المقريزى من سنة 452 - 461 هـ
*************************************************************************************************************
هذه الصفحة تاريخ المستنصر خامس الخلفاء الفاطميين الشيعة الذين حكموا مصر من سنة 452 - 461 هـ نقلت من كتاب اتعاظ الحنفا - أحمد بن علي المقريزي ج 2 ص 19 لفائدة القارئ الدارس وكعادة الموقع لم نزيد أو ننقص منها وضعناها كما هى ولكننا وضعنا لكل مقطع عناوين للتسهيل على الدارس
*************************************************************************************************************
سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فيها سارت العساكر من مصر إلى دمشق وكتب لناصر الدولة أبي علي الحسين بن حمدان أن يكون قائد الجيش فسار من دمشق بعسكر كبير في سادس ربيع الأول يريد محاربة أهل حلب.
وكانت مدينة حلب قد أقيمت فيها الدعوة الفاطمية وأسقطت بها دعوة بني العباس إلى أيام الظاهر بن الحاكم فتغلب عليها صالح بن مرداس أحد أمراء الكلابيين وكثف أمره بها حتى استولى على دمشق أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري أحد الغلمان الأتراك فساس الأمور وأطاعه كل مارق وراسل الملوك.
فنابذه صالح بن مرداس وجمع له العرب وفيهم عدة الدولة حسان بن جراح وسار لمحاربته فكانت بينهما وقائع انهزم فيها حسان إلى بلاد الروم وتفرق الجمع.
ثم مات صالح وقام من بعده ابنه شبل الدول نصر بن صالح في حلب فقام بمنابذة أمير الجيوش كما كان أبوه وسار لقتاله فقتل وملك أمير الجيوش حلب فأقام بها رضي الدولة منجوتكين أحد غلمانه فأقام بها سنين.
ومات أمير الجيوش فغلب على حلب ثمال بن صالح بن مرداس وملكها ولم يقم أحد بعد أمير الجيوش مقامه.
فلما كانت وزارة الجرجرائي غمض طرفه عن ثمال ورأى أن موادعته أخف من إنفاق الأموال في محاربته فكتب بولايته وقرر عليه الحمل في كل سنة.
وتمادى ذلك إلى أيام وزارة اليازوري فلم يرض بهذا ورأى أن الحيلة أبلغ فيما يؤثره لأنه إن رام صرفه لم يطق ذلك وإن نابذه ألزم كلفاً كثيرة.
فاستعمل السياسة والتدبير الخفي وندب لذلك رجلا من أهل صور له بها رئاسة ووجاهة يقال له عين الدولة علي بن عياض قاضي صور فساس الأمر وأحكم التدبير فيما قرره مع كاتب ثمال بن صالح وما وعده به حتى نزل من قلعة حلب وسلمها إلى مكين الدولة الحسن بن علي بن ملهم والي الخليفة المستنصر.
وسار من حلب يريد مصر للقاء الحضرة فلما بلغ رفح اتصل به خبر القبض على اليازوري فقال والله إني أموت بحسرة ونظرة إلى من استلبني من ذلك الملك وأخرجني بلا رغبة ولا رهبة إلا بحسن السياسة وإن رام ذلك مني فليس يتعذر عليه.
ورجع ثمال إلى حلب فاتفق في غيبته قيام أهل حلب وتسليم البلد إلى عز الدولة محمود بن نصر بن صالح بن مرداس في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة فحضر ابن ملهم بالقلعة إلى أن سار إليه ناصر الدولة بن حمدان فكانت بينهما حروب كبيرة على قنسرين آلت إلى أن انكسر ناصر الدولة كسرة عنيفة فأصابته ضربة شلت منها يده ورجع منهزماً في مستهل شعبان.
فقال عبد العزيز العكيك الحلبي وقد مدح ناصر الدولة فلم يجزه.
ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا جدواك مع علمي بأنّك باخل فالدّولة الزهراء قد غلطت بأن نعتتك ناصرها وأنت الخاذل إن تمّ أمرك مع يدٍ لك أصبحت شلاّء فالأمثال عندي باطل وأما ابن ملهم فإنه بعث إلى أسد الدولة أبي ذؤابة عطية بن صالح فسلمه حلب ودخلها في عاشر شعبان هذا وأقام بها يوم ثم خرج عجزاً عنها فوصل محمود في ثاني عشره وملكها.
وفي تاسع رمضان صرف أبو الفرج ابن المغربي عن الوزارة وأعيد إليها أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي.
وصرف عن قضاء القضاة عبد الحاكم بن وهب في جمادى الآخرة واستقر عوضه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي ذكرى في حادي عشري رجب.
وفيها قدمت هدية المعز بن باديس فقومت بأربعين ألف دينار.
منها درقة مرصعة بالجوهر كانت للمهدي.
وفيها قدم كتاب علي بن محمد الصليحي بما هو عليه من القوة وإقامة الدعوة واستأذن في وفيها نزل محمود بن شبل الدولة ثمال بن صالح بن مرداس على حلب ومعه منيع بن سيف الدولة سبعة أيام ثم رحل وعاد إليها وأخذها يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة وحصر القلعة إلى سادس رجب ورحل فملكها أصحاب المستنصر.
وفيها التقى ناصر الدولة بن حمدان مع محمود بن شبل الدولة على الفنيدق فانكسر ابن حمدان ودخل عطية حلب وخرج منها وتسلمها محمود يوم السبت ثاني شعبان ثم وصل عمه معز الدولة فحاصر حلب مدة.
سقط تنور قبة صخرة بيت المقدس
وفي هذه السنة سقط تنور قبة صخرة بيت المقدس وفيه خمسمائة قنديل فتطير الناس وقالوا ليكونن في الإسلام حادث عظيم.
سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
في ثالث محرم صرف البابلي عن الوزارة واستقر عبد الله بن يحيى بن المدبر.
وفي صفر توفى قاضي القضاة ابن أبي ذكرى فاستقر في الحكم بعده أبو علي أحمد بن قاضي القضاة عبد الحاكم بن سعيد في رابع عشره وصرف في خامس صفر. واستقر عوضه أبو القاسم عبد الحاكم بن وهيب المليجي ثم صرف في حادي عشر رمضان.
واستقر عوضه أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعد بن مالك بن سعيد الفارقي واستخلف ابنه عميد الملك أبا الحسن.
وصرف ابن المدبر عن الوزارة واستقر بعده أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم أخو قاضي القضاة.
وكان السبب في سرعة العزل وكثرة الولايات أنه لما قتل اليازوري كثر السعاة في الوزارة فما هو إلا أن يستخدم الوزير فيجعل نصب الأعين وتركب عليه المناصب ويكثر الطعن عليه حتى يعزل ولم تطل مدته ولا اتسع وقته فيلي بعده من يتفق له مثل ذلك لمخالطة الناس الخليفة ومداخلتهم الرقاع والمكاتبات الكثيرة إليه وكان لا ينكر على أحد مكاتبته.
فأحب الناس مخالطة الخليفة وجعلوه سوقا لهم فتقدم كل سفساف وحظي أوغاد عدة وكثروا حتى كانت رقاعهم أوقع من رقاع الصدور والرؤساء والجلة وتنقلوا في المكاتبة إلى كل فن حتى إنه كان يصل إلى المستنصر في كل يوم ثمانمائة رقعة فتشابهت عليه الأمور وتناقضت الأحوال.
ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدة كل منهم فإن الوزير منذ يخلع عليه ويستقر إلى أن ينصرف لا يفيق من التحرر فمن ابتغى به يؤذيه عند الخليفة وسعت عليه الرجال فما يصير فيه فضل عن الدفاع عن نفسه.
فخربت الأعمال وقل ارتفاعها وتقلب الرجال على معظمها واستنضوا راخي ارتفاعها فاتضع الارتفاع وعظمت النفقات.
ووقع اصطراع الأضداد على السلطان وواصلوه باقتضاء مالهم من المقررات ولازموا بابه ومنعوه من لذاته.
وتجرءوا على الوزراء واستخفوا بهم وجعلوهم غرضا لمساءتهم فكانت الفترات بعد صرف من ينصرف منهم أطول من مدة نظر أحدهم والمستنصر يوسعهم حلماً واحتمالا.
فأطغى الرجال ذلك وجرأهم عليه حتى خرجوا من طلب واجباتهم إلى التصارع فاستنفدوا أمواله وأخلوا منها خزائنه وأحوجوه إلى بيع ما عنده من العروض فكان يخرجها لهم لتباع ويشتريها الناس فيعترضونها ويأخذ من له درهم واحد ما يساوي عشرة ولا يمكن مطالبته.
ثم عادوا إلى تقويم ما يخرج فإذا حضر المقومون أخافوهم فيقومون ما يساوي ألفاً بمائة فما دونها ولا يتمكن الخليفة من استيفاء ذلك فتلاشت الأمور واضمحل الملك.
ثم لما علموا أنه لم يبق ما يخرج لهم تقاسموا الأعمال وتشاحنوا على ما زاد من الارتفاع وكانوا يتنقلون فيها بحكم غلبة من يغلب صاحبه عليها.
ودام ذلك بينهم سنوات نحواً من ست ثم قصر النيل وغلت الأسعار غلاءً بدد شمل الناس بأسرهم وفرق ألفتهم وشتت كلمتهم وأوقع العداوة والبغضاء بينهم فقتل بعضهم بعضا حتى ناء عصب الإقليم وعفت آثاره كما ستقف عليه فيما يأتي إن شاء الله.
وفيها اصطلح معز الدولة وابن أخيه محمود بن شبل الدولة ودخل حلب في رابع عشري ربيع الأول.
