بالقاهرة ولكن تملك الريف.
وقال له: إذا ملكت الريف فقد ملكت مصر.
فأقام بالريف جمادى الأولى وجمادى الآخرة وبعض رجب وأمير الجيوش في إصلاح الصعيد وتدبير أموره وقد حضر إليه أكثر أهل أسوان وبدر بن حازم بجمائع طي.
فلما استوثق أمره وجمع إليه العساكر عاد إلى القاهرة وخرج يريد محاربة أطسز في جمع تبلغ عدته ما ينيف على ثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من رجب بعد ما جهز عدة مراكب قد شحنها بالعلوفات والأزواد.
فجمع أطسز إليه أصحابه واستشارهم فاختلفوا عليه في الرأي فقال بعضهم أن ترجع فإنك قد دست بلاد مصر وليس معك غير خمسة آلاف والقوم في كثرة وعواقب الأمور غير معلومة.
وقال له أخوه وابن يلدكوش لا يهولنك ما تسمع به من كثرتهم فإنما هم سوقة وأخلاط لو سمعوا صيحة لفروا عن آخرهم فإياك والرجوع عن هذا الملك قد أشرفت على أخذه ولم يبق إلا تملكه.
وأشار عليه شكل أمير طبرية بموافقة القوم والدخول إلى مصر.
فتقرر الرأي على ملاقاة العساكر المصرية.
فلما كان يوم الثلاثاء لثمان بقين منه تلاقى الفريقان وتحاربا فكانت بينهما عدة وقائع كانت الغلبة فيها للمصريين فانهزم أطسز وقتل أخوه وعدة من أصحابه وعاد في قليل ممن معه وأقام بالرملة حتى تلاحقت به عساكره.
ثم رحل إلى القدس ففتحها وقتل من فيها من المسلمين ولم يترك من استجار بالأقصى.
ثم سار إلى دمشق فدخلها لعشر بقين من شعبان وقد احتوى أمير الجيوش على كثير مما كان معهم ورجع إلى القاهرة مؤيداً مظفراً.
وكان المتولي لكسرة أطسز بدر بن حازم ابن علي بن دغفل بن جراح.
فلما جلس أمير الجيوش بدر الجمالي للهناء بنصرته قرأ ابن لفتة أحد القراء " ولقد نصركم الله ببدر " ولم يتم الآية يعني بدر بن حازم.
فبينا أمير الجيوش بدر في ذلك إذ بلغه اجتماع عرب قيس وسليم وفزارة فخرج إليهم وأوقع بهم وأكثر من القتل فيهم وفر من بقي منهم إلى برقة.
وفيها سقط أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات في عشية اليوم الثالث من رجب وكان له على الدولة الفاطمية في كل شهر ثلاثون ديناراً وغلة لإصلاح ما يكتب في ديوان الإنشاء فكان يعرض عليه جميع ما يكتب منه وإذا حرره أمر به فدفع لأربابه.
ثم إنه تخلى عن الخدم السلطانية وانقطع للعبادة حتى مات وكان أبوه واعظاً بمصر.
فيها سير أمير الجيوش عسكراً مقدمه ناصر الدولة الجيوشي فانتهى إلى دمشق وأقام محاصراً لها مدة ثم ارتحل عنها وعاد بغير طائل.
وفيها فوض لأمير الجيوش قضاء القضاة وزيد في نعوته: كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين.
وفيها وصل إلى مكة من بغداد منبر كبير في شهر رمضان منقوش عليه بالذهب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين.
مما أمر بعمله محمد بن محمد بن جهير.
فاتفق وصوله وقد أعيدت الخطبة للمستنصر فكسر المنبر المذكور وأحرق.
ولم يكن بمصر في سنة إحدى وسبعين كبير شيء.
سنة واحد وسبعين وأربعمائة
سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها سير أمير الجيوش عسكراً كبيراً فانتهى إلى دمشق وحاصرها حتى أشرف على أخذها فسير أطسز صاحب دمشق إلى تاج الدولة تتش بن السلطان ألب أرسلان وكان قد أقطعه أخوه ملكشاه الشام وأخذ حلب بعد ما حاصرها حتى اشتد الجوع بأهلها وملكها يستحثه على نصرته وتقويته على المصريين ويعده أنه يسلم إليه ملك دمشق.
