Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس بها تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
مشاهير الآباء للبابا
ألأنبا ونس
الأنبا غريغوريوس العجائبى
ا
الشهيد أبى سيفين
كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد
Untitled 576
Untitled 577
Untitled 578
Untitled 579
Untitled 580
Untitled 581
Untitled 582
Untitled 583
Untitled 584

Hit Counter

كلمة منفعة من القديس  كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد

“God listens, not to our voice, but to our heart. He does not need to be prodded with shouts, since He sees our thoughts."    Saint Cyprian of Carthage  

+ " الإله لا يستمع لأصواتنا ولكن لقلوبنا. وهو لا يحتاج أن نحثه بالصراخ، فهو يرى أفكارنا."    القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة

+ [ يليق بالأسقف ليس فقط أن يُعَلِّم بل ويتعلم أيضًا، فمن كان في حالة نمو يومي متقدمًا إلى ما هو أفضل مثل هذا يعلم أفضل.]   القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة

+ شهد القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة (٢٠٠م -٢٥٨م) فى مؤلفه عن الصلاة بأن : " مسيحى الكنيسة الأولى كانوا يترنمون بالترانيم والتسابيح الروحية فى إجتماعاتهم الدينية وكان الشعب يجيبون بصوت جهورى ".

تعليق من الموقع : لقد كان آباء الكنيسة الأولى يترنمون بالترانيم والتراتيل الحماسية التى يرددونها بفرح وهم ذاهبين لمسارح الألعاب فى العصر الرومانى الوثنى حيث يقابلون الوحوش الضارية ويستشهدون بفرح أين هى هذه الترانيم ؟ وترانيم أخرى تشيع السرور فى النفس البشرية أين هى هذه الترانيم ؟

***********************************************************************************************

 كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد

ثاسكيوس كاسيليانوس كبريانوس   Thascius Caecilianus Cyprianus

كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد (*) العلامة والفيلسوف يعتبر اللاهوتي الغربي الثاني بعد العلامة ترتليان.

سجّل لنا شماسه بونتيوس Pontius سيرته، هذا الذي شاركه ورافقه إلي يوم استشهاده، كتبها بعد استشهاده مباشرة.   نشأته في قرطاجنة عاصمة شمال أفريقيا:

وُلد ثاسكيوس كايكليانوس (ساسيليوس) كبريانوس Cyprianus (Caecilius) Caecilianus Thascius علي الأرجح ما بين سنة 200 و 210م. من أسرة عريقة وثنية. كانت قرطاجنة (1) في حدود دولة تونس في شمال أفريقيا علي خليج تونس، وكان والده من أشرف قضاة المدينة. تثقف ثقافة عالية حسب مقتضيات عصره ووضعه الاجتماعي. نال قسطًا وافر من العلوم، لاسيما المنطق والفلسفة والفصاحة وكان أستاذا مشهوراً فى البلاغة وعلم البيان فى قرطاجنة ، وربما كان محاميا قبل إعتناقة المسيحية فى عام 246 م تكريسه للبنتولية والفقر ودراسة الكتب المقدسة  يقول عنه القديس جيروم في كتابه مشاهير الآباء:" كان معتادًا ألا يدع يومًا يعبر دون القراءة في كتابات ترتليان. وقد اعتاد أن يقول لتلميذه اعطني العلم  (وفى بعض النسخ أعطنى المعلم)  قاصدًا بذلك معلمة ترتليان".

الأمر الإمبراطورى بإضطهاد المسيحيين :

أصدر االإمبراطور ديسيوس 249- 251م  Decius أمراً بإضطهاداً  المسيحيين فى خريف 249م فإضطر كبريانوس للهرب والإختفاء مما أدى إلى أن روما شكت فيه وأنتقده بعض من أهل قرطاجنة المسيحيين لهروبه من وجه الإضطهاد ولكنه ظل يدير يقود الكنيسة من مخبأه بالخطابات حتى عاد إلى كرسية فى سنة 251م وإنقسم المسيحيين إلى ثلاثة فئات

قسم : الشهداء وهم الذين أستشهدوا على أسم المسيح مثل :

كاستوس وإميليوس الشهيدان

 في كتابه عن "المُرتَدّين"  يذكر القديس كبريانوس بكل أسف اسم مسيحيين من أفريقيا، هما كاستوس وإميليوس اللذين ضَعُفا في زمن الاضطهاد الكبير الذي أثاره الإمبراطور ديسيوس Decius تحت شدة التعذيب. وفي عظة للقديس أغسطينوس في تذكار استشهادهما يقول عنهما أنهما سقطا مثل بطرس الرسول بسبب اتكالهما على قوتهما الذاتية. ولكنها عادا وتابا بعد ذلك واعترفا بإيمانهما وبكل شجاعة تقدما إلى الموت حرقًا فنالا إكليل الشهادة سنة 250م. وإن كان غير معروف أي شيء عن حياتهما وظروف تعذيبهما، إلا أن اسميهما يَرِدا في الكثير من السنكسارات القديمة، Butler, May 22.

وقسم ثانى أطلق عليه أسم  المعترفين وهم الذين ثبتوا فى الإيمان أثناء الإضطهاد فقد أصيبوا إصابات مختلفة مثل فقئ عيونهم أو بعض أعضائهم

سمى بالجاحدين وهم من أنكروا الإيمان ففى هذه الفترة ترك كثير من المسيحيين إيمانهم

وقام كثيرين من المسيحيين الذين ظلوا على مسيحيتهم بالإزدراء باللذين تركوا الإيمان المسيحى لا سيما الذين تركوه لأسباب هزيلة ، قاوم كبريانوس بشدة هذه الممارسات وإنتقد هذا الإسلوب وقام بعقد مجلسين من الأساقفة (مجمع) فى عامى 251م و 252م تقرر فيهما أن الذين أنكروا الإيمان يجب أن يتصالحوا ويصفح عنهم بعد فترة توبة مناسبة .

ثم تفشّى مرض الطاعون في أثيوبيا ومصر حوالي عام 250م ثم انتقل إلى قرطاجنة عام 252م وكان فى عهد لأمبراطور جاليوس أو غاليوس 251- 253م

 

، فاعتنق الإيمان المسيحي. نال سرّ العماد علي يدي الكاهن ولمحبته فيه دُعي "ساسيليوس كبريانوس" بإضافة اسم الكاهن إلي اسمه.