فلما كان يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة توفي ودفن بالقلعة بعد أن حاصر ابن أخيه وفيها مات بمصر مؤتمن الدولة أبو طاهر مسلم بن علي بن ثعلب فكتب أبو محمد بن سعد الشاعر الخفاجي من القسطنطينية إلى أهله بحلب يرثيه من أبيات: أتاني وعرض الرمل بيني وبينه حديث لأسرار الدموع مذيع ومات المعز بن باديس وملك بعده ابنه تميم فطمع أصحاب البلاد بسبب العرب وتغلبهم على بلاد إفريقية.
سنة أربع وخمسين وأربعمائة
في ثالث المحرم توفي أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم في وزارته.
وكان أبوه قاضي طرابلس فانتقل أبو محمد إلى مصر وكان فاضلا فردت الوزارة بعده إلى أخيه أبي علي أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد.
ثم صرف عن القضاء في صفر بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمن ثم صرف أبو علي عن الوزارة واستخدم سديد الدولة أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة ذي الكفايتين بن أبي الحسن علي بن محمد بن الحسن ابن عيسى العقيلي وكان أولا ناظرا على دواوين الشام فأقام في الوزارة إلى شوال وصرف عنها بأبي الفرج البابلي المقدم ذكره وفيها تولى مكين الدولة بن ملهم طبرية وعكا وإمرة بني سليم وبني فزارة فسار إليها وتسلمها الفتنة التي خربت مصر ذكر ابتداء الفتنة التي آلت إلى خراب ديار مصر وفي هذه السنة ابتدأت الفتنة التي كانت سبباً لخراب الإقليم.
وذلك أن المستنصر كان من عادته في كل سنة أن يركب على النجب ومعه النساء والحشم إلى جب عميرة وهو موضع نزهة ويغير هيئته كأنه خارج يريد الحج على سبيل الهزر والمجانة ومعه الخمر محمول في الروايا عوضاً عن الماء ويدور به سقاته عليه وعلى من معه كأنه بطريق الحجاز أو كأنه ماء زمزم.
وقد أنشد الشريف أبو الحسين علي بن الحسين بن حيدرة العقيلي المستنصر في ذلك صبيحة يوم عرفة: قم فانحر الرّاح يوم النحر بالماء ولا تضحّ ضحىً إلا بصهباء وادرك حجيج النّدامى قبل نفرهم إلى منىّ فصفّهم مع كل هيفاء وعج على مكة الروحاء مبتكرا فطف بها حول ركن العود والنّاء فلما كان في جمادى الآخرة خرج على عادته واتفق أن بعض الأتراك جرد سيفا في سكرة منه على بعض عبيد الشراء فاجتمع عليه عدة من العبيد وقتلوه.
فغضب لذلك جماعة الأتراك واجتمعوا بأسرهم ودخلوا على المستنصر وقالوا إن كان هذا الذي قتل منا على رضاك فالسمع والطاعة وإن كان قتله عن غير رضا أمير المؤمنين فلا صبر لنا على ذلك وأنكر المستنصر أن قتله برضاه أو أمره فخرج الأتراك واشتدوا على العبيد يريدون محاربتهم فبرزت العبيد إليهم وكانت بين الفريقين حروب بناحية كوم شريك قتل فيها عدة وانهزم العبيد وقويت الأتراك هذا والسيدة أم المستنصر تمد العبيد بالأموال والسلاح.
فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك وقف على شيء مما تبعث به أم المستنصر إلى العبيد لتعينهم به على محاربة الأتراك فأنكر ذلك وأعلم أصحابه فاجتمعوا وصاروا إلى المستنصر وتجرءوا عليه بالقول وأغلظوا في المخاطبة فأنكر أن يكون عنده من ذلك خبر وصار السيف قائماً.
فدخل على أمه وأنكر عليها ما تعتمده من تقوية العبيد وإعانتهم على محارة الأتراك.
ثم انتدب أبا الفرج ابن المغربي الذي كان وزيرا فخرج ولم يزل يسعى بين الأتراك والعبيد حتى أوقع الصلح بين الفريقين.
فاجتمع العبيد وساروا إلى ناحية شبرا دمنهور.
فكانت هذه الكائنة أول الاختلاف بين طوائف العسكر.
وكانت السبب في كثرة السودان بالقصر أن أم المستنصر كانت جارية سوداء قدم بها أبو سعيد التستري المقدم ذكره فأخذها منه الظاهر واستولدها المستنصر.
فلما أفضت الخلافة إلى ابنها المستنصر ومات الوزير صفي الدين الجرجرائي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة استطالت أم المستنصر وقويت شوكتها وتحكمت في الدولة واستوزرت مولاها أبا سعيد.
وتوقفت أحوال الوزير الفلاحي معه فاستمال الأتراك وزاد في واجباتهم حتى قتلوا أبا سعيد فحنقت أم المستنصر من قته على الفلاحي ولم تزل به حتى كان من أمره ما تقدم ذكره.
وأخذت في شراء العبيد السود وجعلتهم طائفة لها واستكثرت منهم وخصتهم بالنظر وبسطت لهم في الرزق ووسعت عليهم حتى أمطرتهم بالنعم وسار العبد بمصر بحكم حكم الولاة.
وشرعت تغض من الأتراك وتظهر كراهتهم وانتقاصهم.
وتقدمت إلى الوزير أبي البركات الجرجرائي أن يغري العبيد بالأتراك ويوقع بينهم فخاف سوء العاقبة في ذلك ولم يوافقها عليه فلم تزل به حتى صرف من الوزارة.
واستقر وزيرها أبو محمد اليازوري في الوزارة فأوعزت إليه بذلك فساس الأمور سياسة جميلة إلى أن انقضت أيامه.
ووزر البابلي فأمرته بذلك فشرع فيه.
وتغيرت النيات وصارت قلوب كل من الطائفتين تضمر السوء للأخرى حتى كان من الحرب ما قد ذكر ولم يزل ذلك حتى خرب الإقليم كله وهلك أهله كما سيأتي.
وفيها توفي الشريف أبو الحسن إبراهيم بن العباس بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق وكان قد ولي قضاء دمشق مرتين.
وفي سابع عشر ذي القعدة توفى القاضي الفقيه أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمول بن إبراهيم بن محمد بن مسلم القضاعي وكان يخلف القضاة في الحكم بمصر.
وكان إماماً محدثاً وله كتاب الشهاب وكتاب الخطط وكتاب أنباء الأنبياء وغير ذلك من المصنفات.
وفيها توفى الرئيس أبو الحسن علي بن رضوان بن علي بن جعفر الطبيب.
وتوفي المعز بن باديس بالقيروان في رابع شعبان.
سنة خمس وخمسين وأربعمائة
فيها ردت الوزارة والحكم معاً إلى أبي علي أحمد بن قاضي القضاة عبد الكريم بن عبد الحاكم في ثالث عشر المحرم ثم صرف عنهما في سابع صفر وأعيدت الوزارة لأبي الفضل عبد الله بن يحيى بن المدبر والحكم إلى أبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب.
وفي تاسع عشر جمادى الأولى توفي الوزير أبو المفضل عبد الله بن المدبر وقد تكررت ولايته للوزارة وسمع الحديث وكان فاضلاً أديباً وهو من ولد ابن المدبر متولي خراج مصر في أيام ابن طولون.
واستقر في الوزارة أبو غالب عبد الطاهر بن الفضل بن الموفق في الدين المعروف بابن العجمي ثم صرف وقبض عليه في السابع والعشرين من شعبان.
وأعيد إلى القضاء والوزارة جميعاً أبو محمد الحسن بن مجلي بن أسد بن أبي كدينة واستمر فيهما إلى خامس ذي الحجة فرتب مكانه جلال الملك أحمد بن عبد الكريم ابن عبد الحاكم بن سعيد فاستخلف أخاه أبا الحسن عليا على القضاء.
وفيها ندب أمير الجيوش بدر الجمالي لولاية دمشق وندب معه على الخراج الشريف أبو الحسن يحيى بن زيد الحسني الزيدي.
وفيها قدم الصليحي مكة بعد ما ملك اليمن كله سهله وجبله وبره وبحره وأقام بها وبمكة دعوة المستنصر وكسا الكعبة حريراً أبيض ورد حلية البيت إليه وكان بنو حسن قد أخذوها ومضوا بها إلى اليمن فاشتراها منهم وأعادها في هذه السنة.
واستخلف على مكة محمد بن أبي هاشم وعاد إلى اليمن.
سنة ست وخمسين وأربعمائة
في ثالث عشري المحرم صرف أحمد بن عبد الحاكم عن القضاء والوزارة.
وتقلد الوزارة أبو المكارم المشرف بن أسعد بن مقبل وفوض قضاء القضاء لأبي محمد الحسن بن مجلى بن أبي كدينة ثم صرف وأعيدت الوزارة لأبي غالب عبد الطاهر بن الفضل وفوض القضاء لأبي الحسن علي بن عبد الحاكم في سابع عشري ربيع الآخر ثم صرف عن القضاء في خامس جمادى الأولى بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب.
ثم صرف أبو غالب عن الوزارة واستدعى أبو البركات حسين بن عماد الدولة الجرجرائي من صور فحضر إلى مصر ووليها في مستهل رجب فأقام إلى العشر الأخر من رمضان وصرف عنها وصرف أيضاً عن القضاء عبد الحاكم.
وجمعا معاً الوزارة والقضاء لابن أبي كدينة فباشرهما إلى رابع ذي الحجة فصرف عن الوزارة وقرر فيها أبو علي الحسن بن أبي سعيد التستري وقرر في القضاء أحمد بن عبد الحاكم.