فأجابه إلى سؤاله وسار إليه بعسكره فبلغ ذلك عسكر أمير الجيوش فارتحل وعاد إلى مصر.
وقدم تتش فملك دمشق ودبر على أطسز وقتله بحيلة في ربيع الأول وجهز عسكراً في إثر العسكر المصري فلم يدركه.
وفيها خرج ملك النوبة من بلاده وصار إلى أسوان يريد زيادة كنيسة لهم بها فبعث والي قوص من قبض عليه وحمله إلى القاهرة فأكرمه أمير الجيوش وأفاض عليه النعم وأتحفه بالهدايا الجليلة فأدركه أجله ومات قبل أن يعود إلى بلاده.
وفيها قطعت خطبة المستنصر من مكة وأعيدت خطبة بني العباس.
سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
سنة أربع وسبعين وأربعمائة
سنة خمس وسبعين وأربعمائة
سنة ست وسبعين وأربعمائة
سنة سبع وسبعين وأربعمائة
فيها خرج الأوحد بن أمير الجيوش على أبيه وانضم إليه جماعة من العسكر والعربان وتحصن بالإسكندرية فسار إليه أمير الجيوش وحصره وألح عليه القتال حتى دخل البلد وأخذ ابنه قهراً.
وأمر ببناء الجامع المعروف في الإسكندرية بجامع العطارين من أموال أخذها من أهل البلد وفرغ منه في شهر ربيع الأول وأقيمت فيه الجمعة واستمرت إلى أن زالت دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فأمر ببناء جامع ونقل الخطبة من جامع العطارين إليه.
وفي جمادى الأولى استناب أمير الجيوش ولده الأفضل وجعله ولي عهده في السلطنة.
وفيها ابتدأ أمير الجيوش في بناء سور القاهرة.
سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
فيها قطعت الخطبة من مكة للمستنصر وخطب بها للمقتدي العباسي.
فيها مات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي الحسين المغربي الملقب بالكامل وكان قد ولي الوزارة بعد أن صار إلى بلاد المغرب وخدم بها ثم عاد واتصل بالوزير أبي محمد اليازوري فأحسن إليه واستخدمه وعني به فماقته أبو الفرج البابلي.
فلما صارت إليه الوزارة بعد اليازوري قبض عليه في جملة من قبض عليه من أصحاب اليازوري واعتقله فلم يزل معتقلاً إلى أن تقررت له الوزارة وهو في السجن فأخرج وخلع عليه خلع الوزراة عوضاً عن أبي الفرج البابلي فلم يؤاخذه بما كان منه في حقه بل قابله بالجميل وأحسن إليه إحساناً كبيراً.
ولما صرف عن الوزارة اقترح أن يولي ديوان الإنشاء فقرر في هذه الرتبة التي يقال لها في زمننا اليوم كتاب السر فاستقرت من بعده وظيفة ورتبة يتقلدها الأكابر.
وفيها مات سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق صاحب قونية وأقصرا من بلاد الروم وقام من بعده ابنه قليج أرسلان بن سليمان فاسترد منه الفرنج مدينة أنطاكية.
سنة تسع وسبعين وأربعمائة
فيها قدم الحسن بن الصباح رئيس الطائفة الباطنية من الإسماعيلية إلى مصر في زي تاجر واتصل بالمستنصر واختص به والتزم أن يقيم له الدعوة في بلاد خراسان وغيرها من بلاد المشرق.
وكان الحسن هذا كاتباً للرئيس عبد الرزاق بن بهرام بالري فكاتب المستنصر ثم قدم عليه.
ثم إن المستنصر بلغه عنه كلام فاعتقله ثم أطلقه.
وسأله ابن الصباح عن عدة مسائل من مسائل الإسماعيلية فأجاب عنها بخطه.