وقد حدث تغيّر جذري في حياته إذ يقول: "بعد أن تعمَّدت اغتسلت من ماضي خطاياي بفعل ماء معمودية المجدد، وتدفّق نور من السماء في قلبي التائب الذي يبدد الشكوك ويفتح النوافذ وتنجلي الظلمة. وما كنت أراه من قبل صعبًا صرت أراه سهلاً. وما كنت أظنه مستحيلاً صار أمرًا واقعًا. وظهرت لي الحياة الماضية أرضية مولودة من الجسد، والآن ولدت من الماء والروح. هذا عمل الله". بعد قبول المعمودية أخذ كبريانوس أربع خطوات هامة في حياته: أولاً: باع أغلب أملاكه ووزعها علي الفقراء والمساكين، مستبقيا القليل منها لسد احتياجاته. ثانيًا: وهو في سن السادسة والأربعين تقريبًا نذر حياة البتولية برضا زوجته وسلمها مع أولادها للكاهن الشيخ سيسيليانوس وقدم لهم بعضًا من أمواله. أحب البتولية كعلامة لاشتياقه إلى الإلهيات ورغبته في قرب زوال العالم وتمتعه بالحياة الأخرى مع السمائيين. وفيه أيضًا احتجاج عملي علي الفساد الخلقي النجس الذي كان متفشيًا في عصره. ثالثًا: جحده الدراسات العالمية وتركيزه علي دراسة الكتاب المقدس يوميا، واهتمامه بكتابات العلامة ترتليان. قال القديس عن نفسه أنه بعد عماده ازدري بالفصاحة البشرية واحتقر تنمّق الكلام والعناية بزخرفة الألفاظ، ومع هذا فكتاباته تشهد عن فصاحته. رابعًا: كرس مواهبه لخدمة ملكوت الله، فاستكمل منهجه في علم الاختزال، واستطاع به أن يسجل بكل دقة آراء سبعة وثمانين أسقفًا حضروا المجمع الذي دعا إليه عام 326م بخصوص إعادة معمودية الهراطقة.   أسقفيته: صار كبريانوس مثلاً عجيبًا دُهش له المسيحيون كما الوثنيون. إذ تنيّح الأسقف انتخبه الإكليريكيّون والشعب خليفة له. لم يعبأ الشعب بمعارضة بعض الكهنة مثل نوفاتيوس Navatus لسيامة كبريانوس أسقفًا بحجة حداثة إيمانه. هرب القديس واختفي في بيته، فهرعت الجماهير تبحث عنه، وحرست الجماهير مخارج المدينة وحاصروه، فخضع لآرائهم وسلم نفسه إليهم وسيم حوالي عام 249م.   اضطهاد ديسيوس: لم تمضِ سنة واحدة علي أسقفيته حتى هبت عاصفة شديدة من الاضطهاد أثارها الإمبراطور ديسيوس الذي أصدر مرسومًا إمبراطوريًا سنة 250م بالقضاء علي المسيحية. وهو أول اضطهاد شامل عمَّ أنحاء الإمبراطورية الرومانية كلها. فنال كثيرون إكليل الشهادة، وضعف بعض المرتدّين، والبعض هربوا، وآخرون حُسبوا معترفين. أنكر البعض الإيمان وبخّروا للأوثان، ولجأ البعض إلي الحصول علي شهادات مزوّرة تفيد بأنهم قد بخّروا للأوثان ليهربوا من التعذيب والقتل. كتب القديس كبريانوس أن الله سمح بهذا الاضطهاد الشديد لأجل تراخي المؤمنين في العبادة، لأنهم لما استراحوا في زمن فيلبس قيصر وابنه اللذين تركا المسيحيين في سلام طفق الشعب ينهمك في المكاسب الزمنية، وتراخى رجال الدين والرهبان في دعوتهم المقدسة، وأحبت النساء الثياب الفاخرة ورغد العيش، لذلك رفع الله عليهم عصا أعدائهم لكي ينهبوهم فيتوبون. كان القديس في صراع بين التقدم إلي ميدان الجهاد للتمتع بإكليل الشهادة، وهذا ما كانت تميل إليه نفسه، وبين الاختفاء قليلاً لأجل منفعة الشعب، وهذا ما تستلزمه ظروف الاضطهاد المرّة حتى يسند شعبه. أخيرًا رأي كبريانوس أن يتواري عن الأبصار ليس خوفا من الموت وإنما "لكي لا تثير جرأته المتناهية غضب الحكام" إذ كان يخشى من انهيار ضعفاء الإيمان. ويبدو أنه فعل ذلك بإعلان إلهي. كان يرعى شعبه من مخبأه، فكراعٍ صالح يبعث برسالة للشعب لكي يسندهم، كان يحثّهم علي محبة مضطهديهم. كتب رسائل كثيرة أرسلها من مخبأه تشديدًا للمعترفين في السجون والمناجم وإظهارًا لمجد الاستشهاد، وتوصية للخدام والإكليروس بالعناية بالمعترفين والشهداء ماديًا ونفسيًا وروحيًا. كما كان يرسل ليلاً أشخاصًا يهتمون بأجساد الشهداء ويقومون بدفنها، ويهتم باحتياجات عائلاتهم الروحية والنفسية والمادية. حاول بعض المنشقّين مهاجمة القديس بسبب هروبه، لكن كما يقول تلميذه كان يسير بخطى سريعة نحو الإكليل المُعد له، وأن معلّمه قد حُفظ وقتئذ "بأمر من الرب". استمر الاضطهاد لمدة خمسة عشر شهرًا، فترة حكم ديسيوس وبعد موته استراحت الكنيسة وعاد القديس إلي كرسيه.   مشكلة الجاحدين: إذ ارتد البعض عن الإيمان بسبب الضيق الشديد عادوا إلى الكنيسة فظهر اتجاهان الأول هو التساهل معهم واتخذ غيرهم موقفًا متشددًا. أوصى الشماس فيلكسيسموس Felicissimus قبول الساقطين فورًا. وقبل بعض الكهنة الجاحدين للإيمان أثناء الاضطهاد بدون استشارة الأسقف كبريانوس ودون استخدام قوانين التوبة، وسمحوا لهم بالتناول من الأسرار المقدسة دون أي تأديب. استغل معارضو سيامة القديس الفرصة وأثاروا هذه المشكلة بكونها تهاونًا في حق قدسية الكنيسة، ونادوا بالانفصال عن رئاسة القديس كبريانوس. بعد فصح سنة 251م إذ عاد السلام إلي الكنيسة ورجع الأسقف إلي كرسيه بدأ يكرّم الشهداء، وجمع حوله المعترفين الذين تألّموا من أجل الإيمان، وجاءت رسائله تحمل مزيجًا من الفرح الشديد بالشهداء والمعترفين وأيضًا الذين هربوا حتى لا يجحدوا الإيمان مع الحزن المرّ علي الجاحدين. طالب الجاحدين أن يقدموا توبة بتواضع، معترفين بخطاياهم إذ داسوا إكليل الشهادة بأقدامهم، وقد ترك باب التوبة مفتوحًا أمام الجميع لكن بغير تهاون. لقد حرص علي تأكيد أمومة الكنيسة التي تلد المؤمنين وتربيهم وتؤدبهم وتقدم لهم الحضن الأبوي.   مجمع قرطاجنة: في عام 251م عقد أساقفة إفريقيا مجمعًا بخصوص هذا الشأن عرف بمجمع قرطاجنة لدراسة موقف الجاحدين الراجعين. عالج هذا المجمع المشكلة من كل جوانبها. فقد ارتد البعض عن الإيمان علانية، وقدم آخرون رشوة للقضاء الوثنيين وأخذوا منهم شهادة بأنهم قدموا ذبيحة للآلهة. وقد أكد القديس لهم أن مثل هذه الشهادة هو نوع من النفاق فندم كثيرون علي ما فعلوه. كانت صرامة قوانين التوبة تصد البعض عن الرجوع إلي الكنيسة، فلجأ البعض إلي المعترفين الذين سُجنوا من أجل الإيمان وطلبوا شفاعة الكنيسة لكي تصفح عنهم وتقبلهم في الشركة وتخفف عليهم القوانين، وقد نشأ عن هذا نوع من التراخي. شدد المجمع علي رجال الدين الذين جحدوا الإيمان إذ قبلوهم بين الشعب مع عدم العودة إلي عملهم الكهنوتي. أما أصحاب الشهادات الوثنية فقبلهم المجمع بعد وضع قوانين يلتزمون بها. قطع المجمع فيليكسيموس وجماعته، وأوجبوا دخول الساقطين في التوبة، ولم تقبل عودة أحد منهم في الكنيسة إلا إذا كان مشرفًا علي الموت. أُسر بعض المسيحيين دخل البرابرة إقليم نوميديا وأسروا الكثيرين من المسيحيين. بدأ القديس يحرك قلوب المؤمنين علي افتداء اخوتهم الأسري بصدقتهم. وبالفعل جمع مالاً وفيرًا وأنقذ المؤمنين من الأسر.   مشكلة الوباء، القديس كبريانوس ومرض الطاعون: تفشّى مرض الطاعون في أثيوبيا ومصر حوالي عام 250م ثم انتقل إلى قرطاجنة عام 252م، وظلّ يهدّد أنحاء الإمبراطورية قرابة عشرين عامًا أخري. وكما يقول تلميذه الخاص بونتيوس أنه كان طوبيا زمانه، يهتم بالمرضي والراقدين دون تمييز بين مؤمن وغير مؤمن. فقد أكد علي شعبه ضرورة خدمة الكل بلا تمييز، وتقديم الصدقات للجميع، وحثهم علي البذل والسخاء من أجل العبور إلي السماء خلال الكنيسة بيت الإيمان. مع خطورة هذا المرض في ذلك الحين أدرك المسيحيون رسالتهم كشهودٍ علي أنهم أولاد الله أن يهتموا بالمنكوبين بلا خوف من انتقال العدوى وتعرضهم للموت. جاء في حياة كبريانوس بقلم شمّاسه [يليق بنا أن نعطي جوابًا عن ميلادنا الجديد، ولا يليق بالمولودين من الله أن يتخاذلوا، بل بالأحرى يبرهنون علي ولادتهم من الآب الصالح بإظهار صلاحه(9).] معمودية الهراطقة لم تعترف كنيسة أفريقيا بمعمودية الهراطقة، شاركتها في ذلك كنيسة نوميدية في ثلاثة مجامع عقدت في قرطاجنة في السنتين 255 و256م. كتب الأب اسطفانوس أسقف روما خطابًا شديد اللهجة مهددًًا إياه بالقطع بسبب ذلك، فلم يعبأ القديس كبريانوس بالخطاب. وقد استشهد الاثنان في عام 258م.   اضطهاد فاليريان: في أثناء حكم فالريان، وفي أغسطس سنة 257م أثير الاضطهاد مرة ثانية، وأُستدعي كبريانوس، ووقف أمام الوالي الروماني على أفريقيا تنفيذًا لقرار الإمبراطور. لما سأله عما إذا كان يصر على عدم إتباع ديانة روما، أجاب أنه مسيحي وأسقف ولا يعبد إلا الله الواحد خالق السماء والأرض. لم يجسر أسباسيانوس حاكم قرطاجنة يومئذ أن يقتل القديس كبريانوس نظرًا لجزيل اعتباره من الناس. فأصدر أمره بنفيه والخروج من المدينة. قضي القديس مدة سنة في المنفي علي بعد نحو 50 ميلاً من قرطاجنة، حيث كتب الكثير عن الاستشهاد. ولما عزل أسباسيانوس عن منصبه وخلفه غاليريوس ماكسميانوس رجع القديس إلي قرطاجنة وهو مشتاق إلي إكليل الشهادة في بلده وسط شعبه وقد حقق الله له أمنيته. سكن في بستان مع بعض رجال الإكليروس وأصدقائه، وكانت الجماهير تتوافد عليه. أشار عليه قوم من أصدقائه وكان كثير منهم من الوثنيين ذوي المكانة يحثّونه على تفادي الأخطار، وعرضوا عليه أماكن يختفي فيها حتى لا يقبض عليه الحاكم، فلم يقبل. أرسل الحاكم الجنود والقوا القبض عليه، وكان الجنود يريدون نقله إلي أوتيكا عند الوالي، إلا أن الأسقف أراد أن يعلن عن إيمانه وسط شعبه فتجمهر الشعب حوله. وفي الصباح مضي به الجنود إلي الوالي. وكما يقول فونتيوس أنه كان يجري في سيره نحو المسيح كما يجري المصارعون المجاهدون. وأنه كان يتوق إلي التمتع بمعمودية الدم، كما كان يردد الكلمات التالية: "هناك، فوق فقط يوجد السلام الحقيقي، والراحة الأكيدة الدائمة الثابتة، والأمان الأبدي? هناك بيتنا فمن لا يسرع إليه؟" أركبوه مركبة وجلسوا المسئولين عن يمينه وعن يساره ليصير حتى في يوم استشهاده في صورة رسمية. أسرعت الجماهير بإعدادٍ لا حصر لها وقد اختلطت مشاعرهم بين الفرح بالأسقف المحب للشهادة والحزن. وكان الكل يودعونه أما هو فوقف في هدوء ورزانة متحليًا بروح الرجاء والإيمان. سمع الأسقف الحكم عليه بالإعدام بالسيف في دار الولاية وهو يردد: "الشكر للَّه، وأشكر الله وأباركه". تبعته الجموع إلي مكان الاستشهاد خارج المدينة. وهناك خلع ثوب الكهنوت وسلمه لشماسه وألقي كلمة صغيرة يعزّي بها شعبه ثم جثا علي ركبته مصليّا، وإذ رأي السياف مرتعدًا قدّم له خمس قطع ذهبية تشجيعًا له. وتقدم بعض أبنائه من رعيته وفرشوا تحته ثيابهم لتلتقط دماءه، ثم عصب عينيه بيديه ليُسلم نفسه في يديّ مخلصه، وكان ذلك في 14 سبتمبر سنة 258م، فنال إكليل الشهادة.. حمل المؤمنون جسده ليلاً بالشموع مع الصلوات في موكب النصرة إلي مقرّه الأخير. اهتزّت قلوب شعبه وهو يقدم بكل حب حياته من أجل مخلصه. وقد عبر تلميذه بنتيوس عن مشاعره الشخصية فقال: "يتمزق ذهني في اتجاهات متباينة. أفرح إذ أرى آلامه، وأحزن من أجل بقائي هنا. مشاعر مختلطة تمثل ثقلاً علي قلب مرتبك هكذا. هل أحزن لأنني لا أرافقه؟ ومع هذا فإن نصرته التي نحتفل بها مبهجة، فهل احتفل بها؟ إني حزين لأني لا أرافقه، ومع هذا يلزمني أن اعترف لكم في بساطة عن أمر أنتم تعرفونه. إنني متهلّل جدًا بمجده، ولكنني حزين أكثر إذ تًركت ورائه هنا ".   شخصيته: قدم لنا تلميذه الذي عاش معه في منفاه حتى لحظة استشهاده صورة حيّة عن شخصيته فقال: "كانت القداسة والنعمة تشعان من وجهه بقوة، فكان يربك أذهان من يتطلعون إليه. ملامحه جادة ومفرحة، ليست عنيفة بعبوسة ولا عذابه برخاوة... يدهش الشخص هل كان يستحق أن يُهاب أم يحب؟ فإنه كان مستحقًا أن يهاب ويحب ".   كتاباته: كان كبريانوس رجل رعاية أكثر منه رجل لاهوت، فلم يكتب لأجل البحث في اللاهوت وإنما ليعالج مشاكل رعوية وكنسية عملية وتسد احتياجاتهم حسب الظروف التي عاشت فيها الكنيسة في قرطاجنة. من بين كتاباته: 1. مقال لصديقه دوناتوس Ad Donatum بمناسبة عيد عماده وذلك في فصح 246م . يسجل فيه ليس فقط سرّ قبوله الإيمان المسيحي وإنما يحث الآخرين ليتبعوا نفس مسلكه، مبرزًا نعمة الله الفائقة التي ظهرت وسط الليل الحالك من فساد البشرية. 2. مقال في لباس العذارى De habitu virginum فيه يوجهن إلي خدمة الفقراء عوض الاهتمام بالزينة. يوصي العذارى ببساطة الملبس وعدم التبرج ولبس الحلي، مع عدم اشتراكهن في حفلات العرائس الصاخبة وعدم الدخول في الحمامات المختلطة، واستخدام أموالهن في مساعدة الفقراء. 3. مقال في الساقطين أو المرتدين De lapsis كتبه عقب عودته من مخبأه عام 251. فيه يحذّر المعترفين من التشفع في الساقطين في العبادة الوثنية دون ضغوط شديدة، فإن التساهل معهم يحرمهم من ممارسة التوبة. 4. في الموت De martalitale حيث يميز بين موقف المؤمنين وغير المؤمنين من الموت. 5. في الصلاة الربانية De dominica oratione بكونها أفضل الصلوات، حيث يلذ للأب أن يسمع كلمات ابنه، وبها يصير المسيح نفسه شفيعًا لنا أمام العرش ويليق بمن يتلوها أن يكون هادئا متواضعًا أمام الله. وهي تستوجب الوحدة إذ يصلي المؤمن بصيغة الجمع عن الجميع. 6. الأصنام ليس آلهة. 7. في الوحدة الكنسية De ccelesiae unitate بسبب انشقاق نوفاتيان وفليسيسيموس Felicissimus، يوضح فيها أن الانقسام من عمل إبليس، وان الانشقاق أخطر من الاضطهاد. لا توجد ألا كنيسة جامعة واحدة، ومن لا يعتبر الكنيسة أمه لا يقدر أن يدعو الله أبا له. المعلمون الكذبة والهراطقة أشر من جاحدي الإيمان. 8. مجموعة رسائل متنوعة. من بينها رسالة عنوانها "الرد على ديمتريانوس" يؤكد فيها أن المسيحيين ليسوا مسئولين عما حلّ بالعالم من ويلات الحروب والأوبئة، فالعالم شاخ وانحطّ فقلّ خصبه ونتاجه، والذنب في ذلك ليس ذنب المسيحيين بل هو ذنب الوثنيين الذين أخطأوا وارتكبوا الموبقات واضطهدوا المسيحيين، فأثاروا بذلك غضب الله واستحقوا القصاص. 9. كتب مقالة عنوانها "حثّ على الاستشهاد" موجّهة إلى فورتوناتوس Fortunatus من ثلاثة عشر فصلاً يقول فيها: "نحن الذين بسلطان من الرب مَنَحنا المؤمنين العماد الأول، علينا أن نعد كلاً منهم للعماد الثاني، بحثّهم وتعليمهم أن هذا العماد أعظم في النعمة وأسمى في القوة وأرفع في الشرف. بمعمودية الماء ننال مغفرة الخطايا، وبمعمودية الدم نظفر بإكليل الفضائل. في سفر الخروج لما خاف الشعب واشتهى الرجوع، قال لهم موسى لا تخافوا. قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون. والرب في إنجيله يحذّرنا من أن نعود ثانية للشيطان وللعالم الذي رفضناه. إننا على أبواب حرب أقسى وأشد، وعلى جنود المسيح أن يعدّوا ذواتهم لها بإيمان حيّ وشجاعة قوية، واضعين في اعتبارهم أنهم يشربون يوميًا كأس دم المسيح، حتى بذلك يمكنهم أن يسفكوا دماءهم لأجله". 10. عن الأعمال والصدقات. 11. فائدة الصبر. 12. الغيرة والحسد. 13. إلى كويرينوس.   من كتاباته: إن عيني الخنزير اللّتين تنظران دائمًا إلي أسفل لا تستطيعان رؤية عجائب السماء. وهكذا أيضًا النفس التي يدفعها الجسد إلي أسفل لا تستطيع أن ترفع بصرها لتري الجمال العلوي. إنها تتجه إلي الأشياء الوضيعة الحيوانية. إن النفس التي تريد أن تكرّس نظرها إلي المباهج السماوية تضع ما هو أرضي وراء ظهرها ولا تشترك فيما يورطها بالحياة الدنيوية. إنها تحيل كل قوي الحب فيها من الأمور المادية إلي التأملات العقلية في الجمال اللامادي. إن بتولية الجسد تفيد مثل هذه النفس. تهدف البتولية إلي أن تخلق في النفس نسيانًا كاملاً للشهوات الطبيعية، وتمنع عملية النزول باستمرار لتلبية الرغبات الجسمية. ومتى تحرّرت النفس مرة من مثل هذه الأمور لا تخاطر بالمباهج السماوية غير الدنسة لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به... إن نقاء القلب الذي يسود الحياة هو وحده الذي يأسر النفس. تمسك سمعان الرجل البار بمواعيد الله بإيمان كامل. حينما وُعد من السماء انه لا يرى الموت قبل أن يعاين المسيح، فإنه ما أن جاء المسيح إلى الهيكل مع أمه وعرفه بالروح حتى أدرك أنه يموت في تلك اللحظة. وفي وسط غمرة سعادته باقتراب الموت، وتأكده من استدعائه، حمل الطفل على ذراعيه وبارك الرب قائلاً "الآن أطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 29:2)... شاهدًا بان خدام الله عندما يسحبون من وسط زوابع هذا العالم يدركهم السلام والهدوء والطمأنينة. إننا بالموت نبلغ ميناء وطننا (السماوي)، الراحة الأبدية، وبه ننال الخلود. هذا هو سلامنا وهدوءنا النابع عن الإيمان، وراحتنا الثابتة الأبدية. * يُكتَب خطأ: كيبريانوس، كبريان، قبريانوس، قيبريانوس.