وفيها فارق أمير الجيوش بدر ولاية دمشق فراراً من أهلها لثورتهم به فقرر المستنصر بدله الأمير حصن الدولة أبا الحسن معلى بن حيدرة بن منزو بن النعمان الكناني.
وفيها قتل قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق صاحب قونية وأقصرا فقام بعده ابنه سليمان ابن قطلمش وفتح أنطاكية.
سنة سبع وخمسين وأربعمائة
في النصف من المحرم صرف عن الوزارة أبو علي بن أبي سعيد وصرف عن القضاء أبو أحمد بن عبد الحاكم.
وتولى الوزارة أبو شجاع محمد بن الأشرف بن أبي غالب محمد ابن علي بن خلف وكان أبوه أحد وزراء بني بويه ببغداد ثم صرف عنها ثاني يوم واستقر في القضاء والوزارة جميعا أبو محمد بن أبي كدينة في حادي عشريه فلم يقم غير أربعة أيام وصرف عنها في سادس عشريه.
وأعيد أبو شجاع محمد بن الأشرف إلى الوزارة وتقلد القضاء جلال الملك أبو أحمد بن عبد الكريم.
فأقام ابن الأشرف في الوزارة إلى نصف ربيع الأول وصرف وقرر في الوزارة سديد الدولة أبو القاسم هبة الله بن محمد الرعباني الرحبي ثم صرف في آخره.
واستوزر ابن أبي كدينة وأضيف إليه القضاء أيضاً في نصف جمادى الآخرة فباشرهما إلى نصف رجب وصرف عن الوزارة بأبي المكارم رئيس الرؤساء الشرف بن أسعد وعن القضاء بعبد الحاكم بن وهيب.
ثم قبض على الوزير أبي المكارم في العشر الأخير من شوال وتولى الوزارة بعده الأثير أبو الحسن علي بن الأنباري فأقام شهراً وصرف في ذي الحجة عن الوزارة ولم يعد إليها.
سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
في سادس عشرين منه صرف ابن أبي كدينة عن القضاء واستقر عوضه جلال الملك أبو أحمد ونعت بقاضي القضاة الأعظم.
وفي تاسع ربيع الآخر أعيد إلى الوزارة أبو القاسم هبة الله محمد وفي جمادى الأولى ولى المستنصر أمير الجيوش بدراً الشام بأسره فخرج إليها بعد ما أنفق عليه ألف ألف دينار.
وفي جمادى الآخرة جمع القضاء والوزارة لأبي أحمد جلال الملك ثم صرف بعد أيام عن الوزارة بأبي الحسن طاهر بن وزير فباشر أياماً يسيرةً وصرف بأبي عبد الله محمد بن حامد التنيسي وأقام يوماً واحداً ثم صرف وقتل.
فاستوزر أبو سعد منصور بن زنبور فلم يقم في الوزارة غير أيام قليلة وهرب فأقيم بعده أبو العلاء عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف فباشر أياما يسيرة وصرف.
وكان دخول أمير الجيوش إلى دمشق في سادس شعبان وبلغ ما بلغت نفقة المستنصر عليه ألف ألف دينار.
سنة تسع وخمسين وأربعمائة
فيها قويت شوكة الأتراك واشتد بأسهم وطلبوا الزيادات في واجباتهم ورواتبهم وساءت أحوال العبيد وكثر ضررهم وهم يتزايدون حتى صار منهم بالقاهرة ومصر وما في ظواهرهما من القرى نحو الخمسين ألف عبد ما بين فارس وراجل.
وخلت خزائن أموال المستنصر وضعفت الدولة.
فبعثت السيدة أم الخليفة المستنصر إلى قواد العبيد تغريهم بالأتراك وتحثهم على الإيقاع بهم ومحاربتهم وإخراجهم من مصر فجمع قواد العبيد وحشدوا طوائفهم وصاروا إلى شبرا دمنهور وساروا إلى الجيزة فخرج إليهم الأتراك يريدون محاربتهم وقد بلغت النفقة في تعديتهم إلى الجيزة ألف ألف دينار.
فالتقى الفريقان وكانت بينها حروب انجلت عن كسرة السودان وهزيمتهم إلى الصعيد.
وكان مقدم طوائف الأتراك يومئذ ناصر الدولة أبو علي الحسن بن الأمير أبي الهيجاء ابن حمدان فرجع بالأتراك إلى القاهرة وقد قويت نفسه وعظم قدره واشتدت شوكته وثقلت وطأته.
وتلاحق العبيد بعضهم ببعض واجتمعوا في بلاد الصعيد وهم في عدد يتجاوز الخمسة عشر ألف ما بين فارس وراجل فساء ذلك الأتراك وأقلقهم فصار أكابرهم إلى المستنصر وشكوا إليه أمر العبيد.
فأمرت أم المستنصر جماعة ممن كان عندها من العبيد أن يقتحموا على الأتراك فهاجموهم على حين غفلة وقتلوا منهم جماعة.
ففر ابن حمدان حينئذ إلى ظاهر القاهرة وتسارع إليه الأتراك وقد استعدوا لمحاربة العبيد فخرج إليهم عدة من العبيد الذين كانا بالقاهرة ومصر.
فكانت بين الطائفتين حروب شديدة مدة أيام فحلف منذ ذلك ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل إما له أو عليه.
وثبت كل منهما فكانت الكرة لابن حمدان على العبيد فوضع السيف فيهم وتجاوز الحد في كثرة قتلهم وتتبعهم في كل مكان حتى لم يدع في القاهرة ومصر منهم إلا قليلا وهم مقيمون بالصعيد والاسكندرية.
فرأى ابن حمدان أن يبدأ محاربة من في الاسكندرية منهم فسار إليها ونازلها مدة وحصر العبيد بها وألح في مقاتلتهم حتى طلبوا منه الأمان فأقام على ولايتها رجلاً من ثقاته.
وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد والأتراك.
وفي يوم عيد الفطر أفرج عن حميد بن محمود بن الجراح وحازم بن علي بن الجراح الطائيين من خزانة البنود بعد ما أقاما محبوسين مدة طويلة.
وفيها قطعت دعوة المستنصر من اليمن بقتل الصليحي وأعيدت دعوة بني العباس.
وأما الوزراء فإن ابن أبي كدينة صرف في ثامن المحرم وولى أبو القاسم عبد الحاكم المليحي فأقام إلى سابع جمادى الآخرة وصرف وأعيد ابن أبي كدينة فأقام أياماً وصرف وأعيد المليحي فلم يقم سوى ليالي يسيرة وصرف وأعيد ابن أبي كدينة فأقام إلى ثامن عشري ذي القعدة وصرف بجلال الملك بن عبد الحاكم.
وفيها قتل فتوح الشامي أحد قواد العبيد وكان المنفق حين قتل خمسمائة ألف دينار.
سنة ستين وأربعمائة
في المحرم خرج الأتراك مبرزين إلى الرملة حين قتل شهاب الدولة وقد بلغت نفقه المستنصر فيهم ألف ألف دينار.
وفيه اشتد البلاء على المستنصر بقوة الأتراك عليه وطمعهم فيه فانخرق ناموسه وتناقصت حرمته وقلت مهابته وتعنتوا به في زيادة واجباتهم.
وكانت مقرراتهم في كل شهر ثمانية وعشرين ألف دينار فبلغت في هذه السنة إلى أربعمائة ألف دينار في كل شهر فطالبوا المستنصر بالأموال.
وركب ناصر الدولة الحسين بن حمدان ومعه جماعة من قواد الأتراك وحصروا المستنصر وأخذوا جميع الأموال ثم اقتسموا الأعمال وركبوا إلى دار الوزير ابن أبي كدينة يريدون الأموال فقال: وأي مال بقى الريف في يد فلان والصعيد في يد فلان والشام في يد فلان.
فقالوا: لا بد أن تنفذ إلى مولانا وتطلب منه وتعلمه بحضورنا.
فكتب الوزير إلى المستنصر رقعة يذكر فيها حضورهم بألقابهم وما يطلبون فخرجت الرقعة بخط المستنصر فيها مكتوب: أصبحت لا أرجو ولا أتّقي إلا إلهي وله الفضل جدّي نبيّي وإمامي أبي وقولي التوحيد والعدل المال إلى الله والعبد عبد الله والإعطاء خير من المنع.
" وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ ينْقَلِبُون ".
واعتذر بأنه لم يبق عنده شيء.
فاضطروه إلى إخراج ذخائره وذخائر آبائه وبيعها فأخذ يخرج ذلك شيئا بعد شيء وهم يأخذونها لأنفسهم بأيديهم ويثمنونها بأقل القيم وأبخس الأثمان.
وسار ابن حمدان بجماعة الأتراك إلى الصعيد يريد محاربة العبيد وكان قد كثر شرهم وتزايد ضررهم وعم الكافة أذاهم وإفسادهم فاجتمعوا لحربه واستعدوا للغاية.
فسار إليهم في شهر رمضان وقد بلغت النفقة عليه وعلى من معه ألف ألف دينار وكانت بينهما حروب عظيمة ووقائع عديدة انجلت عن كسرة الأتراك وهزيمتهم إلى الجيزة.
فتلاقى بعضهم ببعض وصاروا يداً واحدة على المستنصر وألبوا عليه واتهموه بأنه بعث إلى العبيد بالأموال في السر ليقويهم على محاربة الأتراك وجهروا له بالسوء من القول فقال لهم إنه لم يبعث إليهم بشيء ولا أمدهم بمعونة.