ويقال إنه قال له: يا أمير المؤمنين من الإمام من بعدك فقال له ولدي نزار.
ثم إنه سار من مصر بعد ما أقام عند المستنصر مدة وأنعم عليه بنعم وافية.
فلما وصل إلى بلاده نشر بها دعوة المستنصر وبثها في تلك الأقطار وحدث منه من البلاء بالخلق ما لا يوصف مما قد ذكر في أخبار المشرق.
ثم قام من بعد المستنصر بدعوة ابنه نزار وكان بسبب ذلك في مصر من الانقلاب ما نهتم به إن شاء الله تعالى.
وأخذ ابن الصباح أصحابه بجمع الأسلحة ومواعدتهم حتى اجتمعوا له في شعبان سنة ثلاث وثمانين ووثب بهم فأخذ قلعة ألموت وكانت لملوك الديلم من قبل ظهور الإسلام وهي من الحصانة في غاية.
واجتمع الباطنية بأصبهان مع رئيسهم وكبير دعاتهم أحمد بن عبد الملك بن عطاش وملكوا قلعتين عظيمتين إحداهما يقال لها قلعة الدر.
وكانت لأبي القاسم دلف العجلي وجددها وسماها ساهور والقلعة الأخرى تعرف بقلعة جان وهما على جبل أصبهان.
وبث الحسن بن الصباح دعاته وألقى عليهم مسائل الباطنية التي ذكرتها في هذا الكتاب عند ذكر داعي الدعاة في أخبار بناء سور القاهرة عند ذكر خطط المعزية القاهرة.فساروا من قلعة ألموت وأكثروا من القتل في الناس غيلة.
وكان إذ ذاك ملك العراقين السلطان ملكشاه الملقب جلال الدين بن ألب أرسلان فاستدعى الإمام أبا يوسف الخازن لمناظرة أصحاب ابن الصباح فناظرهم وألف كتابه المسمى بالمستظهري وأجاب عن مسائلهم.
واجتهد ملك شاه في أخذ قلعتهم فأعياه المرض وعجز عن نيلها.
وفيها خلع اسم المستنصر وآبائه من مكة والمدينة وكتب اسم المقتدي.
سنة ثمانين وأربعمائة
فيها مات أبو الفضل عبد الله بن الحسين بن بشرى المعروف بابن الجوهري الواعظ المصري في العشر الأواخر من شوال وهو أحد أكابر شيوخ مصر وتصدى سنين للوعظ بجامع عمرو بن العاص.
حدث عن جماعة وله كلام في الزهد والمواعظ وهو من بيت علم وأسرة وعظ.
ولما كانت أيام الشدة والغلاء بمصر اجتمع إليه الناس في بعض الأيام وسألوه عقد المجلس للوعظ بالجامع العتيق فقال: من يحضر عندي ومن بقي فقالوا: لا بد من ذلك فجلس وكان من كلامه: أبشروا هذه سنة ثلاث وأشار بيده وهي متعلقة كلها وسنة حل سنة أربع ويفتح الله ورفع بنصره وبعدها سنة خمس ويفتح الله ورفع خنصره.
فكان كما قال.
وأنشد مرة في بعض مجالسه:
ما يصنع اللّيل والنّهار ** ويستر الثّوب والجدار
ومن كلامه: قد اختل امر الدين والدنيا وتعذر الوصول إليهما فمن طلب الآخرة لم يجد معيناً علينا ومن طلب الدنيا وجد فاجراً قد سبقه إليها.
وأنشد مرةً الخليفة المستنصر:
عساكر الشكر قد جاءت مهنئةً ** وللملوك ارتيابٌ في تأتّيها
بالباب قومٌ ذوو ضعفٍ ومسكنةٍ ** يستصغرون لك الدّنيا بما فيها
وفيها بعث بردويل ملك الفرنج الذين يقال لهم الإفرنسيس عسكراً عليه أجار إلى صقلية فملكها من المسلمين.
سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
فيها ندب أمير الجيوش عسكرا إلى بلاد الشام وقدم عليه ناصر الدولة الجيوشي فسار وفتح ثغري صور وصيدا ثم فتح جبيل وعكا.