 

. من أسرة شريفة وثنية. كانت قرطاجنة في حدود دولة تونس في شمال أفريقيا علي خليج تونس، وكان والده من أشرف قضاة المدينة. تثقف ثقافة عالية حسب مقتضيات عصره ووضعه الاجتماعي. نال قسطًا وافر من العلوم، لاسيما المنطق والفلسفة والفصاحة، وكان قد تزوّّج وأنجب أولادًا. إذ بلغ سن الشباب صار خطيبًا فصيحًا ومعلمًا للخطابة والفصاحة، وذاع صيته. ويبدو أنه عاش منغمسًا في الرذيلة شأن معظم شباب عصره. اهتدى إلى المسيحية وآمن على يد كاهن شيخ يُدعى كايكليانوس (ساسيليوس) بقرطاجنة، وكان ذلك حوالي سنة 246م وانضم إلى صفوف الموعوظين. إذ لمست النعمة الإلهية قلبه هاله الفساد الذي حل بالبشرية علي مستوي الأفراد والجماعات والحكومات، فاعتنق الإيمان المسيحي. نال سرّ العماد علي يدي الكاهن ولمحبته فيه دُعي "ساسيليوس كبريانوس" بإضافة اسم الكاهن إلي اسمه. وقد حدث تغيّر جذري في حياته إذ يقول: "بعد أن تعمَّدت اغتسلت من ماضي خطاياي بفعل ماء معمودية المجدد، وتدفّق نور من السماء في قلبي التائب الذي يبدد الشكوك ويفتح النوافذ وتنجلي الظلمة. وما كنت أراه من قبل صعبًا صرت أراه سهلاً. وما كنت أظنه مستحيلاً صار أمرًا واقعًا. وظهرت لي الحياة الماضية أرضية مولودة من الجسد، والآن ولدت من الماء والروح. هذا عمل الله". بعد قبول المعمودية أخذ كبريانوس أربع خطوات هامة في حياته: أولاً: باع أغلب أملاكه ووزعها علي الفقراء والمساكين، مستبقيا القليل منها لسد احتياجاته. ثانيًا: وهو في سن السادسة والأربعين تقريبًا نذر حياة البتولية برضا زوجته وسلمها مع أولادها للكاهن الشيخ سيسيليانوس وقدم لهم بعضًا من أمواله. أحب البتولية كعلامة لاشتياقه إلى الإلهيات ورغبته في قرب زوال العالم وتمتعه بالحياة الأخرى مع السمائيين. وفيه أيضًا احتجاج عملي علي الفساد الخلقي النجس الذي كان متفشيًا في عصره. ثالثًا: جحده الدراسات العالمية وتركيزه علي دراسة الكتاب المقدس يوميا، واهتمامه بكتابات العلامة ترتليان. قال القديس عن نفسه أنه بعد عماده ازدري بالفصاحة البشرية واحتقر تنمّق الكلام والعناية بزخرفة الألفاظ، ومع هذا فكتاباته تشهد عن فصاحته. رابعًا: كرس مواهبه لخدمة ملكوت الله، فاستكمل منهجه في علم الاختزال، واستطاع به أن يسجل بكل دقة آراء سبعة وثمانين أسقفًا حضروا المجمع الذي دعا إليه عام 326م بخصوص إعادة معمودية الهراطقة. أسقفيته صار كبريانوس مثلاً عجيبًا دُهش له المسيحيون كما الوثنيون. إذ تنيّح الأسقف انتخبه الإكليريكيّون والشعب خليفة له. لم يعبأ الشعب بمعارضة بعض الكهنة مثل نوفاتيوس Navatus لسيامة كبريانوس أسقفًا بحجة حداثة إيمانه. هرب القديس واختفي في بيته، فهرعت الجماهير تبحث عنه، وحرست الجماهير مخارج المدينة وحاصروه، فخضع لآرائهم وسلم نفسه إليهم وسيم حوالي عام 249م. اضطهاد ديسيوس لم تمضِ سنة واحدة علي أسقفيته حتى هبت عاصفة شديدة من الاضطهاد أثارها الإمبراطور ديسيوس الذي أصدر مرسومًا إمبراطوريًا سنة 250م بالقضاء علي المسيحية. وهو أول اضطهاد شامل عمَّ أنحاء الإمبراطورية الرومانية كلها. فنال كثيرون إكليل الشهادة، وضعف بعض المرتدّين، والبعض هربوا، وآخرون حُسبوا معترفين. أنكر البعض الإيمان وبخّروا للأوثان، ولجأ البعض إلي الحصول علي شهادات مزوّرة تفيد بأنهم قد بخّروا للأوثان ليهربوا من التعذيب والقتل. كتب القديس كبريانوس أن الله سمح بهذا الاضطهاد الشديد لأجل تراخي المؤمنين في العبادة، لأنهم لما استراحوا في زمن فيلبس قيصر وابنه اللذين تركا المسيحيين في سلام طفق الشعب ينهمك في المكاسب الزمنية، وتراخى رجال الدين والرهبان في دعوتهم المقدسة، وأحبت النساء الثياب الفاخرة ورغد العيش، لذلك رفع الله عليهم عصا أعدائهم لكي ينهبوهم فيتوبون. كان القديس في صراع بين التقدم إلي ميدان الجهاد للتمتع بإكليل الشهادة، وهذا ما كانت تميل إليه نفسه، وبين الاختفاء قليلاً لأجل منفعة الشعب، وهذا ما تستلزمه ظروف الاضطهاد المرّة حتى يسند شعبه. أخيرًا رأي كبريانوس أن يتواري عن الأبصار ليس خوفا من الموت وإنما "لكي لا تثير جرأته المتناهية غضب الحكام" إذ كان يخشى من انهيار ضعفاء الإيمان. ويبدو أنه فعل ذلك بإعلان إلهي. كان يرعى شعبه من مخبأه، فكراعٍ صالح يبعث برسالة للشعب لكي يسندهم، كان يحثّهم علي محبة مضطهديهم. كتب رسائل كثيرة أرسلها من مخبأه تشديدًا للمعترفين في السجون والمناجم وإظهارًا لمجد الاستشهاد، وتوصية للخدام والإكليروس بالعناية بالمعترفين والشهداء ماديًا ونفسيًا وروحيًا. كما كان يرسل ليلاً أشخاصًا يهتمون بأجساد الشهداء ويقومون بدفنها، ويهتم باحتياجات عائلاتهم الروحية والنفسية والمادية. حاول بعض المنشقّين مهاجمة القديس بسبب هروبه، لكن كما يقول تلميذه كان يسير بخطى سريعة نحو الإكليل المُعد له، وأن معلّمه قد حُفظ وقتئذ "بأمر من الرب". استمر الاضطهاد لمدة خمسة عشر شهرًا، فترة حكم ديسيوس وبعد موته استراحت الكنيسة وعاد القديس إلي كرسيه. مشكلة الجاحدين إذ ارتد البعض عن الإيمان بسبب الضيق الشديد عادوا إلى الكنيسة فظهر اتجاهان الأول هو التساهل معهم واتخذ غيرهم موقفًا متشددًا. أوصى الشماس فيلكسيسموس Felicissimus قبول الساقطين فورًا. وقبل بعض الكهنة الجاحدين للإيمان أثناء الاضطهاد بدون استشارة الأسقف كبريانوس ودون استخدام قوانين التوبة، وسمحوا لهم بالتناول من الأسرار المقدسة دون أي تأديب. استغل معارضو سيامة القديس الفرصة وأثاروا هذه المشكلة بكونها تهاونًا في حق قدسية الكنيسة، ونادوا بالانفصال عن رئاسة القديس كبريانوس. بعد فصح سنة 251م إذ عاد السلام إلي الكنيسة ورجع الأسقف إلي كرسيه بدأ يكرّم الشهداء، وجمع حوله المعترفين الذين تألّموا من أجل الإيمان، وجاءت رسائله تحمل مزيجًا من الفرح الشديد بالشهداء والمعترفين وأيضًا الذين هربوا حتى لا يجحدوا الإيمان مع الحزن المرّ علي الجاحدين. طالب الجاحدين أن يقدموا توبة بتواضع، معترفين بخطاياهم إذ داسوا إكليل الشهادة بأقدامهم، وقد ترك باب التوبة مفتوحًا أمام الجميع لكن بغير تهاون. لقد حرص علي تأكيد أمومة الكنيسة التي تلد المؤمنين وتربيهم وتؤدبهم وتقدم لهم الحضن الأبوي. مجمع قرطاجنة في عام 251م عقد أساقفة إفريقيا مجمعًا بخصوص هذا الشأن عرف بمجمع قرطاجنة لدراسة موقف الجاحدين الراجعين. عالج هذا المجمع المشكلة من كل جوانبها. فقد ارتد البعض عن الإيمان علانية، وقدم آخرون رشوة للقضاء الوثنيين وأخذوا منهم شهادة بأنهم قدموا ذبيحة للآلهة. وقد أكد القديس لهم أن مثل هذه الشهادة هو نوع من النفاق فندم كثيرون علي ما فعلوه. كانت صرامة قوانين التوبة تصد البعض عن الرجوع إلي الكنيسة، فلجأ البعض إلي المعترفين الذين سُجنوا من أجل الإيمان وطلبوا شفاعة الكنيسة لكي تصفح عنهم وتقبلهم في الشركة وتخفف عليهم القوانين، وقد نشأ عن هذا نوع من التراخي. شدد المجمع علي رجال الدين الذين جحدوا الإيمان إذ قبلوهم بين الشعب مع عدم العودة إلي عملهم الكهنوتي. أما أصحاب الشهادات الوثنية فقبلهم المجمع بعد وضع قوانين يلتزمون بها. قطع المجمع فيليكسيموس وجماعته، وأوجبوا دخول الساقطين في التوبة، ولم تقبل عودة أحد منهم في الكنيسة إلا إذا كان مشرفًا علي الموت. أُسر بعض المسيحيين دخل البرابرة إقليم نوميديا وأسروا الكثيرين من المسيحيين. بدأ القديس يحرك قلوب المؤمنين علي افتداء اخوتهم الأسري بصدقتهم. وبالفعل جمع مالاً وفيرًا وأنقذ المؤمنين من الأسر. مشكلة الوباء القديس كبريانوس ومرض الطاعون تفشّى مرض الطاعون في أثيوبيا ومصر حوالي عام 250م ثم انتقل إلى قرطاجنة عام 252م، وظلّ يهدّد أنحاء الإمبراطورية قرابة عشرين عامًا أخري. وكما يقول تلميذه الخاص بونتيوس أنه كان طوبيا زمانه، يهتم بالمرضي والراقدين دون تمييز بين مؤمن وغير مؤمن. فقد أكد علي شعبه ضرورة خدمة الكل بلا تمييز، وتقديم الصدقات للجميع، وحثهم علي البذل والسخاء من أجل العبور إلي السماء خلال الكنيسة بيت الإيمان. مع خطورة هذا المرض في ذلك الحين أدرك المسيحيون رسالتهم كشهودٍ علي أنهم أولاد الله أن يهتموا بالمنكوبين بلا خوف من انتقال العدوى وتعرضهم للموت. جاء في حياة كبريانوس بقلم شمّاسه [يليق بنا أن نعطي جوابًا عن ميلادنا الجديد، ولا يليق بالمولودين من الله أن يتخاذلوا، بل بالأحرى يبرهنون علي ولادتهم من الآب الصالح بإظهار صلاحه(9).] معمودية الهراطقة لم تعترف كنيسة أفريقيا بمعمودية الهراطقة، شاركتها في ذلك كنيسة نوميدية في ثلاثة مجامع عقدت في قرطاجنة في السنتين 255 و256م. كتب الأب اسطفانوس أسقف روما خطابًا شديد اللهجة مهددًًا إياه بالقطع بسبب ذلك، فلم يعبأ القديس كبريانوس بالخطاب. وقد استشهد الاثنان في عام 258م. اضطهاد فاليريان في أثناء حكم فالريان، وفي أغسطس سنة 257م أثير الاضطهاد مرة ثانية، وأُستدعي كبريانوس، ووقف أمام الوالي الروماني على أفريقيا تنفيذًا لقرار الإمبراطور. لما سأله عما إذا كان يصر على عدم إتباع ديانة روما، أجاب أنه مسيحي وأسقف ولا يعبد إلا الله الواحد خالق السماء والأرض. لم يجسر أسباسيانوس حاكم قرطاجنة يومئذ أن يقتل القديس كبريانوس نظرًا لجزيل اعتباره من الناس. فأصدر أمره بنفيه والخروج من المدينة. قضي القديس مدة سنة في المنفي علي بعد نحو 50 ميلاً من قرطاجنة، حيث كتب الكثير عن الاستشهاد. ولما عزل أسباسيانوس عن منصبه وخلفه غاليريوس ماكسميانوس رجع القديس إلي قرطاجنة وهو مشتاق إلي إكليل الشهادة في بلده وسط شعبه وقد حقق الله له أمنيته. سكن في بستان مع بعض رجال الإكليروس وأصدقائه، وكانت الجماهير تتوافد عليه. أشار عليه قوم من أصدقائه وكان كثير منهم من الوثنيين ذوي المكانة يحثّونه على تفادي الأخطار، وعرضوا عليه أماكن يختفي فيها حتى لا يقبض عليه الحاكم، فلم يقبل. أرسل الحاكم الجنود والقوا القبض عليه، وكان الجنود يريدون نقله إلي أوتيكا عند الوالي، إلا أن الأسقف أراد أن يعلن عن إيمانه وسط شعبه فتجمهر الشعب حوله. وفي الصباح مضي به الجنود إلي الوالي. وكما يقول فونتيوس أنه كان يجري في سيره نحو المسيح كما يجري المصارعون المجاهدون. وأنه كان يتوق إلي التمتع بمعمودية الدم، كما كان يردد الكلمات التالية: "هناك، فوق فقط يوجد السلام الحقيقي، والراحة الأكيدة الدائمة الثابتة، والأمان الأبدي? هناك بيتنا فمن لا يسرع إليه؟" أركبوه مركبة وجلسوا المسئولين عن يمينه وعن يساره ليصير حتى في يوم استشهاده في صورة رسمية. أسرعت الجماهير بإعدادٍ لا حصر لها وقد اختلطت مشاعرهم بين الفرح بالأسقف المحب للشهادة والحزن. وكان الكل يودعونه أما هو فوقف في هدوء ورزانة متحليًا بروح الرجاء والإيمان. سمع الأسقف الحكم عليه بالإعدام بالسيف في دار الولاية وهو يردد: "الشكر للَّه، وأشكر الله وأباركه". تبعته الجموع إلي مكان الاستشهاد خارج المدينة. وهناك خلع ثوب الكهنوت وسلمه لشماسه وألقي كلمة صغيرة يعزّي بها شعبه ثم جثا علي ركبته مصليّا، وإذ رأي السياف مرتعدًا قدّم له خمس قطع ذهبية تشجيعًا له. وتقدم بعض أبنائه من رعيته وفرشوا تحته ثيابهم لتلتقط دماءه، ثم عصب عينيه بيديه ليُسلم نفسه في يديّ مخلصه، وكان ذلك في 14 سبتمبر سنة 258م، فنال إكليل الشهادة.. حمل المؤمنون جسده ليلاً بالشموع مع الصلوات في موكب النصرة إلي مقرّه الأخير. اهتزّت قلوب شعبه وهو يقدم بكل حب حياته من أجل مخلصه. وقد عبر تلميذه بنتيوس عن مشاعره الشخصية فقال: "يتمزق ذهني في اتجاهات متباينة. أفرح إذ أرى آلامه، وأحزن من أجل بقائي هنا. مشاعر مختلطة تمثل ثقلاً علي قلب مرتبك هكذا. هل أحزن لأنني لا أرافقه؟ ومع هذا فإن نصرته التي نحتفل بها مبهجة، فهل احتفل بها؟ إني حزين لأني لا أرافقه، ومع هذا يلزمني أن اعترف لكم في بساطة عن أمر أنتم تعرفونه. إنني متهلّل جدًا بمجده، ولكنني حزين أكثر إذ تًركت ورائه هنا ". شخصيته قدم لنا تلميذه الذي عاش معه في منفاه حتى لحظة استشهاده صورة حيّة عن شخصيته فقال: "كانت القداسة والنعمة تشعان من وجهه بقوة، فكان يربك أذهان من يتطلعون إليه. ملامحه جادة ومفرحة، ليست عنيفة بعبوسة ولا عذابه برخاوة... يدهش الشخص هل كان يستحق أن يُهاب أم يحب؟ فإنه كان مستحقًا أن يهاب ويحب ". كتاباته كان كبريانوس رجل رعاية أكثر منه رجل لاهوت، فلم يكتب لأجل البحث في اللاهوت وإنما ليعالج مشاكل رعوية وكنسية عملية وتسد احتياجاتهم حسب الظروف التي عاشت فيها الكنيسة في قرطاجنة. من بين كتاباته: 1. مقال لصديقه دوناتوس Ad Donatum بمناسبة عيد عماده وذلك في فصح 246م . يسجل فيه ليس فقط سرّ قبوله الإيمان المسيحي وإنما يحث الآخرين ليتبعوا نفس مسلكه، مبرزًا نعمة الله الفائقة التي ظهرت وسط الليل الحالك من فساد البشرية. 2. مقال في لباس العذارى De habitu virginum فيه يوجهن إلي خدمة الفقراء عوض الاهتمام بالزينة. يوصي العذارى ببساطة الملبس وعدم التبرج ولبس الحلي، مع عدم اشتراكهن في حفلات العرائس الصاخبة وعدم الدخول في الحمامات المختلطة، واستخدام أموالهن في مساعدة الفقراء. 3. مقال في الساقطين أو المرتدين De lapsis كتبه عقب عودته من مخ