وأخذ الأتراك في لم شعثهم والتأهب لمحاربة العبيد حتى تهيأ أمرهم بعد أن أنفق المستنصر فيهم عوضا عما نهب السودان لهم وضاع من أموالهم ألف ألف دينار.
وساروا إلى قتالهم مرة ثانية فالتقوا بهم وصابروهم القتال ووالوا عليهم الكرات حتى انهزم العبيد منهم وقتل كثر من أعدادهم بحيث لم ينج منهم إلا القليل وزالت حينئذ دولتهم.
وعظم أمر ناصر الدولة واستبد بالأمور فصرف ابن أبي كدينة من الوزارة وأعاد المليجي فلم يبق غير خمسة وصرف: وأعيد ابن أبي كدينة وجمع له بين الوزارة والقضاء معاً في ربيع الأول فأقام فيهما إلى جمادى الأولى وصرف عن القضاء بجلال الملك فأقيم في منصب القضاء إلى سلخ رمضان فصرف عن القضاء بالمليجي.
فأقام المليجي قاضيا إلى يوم عيد النحر وصرف وتولى ابن أبي كدينة.
وفيها كانت بدمشق حروب بين أمير الجيوش بدر وبين عسكريته فكانت الحروب طول السنة في بلاد الشام وديار مصر قائمة لا تهدأ.
وسار الأمير قطب الدولة باز طغان إلى ولاية دمشق ومعه أبو الطاهر حيدرة بن مختص الدولة أبي الحسين ناظراً في أعمالها.
وفيها زلزلت مصر زلزلةً عظيمة حتى طلع الماء من الآبار وهلك عالم عظيم تحت الردم.
وزال البحر بفلسطين من الزلازل وبعد عن الساحل مسيرة يوم ثم رجع فوق عالم كبير خرجوا يلتقطون من أرضه.
وخربت الرملة خراباً لم تعمر بعده.
وفيها أنفق في غير استحقاق لمدة خمسة عشر شهراً أولها عاشر صفر سنة ستين مبلغ ثلاثين ألف ألف دينار.
فيها قوى تغلب المارقين على المستنصر واستباحوا ما وجدوا في بيوت أمواله واشتدت مطالباتهم بالواجبات المقررة لهم وسألوا الزيادات في الرسوم.
واقتسم مقدموهم دور المكوس والجبايات وتغلب كل من بقي منهم على ناحية ولم يبق للدولة ارتفاع يعول عليه ولا مال في القياصر يرجع إليه.
وأخرج من الذخائر مالا شوهد فيما بعده من الدول مثله نفاسةً وغرابة وجلالةً وكثرة وحسنا وملاحة وجودة وسناء قيمة وعلو ثمن ونقل منه التجار إلى الأمصار شيئا كثيراً سوى ما أحرق بالنار بعد ما امتلأت قياسر مصر وأسواقها من الأمتعة المخرجة من القصر المبيعة على الناس التي أنفق منها في أعطيات الأتراك وغيرهم لسنة ستين وأربعمائة.
ثروة الخلفاء الفاطميين
فأهلت سنة إحدى وستين هذه وقد اشتد الخوف بمصر وكثر التشليح في الطرقات نهاراً والخطف والقتل.
وصار الجند فرقتين فرقة مع الخليفة المستنصر وفرقة عليه.
وذلك أن الوحشة ابتدأت بين الأتراك وبين ناصر الدولة ابن حمدان لقوة بأسه وتفرده بالأمور دونهم واستبداده بالدولة عليهم فنافسوه وحسدوه وصاروا إلى الوزير خطير الملك وقالوا له: كل ما خرج من الخليفة من مال أخذه ناصر الدولة وتفرق أكثره في حاشيته ولا ينالنا منه إلا الشيء القليل.
فقال لهم إنما وصل ناصر الدولة إلى هذا وغيره مما هو فيه بكم ولولا أنتم لما كان له من الأمر شيء ولو أنكم فارقتموه لا نحل أمره.
واتفقوا على أن يكونوا جميعا عليه ويحاربوا حتى يظفروا به ويخرجوه من مصر.
ودخلوا إلى الخليفة المستنصر وسألوه أن يبعث إلى ناصر الدولة بالخروج من البلاد وتهديده إن لم يخرج فبعث إليه يأمره بالخروج عن بلاده فسارع إلى الخروج عن القاهرة ونزل بالجيزة.
فامتدت الأيدي عند خروجه إلى دوره ودور حواشيه وأصحابه وانتهبتها وأفسدتها.
فلما كان في الليلة التي خرج قبلها دخل في خفاء واجتمع بالقائد تاج الملوك شادي وترامي عليه وقبل رجله وقال له: اصطنعني وانصرني على الوزير الخطير وعلى إلدكز بأن تركب أنت وأصحابك وتسير بين القصرين فإذا أمكنتك الفرصة فاقتلهما فوافقه على ذلك وأجابه إليه ورجع ناصر الدولة إلى مخيمه بالجيزة.
فلما طلع النهار شرع تاج الملوك في عمل ما تقرر بينه وبين ناصر الدولة فأحس إلدكز بالمكيدة فسارع إلى اللحوق بالقصر واستجار بالمستنصر.
وأقبل الوزير في موكبه وليس له شعور بما بيت في الليل فصادفه تاج الملوك على غرة منه فأوقع به وقتله وسير في الحال إلى ناصر الدولة فحضر.
وحسن إلدكز للمستنصر أن يركب لمحاربة ناصر الدولة فلبس سلاحه وألبس من معه وركب ونزل فصار معه من الجند والعامة ما لا يحصى عددهم كثرة.
ووقف ناصر الدولة بمن معه ونشبت الحرب بينهما فكانت الكسرة على ناصر الدولة فانهزم وقد قتل كثير من أصحابه فمر على وجهه لا يلوى على شيء في يسير من أصحابه حتى انتهى إلى بني سنبس بالبحيرة فنزل عليهم وأقام فيهم واستجارهم وتزوج منهم.
واشتد الغلاء بمصر وقلت الأقوات في الأعمال وعظم الفساد والضرر وكثر الجوع حتى أكل الناس الجيف والميتات ووقفوا في الطرقات يخطفون من يمر من الناس فيسلبونه ما عليه مع ما نزل بالناس من الحروب والفتن التي هلك فيها من الخلق ما لا يحصيهم إلا خالقهم.
وخاف الناس من النهب فعاد التجار إلى ما ابتاعوه من المخرج من القصر يحرقونه بالنار ليخلص لهم ما فيه من الذهب والفضة.
فحرقوا من الثياب المنسوجة بالذهب والأمتعة من الستور والكلل والفرش والمظال والبنود والعماريات والمنجوقات والأجلة ومن السروج الذهب والفضة والآلات المجراة بالميناء والمرصعة بالجوهر شيء لا يمكن وصفه مما عمل في دول الإسلام وغيرها.
وفي سادس صفر وهب لسعد الدولة المعروف بسلام عليك ما في خزانة البنود من الآلات والأمتعة وغيرها فوجد فيها ألفا وتسعمائة درقة لمطية سوى ما كان فيها من آلات الحرب والقضب الفضة والذهب والبنود فسقطت شرارة فيما هنالك فاحترق جميعه وكانت لذلك غلبة وخوف شدائد.
فمما احترق فيها عشرات ألوف من السيوف إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة بحيث إن السلطان بعد ذلك بمدة احتاج إلى سلاح فأخرج من خزانة واحدة مما بقى وسلم من الحريق خمسة عشر ألف سيف مجوهرة سوى غيرها.
وأخرج من القصر صندوق كيل منه سبعة أمداد زمرد ذكر الجوهري أن قيمتها على الأقل ثلثمائة ألف دينار.
وكان في المجلس فخر العرب ابن حمدان وابن سنان وأبو محمد الحسن بن علي بن أسد بن أبي كدينة وغيرهم من المخالفين فقال بعضهم لمن أحضر من الجوهريين: كم قيمة هذا فقالوا إنما تعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجوداً ومثل هذا لا قيمة له.
فاغتاظ وقال ابن أبي كدينة: فخر العرب كثير المؤونة وعليه خرج والتفت إلى كتاب الجيش فقالوا: يحسب عليه بخمسمائة دينار فكتب بذلك وقبضه.
وأخرج عقد جوهر قيمته على الأقل ثمانون ألف دينار فكتب بألفي دينار وتشاغل الحاضرون بنظر ما سواه فانقطع سلكه وتناثر حبه فأخذ واحد حبة فجعلها في جيبه وأخذ ابن أبي كدينة حبة وأخذ فخر العرب شيئاً وتفرق الباقون سائره فذهب كأن لم يكن.
وأخرج ما أنفذه الصليحي من نفيس الدر وكيل فجاء سبع ويبات.
وأخرج ألفان ومائتا خاتم ما بين ذهب وفضة بفصوص من بين سائر أنواع الجواهر مما كان للخلفاء شوهد منها ثلاثة خواتيم من ذهب أحدها فصه زمرد واثنان ياقوت غشيم صاف ورماني كان شراء الفصوص اثني عشر ألف دينار.
وأخرج من خزائن القصر ما يزيد على خمسين ألف قطعة من الثياب الخسروانية وقال ابن عبد العزيز أخرج من الخزائن على يدي أكثر من مائة ألف قطعة ولما اشتد على المستنصر أمر الأتراك وطالبوه بجراياتهم بعث إلى العميد ابن أبي سعد في إحضار جوهر كان عنده فأحضر خريطة فيها نحو من ويبة فأحضر أرباب الخبرة من الجوهريين ليقوموه فذكروا أنه لا قيمة له ولا يشتري مثله إلا الملوك فقومت بعشرين ألف دينار وكان مشتراه على حده سبعمائة ألف دينار ففرق في الأتراك وقبض كل منهم جزءاً بقيمة الوقت.