وكان تتش قد ملكها فاستولى عليها ناصر الدولة الجيوشي وقتل جماعة من أصحاب تتش وأخذ كثيراً من ذخائره.
ومضى إلى بعلبك فوفد عليه خلف بن ملاعب صاحب حمص ودخل في الطاعة وبعث ابن حمدان إلى أمير الجيوش سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فيها توفى الحافظ أبو اسحق ابراهيم بن سعد بن عبد الله الخيال المصري الإمام صاحب التاريخ في سادس ذي القعدة ومولده في سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ودفن بالقرافة.
وفيها صعد الحسن بن الصباح إلى قلعة ألموت في شعبان وأظهر دعوة المستنصر بالله.
سنة أربع وثمانين وأربعمائة
سنة خمس وثمانين وأربعمائة
فيها نقل أمير الجيوش بابي زويلة وزاد من ورائهما قطعة وبنى باب زويلة الكبير الموجود الآن ورفع أبراجه على ما هي عليه ولم يجعل له باشورة كما هي عادة أبواب الحصون أن يكون في أبوابها عطفة تمنع العساكر من الهجوم على الحصن عند الحصار بل عمل في بابه زلاقة من حجارة صوان حتى إذا هجم العسكر لم تثبت قوائم الخيل على الصوان لملاسته.
فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام الملك الكامل محمد بن العادل فأمر بنقضها لما زلت به فرسه وسقط عنها.
سنة ست وثمانين وأربعمائة
فيها جرد أمير الجيوش عسكراً إلى ثغر صور وكان المتولي به قد خرج عن الطاعة.
فسار العسكر ونزل على الثغر فخاف أهل البلد من سطوة أمير الجيوش فلم يعرضوا لقتال فهجم العسكر البلد وانتهبوا أهله وقبضوا على أميرها وعلى جماعة من الناس وسيروهم إلى أمير الجيوش فقتلهم وبعث بفريضة ستين ألف دينار على أهل صور وكان ذلك في رابع عشر جمادى الآخرة.
وفيها نمى قتل أبي علي حسن بن عبد الصمد بن أبي الشحناء العسقلاني صاحب الرسائل والشعر وكان بديوان الإنشاء وشعره ورسائله مشهورة.
ويقال إن القاضي الفاضل عبد الرحيم كان جل اعتماده على رسائله.
ومن شعره:
أصبحت تخرجني بغير جريمة ** من دار إكرام لدار هوان
كدم الفصد يراق أرذل موضع ** أبداً ويخرج من أعزّ مكان
ثقلت موازين العباد بفضلهم ** وفضيلتي قد خفّفت ميزاني
سنة سبع وثمانين وأربعمائة
في شهر ربيع وقيل في جمادى الأولى توفي أمير الجيوش بدر الجمالي من مرض نزل به من أول السنة حتى أسكت فلم يقدر على الكلام إلى أن مات وقد ناهز ثمانين سنة وجنسه أرمني وكان مملوكاً لجمال الدولة ابن عمار فلذلك قيل له بدر الجمالي.
وما زال يأخذ نفسه بالجد من شبيبته فيما يباشره ويوطن نفسه على قوة العزم فيما يرومه ويتنقل في الرتب العلية حتى ولي بلاد الشام وتقلد إمارة دمشق من قبل المستنصر مرتين وثار عليه أهلها وكانت في إمارته الفتنة العظيمة التي احترق فيها قصر الإمارة وجامع بني أمية.
ثم إنه رحل عن دمشق إلى مصر وقلده المستنصر عكا.
فلما فسدت أحوال مصر وتغيرت أمورها وخربت كان يبلغه ذلك فيتحسر لما يبلغه ويتلهف لكونه بعيداً عن مصر.
فلما كاتبه المستنصر ودخل إلى القاهرة تحكم في بلاد مصر تحكم الملوك ولم يبق للمستنصر من أمر وألقى إليه مقاليد مملكته وسلم إليه أمور خلافته فضبطها أحسن ضبط.