رسالة عزاء إلي المعترفين في المناجم هذه هي الرسالة الـ 76 من رسائل القديس الشهيد كبريانوس أسقف قرطاجنة وقد كتبها عام 257م قبل استشهاده إلي كل من : ينميسيانوس ، فيليكس أسقف باجاي في نوميديا ، لوكيوس أسقف تيبيست في نوميديا، فيليكس الآخر أسقف مارازانا في نوميديا ، ليتّيوس أسقف جيميلاي، يوليانوس أسقف ميليف في نوميديا ، فيكتور أسقف أوكتافوم ، بادر أسقف ميديلا في نوميديا ، داتيفوس أسقف بادال في نوميديا، والأساقفة الآخرين الذين أتوا من بعدهم وكذلك الكهنة والشمامسة وباقي الأخوة. وقد أرسل القديس كبريانوس هذه الرسالة إلي كل هؤلاء حيث كانوا مقيدين في المناجم بأغلال من الحديد والبعض منهم يرزح في السجون وآخرون كانوا تحت التعذيب ، فكانت لهم رسالة عزاء لأجل احتمال الآلام محبة في الملك المسيح . وقد استهل القديس كبريانوس رسالته بتحية الشهداء منهم الذين سبقوا فنالوا الأكاليل والمواعيد الإلهية. وقام بترجمة هذه الرسالة د. ميشيل بديع عبد الملك من النص المترجم إلي اللغة الألمانية والمنشور في : Text der Kirchenvaeter, eine Auswahl nach Themen geordnet, Bd. IV, Muenchen 1964, S. 93- 99. + + + نص الرسالة إن مجدكم أيها الاخوة المطوبون والمحبوبون كان في الواقع يتطلب مني أن آتي لأراكم وأعانقكم ، لولا نَفْيِّ لأجل الاعتراف باسم (المسيح) والمكان المحدد الذي حُصرت فيه . فبالرغم من أنه لم يتح لي أن أتى وأدخل بشخصي إليكم ، لكنني أوجد بينكم بقدر استطاعتي . لذلك آتي إليكم بالحب وبالروح عن طريق مراسلتكم خطابياً ، ومعبراً لكم عن قلبي الذي يطرب (فرحاً) لبسالتكم وأعمالكم المجيدة المملوءة فرحاً . فبالرغم من أن جسدي لا يتألم معكم ، ولكنني أعتبر نفسي رفيقاً لكم من خلال قوة شركة المحبة . فهل يمكنني أن أهدأ وأجُبر صوتي علي السكوت ، عندما أعلم من أصدقائي المخلصين عن ذلك المجد الكبير الذي َشَّرَفَتكُم به النعمة الإلهية ، وعندما أسمع أيضاً أن بعضا منكم قد سبقوا وأكملوا استشهادهم ليأخذوا إكليل جهادهم من الرب ، بينما البعض الأخر ما يزال مطروحاً في السجون ، أو يرزح مقيداً بالأغلال في المناجم ، حيث من خلال إطالة فترة العذابات يقدمون مثالاً رائعاً لتثبيت وتشجيع الاخوة ؟ لأنه من خلال فترة العذابات الطويلة يحصلون بجهادهم علي استحقاقات وفيرة ، فمع كل يوم عذاب يحسب لهم كمكافأة غنية تنتظرهم في السماء عند المجازاة. أما بالنسبة إلي مكافأة تقواكم وإيمانكم فإني لا أتعجب أيها الاخوة الشجعان والطوباويون عن حقيقة أن الرب رفعكم حالاً إلي قمة سامية من المجد من خلال كرامة مجده والتي أبرزتكم في كنيسته بتمسككم الصادق بالإيمان والتزامكم بثبات بوصايا الرب ، مثل : البراءة في البساطة ، الوحدة في المحبة ، التواضع في الخشوع ، التدقيق في الوصايا ، السهر علي نجدة المعوزين، الشفقة في رعاية المحتاجين ، المثابرة في الدفاع عن الحق ، الصرامة في التأديب الحسن . وحيث إنه لم يعد ينقصكم شيئاً من الأعمال الصالحة (ولم تقدموه) ، إلا أنكم الآن ترفعون قلوب الاخوة للشهادة وذلك من خلال ألم أجسادكم واعتراف أفواهكم. فعندما ضُرِبْتُم بالعصي بقسوة وتعذبتم بشدة وجعلتم هذه الآلام بداية ممجدة لاعترافكم، لذلك لا يوجد عندنا أي سبب للحزن لأن الجسد المسيحي لم يهتز أمام العصاة حيث إن رجاء المسيحي موضوع علي الخشبة (أي خشبة الصليب). فخادم المسيح عرف سر خلاصه أنه يخلص بالخشبة (أي خشبة الصليب) وينال الإكليل بالخشبة (أي العصي). فما هي الكرامة العظيمة عندما توصفون بأنكم آنية ذهب وفضة قُدمت للمنجم، ذلك المكان الذي يُكتشف فيه الذهب والفضة ؟ حقاً إن الأمر ينعكس الآن في المنجم ، لأن المكان الذي كان يعطي الذهب والفضة ، أصبح الآن يستقبل الذهب والفضة . لقد وضعوا أغلالاً حديدية في الأرجل ، وضربوا الأعضاء المباركة وهيكل الله بالقيود المشينه، كما لو كانوا بربط الجسد يمكنهم أيضاً أن يربطوا الروح ، أو كما لو كان ذهبكم يُلطخ بلمس حديد (القيود). لأنه بالنسبة للذين تكرسوا لله ويظهرون بالتقوى إيمانهم بشجاعة ، فإن السلاسل لا تعتبر كأربطة ، وقيود الأرجل لا تجلب أى عار علي المسيحيين بل تجلب لهم مجد الإكليل. فطوبى وسلام للأرجل المقيدة التي تُحَلّ من قِبَلْ الرب وليس من حداد. طوبى وسلام للأرجل التي تسلك في طريق الخلاص إلى الفردوس . سلام للأرجل التي ربٌطت الآن في العالم وقتياً لتكون فيما بعد عند حرة الله إلى الأبد . سلام للأرجل التي ربُطت بالأغلال في الخشب وأٌعيقت لبرهة قصيرة، ولكنها ستسرع للمسيح في طريق ممجد. فلتدع القسوة الحقودة والخبيثة أن تقيدكم هنا وتربطكم كما تريد، ولكنكم ستصلون سريعاً من هذه الأرض ومن العذابات إلي ملكوت السموات . فلا فراش ولا وسادة تريح أجسادكم هنا في المناجم ، ولكن المسيح هو الراحة والعزاء . علي الأرض الخشنة يرقد الجسد المنهمك من العمل ، ولكن من وجد المسيح بجانبه لا يجد ألماً . لا اغتسال الآن والبدن سيظل متسخاً ، لكن وسط قذارات الجسد السطحية تنتقي الروح داخلياً. هناك (أي في المناجم) يُقَدّم قليل من الخبز ، ولكن "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلام الله" (لو4:4 ). الملابس تنقص المرتجفين (من البرد والعُري)، ولكن الذي ارتدي المسيح فقد زُوِّد بالكساء الكامل . علي الرؤوس النصف محلوقة يوضع شعر شائك ، وحيث إن المسيح هو رأس الرجل ، لذلك ترتفع رؤوسكم بالمجد من قَبِلْ اسم الرب . إن كل هذه التشوهات والتي تبدو في أعين الوثنيين أنها بغيضة وقبيحة ، سيؤول إلي لمعان . وهذا الألم الوقتي والقصير سيُكافأ ويعوض بكرامة ومجد أبدي ، لأنه بحسب كلمات الرسول الطوباوي ، فإن الرب "سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده" (فيلبى3:21). ولكن يا اخوتي الأحباء هل بسبب التقوى والإيمان يمكن أن تكون هناك خسارة حيــث أنه لا تُهيأ فـــي المنجــم إمكانيــة لكهنة الله أن يقدموا الذبيحة الإلهية ويحتفلون بها. بالعكس ، لأن الذبيحة التى تحتفلون بها وتقدمونها لله هي ثمينة ومجيدة أيضاً ، وهي ذات منفعة عظيمة لكم ، لأنكم تنالون بها الأجر السمائي . فالكتاب المقدس يتكلم ويقول : " الذبيحة لله روح منسحق ، القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله" (مز 50: 19). هذه الذبيحة التى تقدمونها لله وتحتفلون بها علي الدوام نهاراً وليلاً هي أنكم صرتم ذبيحة لله وقدمتم ذواتكم كذبيحة مقدسة وثمينة ، مثلما يعني الرسول ويقول : " فأطلب إليكـــم أيها الإخــوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم الفعلية. ولا تشاكلوا هذا الدهر . بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رو 12: 1-2). إن مسرة الله هو أن يري جهادنا يزدهر حتى نفوز برضاه ، فما هي المجازاة لأجل طاعة إيماننا وعبادتنا لله، مثلما يعلن الروح القدس في المزامير ويشهد بالكلمات "ماذا أكافئ الرب من أجل كل إحساناته لي ؟ كأس الخلاص أتناول وباسم الرب أدعو . عزيز في عيني الرب موت أتقيائه" (مز 115: 12 ـ 15). فمن لا يرغب أن يقبل كأس الخلاص بسرور وطاعة ؛ من لا يرغب أن ينال مجازاة الرب بسرور وفرح؟ من لا يرغب أن يتكبد أمام أعين الله ، الموت الثمين بشجاعة وبثبات ، لكي يكون عزيزاً في عينيه ، ذلك ينظر من الأعالي إلي الجهاد لأجل اسمه ، ويقبل إرادتنا الصالحة ، ويحمينا في الحروب ، ويكللنا في الانتصار . فإنه يكافئ ويجازي بحسب صلاحه الأبوي ومحبته لنا، ذلك الذي أتمه وحققه بنفسه؟. فأي انتصار كبير ، أى شعور سام ، وأى بهجة وأي نصر عظيم يكون لكم أيها الأخوة الأحباء حيث إن مكافأة الله تلوح لكل منكم ؛ فكل منكم لا ينزعج ليوم الدينونة، فبالرغم من أنه يجول في المنجم كأسير بحسب الجسد ، ولكنه يملك بحسب الروح ؛ لأنه يعرف أن المسيح حاضراً عنده ، يفرح بصمود عبيده الذين يتقدمون في طريق الملكوت الأبدي. إنكم يومياً تنتظرون بفرح يوم الشفاء لنياحتكم، وتشتاقون في كل لحظة أن يفرزوكم من العالم وتسرعون بشهادتكم إلي عطايا الفرح والمساكن السمائية، لكي تروا النور الوضاء بعد ظلمة هذا العالم وتنالوا مجداً يشع علي كل المتألمين والمجاهدين ، حيث يشهد الرسول ويقول: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا"(رو18:8) . إن أفواهكم تصلي الآن بفاعلية ، فاطلبوا بلهفة واسألوا أن تُكَمّل النعمة الإلهية اعترافنا، وأن الله يحررنا من ظلام وفخاخ هذا العالم ، حتى نقدر نحن الذين ارتبطنا برباط المحبة والسلام أن نقف معاً ضد أخطاء الهراطقة وضد ظلم الوثنيين ، لنفرح سوياً في ملكوت السموات . أتمني لكم أيها الاخوة الطوباويون والشجعان أن تتنعموا مع الرب وتذكرونا دائماً . وداعاً . صلاوات ابينا القديس كبريانوس تكون مع جميعنا