وقسمت خزائن السيوف وآلات السلاح بين عشرة وهم ناصر الدولة ابن حمدان وأخواه فخر الدولة علي ويلدكوش وأمير الأمراء الحسين بن سبكتكين وسلام عليك وشاور بن حسين وتاج الملوك شادي والأعز ابن سنان ورضى الدولة بن رضي الدولة وأمير العرب ابن كيغلغ.
فكان من جملتها ذو الفقار وصمصامة عمرو بن معدي كرب وسيف عبد الله بن وهب الراسبي وسيف كافور الإخشيذي وسيف المعز لدين الله ودرع المعز وكانت تساوي ألف دينار بيعت منها كواكب بمائة دينار وسيف الحسين بن علي عليه السلام وكان وزنه ثلثمائة وستين مثقالاً وسيف الأشتر النخعي ودرقة حمزة بن عبد المطلب وسيف جعفر بن محمد الصادق.
ودخل في بعض الأيام من باب الديلم أحد أبواب القصر تاج الملوك شادي وفخر العرب علي بن ناصر الدولة ابن حمدان ورضي الدولة بن رضي الدولة وأمير الأمراء أبجتكين بن سبكتكين وأمي العرب ابن كيغلغ والأعز بن سنان وعدة من الأمراء البغداديين وصاروا في الإيوان ومعهم أحد الفراشين وفعلة فانتهوا إلى حائط مجير فأمروا الفعلة بكشف الجير فظهر باب فهدم فإذا خزانة ذكر أنها من أيام العزيزي بالله فوجدوا فيها من السلاح ما زادت قيمته على عشرين ألف دينار فحملوا جميع ذلك وتفرقوه.
وصارت حواشيهم وركابياتهم يكسرون الرماح ويتلفون أعوادها ليأخذوا المهارك الفضة.
وبيع من الرماح الخطية السمر الجياد شيء كثير مما كسره الغلمان للمغازليين وصناع موادن الغزل حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة ولم يعترضهم أحد من أهل الدولة.
وأخذ ما في خزائن البنود ومن المحكم والمينا المجرى بالذهب والمجرود والبغدادي والمذهب والخلنج والصيني ما لا يحصى.
وأخذ أيضا ما في خزائن الفرش من البسط والستور والنفائس من الحرير وغيره ما لا يعرف له قيمة لكثرته.
وأخرج في يوم من خزائن من القصر عدة صناديق فوجد في أحدها أمثال كيزان الفقاع من صافي البللور المنقوش والمجرود شيء كثير وإذا جميعها مملوءة من ذلك وغيره.
وبيعت في تركة عماد الدولة بن الفضل من المحترق بعد قتله مما كان قد صار إليه من مخرج القصر مرتبة خسروانية حمراء بثلاثة آلاف وخمسمائة دينار ومرتبة قلمونية بألفين وأربعمائة دينار وثلاثون سندسية كل واحدة بثلاثين ديناراً وقدح بللور بمائتين وعشرين ديناراً وخردادي بللور بثلثمائة وستين دينارا وكوز بللور بمائتين وعشرة دنانير وكلة بثمانمائة دينار وعدة صحون ميناء بيع كل منها بمائة دينار فما دونها.
وخرج من القصر خردادي وباطية من بللور في غاية النقاء وحسن الصنعة مكتوب عليهما اسم العزيز تسع الباطية سبعة أرطال ماء ويسع الخردادي تسعة أرطال دفع فيهما ابن عمار بطرابلس ثمانمائة دينار فامتنع صاحبهما.
وقال المعتمد أبو سعد النهاوندي أحد الأمناء وحده دون غيره من أمناء القصر مما أخرج بيع ثماني عشرة ألف فقعة بللور ومحكم منها يساوي الألف دينار وإلى عشرة دنانير ونيف وعشرون ألف قطعة خسروانية إلى غير ذلك من الفرش والتعاليق ما بين مذهبة وغير مذهبة.
وبيع في مدة خمسة عشر شهراً أولها عاشر صفر سنة ستين وأربعمائة سوى ما نهب وسرق مما خرج من القصر ما تحصل من ثمنه ثلاثون ألف ألف دينار على أنه بيع بأقل القيم وأنزر الأثمان وقبض الجند والأتراك جميعها من غير أن يستحق أحد منهم درهماً واحداً منها.
ودخلوا إلى خزانة الرفوف وكانت خزانة عظيمة بالقصر من جملة خزائن الفرش فيها رفوف كبيرة بعضها فوق بعض ولكل منها سلم منفرد فأخرجوا منها ألفي عدل شققاً طميما بهدبها من سائر أنواع الخسرواني وغيره لم تستعمل وكلها مذهب معمول بسائر الأشكال والصور.
وجد في عدل منها أجلة للفيلة من خسرواني أحمر مذهب كأحسن ما يكون وموضع نزول أفخاذ الفيال ورجليه سارج بغير ذهب.
وأخرج من بعض الخزائن ثلاثة آلاف قطعة من خسرواني أحمر مطرز بأبيض لم تفصل برسم كسوة البيوت كل بيت منها كامل بجميع آلاته ومسانده ومخاده ومراتبه وبسطه وعتبه ومقاطعه وستوره وجميع ما يحتاج إليه فيه.
وأخرج من الحصر السامانية المطرزة بالذهب والفضة وغير المطرزة مما هي مجومة ومطيرة وطفيلة ومصورة بسائر الصور ما لا يحصى كثرة.
وأخرج من صواني الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بسائر أنواع النقوش المملوء جميعها جواهر من سائر أنواعه شيء كثير جدا ونيف وعشرون ألف قطعة طميم من سائر الأمتعة.
والتمس بعض الأتراك من المستنصر مقرمة سندس أخضر مذهبة اقتراحا عليه لعدمها وقلة وجود مثلها فأخرج منها عدل كان العدد المكتوب عليه مائة وثمانية وثمانين من جملة أعداد أعدال فيها من المتاع.
وأخرج في يوم صناديق سروج محلاة بفضة وجد فيها صندوق مكتوب عليه: الثامن والتسعون والثلثمائة وعدة ما فيها زيادة على أربعة آلاف سرج.
ووجد غلف خيزران مبطنة بالحرير محلاة بالذهب خالية من الأواني كانت تسعة عشر ألف غلاف كان في كل غلاف قطعة من ووجود مائة كأن بازهر على أكثرها اسم هارون الرشيد ووجد ستور حريرية منسوجة بالذهب تقارب الألف مختلفة الألوان والأطوال فيها صور الدول وملوكها والمشاهير فيها مكتوب على صورة كل واحد منهم اسمه ومدة أيامه وشرح حاله.
ووجد في خزانة عدة صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة ومفضضة بنسب مختلفة من سائر الجواهر.
ووجد عدة صناديق كبيرة مملوءة من أنواع الدوى المربعة والمدورة والصغار والكبار المعمولة من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج وسائر أنواع الخشب المحلاة بالجوهر والفضة والذهب وسائر أنواع الحلى الغريبة والصنعة المعجزة الدقيقة بجميع آلاتها فيها ما يساوي الألف دينار وما فوقها سوى ما عليها من الجواهر وصناديق مملوءة مشارب ذهباً وفضة محرقة بالسواد صغاراً وكباراً بأحسن ما يكون من الصناعة.
وصناديق مملوءة أقلاماً مبرية من سائر أنواع القصب فيها ما هو من براية أبي علي محمد ابن مقلة وابن البواب ومن يجري مجراهما وعدة مصاحف بخطيهما وخط نظرائهما فيها ما هو مكتوب بالذهب المكحل باللازورد.
وعدة أزيار صيني كبار مملوءة كافورا قنصوريا وعدة كبيرة من جماجم العنبر الشجري وكثير من قوارير المسك ومن شجر العود مقطعةً شيء كثير.
ووجدت عدة خزائن مملوءة من سائر أنواع الصيني منها أجاجين كبار محمولة كل إجانة منها على ثلاثة أرجل على صور الوحوش والسباع والناس والبهائم قيمة كل قطعة منها ألف دينار معمولة لغسل الثياب.
ووجدت له خزائن مملوءة من سائر أنواع الصواني المدهونة سعة كل واحدة منها من العشرة أشبار إلى ما دونها شيء في جوف شيء حتى تكون أصغرها سعة الدرهم.
ومن سائر أنواع الأطباق الخلنج الذي بهذه الصفة.
ومن الموائد الخلنج الكبار والصغار ألوف ومن موائد الكرم الجفان الجور الواسعة بمقابض الفضة التي لا يقدر الجمل القوي على حمل جفنتين منها لعظمتها منها ما يساوي المائة دينار وما فوقها.
ووجد من الدكك والمحاريب والأسرة العود والصندل والأبنوس والعاج وغيره شيء كثير.
وعدة أقفاص مملوءة من بيض صيني معمول على هيئة البيض في خامته وبياضه يعمل فيها ما في البيض اليشم سبت يوم الفصاد وكيزان من صيني صغار وكبار على خلقة كيزان الفقاع يشرب فيها الفقاع.
ووجد كثير من الأعدال مملوءة عقالاً من اليمن مما أهداه الصليحي.
وأخرجت حصير من ذهب زنتها ثمانية عشر رطلاً ذكر أنها الحصير التي جلبت عليها بوران بنت الحسن علي المأمون.
وأخرج ثمان وعشرون صينية ميناءً مجرى بالذهب لها كعوب تعلو بها عن الأرض مما بعثه ملك الروم للعزيز بالله قومت كل صينية بثلاثة آلاف دينار فأخذها كلها ناصر الدولة ابن حمدان.