فاشتدت مهابته في قلوب الخاصة والعامة وخاف سطوته كل جليل وكبير لعظم بأسه وكثرة بطشه وقتله من الخلائق ما لا يمكن ضبطهم ولا يعلم عدتهم إلا إلههم سبحانه.
وبقتله أكابر المصريين من الأمراء والقواد والوزراء والأعيان من أهل القاهرة ومصر وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وثغر دمياط وتنيس والإسكندرية الذين كانوا قد تمرنوا على الفساد ونشأوا في الفتن واعتادوا مضرة الخلق ولصلاح أحوالهم من ذلك صلحت الديار المصرية بعد فسادها وعمرت بعد خرابها وزال عكس المستنصر وابتدأت سعادته.
وكان من جميل أفعاله أنه لما قتل المفسدين من الأجناد والعربان وغيرهم أطلق الخراج للمزارعين ولم يأخذ منهم شيئاً ثلاث سنين حتى صلحت أحوال الفلاحين.
واستغنى أهل مصر في أيامه ودرت عليهم أخلاف النعم بعد توالي الشدائد الكبيرة ومقاساة الألم.
وكثر ترداد التجار في أيامه إلى مصر بعد نزوحهم عنها وخروجهم لشدة البلاء والجور فيها.
وكانت مدة تحكمه بالديار المصرية إحدى وعشرين سنة.
وكان عزوف النفس شديد البطش عالي الهمة عظيم الهيبة حسن التأتي جميل السياسة مظفراً سعيد الجد سخيا مفضالا.
قصده علقمة بن عبد الرزاق العليمي فلما وافى بابه شاهد أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم وعلماءهم على بابه وقد طال وقوفهم ومقامهم ولا يصلون إليه.
فبينا هو كذلك إذ خرج أمير الجيوش يريد الصيد فخرج في أثره وأقام معه حتى رجع من صيده فعندما قاربه وقف على تل من رمل ورمى برقعة كانت في يده وأنشد: نحن التّجار وهذه أعلاقنا درّ وجود يمينك المبتاع قلّب وفتّشها بسمعك إنّما هي جوهرٌ تختاره الأسماع كسدت علينا بالشآم وكلمّا قلّ النّفاق تعطّل الصّنّاع فأتاك يحملها إليك تجارها ومطيّها الآمال والأطماع فوهبت ما لم يعطه في دهره هرمٌ ولا كعبٌ ولا القعقاع وسبقت هذا النّاس في طلب العلا والناس بعدك كلّهم أتباع يا بدر أُقسم لو بك اعتصم الورى ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا وكان بيد بدر باز فدفعه لأحد مماليكه وجعل يستعيد الأبيات وهو معه إلى أن استقر في مجلسه.
فلما اطمأن قال للحاضرين عنده من أحبني فليخلع عليه.
فبادر حينئذ الحاضرون ولم يبق منهم إلا من ألقى له ما قدر عليه حتى صار إليه منهم ما حمله على سبعين بغلاً عندما خرج من المجلس ومع ذلك أمر له أمير الجيوش من ماله بعشرة ألاف درهم.
قال قاضي الرشيد أحمد بن الزبير في كتاب العجائب والطرف والهدايا والتحف: ولما مات أمير الجيوش بدر المستنصري خلف سبعمائة غلام كل غلام له من المال ما ينيف عن المائة ألف غلام.
وخلف من المال بعد عمارة سور القاهرة ستة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف ألف درهم في دار الوزارة ومن الجوهر والياقوت أربعة صناديق ومن القضب الفضة والذهب والمراتب ومن السروج المحلاة ما يعجز عن وصفه.
وخلف ألف قصبة زمرد لأنه كان له به غرام عظيم جمعت له من جميع الأقطار.
ولما مات أمير الجيوش كان أجل غلمانه من الأمراء نصر الدولة أفتكين ويليه في الرتبة أمين الدولة صافي ويقال لاون فبعث لاون لكل جماعة من الأمراء الجيوشية مالاً والتمس منهم الرضا به أن يلي الوزارة مكان أستاذه أمير الجيوش فوافقوه على ذلك فأقر أمره مع المستنصر فطلبه بعد موت أمير الجيوش وأفاض عليه خلع الوزارة وجلس في الشباك عند الخليفة ليتولى على العادة.