4 توت: الشهيد كبريانوس أسقف قرطاجنة كان كبريانوس من أسرة وثنية فى قرطاجنة فى شمال أفريقيا، وقد ولد فى أوائل القرن الثالث الميلادى أثناء عصر الاضطهاد فما إن اعتنق المسيحية حتى اعتزم أن يحيا حياة عفيفة، فهجر دراسة الآداب اليونانية والرومانية وانقطع إلى دراسة الكتاب المقدس. ثم زهد فى الزواج فوزع أمواله على الفقراء ولم يستبق إلا الضرورى لمعيشته. وقد تأثر بكتابات ترتليانوس، ثم بعد ذلك أصبح أسقفاً على مدينة قرطاجنة. حتى إذا جاء عهد الإمبراطور الرومانى ديسيوس، أصدر هذا الإمبراطور قوانين جديدة تقضى بأن يحمل كل مواطن فى كل أنحاء الإمبراطورية شهادة رسمية تثبت أنه قدم ذبائح للآلهة الوثنية، ومن ثم أصبحت السلطة المدنية تقبض على الأساقفة وتصادر أملاكهم ثم تقتلهم، وقد جرت دماء الشهداء فى نفس المجرى الذى كانت تجرى فيه دماء الذبائح التى ضحى بها الوثنيون للآلهة الكاذبة، فذهب كبريانوس إلى مكان بعيد ولكنه ظل يسوس كنيسة قرطاجنة من ذلك المكان خمسة عشر شهراً بالرسائل التى كان يبعث بها إلى شعبه، وبما كان يرسله إليهم من ماله الخاص، ثم لم يلبث أن عاد إلى قرطاجنة بعد عيد الفصح سنة 251م، وكان الاضطهاد قد هدأ قليلاً. وقد أصدر كبريانوس مجموعة شهيرة من القوانين التى تطبق على الذين سقطوا أمام بشاعة التعذيب فأنكروا مسيحيتهم، كما تكلم فى هذه القوانين عن قيمة عماد الهراطقة بعد توبتهم. ثم عاد الاضطهاد مرة أخرى للمسيحيين بعد الاضطهاد الأخير الذى وقع سنة 249م. فلم تمض على الاضطهاد الأخير سبع سنوات حتى قام الإمبراطور فاليريان يجدد على الكنيسة حملة التخريب التى كان قد بدأها الإمبراطور سبتيموس سفيروس فى أوائل القرن الثالث والإمبراطور واسيوس فى أواسط هذا القرن، فأصدر أمراً يلزم كل الذين لا يؤمنون بدين الدولة بأن يعتنقوا هذه الديانة ويجاهروا بذلك، كما أمر بمنع المسيحيين من التجمع ومن الذهاب إلى المقابر، ومن ثم شددت السلطات على مراقبة الأساقفة والكهنة والشعب. فلما اطلع الوالى الرومانى فى أفريقيا على هذه الأوامر الإمبراطورية. استدعى الأسقف كبريانوس فى 30 أغسطس سنة 257م وطلب منه أن يطيع هذه الأوامر، وأن يطيعها كل المسيحيين الخاضعين لـه. فقال على الفور: "أنا مسيحى، وأنا أسقف، ولا أعرف آلهة غير الله الواحد خالق السماء والأرض وكل ما فيها. فهذا الإله هو الذى نعبده نحن المسيحيين نهاراً وليلاً، ونتوسل إليه من أجلنا، ومن أجل البشر جميعاً، ومن أجل الأباطرة أنفسهم." ولم يكن لديه شئ آخر يقولـه. ولا كان من المنتظر أن يرجع فيما قال، ومع ذلك أراد الوالى أن يتحقق من كلامه مرة ثانية. فقال له القديس: "من يعرف الله لا يرجع عما عزم عليه." وقد كان للوالى بعد ذلك أن يأمر بنفى الأسقف، ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف منه أسماء الكهنة الذين يعاونونه، فقال لـه الأسقف فى تهكم: "لقد حرمتم فى شرائعكم الوشاية والنميمة." ثم قال للوالى: "تمم ما أُمرت به." فأصدر الوالى حكمه بنفى كبريانوس وحدد إقامته وراء رأس بون فى أفريقيا حيث أقام سنة . وقد استطاع كبريانوس أن يكتب من منفاه رسالة إلى جماعة من المسيحيين من كهنة وعلمانيين محكوم عليهم بالعمل فى المناجم، ونعرف من رسالته هذه أن أولئك "المعترفين" كانوا يعاملون معاملة سيئة جداً فكانوا يشتغلون أشغالاً شاقة، وهم يرسفون فى القيود الحديدية، ثم يرقدون على الأرض، ولا يحصلون إلا على القليل من الخبز وقليل من النوم. ثم فى سنة 258م أقام الإمبراطور والياً جديداً على قرطاجنة فأعاد كبريانوس إلى كرسيه. غير أنه لم يلبث أن جاء أمر الإمبراطور بقتل الأساقفة والكهنة والشمامسة، وكان كبريانوس مذكوراً بالاسم فى هذا الأمر وكان من الأوائل الذين استشهدوا بناء على هذا الأمر سكستوس بابا روما، وقد نال الشهادة فى 6 أغسطس 258م، مع أربعة من شمامسته. وبعد أيام قليلة جاء من ينذر كبريانوس أن الشرطة تتأهب للقبض عليه تنفيذاً لأمر الإمبراطور بقتله، وفعلاً تم القبض عليه فى 13 سبتمبر 258م، وقضى الليل فى منزل أحد الجنود المكلفين بالقبض عليه، فاحتشدت جموع المسيحيين أمام البابا يحوطونه بصلواتهم ثم فى الصباح مضى به الجنود إلى الوالى، فدار بينهم الحوار الآتى: - أأنت ثاسيوس كبريانوس؟ + أنا هو. - أأنت أسقف هؤلاء الناس الفاسدى المذهب؟ + أنا هو. - إن جلالة الإمبراطور يأمرك بأن تقدم ذبائح للآلهة؟ + لن أفعل أبداً. - فكر جيداً. + إفعل ما أُمرت به. فى مثل هذا الأمر لا جدوى من التفكير. - لقد عشت طويلاً فى مذهبك الباطل، وجذبت كثيرين إلى مؤامرتك الفظيعة، فعاديت الآلهة الرومانية، وخالفت الشرائع المقدسة، فما استطاع الأباطرة الأبرار القديسون المعظمون أن يردعوك أو يردوك إلى الدين الصحيح، لذلك ربما إنك معروف بأنك سبب هذه الجرائم الجسيمة ومدبرها، ستكون عبرة لمن أغويتهم وجلبتهم إلى ديانتك الكاذبة، حتى يسود النظام بسفك دمك. ثم تلى الوالى الحكم قائلاً: "قضت المحكمة بأن يموت ثاسيتوس كبريانوس بحد السيف." فقال كبريانوس حين سمع هذا الحكم: "الشكر لله." ، ثم أخذه الجنود إلى ساحة الإعدام، يحيط به أبناؤه المسيحيون فى قرطاجنة، حتى وصل الموكب الحزين إلى مكان التنفيذ، فألقى كبريانوس رداءه وركع على الأرض وصلى، ثم أحنى رأسه للسيف، فقطع السياف رقبته. وقد كان ذلك فى يوم 14 سبتمبر 258م فى عهد الإمبراطور فاليريان والوالى جاليريوس مكسيموس. بركة صلوات الشهيد كبريانوس تحرسنا إلى النفس الأخير.