ووجد عدة صناديق مملوءة مرايا حديد صيني وغيره من الزجاج الميناء ما لا يحصى كثرة وجميعها محلاة بالذهب المشبك والفضة ومنها ما هو مكلل بالجوهر في غلف الكهمخت وغيره من أنواع الحرير والخيزران كلها مضببة بالذهب والفضة ومقابض المرايا ما بين عقيق وجزع وصندل وعود وأبنوس وغيره.
وأخرج عدة أعدال من الخيام والمضارب والمنارات والخركاوات وغير ذلك من أنواع الخيام المعمولة من الدبيقي والمخمل وسائر أنواع الحرير المثقل وغير المثقل مما هو منقوش ومصور بسائر الصور العجيبة الصنعة وسائر أعمدتها مكسوة بالفضة المذهبة ولها الصفريات الفضة والحبال القطنية والحريرية.
فكان منها ما تحمل الخيمة منه على عشرين بعيراً وأكثر.
وأخرجت المدورة الكبيرة وكانت تقوم على خرط عمود طوله خمسة وستون ذراعاً بالكبير ودور مكللته عشرون ذراعاً وسعة قطرها ستة أذرع وثلثا ذراع ودور المدورة خمسمائة ذراع وعدة قطع خرقها أربع وستون قطعة كل قطعة منها تحزم في عدل وتحمل على مائة جمل وفي صفرتها ثلاثة قناطير فضة يحملها من داخلها قضبان حديد تسع راوية ماء من روايا الجمال وفي زخرفتها صور سائر الحيوانات ولها بادهنج طوله ثلاثون ذراعا.
كان عملها لليازوري في وزارته فأقام يعمل فيها مائة وخمسون صانعاً نحو تسع سنين وصرف عليها ثلاثون ألف دينار أراد بها محاكاة القاتول الذي عمله العزيز بالله فجاء أعظم منه وأحسن.
وبعث إلى متملك الروم في طلب عودين للفسطاط طول كل منهما سبعون ذراعا فأنفذهما إليه وقد بلغت النفقة عليهما حتى وصلا ألف دينار فعمل أحدهما في الفسطاط بعد أن قطع منه خمسة أذرع وأخذ الآخر ناصر الدولة ابن حمدان لما خرج إلى الإسكندرية.
وقد قطعت هذه الخيام الكبار خرقاً وقومت على المذكورين من المارقين بأقل القيم فتمزقت وأخرج مسطح من قلمون عمل بتنيس للعزيز وسمى دار البطيخ يقوم على ستة أعمدة وفيه أربع قباب بين كل قبتين رواق يقوم كل منها على أربعة أعمدة وطول كل عمود ثمانية عشر ذراعا.
ومسطح عمله الظاهر في تنيس كله ذهب طميم بستر صفارى بللور وستة أعمدة من فضة أنفق عليها أربعة عشر ألف دينار.
إلى غير ذلك من القصور والخيام المخمل وغيره من سائر أنواع الحرير وعدة من الحمامات المعمولة من البللور والطالقاني ومن الأدم المذهبة المنقوشة بحياضها ودككها ومساطبها وقدورها وزجاجها وسائر عددها وأخرجت المدورة الكبيرة التي عملت بحلب في سني بضع وأربعين وأربعمائة فبلغت النفقة عليها ثلاثين ألف دينار وكان طول عمودها أربعين ذراعا ودور فلكه أربعة وعشرين شبرا وزنة صفرتيه قنطارين من فضة سوى أنابيب الحديد ويحملها سبعون جملا ولا ينصبها إلا نحو المائتي رجل وهو شبه القاتول العزيزي.
وأخرج من المظال وقصبها الفضة والذهب شيء له قدر جليل.
وأخرج من الصناديق والقمطرات والأدراج والموازين وغلف الأمشاط والمرايا والمداخن من الكيمخت والأبنوس والعاج وسائر الخشب والبقم المحلى جميعها بالذهب والفضة المغشاة بأغشية الأدم والحرير ما لا يحد كثرة.
ومن صناديق الطعام وخزائنه والمجامع ما لا يدركه الإحصاء لكثرته.
وأخرج من خزائن الفضة ما ينيف على ألف ألف درهم كلها آلات مصوغة مجراة بالذهب فيها ما يبلغ زنة القطعة منها خمسة آلاف درهم مما هو غريب الصنعة فبيع جميعه عشرون درهما بدينار وكانت قيمته خمسة دراهم بدينار.
وأخرج غير ذلك عشاريات موكبية وأعمدة الخيام وقصب المظال ومنجوقات وأعلام وقناديل وصناديق وبوقات وزواريق وقمطرات وسروج ولجم ومناطق العماريات وغير ذلك ما يجاوز ألف ألف فضة بيعت كما بيع غيرها.
وأخرج من الشطرنج والنرد المعمولة من أنواع الجواهر والأحجار ومن الذهب والفضة والعاج والأبنوس برقاع الحرير المذهب وغيره ما لا يحد كثرةً ونفاسةً ومن دسوت الفصاد مثل ذلك ومن خرق المنجوقات والمطارد والمظال والأعلام ما لا يمكن وصفه لكثرته مما هو مخمل وحرير ساذج ومذهب فقطع جميع ذلك وبيع.
وأخرج مرة من خزائن السروج خمسة آلاف سرج كان أبو سعيد إبراهيم بن سهل التستري قد عملها فيها ما يساوي السرج الواحد منها سبعة آلاف دينار إلى ألف دينار شبك جميعها وفرق في الأتراك كان منها أربعة آلاف سرج برسم ركاب الخليفة.
وأخرج من خزانة السيدة أم المستنصر أربعة آلاف مثلها ودونها صنع بها مثل ذلك.
وأخذ منها آلات فضية وزنها ثلثمائة ألف وأربعون ألف درهم تساوي ستة دراهم بدينار.
وأخرج من القصر أقفاص مملوءة آلات مصوغة مجراة بالذهب معدومة المثل صنعةً وحسنا عدتها أربعمائة قفص كبار شبكت كلها في إيوان القصر وفرقت.
ومعظم ذلك كان في وزارة جلال الملك بن عبد الحاكم في هذه السنة.
كان من جملة ما في الأقفاص ستة عشر ألف قطعة برسم العواري خاصة.
وأخرج في بعض أسابيع المولد ألفان وخمسمائة إناء من فضة برسم الخيم.
وأخرج مرة عند ورود بعض رسل ملوك الروم فيما أخرج عدة كثيرة من صواني الذهب والفضة المجراة بالميناء الغريبة الصنعة ملئت كلها جوهراً فاخراً وأربعة آلاف نرجسية فضة محرقة بالذهب عمل فيها النرجس وألفا بنفسجية كذلك.
وأخرج من خزائن الطريف ستة وثلاثون ألف قطعة ما بين بللور وغيره.
وكان مبلغ ما قوم من نصب سكاكين بأقل القيم ستة وثلاثين ألف دينار.
وأخرج من تماثيل العنبر اثنان وعشرون ألف قطعة أقل تمثال منها وزنه اثنا عشر منا وأكبره يتجاوز ذلك بكثير ومن تماثيل الكافور ما لا يحد كثرة منها ثمانمائة بطيخة كافور وأخرج من خزائن الفرش أربعة آلاف رزمة خسروانية مذهبة في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته.
وأخرج من خزائن الكسوات من التخوت والأسفاط والصناديق المملوءة بفاخر الملابس المستعملة بتنيس ودمياط وبرقة وصقلية وسائر أقطار الأرض ما لا يحد كثرةً ولا يعرف له قيمة.
وفي هذه السنة بعث ناصر الدولة ابن حمدان عماد الدولة المعروف بالمخنوق هو والوزير أبا محمد بن أبي كدينة إلى المستنصر يطالبه معهما بما بقي لغلمانه فذكر أنه لم يبق عنده شيء إلا ملابسه وقال فابعث من يقوم ذلك ويقبضه فأخرج إليهما ثمانمائة بذلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة قومت وحملت إليه في حادي عشر صفر.
وفيها وهب المستنصر لفخر العرب وتاج الملوك الكلوتة المرصعة بالجوهر وكانت من غريب ما في القصر ونفيسه وكانت قيمتها مائة وثلاثين ألف دينار وقومت عليهما بثمانين ألف دينار وقسمت بينهما بالسوية فجاء وزن ما فيها من الجوهر سبعة عشر رطلا بالمصري.
فصار إلى فخر العرب من جملة ما وقع في سهمه منها قطعة بلخش زنتها ثلاثة وعشرون مثقالا فأنفذها مع باقي ما حصل له منها إلى الفخرية وكانت بثغر الإسكندرية فحملت بعد ذلك إلى تنيس مع غيره من رجالاتهم فصار جميعه عند أمير الجيوش بالشام.
وصار إلى تاج الملوك منها حبات در زنة كل حبة ثلاثة مثاقيل وعدتها مائة حبة فلما انهزم من مصر أخذها بعض غلمانه مع غيرها من نفيس الجوهر وهرب إلى الصعيد فقتل وأخذ منه.
وأخرج من خزائن الطيب مما أخرج خمسة صواري عود هندي طول كل واحد منها ما بين تسعة أذرع إلى عشرة أذرع وكافور قنصوري زنة كل حصاة منه من خمسة مثاقيل إلى ما دونها وقطع عنبر تزن القطعة ثلاثة آلاف مثقال فوهب ذلك لناصر الدولة فحاز منه ما لا حد له ولا قيمة.