وكان نصر الدولة أفتكين قد بلغه ذلك من قبل فركب وطاف على الأمراء كل واحد بمفرده وغلطه فيما عزم عليه وقبح أن يكون أحد خشدا شيته يتحكم عليه مع وجود أولاد أستاذهم مع ما قد عرف من بخل لاون ونحو ذلك من القول حتى رجعوا عن لاون.
فعندما طلبه المستنصر وخلع عليه ركب نصر الدولة في جميع الأمراء بالسلاح وصاروا إلى القصر ووقفوا في الصحن فشق ذلك على المستنصر وعلى من بحضرته من خواصه.
وشرع الأمراء في مخاطبة المستنصر في إبطال وزارة لاون وهو يأبى عليهم حتى طال الخطاب.
فقال المستنصر إذا أقمنا قصبة قبل أمرنا.
فقال الأمراء إذا أقمت هذه القصبة قطعناها بهذه السيوف وجردوا سيوفهم ولم يبق إلا وقوع الشر.
فقال المستنصر لهم خيراً وأمر بإحضار الأفضل بن أمير الجيوش وقرر في الوزارة مكان أبيه وبطل أمر لاون فاستمر إلى ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة.
وفيها مات الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معد فلما كان عند موته حصل رعد عظيم وبرق كثير ومطر غزير وعمره يومئذ سبع وستون سنة وخمسة أشهر منها في خلافته ستون سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام مرت به فيها أهوال عظيمة وشدائد آلت به إلى أن جلس على نخ لا يجد من القوت إلا ما تتصدق به عليه الشريفة ابنة صاحب السبيل في كل يوم فلا يأكل غير مرة واحدة في اليوم من قعب فتيت تبعث بها إليه كما قد تقدم ذلك.
وكان قد قوي أمره وقام بتدبير وزارته عند إقامته في الخلافة وزير أبيه علي بن أحمد الجرجرائي فمشت الأحوال على سداد إلى أن مات فحكمت أمه في الدولة وولت أبا سعيد ابراهيم اليهودي التستري وزارتها فصار هو الذي يلي الوساطة ويدبر الأموال إلى أن قتل.
فلما كانت سنة اثنتين وستين اختلطت الأمور وتعاظم الأمر فكان من الغلاء والفتن والبلاء والنهب ما تقدم ذكره.
وولي وزارته أربعة وعشرون وزيراً وهم: أبو القاسم الجرجرائي إلى أن مات وزيراً في سنة ست وثلاثين فولي أبو منصور صدقة بن يوسف الفلاحي إلى أن قتل في سنة تسع وثلاثين فولي عماد الدولة أبو البركات الحسين بن محمد الجرجرائي مرتين إلى أن عزل في سنة أربعين فولي صاعد بن مسعود أبو الفضل وصرف في سنة اثنتين وأربعين فاستقر أبو محمد اليازوري مضافاً إلى القضاء والتقدمة على الدعاة ولم يجمع ذلك لأحد قبله إلى أن قبض عليه في محرم سنة خمسين فاستوزر أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي ثم صرف بعد شهرين وأربعة عشر يوماً.
واستقر أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين المغربي ثم صرف في سنة اثنتين وخمسين وأعيد البابلي ثم صرف بعد أربعة أشهر.