الأعمال والعطاء القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة ملاحظة: هذه الترجمة هي من أعمال الكنيسة القبطية نقلاً عن الترجمة الإنجليزية الكاثوليكية نشرت في كل من: Ante–Nicene Fathers Volume V Cyprian، Treatise VIII Catholic University Press، Patristic Series، St. Cyprian، Treatises Treatise VIII، P.٢٢٧ – ٢٥٣ وقد روجعت على الترجمة الألمانية التي نشرت في مجموعة: Bibliothek der Kirchenvater Munchen، ١٩١٨، Bd. ٣٤، s. ٢٦٠ – ٢٨٤.   مقدمة تتميز كتابات آباء الكنيسة الذين كتبوا باللغة اللاتينية أمثال ترتليانوس، كبريانوس، هيبوليتوس... وآخرون، بواقعيتها وروحها العملية والهادفة إلى ما هو ضروري ونافع للحياة اليومية العملية. والرسالة التي بين أيدينا "الأعمال والعطاء" للقديس كبريانوس أسقف قرطاجنة مثال لإحدى كتابات الآباء اللاتين في القرون الأولى للمسيحية. والمُدقِّق في كتابات القديس كبريانوس * يجد أن هناك خطاً عملياً سواء في عظاته أو كتاباته يُظهر السبب في موضوع حديثه. لذلك نجد أنه يكمن دافعان وراء كتابته لهذه الرسالة: ١- في عام ٢٥٢ تفشَّى مرض الطاعون من قرطاجنة وظل يُهدِّد المقاطعة الغربية للإمبراطورية الرومانية طوال عشرين عاماً، وقد تجاوب المسيحيون مع هذه الكارثة وهبُّوا لنجدة المنكوبين في أنحاء مدينة قرطاجنة، وقد قام القديس كبريانوس بخدمة خاصة لإغاثة المنكوبين، وقد أظهر بهذا الصنيع رحمة خاصة بالمحتاجين من خلال حث المؤمنين على ضرورة العطاء، ولذلك أشار في كتاباته إلى واجب المسيحيين نحو المحتاجين والاهتمام بمحبة القريب. ٢- في عام ٢٥٣ حدثت غزوات البربر الهمجية على مقاطعة نوميدين وتم أسر كثير من المسيحيين، لذلك قام القديس كبريانوس بحملة تبرعات لجمع الأموال حتى يستعيد هؤلاء المأسورين من المسيحيين من أيدي البرابرة نظير مبالغ مالية لافتدائهم، وعلى هذا الأساس كان يُحفِّز الجماعات المسيحية للنهوض بحملة التبرعات. هذه الأسباب كانت هي الدافع للقديس كبريانوس كي ما يكتب هذه الرسالة والتي يحتمل أنها قد ُ كتبت بين عامي ٢٥٣ - ٢٥٦ م. إذا نظرنا إلى الرسالة ككل فإننا لا نجد أنها قد أخذت صورة الكتابات الأدبية، ولكنها تحمل نوعاً من الكتابات الرعوية والتي تحث المؤمنين على أهمية "الصدقة" وقد دَعّم هذه الرسالة عن طريق استخدام كثير من نصوص الكتاب المقدس. كما أننا نلاحظ أنها لا تحوي موضوعات عقائدية باستثناء الثلاث فقرات الأولى حيث أوجد رابطة بين المعمودية التي تعطي التطهير من أدناس الخطية وبين الصدقة والأعمال الصالحة التي لا غنى عنها لاستمرار فاعلية المعمودية. في هذه الرسالة ربما يُلاحَظ أن هناك مغالاة في إيضاح القديس كبريانوس لمفهوم الصدقة في أنها تغسل من الأدناس مثلما يحدث في المعمودية (فقرات 1- 5) ولكن في الواقع نجد أنه يتكلم عن أن ممارسة الصدقة وفعل الخير للمحتاجين هو تطبيق عملي لتعاليم الرب يسوع "أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم" (لو ٤١:١١ )، لأن الذي يريد أن يقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن أي الحياة الأبدية فعليه أن يتخلَّص من ممتلكاته وميراثه الأرضي، والصدقة ناتجة عن طهارة القلب. لذلك ينصحنا المخلص بالقول: "بيعوا مالكم وأعطوا صدقة" (لو١٢:٣٢ ) لكي نبتعد عن محبة الغنى ولذة اقتناء المال، الذي هو والد الشهوات والمحرِّض على الدنس الجسدي والذي يربط الذهن البشري برباطات لا تنفك ويؤدي به إلى التراخي من جهة كل ما هو صالح. فعندما يصبح الداخل (أي القلب والعقل) نقياً عن طريق ممارسة فعل الرحمة فهذا يكون استمراراً لحفظ مفاعيل المعمودية. فالذي "يعطف على المسكين يقرض الرب" (أم ١٧:١٩ ) والذي يشارك المسيح في مكاسبه الأرضية (عن طريق الصدقة) سيجعله المسيح وارثاً معه في ملكوتهالسماوي. ومن هنا يحث كبريانوس في هذه الرسالة قائلا: " هيا بنا نعطي المسيح الرداء الأرضي لكي ما نحصل على الثوب السماوي، هيا بنا نعطي الطعام والشراب الدنيوي لكي ما نأتي إلى الوليمة السماوية مع إبراهيم واسحق ويعقوب" (فقرة ٢)   أعمال البر تطفئ نيران الخطية ١. أيها الأخوة الأحباء، إن النعم الإلهية كثيرة وعظيمة، تلك التي من خلالها أدركتنا المراحم الجزيلة والفياضة التي لله الآب والمسيح لأجل خلاصنا، ومازالت  تدركنا أيضاً. فقد أرسل الآب ابنه لأجل خلاصنا ليحفظنا ويحيينا لكي ما يخلصنا، والابن أيضاً أراد أن يُرسَل، وأن يسمى "ابن الإنسان" لكي ما نصير نحن أولاداً لله، هذا الذي اتضع ليرفع الساقطين، وجُرح ليداوي جراحاتنا، و َ خدم لكي ما يحرر الذين خدمهم، واجتاز الموت ليمنح المائتين عدم الموت. ولكن بجانب ذلك، ُترى ما هو مقدار تلك العناية الإلهية العظيمة وما هو مدى هذا الجود الإلهي، إذ قد مُنحنا خطة للخلاص، واُتخذ تدبير لحفظ الإنسان الذي َ خُلص! لأنه بمجيء الرب وشفائه لجراحات آدم التي كان قد حملها، وأيضاً بإبرائه من سُم الحية القديمة، أوصاه بألا يعود يخطئ لئلا يكون له أشر (1) فلقد كنا (من قبل( محاصرين ومقيدين من خلال الأمر بالنقاوة (2). وعَجَزَ الضعف البشري عن أن يفعل شيء إلى أن جاءت المحبة الإلهية لمساعدة الإنسان، وفتحت لنا طريقاً لتأمين الخلاص من خلال التنبيه على أهمية أعمال البر (3) والرحمة لكي تغتسل - من خلال الصدقة – كل الأدناس التي تلوثنا بها مؤخراً. ٢. يقول الروح القدس في الكتاب المقدس "بالرحمة والحق يُسَتر الإثم" (أم ١٦:٦ )، ومن الطبيعي أن المقصود بالإثم هنا ليس الآثام التي إرُتكِبت من قبل لأنها سبق أن تطهرت وتقدست بدم المسيح. كذلك يقول أيضاً: "الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر الخطايا" (يشوع بن سيراخ ٣٣:٣.( هنا أيضاً أُشير وُاكَّد أنه كما ُتطفأ نيران الجحيم في جرن مياه الخلاص (إشارة إلى المعمودية)، هكذا أيضاً بالعطاء وأعمال البر ُتطفأ نيران الخطية. وحيث أن غفران الخطايا قد مُنح مرة في المعمودية، فإن الإحسان (التصدق) الدائم والمستمر أيضاً سيمنح - مثل المعمودية - من ناحية أخرى نعمة الله. (4) هذا يعلِّمه لنا الرب في الإنجيل إذ عندما لوحظ أن التلاميذ يأكلون بدون غسل أيديهم أولاً قال (5) : "أليس الذي صنع الخارج صنع الداخل أيضاً؟ بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقياً لكم" .( لو١١ : ٤١ -٤٠) هكذا يوضح لنا السيد المسيح ويشير إلى أنه ليست اليدان هي التي يجب أن ُتغسل بل القلب، وأن الدنس الداخلي هو الذي يجب أن يُنزع وليس الخارجي، والذي يُطهِر ما بالداخل فقد َ طهر أيضاً ما بالخارج، وبطهارة القلب يصير الجلد والجسد طاهرين. علاوة على ذلك فقد نصحنا وأوضح لنا كيف يجب أن نكون أنقياء وطاهرين حين أضاف قائ ً لا أنه لابد من الصدقة. فالرحيم يحثنا على أن نمارس الرحمة، ولأنه يريد خلاص هؤلاء الذين فداهم بثمن غالٍ، فهو يُعَلِّم أن أولئك الذين تدنسوا بعد المعمودية يمكنهم أن يتطهروا من جديد. ٣. لهذا أيها الإخوة الأحباء فلنعترف بعطية النعمة الإلهية الشافية بأن نطهِّر وننقِ نفوسنا من خطايانا، ولنعالج جراحاتنا بالعلاج الروحي، نحن الذين لا يمكن لنا أن نتحرر من بعض جراحات الإنسان الباطن. فلا يمدح أحد نفسه على قلبه النقي والطاهر ويظن أنه بسبب نقاوته لا يحتاج دواءاً لجراحه، لأنه مكتوب "من يقول أني زكيت قلبي تطهرت من خطيتي" (أم 20: 9)، كذلك يقول يوحنا في رسالته "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" ( ١يو ٨:١ (،فإن كان لا يمكن أن يوجد شخص بلا خطية – ومَنْ يقول أنه بلا خطية فهو إما متكبر أو غبي - فكم تكون الحاجة للرحمة الإلهية! ويا لعظم حنانه، إذ عرف أن هؤلاء الذين شفوا من جراحاتهم لابد وأن يجُرحوا مرة أخرى، لذلك أعطى العلاج الشافي لتلك الجراحات لكي يتم الشفاء من جديد. الرحمة تكون لمن يعمل رحمة ٤. إن التحذير الإلهي أيها الإخوة الأحباء لم يكف ولم يصمت قط في أي موضع عن أن يحث شعب الله على أعمال الرحمة سواء في العهد القديم أو الجديد، كما أنه من خلال صوت الروح القدس المشجع يدعو كل من يهتدي لرجاء ملكوت السموات إلى تقديم الصدقة. فالله يدعو ويأمر أشعياء قائلا: "ناد بصوت عال لا تمسك، ارفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم وبيت يعقوب بخطاياهم" (إش ١:٥٨ ( وبعد أن لامهم الرب على خطاياهم ووضع أمامهم آثامهم بكامل قوة غضبه، أوضح لهم قائلا أنه لا يمكن أن يقدموا ما يُكفرون به عن خطاياهم، فلا بالتجائهم للصلاة والأصوام ولا حتى بالجلوس في المسوح والرماد يمكنهم أن يستعطفوا الله، حيث، أوضح لهم في النهاية أن التصالح مع الله يكون بالعطاء فقط (6) ويضيف قائلا: "أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك، إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك؟ حينئذ ينفجر مثل الصبح نورك و تنبت صحتك سريعاً ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع ساقتك. حينئذ تدعو فيجيب الرب تستغيث فيقول هانذا" (إش 587 :) ٥. إن الوسائل لمصالحة الله قد أُعطيت لنا من كلام الله نفسه، فالوصايا الإلهية ُتعَلِّم أن إرضاء الرب يكون بالأعمال المستقيمة وأن الخطايا تتطهر بفضل الرحمة ٧ وفي سليمان نقرأ "أغلق على الصدقة في مخازنك، فهي تنقذك من كل شر" (يشوع بن سيراخ ١٢:٢٩ ) وأيضاً: "من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضا يَصرخ ولا يُستجاب" (أم ١٣:٢١ ) فلن يستحق رحمة الرب مَنْ كان هو نفسه بلا رحمة، ومَنْ لم يكن رحيماً تجاه دعاء المسكين لن ينال أي طلب من المحبة الإلهية. فهوذا الروح القدس يعلن ويؤكد في المزامير على ذلك بقوله: "طوبى للذى ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب" (مز ٢:٤١ ). وأيضاً كان هذا المبدأ في ذهن دانيال عندما أعطى علاجاً للملك نبوخذ نصر (إذ كان الملك خائفاً وقلقاً بسبب حلم رديء) ليتجنب الشرور بنوال المعونة الإلهية فقال له: "لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك وفارق خطاياك بالبر وآثامك بالرحمة للمسكين لعله يطال اطمئنانك" (دا ٢٧:٤ ). وعندما لم يعمل الملك بتلك المشورة عانى من المصائب والمشاكل التي حّلت به والتي كان في إمكانه أن يتجنبها وينجو منها لو كان قد إفتدى نفسه من خطاياه من خلال العطاء. والملاك رافائيل أيضا يشهد هكذا ويحث على ممارسة العطاء بكرم وبسخاء بقوله: "صالحة الصلاة مع الصوموالصدقة خير من ادخار كنوز الذهب. لأن الصدقة تنجي من. فيوضح أن – الموت و تمحو الخطايا" (طو ٨:١٢ - ٩) صلواتنا وأصوامنا تكون لها فائدة أقل مالم يساندها العطاء، والتضرعات وحدها تأتى بقليل ما لم ُت َ كمَّل بإضافة الأفعال والأعمال. فالملاك يكشف و يوضح و يؤكد أن طلباتنا تكون لها فاعليتها بالعطاء، وأن حياتنا تنجو من المصائب بالعطاء، وأن نفوسنا تتحرر من الموت بالعطاء. ٦. أيها الاخوة الأحباء نحن لن نستخدم الآيات القادمة بغرض إثبات شهادة الحق التي قالها الملاك رافائيل. ففي أعمال الرسل ٨ قد ثَبَُت صدق كل ذلك، وقد اكتشفنا أنه بالعطاء تتحرر