وحمل إليه من القصر متارد صيني يقوم كل مترد منها على ثلاثة أرجل على صورة السباع وغيرها يسع كل منها مائتي رطل وما فوقها وعدة قطع يشب وبازهر منها جام سعته ثلاثة أشبار ونصف وعمقه شبر مليح الصورة.
وأخرج من القصر منديل نسيج من زغب ريش بدائر يسمى السمندل طوله تسعة أشبار لا يحترق بالنار فاشتراه بعض المسافرين التجار بثمن يسير طلب فلم يقدر عليه.
وصار إلى ناصر الدولة قطرميز بللور فيه صور ناتئة عن ضبته يسع سبعة عشر رطلا ودكوجة بللور تسع عشرين رطلا وقصرية يصب كبيرة جدا وعدة كاسات يصب وطابع ند فيه ألف مثقال عمله فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة ابن بويه الديلمي وكتب عليه فخر الدولة شمس الدولة وكتب عليه أبياتا منها: فاقتسمه ناصر الدولة وفخر العرب وتاج الملوك أمير الأمراء.
وصار لناصر الدولة أيضا طائر من ذهب مرصع بنفيس الجوهر وعيناه من ياقوت أحمر وريشه من الميناء المجري بالذهب كهيئة ريش الطاووس.
وديك من ذهب له عرف كأكبر أعراف الديكة من الياقوت الأحمر مرصع كله بسائر الدر والجوهر وعيناه من ياقوت أحمر كان يحيره ناظره كيفية تركيبه لالتئام الصنعة فيه وملاحتها.
وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض منطور من در رائع يخاله الناظر حيوانا.
ومجمع سكارج مخروط من بللور فظ وفيه سكارج من بللور يخرج منه ويعود إليه فتحته أربعة أشبار في مثلها محكم الصنعة في غلاف من خيزران مذهب فسمح به لفخر العرب.
وأخرج بطيخة من كافور في شباك من ذهب مرصع وزن كافورها سبعون منا سوى الذهب اقتسمها فخر العرب وتاج الملوك فخص فخر العرب منها ثلاثة آلاف مثقال من ذهب وقطعة عنبر تسمى الخروف زنتها سوى ما يمسكها من الذهب ثمانون منا وعدة قطارميز بللور فيها صور مجسمة بارزة يسع كل منها عشرين رطلا.
وطلب الأتراك من المستنصر نفقة فماطلهم بها فهجموا على التربة التي للقصر وأخذوا ما فيها من قناديل الذهب ومن الآلات كالمداخن والمجامر وحلي المحاريب فجاء منه خمسون ألف دينار.
وصار إلى فخر العرب مقطع حرير أزرق رقيق بديع الصنعة منسوج بالذهب وسائر أنواع الحرير تنبيتاً عمله المعز فيه صورة أقاليم الأرض بمدنها وجبالها وبحارها وأنهارها وسعة حصونها وفيه صورة مكة والمدينة وفي آخره: مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقاً إلى حرم الله وإشهاراً لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار.
وصار إلى فخر العرب ما لا يحصى كثرةً من ذلك مائدة يصب كبيرة قوائمها منها وبيضة كبيرة بلخشن زنتها سبعة وعشرون مثقالاً أشد صفاء من الياقوت الأحمر وبيت أرمني منسوج بالذهب عمل للمتوكل على الله العباسي لا مثل له ولا قيمة وقطرميز بللور يسع مروقتين نبيذاً مليح التقدير قوم عليه مما خرج من القصر ثمانمائة دينار فدفع إليه بعد ذلك فيه ألف دينار فأبى وبساط خسرواني دفع إليه بالإسكندرية ألف دينار فامتنع من بيعه ومائدة جزع يقعد عليها جماعة قوائمها مخروطة منها ما لا قدر لها ولا قيمة.
سوى ما قبضة شاور بن حسين لناصر الدولة ولفخر العرب من آلات الذهب والفضة وآنية الجوهر وعقوده وفاخر الثياب والفرش والآلات والسلاح مما قوم بمئين ألوفاً وكانت قيمته ألوف ألوف ديناراً.
وصار إلى ناصر الجيوش ما قيمته ألف ألف دينار من جملته نخلة من ذهب مكللة بجوهر بديع ودر رائع في إجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح وسائر ألوان البسر والرطب بشكله ولونه وصفته وهيئته من ألوان الجوهر لا قيمة لها.
وكوز على مثال كوز الزير من بللور يسع عشرة أرطال ماء مرصع بنفيس الجوهر لا قيمة له وصورة مكللة بحب لؤلؤ نفيس فيها ما وزن الجبة منه مثقال ومنه ما يزن مثقالين مرصعة بياقوت.
وأخرج فيه العشارى المعروف بالمقدم ونجارته وكسوة رحله التي عملها الوزير علي بن أحمد الجرجرائي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة كان فيها مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة غير ما أطلق للصناع من أجرة صياغة وثمن ذهب لطلائه وهو ألفان وتسعمائة دينار وكان سعر الفضة في ذلك الوقت كل مائة درهم بستة دنانير وربع بسعر ستة عشر درهما بدينار.
وأخرج حلي العشارى الفضي الذي عمله أبو سعيد إبراهيم بن سهل التستري لما ولي الوساطة في سنة ست وثلاثين وأربعمائة لوالدة المستنصر وكان الحلي مائة ألف وثلاثين ألف درهم فضة وإلى ذلك أجر الصباغة ولطلاء بعضه ألفان وأربعمائة غير ما استعمل كسوة برسمه مال جليل.
فأخرج عدة العشاريات التي برسم القوة البحرية وعدتها ستة وثلاثون عشارياً وكان قد انصرف عليها في حلاها من مناطق ورؤوس منجوقات وأهلة وصفريات وكساها أربعمائة ألف دينار.
وأخرج ما على سرير الملك الكبير من الذهب الإبريز الخالص فكان مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال.
وأخرج الستر الذي أنشأه أبو محمد اليازوري فجاء فيه من الذهب ثلاثون ألف مثقال وكان مرصعاً بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر الألوان.
وأخرجت الشمسة الكبيرة وكان فيها ثلاثون ألف مثقال ذهباً وعشرون ألف درهم فضة وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر وأخرجت الشمسة التي لم تتم فوجد فيها من الذهب سبعة عشر ألف مثقال.
وأخرج من خزانة عدة مناكين فضة منها ما زنته مائة وتسعة أرطال إلى ما دونها.
وأخرج بستان أرضه فضة محرقة مذهبة وطينه ند معجون وأشجاره فضة مصنوعة وأثماره عنبروند زنته ثلثمائة وستة أرطال بالمصري.
وبطيخة كافور مشبكة بذهب وزنها عشرة آلاف مثقال ومنقلتا كافور مشبكتان بذهب زنتهما ستة آلاف مثقال ومنقلتا عنبر وزنهما عشرة آلاف مثقال ومنقلتا عنبر مدورتان وزنهما ستة آلاف مثقال.
وأثواب مصمتة منها أربعة يفصل كل ثوب منها اثنين وثلاثون قميصاً تاماً ومدهن ياقوت أحمر زنته سبعة وثلاثون درهماً ونصف أخذ من موجود اليازوري وكان قد صار إليه من السيدة عبدة بنت المعز لدين الله.
وأخرج لؤلؤ زنة كل حبة منه مثقالان ومن الياقوت الأزرق ما زنة كل قطعة منه سبعون درهماً ومن الزمرد ما وزن كل قطعة منه ثمانون درهما ونصاب مرآة طويل ثخين من زمرد لا قيمة له.
وأخرج من خزائن الكتب ثمانية عشر ألف كتاب في العلوم القديمة وألفان وأربعمائة ختمة في ربعات بخطوط منسوبة محلاة بذهب وفضة.
وأخذ جميع ذلك الأتراك ببعض قيمته.
وأخرج في المحرم منها في يوم واحد خمسة وعشرون جملاً موقرةً كتباً صارت إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن المعز واقتسمها هو والخطير ابن الموفق في الدارين بخدمات وجبت لهما عما يستحقانه وغلمانهما من ديوان الحلبيين وأن حصة الوزير أبي الفرج قومت عليه بخمسة آلاف دينار وكانت تساوي أكثر من مائة ألف دينار نهبت بأجمعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة من مصر في صفر مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما.
وأخرج ما في خزائن دار العلم بالقاهرة.
وصار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترف بالإسكندرية كثير من الكتب ثم انتقل منها كثير بعد مقتله إلى المغرب وأخذته لواتة فيما صار إليها بالابتياع أو الغصب من الكتب الجليلة المقدار ما لا يعد ولا يوصف فجعل عبيدهم وإماؤهم جلودها نعالاً في أرجلهم وأحرق ورقها تأولاً منهم أنها خرجت من القصر وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم فصار رمادها تلالاً عرفت في نواحي أبيار بتلال الكتب وغرق منها وتلف ووصل إلى الأمصار ما يتجاوز الوصف.
وأخرج من بعض الخزائن التي بالقصر بيضة كبيرة كأكبر ما يكون من بيض النعام محلاة بذهب فأخذها المستنصر دون ما أخرج من تلك الخزانة مما له خطر وقدر فقال بعض الحاضرين هذه بيضة نعامة فتغافل بعض من حضر من الأتراك عنها وأخذوا النفائس من الذخائر وانصرفوا.
فسئلا المستنصر من بعض الخدم عن هذه البيضة فقال: هي بيضة حية أهداها بعض الملوك إلى جدي القائم بأمر الله وكان يحتفظ بها وهذه الرقعة بخط القائم بأمر الله باسم مهديها والسنة التي أهديت فيها.