وتولى عبد الله بن يحيى بن المدبر في صفر سنة ثلاث وخمسين وصرف بعد شهرين وتولى عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي في رمضان منها إلى أن توفي في محرم سنة أربع وخمسين فتولى بعده أخوه أبو علي أحمد سبعة عشر يوماً وصرف فأعيد البابلي كرة ثالثة في ربيع الأول فأقام خمسة أشهر واستعفى فوزر أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة الماسكي ثم صرف بأبي أحمد بن عبد الكريم ابن عبد الحاكم فكان ينقل من القضاء إلى الوزارة ثم يعود إلى القضاء وصرف بابن المدبر فأقام إلى أن توفي فأعيد أبو أحمد بن عبد الحاكم في ذي الحجة سنة خمس وخمسين فأقام خمسة وأربعين يوماً وصرف بأبي غالب عبد الطاهر بن فضل العجمي فتولى غير مرة وكان جده من دعاة الدولة فولي مرة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وصرف بعد ثلاثة أشهر وولي أخرى في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وصرف بعد ثلاثة وأربعين يوماً وفي ثالثة في أيام الفتنة وقتله تاج الملوك شاذي بالقاهرة في سنة خمس وستين.
وولي الوزارة أيضا الحسن بن ثقة الدولة بن أبي كدينة وجمع له بين القضاء والوزارة سبع مرات ووصل أمير الجيوش وهو وزير فقبض عليه وقتل بدمياط.
وولي أبو المكارم سعد وتنقلت به الأحوال حتى قتله أمير الجيوش ثم وزر بعده أبو علي الحسن ابن أبي سعيد التستري عشرة أيام ثم استعفى وكان يهوديا فأسلم.
ثم استوزر أبو القاسم عبد الله بن محمد الرعباني مرتين كل منهما عشرة أيام ثم ولي الأمير أبو الحسن بن الأنباري أياما وصرف.
فتولى أبو علي الحسن بن سديد الدولة الماسكي أياما وهذه وزارته الثانية ثم صرف بأبي شجاع محمد بن الأشرف بن فخر الملوك وصرف فسار إلى الشام ولقيه أمير الجيوش فقتله وأبو غالب جده كان وزيراً لبهاء الدولة بن عضد الدولة ملك العراق.
ثم ولي بعده أبو الحسن طاهر بن وزير الطرابلسي ثم صرف وكان أحد الكتاب بديوان الإنشاء فولي بعده أبو عبد الله محمد بن أبي حامد التنيسي يوماً واحداً وقتل فوجد له مال كثير.
ثم ولي أبو سعد منصور بن أبي أيمن سورس بن مكرواه بن زنبور وكان نصرانيا فأسلم ويقال إنه لم يسلم ثم ولي بعده أبو العلاء عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف وصرف.
فلما قدم أمير الجيوش تسلمها.
ولما قدم أمير الجيوش من عكا صار وزير السيف والقلم وولي القضاء أيضا وزيد في ألقابه كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين.
ثم لما مات وزر من بعده ابنه الأفضل.
وأما قضاته فقد تقدم من جمع له القضاء مع الوزارة.
والذين أفردوا بوظيفة القضاء عبد الحاكم بن سعيد الفارقي في أول خلافته ثم تقلد القضاء القاسم بن عبد العزيز ابن النعمان ثم أبو يعلى ويقال أبو الحسن أحمد بن حمزة بن أحمد العرقي ومات فولي أبو الفضل القضاعي ثم جلال الدولة أبو القاسم علي بن أحمد بن عمار.
وولي الفضل ابن نباتة ثم أبو الفضل بن عتيق ثم أبو الحسن علي بن يوسف بن الكحال ثم فخر الأحكام أبو الفضل محمد بن عبد الحاكم وكان في أيامه ما قد تقدم ذكره من الرزايا.
وكان نقش خاتمه: بنصر السميع العليم ينتصر المستنصر أبو تميم.
ومما رثى به المستنصر قول حظي الدولة أبي المناقب عبد الباقي بن علي التنوخي الشاعر من أبيات:
وليس ردى المستنصر اليوم كالرّدى ** ولا قدره أمرٌ يقاس به أمر
لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحى ** ففاجأه ليلاً وما طلع الفجر
فأجرى عليه حين مات دموعنا ** سماءً فقال الناس لا بل هو القطر
وقد بكت الخنساء صخراً وإنّه ** ليبكيه من فرط المصاب به الصّخر
وقلّدنا المستعلى الطّهر حسبما ** عليه قديما نصّ والده الطّهر