النفوس، ليس من الموت الثانى فقط بل من الموت الأول أيضاً بدليل ما تم وحدث بالفعل. فعندما مرضت طابيثا - التي كانت تحب الأعمال الصالحة والعطاء - ثم ماتت، دعى بطرس إلى جثمانها الذي كان بلا حياة، وعندما أتى مسرعاً بمحبة رسولية وقفت حوله الأرامل باكيات ومتوسلات وهن يرينه أقمصة وثياباً مما قبلن منها، فهكذا كن يتضرعن لأجلها: لا بكلامهن بل من خلال أعمالها هي. فشعر بطرس أن ما يُطلب بهذه الطريقة يكون نواله ممكناً، وأن المسيح لن يتخلى عن هؤلاء الأرامل اللاتى كن يطلبن، إذ كان الرب نفسه قد اكتسى بملابس صنعتها له الأرامل. وهكذا عندما جثا بطرس على ركبتيه وصلى وكشفيع لائق للأرامل والفقراء َقدَّم التضرعات التي حمّلوه إياها أمام الرب، نظر إلى الجثمان المغسول الموضوع على الفراش وقال "يا طابيثا قومى باسم يسوع المسيح" (أع ٤٠:٩ ) فلم يتأخر الرب عن معونة بطرس وهو الذي قال في إنجيله أن كل ما يُطلب باسمه يُعطى ٩. وهكذا ُ طرد الموت، وعادت الروح إلى طابيثا، ووسط تعجب الجميع ودهشتهم قام الجسد ودبت فيه الحياة من جديد. فهكذا كانت قوة فضيلة الرحمة، وهكذا أتت الأعمال الصالحة بنفع! فتلك التي أعطت معونة للأرامل المتألمات لكي يحيين استحقت أن ترجع إلى الحياة من خلال طلبات هؤلاء الأرامل. العطاء وصية إلهية ٧. هكذا نرى في الإنجيل الرب الذي هو معلم حياتنا ومرشدنا إلى الخلاص الأبدي، الذي بعث الحياة لشعب المؤمنين وزودهم بكل شئ بعد أن أحياهم، لا يأمر في وصاياه الإلهية ومبادئه السماوية بأكثر إلحاحاً إلا أن نستمر في العطاء وألا نعتمد على الكنوز الأرضية بل نكنز الكنوز السماوية فيقول: "بيعوا أمتعتكم و أعطوا صدقة" (لو ٣٣:١٢ ). ويقول أيضاً: "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون و يسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه . حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا" (مت ٦: ٢١-١٩)  وعندما أراد أن يُعَلِّم الرجل الغنى الذي كان كاملاً وبلا عيب بحفظ الوصايا قال: "إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع كل أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعالى اتبعنى" (مت ٢١:١٩ ). وهكذا قال في موضع أخر أن من يريد أن يتاجر في النعمة السماوية ويقتني الخلاص الأبدي عليه أن يتخلص من ممتلكاته وأن يشترى من ميراثه الأرضي اللؤلؤة الكثيرة الثمن أي الحياة الأبدية، وهي غالية لأن ثمنها هو دم المسيح. فيقول: "أيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى و باع كل ماله و اشتراها" (مت ٤٥:١٣-46) ٨. وأخيراً أيضاً يدعو هؤلاء الذين يراهم مهتمين بمساعدة وإطعام الفقراء أولاد إبراهيم. فعندما قال زكا: "ها أنا يا رب أعطى نصف أموالى للمساكين، وإن كنت قد وشيت  بأحد أرد أربعة أضعاف" أجاب يسوع قائ ً لا: "اليوم حصل. خلاص لهذا البيت إذ هو أيضا ابن إبراهيم" (لو ٨:١٩ -9) فإن كان "إبراهيم قد آمن بالله، وإيمانه هذا حُسب له براً" ١٠ فبالتأكيد من يعطي صدقة حسب وصية الله فإنه يؤمن بالله، و من له الإيمان الحقيقي فإنه يبقى في خوف الله، كما أن من يخاف الله يضع له اعتباراً في صنعه رحمة بالفقير. فهو يعمل هذا لأنه يؤمن بالله (١١)، ولأنه يعلم أن تلك الأمور التي تنبئ عنها في كلام الله حقيقة وأن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكذب، و أن الشجرة غير المثمرة (١٢) – و المقصود بها الإنسان العقيم (أي الذي لا يعطي) - تقطع و تلقى في النار، وأما الرحماء فإنه يدعوهم للملكوت. وفي موضع آخر يلّقب عاملي الخير والمثمرين "أُمناء" أما غير المثمرين والعقماء لا يدعوهم كذلك بل يقول لهم: "إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم فمن يأتمنكم على الحق؟ و إن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم؟" ( لو ١١:١٦-12) كيف يحتاج المعطي بسخاء؟ ٩. ولكن إن كنت خائفا وتخشى أن تعطي بسخاء لئلا ينفذ ميراثك بسبب عطائك السخي وإنك فرضاً قد تفتقر، فلا تقلق من هذا الموضوع وكن مطمئناً: فإن ما يُصرف في خدمة المسيح، وفي الأعمال السماوية (أي أعمال الخير) لا ينفذ. وأنا لا أعدك بهذا على أساس كلامي فقط ولكنى أعدك من خلال الإيمان بالكتب المقدسة وبضمان الوعد الالهى. فالروح القدس يتحدث على لسان سليمان و يقول: "من يعطي: الفقير لا يحتاج ولمن يحجب عنه عينه لعنات كثيرة" (أم ٢٨: ٢٧ )، وهكذا يوضح أن الرحماء وفاعلي الخير لن يأتي عليهم وقت يحتاجون فيه إلى شيء، وعلى العكس فالشحيح والعقيم سيأتي عليه وقت يجد نفسه في إحتياج. هكذا يقول الطوباوى بولس الرسول الممتلئ من نعمة وَحْي الرب: "والذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للآكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم مستغنيين في كل شئ" ( ٢كو9: 10-11 ). وأيضاً: "لأن إفتعال هذه الخدمة ليس يسد  أعواز القديسين فقط بل يزيد بشكر كثير بالله" ( ٢كو ١٢:٩) لأنه عندما يشكر الفقراء الرب في صلواتهم على عطايانا وأعمالنا الصالحة فإن فاعل الخير يزداد غنى كمكافئة له من عند الرب، والرب إذ ينظر إلى قلوب هؤلاء الرجال ويشجب قليلي الإيمان وغير المؤمنين يشهد في الإنجيل ويقول: "فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل و أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم. لأن أباكم السماوى يعلم إنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن أطلبوا أولا ملكوت الله وبِرّه وهذه كلها يقول أن هذه كلها تعطى وُتزاد: تزاد لكم" (مت ٦ : 30-31) لهؤلاء الذين يطلبون ملكوت الله وبِرّه، لأن الرب يؤكد أنه عندما يأتى يوم الدينونة فكل الذين فعلوا الصالحات في كنيسته سوف يُقبَلون في الملكوت. . أنت تخشى أن تخسر ميراثك الأرضي لو بدأت تتصدق منه بسخاء، وأنت لا تعلم أيها الإنسان البائس أنه بينما تخاف أن تفقد ثروتك، فإنك تفقد الحياة نفسها وتفقد الخلاص. وبينما تقلق من أن تقل أي من ممتلكاتك فأنت لا تنتبه يا مَنْ تحب المال أكثر مما تحب نفسك أنك أنت ذاتك تقل، وبينما تخاف على أموالك من أجل نفسك فان نفسك تهلك من أجل أموالك!  لذلك حسناً يقول الرسول: "لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح إننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في الغضب و الهلاك. لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" ( ١تى 6: 7-10)   11. هل تخشى من أن تتضاءل ممتلكاتك متى بدأت تمارس الصدقة بفيض؟ فمتى حدث أن نفذت ثروة رجل صِدِّيق؟ أليس مكتوب "الرب لا يُجيع نفس صِدِّيق" (أم ٣:١٠ )؟ فإيليا أُطعِم بواسطة الغربان الذين خدموه في الصحراء ( ١٣)، وعندما كان دانيال محبوساً في جب الأسود بأمر الملك أُعدت له وجبة من السماء ١٤ وأنت تخشى من أن ينُقصَك الطعام عندما تعمل الخير وتكون مستحقا لخدمة الرب؟ فالرب نفسه يشهد في الإنجيل مبكتاً الشكاكين وقليلى الإيمان ويقول: "انظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوى يقوتها، ألستم أنتم بالحرى أفضل منها ؟" (مت ٢٦:٦) فالرب يُطعم الطيور ويُعطي القوت اليومى للعصافير، وأيضاً تلك الكائنات التي ليس لها أي إدراك بالأمور الإلهية لا ينقصها أبداً المأكل أو المشرب. فهل تعتقد أنه ممكن للإنسان المسيحى، خادم الرب الم َ كرَّس لعمل الخير، الذى هو عزيز في عينى الرب أن ينقصه أي شيء ؟ ١٢ . هل تعتقد أن الذي يطعم المسيح (بإطعامه الفقراء) لن يطعمه المسيح؟ أو أن أولئك الذين وُهبوا عطايا سماوية وإلهية يمكن أن تنقصهم أمور أرضية؟ من أين هذا الفكر الخالي من الإيمان؟ من أين هذا التفكير عديم التقوى والذميم؟ ماذا يفعل قلب غير المؤمن في بيت الإيمان؟ كيف ُتعَْتبَر وُتدعى مسيحياً يا مَنْ لا تؤمن بالمسيح على الإطلاق؟ فكلمة "فريسي" تليق بك بالأكثر! لأن الرب حينما كان يتكلم في الإنجيل عن العطاء سبق وأعطانا التنبيه الوافي والشافي بأن نصنع لأنفسنا أصدقاء بأموالنا لكي ما ُنقبل في المظال الأبدية (لو ٩:١٦ )، وأضاف الكتاب المقدس الكلمات الآتية: "وكان الفريسيون أيضاً يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزأوا به" (لو ١٤:١٦ ) فنحن نرى الآن مثل هؤلاء الأشخاص في الكنيسة. هؤلاء الذين لا يدخل نور التحذيرات الروحية والخلاصية إلى أذانهم المغلقة وقلوبهم العمياء، فيجب ألا نتعجب من إستهزائهم بالخادم في وعظه لأننا نرى أن أمثال هؤلاء قد استهزأوا بالرب نفسه.   الأغنياء الأغبياء يخسرون! . لماذا تسمح لنفسك أن تصدق هذه الأفكار الخاوية والغبية وكأن خوفك وقلقك من المستقبل يمنعك من عمل الخير؟ لماذا تتصور خيالات وأوهام معيّنة لتكون عذراً باط ً لا؟ فلتعترف بالحقيقة ولتكشف الأمور السرية المختبئة في قلبك لأنك لا تستطيع أن تخدع الفاهمين. فظلمة العقم (عدم العطاء) قد أطبقت على فكرك، وإذ قد تسرب نور الحق إلى خارج فكرك، فإن الظلام الدامس والكثيف للبخل قد أعمى قلبك اللحمي. فأنت إذاً أسير وعبد لأموالك ومقيَّد بسلاسل وأربطة الطمع. وأنت الذي حررك المسيح قد ُقيِّدت من جديد. أنت َتدَّخِر أموالك التي لن تخلصك عندما َتدَّخِرها . أنت تكدس ثروتك التي تثقل عليك بثقلها، ولا تفكر في ما قاله الرب للرجل الغني الذي تفاخر بفرح بسبب فيض حصاده الكثير: " يا غبي! هذه الليلة ُتطلب . نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" (لو ١٢: 20 ) لماذا تطيل التفكير فقط في غناك؟ لماذا تثقل على نفسك حمل ثروتك حتى أنه كلما ازداد غناك في نظر العالم ازداد فقرك في نظر الله؟ قسم إيرادك مع الرب إلهك، شارك المسيح في مكاسبك، وأجعل المسيح شريكاً لك في ممتلكاتك الأرضية حتى يجعلك هو أيضاً وارثاً معه في ملكوته السماوي.  ١٤ . فأنت خاطئ ومخدوع يا من تظن نفسك غنياً في العالم. إسمع صوت الرب في سفر الرؤيا حينما بكًّت مثل هؤلاء (الأغنياء في أعين أنفسهم) قائلا: "لأنك تقول إني أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم انك أنت الشقي و البائس و فقير وأعمى وعريان. أشير عليك أن تشترى مني ذهباً مصفى بالنار لكي تستغني وثياباً بيضاً لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك وكحّل عينيك بكحل لكي تبصر" . (رؤ 3: 17- 18 ) لذلك أيها الغني والثري اشترِ لنفسك من المسيح ذهباً مصفَّى بالنار حتى تصبح ذهباً نقياً عندما تحترق بالنار الشوائب التي فيك بالعطاء والأعمال الصالحة. اشترِ لنفسك  ثوباً أبيض يا مَنْ كنت عرياناً مثل آدم وكان شكلك بشعاً وغير لائق، يمكنك الآن أن ترتدي ثوب المسيح الأبيض. وأنتِ أيتها السيدة الغنية والثرية، كحِّلي عينيك، لا بُكحل الشيطان بلب ُ كحل المسيح فتستطعين أن تنظري الرب عندما تستحقين الخير من الرب من خلال سلوكك وأعمالك الصالحة.   