وأخرج من القصر في ثلاثة أيام من المحرم ما قيمته من العين اثنان وعشرون ألف دينار وستمائة وستة وسبعون ديناراً وثمن دينار منها قيمة متاع ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة وثلاثون ديناراً وثلت وثمن وقيمة جوهر ثمانية آلاف وثمانمائة وخمسة وأربعون ديناراً وثلثان هذا على أن ما يساوي ألف دينار يقوم بمائة دينار وما دونها.
فإذا كان هذا في ثلاثة أيام فكيف يكون في مدة سنتين ليلا ونهاراً! وتسلم جلال الدولة بن بويه من العين له ولمن يجري مجراه وعدتهم عشرة نفر من عطية واحدة مبلغ أربعة وأربعين ألف دينار ومائة وثلاثين دينارا.
ووصل إلى بغداد على يد التجار مما خرج من القصر على ما وقفت في تاريخ بعض البغداديين أحد عشر ألف درع وعشرون ألف سيف محلى وثمانون ألف قطعة بللور وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج.
وبيع طشت وإبريق من بللور باثني عشر ألف دينار وبيع نحو السبعين ألف قطعة من الثياب وعشر حبات قال ابن ميسر: رأيت مجلدة تجيء نحو العشرين كراسة فيها ذكر ما خرج من القصر من التحف والأثاث والثياب والذهب وغير ذلك.
وفيها صرف الوزير محمد بن جعفر ابن المغربي عن الوزارة في رمضان وتقرر جلال الملك أبو أحمد أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي.
وفيها قتل أمير الجيوش بدر بساحل الشام الشريف أبا طاهر حيدرة ناظر دمشق لإحن كانت في نفسه منه وكان يعد من الأجواد.
وفيها تغلب الأمير حصن الدولة معلى بن حيدرة الكتامي على دمشق واقتحمها قهراً بالسيف في شوال فأساء السيرة في الناس.
وفيها عظم الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء دينارا وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون تليس دقيق.
وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد.
فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر.
وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف والطرق في النداء: خراج! خراج! فبلغ أربعة عشر درهما وبيع أردب قمح بثمانين ديناراً.
ثم عدم ذلك كله وأكلت الكلاب والقطط فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير.
وأبيعت حارة بمصر بطبق خبز حساباً عن كل دار رغيف فعرفت تلك الحارة بعد ذلك بحارة طبق وما زالت تعرف بذلك حتى دثرت فيما دثر من خطط مصر.
وأكل الناس نحاتة النخل ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا.
وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتاً قصيرة السقوف قريبةً ممن يسعى في الطرقات فأعدوا سلباً وخطاطيف فإذا مر بهم أحد شالوه في أقرب وقت ثم ضربوه بالأخشاب وشرحوا لحمه وأكلوه.
قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط: حدثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها وفيها كالحفر فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدة فأخذني إنسان وكنت ذات جسم وسمن فأدخلني بيتاً فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتيل فأضجعني على وجهي وربط في يدي ورجلي سلباً إلى أوتاد حديد عريانةً ثم شرح من أفخاذي وأنا أستغيث ولا أحد يجيبني ثم أضرم الفحم وأسوى من لحمي وأكل أكلاً كثيراً ثم سكر حتى وقع على جنبيه لا يعرف أين هو فأخذت في الحركة إلى أن تخلى أحد الأوتاد وأعان الله على الخلاص وخلصت وحللت الرباط وأخذت خروقا من داره ولففت بها أفخاذي وزحفت إلى باب الدار وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى الناس فحملت إلى بيتي وعرفتهم بموضعه فمضوا إلى الوالي فكبس وآل أمر الخليفة المستنصر إلى أن صار يجلس على نخ أو حصير وتعطلت دواوينه وذهب وقاره وخرج من نساء قصوره ناشرات شعورهن يصحن: الجوع الجوع وهن يردن المسير إلى العراق فتساقطن عند المصلى بظاهر باب النصر من القاهرة ومتن جوعاً.
جاء الوزير يوماً على بغلة فأكلها العامة فأمر بهم فشنقوا فاجتمع الناس على المشنقين وأكلوهم.
وعدم المستنصر القوت جملةً حتى كانت الشريفة بنت صاحب السبيل تبعث إليه كل يوم بقعب من فتيت من جملة ما كان لها من البر والصدقات في سني هذا الغلاء حتى أنفقت مالها كله وكان يجل عن الإحصاء في سبيل البر فلم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعث به إليه وهو مرة واحدة في اليوم لا يجد غيره.
وبعث بأولاده إلى الأطراف لعدم القوت فسير الأمير عبد الله إلى عكا فنزل عند أمير الجيوش وأرسل الأمير أبا علي معه وبعث الأمير أبا القاسم والد الحافظ إلى عسقلان وسيره أولا إلى دمياط ولم يترك عنده سوى ابنه أبي القاسم أحمد.
وبعث المستنصر يوما إلى أبي الفضل عبد الله بن حسين بن شورى بن الجوهري الواعظ فدخل القاهرة من باب البرقية فلم يلق أحداً إلى القصر فجاء من باب البحر فوجد عليه شيخاً فقال استأذن علي فقال: ادخل فهو وحده فدخل فلم ير أحداً في الدهاليز ولا القلعة فأنشد: يا منزلاً لم تبل أطلاله حاشا لأطلالك أن تبلى والعيش أولى ما بكاه الفتى لا بدّ للمحزون أن يسلى فإذا هو خلف باب المجلس فبكى وبكيت طويلا وحادثته ساعة ثم ناوله الخليفة قرطاساً فيه سبعون ديناراً.
ومن عجيب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوت عرضت عقداً لها قيمته ألف دينار على جماعة ليعطوها به دقيقاً وهم يعتذرون إليها ويدفعونها إلى أن رق لها رجل وباعها به تليس دقيق فحملته من مصر واكترت معها من يحفظه من النهابة وسارت تريد منزلها بالقاهرة فسلمه الحملة إليها عند بابي زويلة فلم تمش به غير قليل حتى تكاثر الناس عليها وانتهبوه منها فانتهبت هي أيضا منه مع النهابة فصار إليها ملء يديها دقيقاً لم ينبها منه غيره فعجنته وشوته ثم مضت إلى باب القصر ووقفت على موضع مرتفع ورفعت القرصة في يدها حتى يراها الناس ونادت بأعلى صوتها: يأهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت علي هذه القرصة بألف دينار.
ووقف مرة بعض المياسير بباب القصر وصرح إلى أن أحضر المستنصر فلما وقف بين يديه قال: يا مولانا هذه سبعون قمحة وقفت علي بسبعين ديناراً كل حبة قمح بدينار في أيامك وهو أني اشتريت إردباً بسبعين ديناراً فنهب مني ولم يبق في منه سوى ما وقع بيدي وانتهابي منه مع من نهب فعددت ما في يدي فجاء سبعين حبةً من قمح وإذا كل حبة بدينار.
فقال المستنصر: الآن فرج الله على الناس فإن أيامي حكم لها أنه يباع فيها القمحة بدينار.
ولم يكن هذا الغلاء عن قصور مد النيل فقط وإنما كان من اختلاف الكلمة ومحاربة الأجناد بعضهم مع بعض.
وكان الجند عدة طوائف مختلفة الأجناس فتغلبت لواتة والمغاربة على الوجه البحري وتغلب العبيد السودان على أرض الصعيد وتغلب الملثمة والأتراك بمصر والقاهرة وتحاربوا.
وكان قد حصل ذلك من بعد قتل اليازوري في سنة خمسين كما تقدم فما زالت أمور الدولة تضطرب وأحوالها تختل ورسومها تتغير من سنة خمسين إلى سنة سبع وخمسين فابتدأت الشدة منها تتزايد إلى سنتي ستين وإحدى وستين فتفاقم الأمر وعظم الخطب واشتد البلاء والكرب.
وما برح المصاب يعظم إلى سنة ست وستين وكان أشدها مدة سبع سنين من سنة تسع وخمسين إلى سنة أربع وستين أخصبت كل شر وهلك فيها معظم أهل الإقليم.
ثم أخذ البلاء ينجلي من سنة أربع وستين إلى أن قدم أمير الجيوش بدر في سنة ست وستين كما سيأتي ذكره إن شاء الله.
فكانت السبع سنين المذكورة يمد فيها النيل ويطلع وينزل في أوقاته فلا يوجد في الإقليم من يزرع الأراضي ولا من يقيم جسوره من كثرة الاختلاف وتواتر الحروب وانقطاع الطرقات في البر والبحر إلا بالخفارة الثقيلة وارتكاب الخطر ولم يوجد ما يبذر في الأراضي للزراعة فإن القمح ارتفع الأردب منه من ثمانين ديناراً إلى مائتي دينار ثم فقد فلم يقدر عليه ولا الخليفة.
وفيها صرف ابن أبي كدينة عن القضاء في ثالث عشر صفر وتولى المليحي وصرف جلال الملك عن الوزارة وصرف معه أيضا المليحي عن القضاء في يوم واحد وجمعا معاً لخطير الملك محمد بن اليازوري فباشرهما إلى شوال ثم صرف عنهما.
فاستقر فيهما بعده ابن أبي كدينة إلى ذي القعد وأعيد المليحي بعده.
وفيها احترق جامع دمشق ليلة الاثنين النصف من شعبان بعد العصر وسببه فتنة بين العسكرية وأهل البلد فأضرموا النار في بعض الأسواق واتصل بالجامع فاحترق الجانب الغربي جميعه من الرواق الباقلاني والقبة الكبيرة وزالت آثار الوليد بن عبد الملك التي لم يكن في الإسلام مثلها.
========================================================================