لا عذر لمن لا يعطي . فأنت يا مَنْ لا تستطيع أن تعمل عمل الخير في الكنيسة لأجل عينيك المغطاة بالسواد وبظلال الليل فلا تقدر أن ترى الفقراء والمحتاجين. هل تعتقد أيها الغنى والثرى - يا مَنْ لا تفكر بالمرة في صندوق العطاء، يا مَنْ تأتى إلى عشاء الرب بدون ذبيحة، يا مَنْ تشترك في ذبيحة قدمها الرجل الفقير- إنك تستطيع أن تشترك في عشاء الرب؟! أنظر في الكتاب المقدس فترى أرملة مهتمة بالوصايا الإلهية، قد أعطت حتى في وسط ضغوط وضيقات الفقر، وألقت في الخزانة فلسين هما كل ما تملكه، وعندما لاحظها ورآها الرب نظر إلى عملها - لا لأجل كم المال بل لأجل النية - وأجاب قائ ً لا: "بالحق أقول لكم أن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع لأن هؤلاء من فضلتهم ألقوا في قرابين الله، وأما هذه فمن أعوازها ألقت كل المعيشة التي لها" (لو ٢١: 3- 4) إمرأة مباركة وعظيمة جداً، تلك التي حتى من قبل يوم الدينونة إستحقت أن يمدحها صوت الديان! ليخز الرجل الغني لأجل عدم إثماره وبليته! فها أرملة فقيرة تعطي وبالرغم أن كل العطايا المَقدَّمَة ُتعطى للأرامل والأيتام، إلا أنها أعطت، وهي التي كان يجب أن تقبل العطية. وهذا يُعَرِّفنا كم يكون العقاب الذي ينتظر الرجل الغني فهذا الموقف يُعّلمنا أنه على الفقراء أيضاً أن يفعلوا الخير. ويجب أن نفهم أن هذه الأعمال ُتقدَّم لله، وكل من يفعل هكذا يستحق الخير من الله، فالمسيح يدعو تلك العطايا "قرابين الله" ويشير إلى أن الأرملة وضعت فلسين في "قرابين الله"، حتى يوضح جلياً أن مَنْ يعطف على  المسكين يُقرض الرب (أم 19: 17) . قد يفكر أحد أنه معفي من العطاء لأجل منفعة أولاده. لا تجعلوا أيها الأخوة الأعزاء هذا التفكير يقيّد المسيحى ويرجعه عن عمل الخير. لكننا في العطايا الروحية يجب أن نضع عتباراً للمسيح الذي قال أنه سيقبلها (راجع مت ٢٥: 40) ونحن لا ُنفضِّل العبيد رفقاءنا على أولادنا ولكننا نفضِّل الرب عليهم، فهو ينبهنا ويحذرنا بقوله: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني" (مت ٣٧:١٠ ) وهكذا أيضاً نرى أشياء مماثلة مكتوبة في سفر التثنية لأجل تقوية الإيمان ومحبة الله. يقول الرب: "الذي قال عن أبيه وأمه لم أراهما وبأخوته لم يعترف وأولاده لم تعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك" ٩). فإن كنا نحب الله بكل قلوبنا فيجب ألا نفضل : (تث ٣٣: 9) الأهل أو الأبناء على الله. ويقول يوحنا أيضاً هكذا أنه محبة الله لا توجد في هؤلاء الذين نراهم لا يريدون عمل الخير للفقراء: "وأما من كان له معيشة العالم و نظر أخاه محتاجا : وأغلق أحشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه؟" ( ١يو ٣ ١٧ ) فإذا كنا بعطاء الفقراء نجعل الله مديناً لنا وعندما ُنقدِّم: (العطاء) للأدنياء فاننا ُنعطِى للمسيح (أم 19: 17). فلا يوجد سبب إذن لتفضيل الأرضيات على السماويات أو أن نضع الأمور البشرية فوق الأمور الإلهية. ١٧ . هكذا فالأرملة ١٥ بعد أن نفذ منها كل شئ بسبب الجفاف والمجاعة، وخبزت كعكة على الرماد بقليل من الدقيق والزيت المتبقين لديها، وكان من المنتظر أن تموت هي وابنها بعد أن يأكلا هذه الكعكة جاء إليها إيليا وطلب منها أن تعطي له أو ً لا ليأكل ثم تأكل هي وابنها مما تبقى. لم تتردد الأرملة في إطاعته ولم تفضل الأم ابنها على إيليا في المجاعة وفي العوز، بل فعلت ما هو مرضي في نظر الله وبسرعة وبفرح قدّمت ما ُ طلب منها، ولم تعطِ جزءً من الكثير بل أعطت الكل من القليل، وأطعمت آخر قبل ابنها. وفي الفقر والجوع لم يُعَتبر الطعام أهم من الرحمة، فبينما من أجل عمل الخير قد استهانت بالحياة حسب الجسد، لذلك َ خُلصت نفسها بطريقة روحية. هكذا فإيليا كمثال للمسيح، مبيناً أنه يعطي الكل حسب رحمته أجاب قائلا: "لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل أن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي - فيه يعطي الرب مطراً على وجه الأرض" ( ١مل ١٤:١٧-١٥ ). وبحسب إيمان الأرملة في الوعد الإلهي، فما أعطته قد تضاعف وتزايد لها وكما نمت وتزايدت أعمالها الصالحة وفضائل الرحمة، هكذا إمتلأت أواني الدقيق والزيت. ولم َتحرم الأم ابنها مما أعطته لإيليا بل أعطته ما فعلته برحمة وتقوى. ولكنها لم تكن قد عرفت المسيح، ولم تكن قد سمعت وصاياه. ولم تقدم الطعام والشراب عرفاناً بدمه كمَنْ فداها المسيح بصليبه وآلامه. وهكذا يتضح كم يخطئ في الكنيسة ذلك الذي يُقدِّم نفسه وأولاده على المسيح، فيدخر أمواله ولا يشارك الفقراء المعوزين في ميراثه الأرضي الوفير. 18. قد تقول أن لك أبناء كثيرين في بيتك، وأن كثرة أبنائك هذه تمنعك من أن ُتقدِم على عمل الخير. ولكن بسبب كثرة أبنائك لهذا يجب عليك بالأحرى أن ُتكثر من أعمال الخير حيث أنك أب لأولادٍ كثيرين فلك الكثير ممن تطلب من أجلهم أمام الرب، ولك الكثير ممن يجب أن تكّفر عن خطاياهم ولك الكثير ممن يجب أن ُت َ طهَّر ضمائرهم والكثير ممن يجب أن ُتحَرَّر نفوسهم. فكما أنه في هذه الحياة الأرضية، كلما زاد عدد أبنائك كلما زادت المصروفات من أجل قوتِهِم ومن أجل مطالب الحياة، كذلك في الحياة الروحية والسماوية كلما زاد عدد أبنائك كلما وجب أن يزداد الإنفاق في الأعمال الصالحة. فهكذا قدّم أيوب ذبائح عديدة لأجل أولاده، وبقدر ما كان عدد أولاده كبيراً هكذا كان عدد ذبائحه التي يقدمها للرب كبيراً. ولأنه لا يمكن أن يمضى يوم دون أن يخطئ أحدهم أمام الرب، هكذا كانت لا تنقطع الذبائح يومياً حتى ُتمحى الخطايا بها. والكتاب المقدس أثبت ذلك بقوله: "وولد له سبعة بنين وثلاثة بنات … وكان لما دارت أيام الوليمة أن أيوب أرسل فقدسهم وب ّ كر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم".(أي 1: 2-5) إذاً، إذا كنت حقاً تحب أولادك، وإذا كنت تريد أن تكشف لهم عذوبة حبك الكامل لهم كأب، فيجب عليك أن ُتكثر من أعمال المحبة حتى تستودع أبناءك لدى الله من خلال أعمالك الصالحة.   الله الراعي الحقيقي لأولاده 19. لا تعتبره كأب لأبنائك، ذاك الإنسان (نفسك) الذي هو زمني وضعيف، بل إقتن الرب الذي هو الأب الأبدى والقوي لأبنائك الروحيين. سلِّم له كل ثروتك التي تحتفظ بها الآن. أجعله وصياً على أبنائك، لأنه هو الذي يعتني بهم ويحميهم بعظمته الإلهية من كل شرور العالم. عندما توضع ثروتك تحت عناية الله، لا تصادرها الدولة أو يستولي عليها جابي الضريبة ولا ُتبدَّد خلال الدعاوى القضائية. حينئذ يكون الميراث في أمان تحت عناية الله، هذا لكيما توفر إحتياجات المستقبل لابنائك الأعزاء، لتوفر الإحتياجات لمن سيرثونك بمحبة أبوية، حسب إيمان الكتاب المقدس الذي يقول: "أيضا كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً. اليوم كله يترأف . ومرة أخرى يقول - ويقرض ونسله للبركة" (مز ٢٥:٣٧- 26) "الصديق يسلك بكماله، طوبى لبنيه بعده" (أم ٧:٢٠ ). فإن كنت لا تبحث عن مصلحة أبنائك بأمانة، وإن كنت لا تعطي إهتماماً بخلاصهم بمحبة حقيقية وروحانية فأنت كأب ُتعَد  كمذنب وكخائن. لماذا تشتاق للثروة الأرضية أكثر من الثروة السماوية؟ لماذا تفضل أن تستودع أولادك للشيطان أكثر من المسيح؟ إنك تخطئ مرتين وترتكب جريمة مضاعفة ومزدوجة فأنت لا توفر لأبنائك عناية الله أبيهم وأيضا تعلم أولادك أن يحبوا ممتلكاتهم أكثر من المسيح.  ٢٠ . كن أباً لأبنائك كما كان طوبيا كذلك. أعطِهم تعاليم نافعةومفيدة كما أعطى طوبيا لإبنه. شدِّد على أبنائك كما شدَّدَ هو أيضاً قائ ً لا: "اسمعوا يا بنيَّ لأبيكم، اعبدوا الرب بحق وابتغوا عمل مرضاته وأوصوا بذويكم بعمل الحق والصدقات وأن يذكروا الله و يباركوه كل حين بالحق و بكل طاقتهم "  (طو ١٠:١٤-11) مرة أخرى يقول : "وأنت فليكن الله في قلبك جميع ايام حياتك و احذر ان ترضى بالخطيئة و تتعدى وصايا الرب الهنا تصدق من مالك و لا تحول وجهك عن فقير و حينئذ فوجه الرب لا يحول عنك كن رحيما على قدر طاقتك ان كان لك كثير فابذل كثيرا و ان كان لك قليل فاجتهد ان تبذل القليل عن نفس طيبة فانك تدخر لك ثوابا جميلا الى  يوم الضرورة لان الصدقة تنجي من كل خطيئة و من الموت و لا تدع النفس تصير الى الظلمة ان الصدقة هي رجاء  عظيم عند الله العلي لجميع صانعيها " (طو4: 6-12)   المكافأة الأبدية للذين يعطون الصدقة 21. يا لها من عطية عظيمة أيها الاخوة الأعزاء، هذه العطية التي تقديمها يكون أمر عظيم في نظر الله، فإذا كان عند إهداء الأمميين للهدايا يبدو حضور القائد أو الإمبراطور عظيم ورائع ويكون كمّ التحضير والتكليف كبيراً جداً من جانب أولئك الذين يقدمون الهدايا كي ما يُرضوا هذه الشخصيات الهامة، فما بالكم لو كان الحاضر هو الله (الآب) والمسيح، فكم ينبغي أن يكون في هذه الحالة التحضير أفخم والإنفاق أكثر سخاءً عندما تجتمع القوات السمائية من أجل المشاهدة، وتجتمع كل الملائكة، حين لا يكاَفأ من يُعطي بمركبة ذات أربع خيول أو برئاسة ما بل ُتع َ طى له الحياة الابدية ولا ينال رضى الجمهور الخاوى والمؤقت، بل يقبل المكافأة الابدية التي لملكوت السماوات. . أما الكسالى والعُقماء الذين لا يتعبون - ولو بقليل في الأعمال الصالحة - لنوال ثمار الخلاص بسبب حبهم للمال، فليكن لهم الخزي وليُعَذِّب إستحياؤهم وخزيهم ضمائرهم غير النقية، ليضع كل واحد فيهم أمام عينيه الشيطان مع خدامه -أي مع شعب الهلاك و الموت - وهو منطلق إلى الوسط مُستثيراً أتباع المسيح - والمسيح نفسه حاضر ويدين – وهو (الشيطان) يقارن متحدياً قائل ١٦ : "لأجل هؤلاء الذين ترونهم حولي لم أقبل الضربات ولم أحتمل الجلد ولم أحمل الصليب ولم أسفك الدم ولم أفدِ عائلتى بثمن الآلام والدم وهكذا أيضاً لا أعدهم بملكوت سماوى ولا أدعوهم مرة أُخرى إلى الفردوس بعد ردهم إلى عدم الموت من جديد... ومع ذلك ما أغلى وأفخم الهدايا التي يحضرونها لي، وكم من تعب يتعبونه من أجلي بوسائل البذخ، إذ يرهنون أو يبيعون كل مالهم وإن لم يأتى منهم عرض متميز يُطرحون خارجاً بإهانات وإستهجان، وفي أوقات قد يصل بغضب الجمهور إلى حد الرجم حتى الموت ١٧ . فلترنا أيها المسيح أتباعك الذين يعطون، هؤلاء الرجال الأغنياء، فلترنا أولئك الأثرياء بثراء فاحش إن كانوا يعطون في الكنيسة – حيث أنت قائم وتنظر– تقدمات من هذا النوع بعد رهن وتوزيع ممتلكاتهم أو بالأحرى تحويلها إلى كنوز سمائيه بتبديل ما يملكونه بما هو أحسن.  فبعطاياي الفانية والأرضية لن يُطعم أحد ولن يلبس أحد ولن يُعال أحدٌ بالأكل أو بالشرب تعزي ً ة له، فكل شئ في وسط غرور من يعطى وضلال المتفرج، يفنى لأجل الكبرياء الغبي الذي للمتع الخادعة. ولكن في وسط فقرائك (أيها المسيح) فأنت مكسياً وشبعاناً وأنت َتعِد هؤلاء الذين يعطون الصدقة بالحياة الأبدية. ورغم انك تكرمهم بمكافآت إلهية ومجازاة سماوية فنادراً ما يتساوى أتباعك مع اتباعى!" . بماذا نجيب على كل هذا الكلام أيها الاخوة الأعزاء؟ بأي طريقة ندافع عن العقم (أي البخل) الدنس وأفكار الأغنياء المغطاة بليل مظلم؟ بأي عذر ُنبِرئهم نحن الذين أقل من خدام إبليس؟ إذ إننا لا نرد للمسيح ولو بقليل ثمن آلامه ودمه؟ لقد أعطى لنا الرب وصاياه، لقد علمنا ما الذي يجب أن يفعله خدامه واعداً بأجر لكل من يعطي صدقة ومهدداً بعقاب للعقيم (البخيل). فقد وضح لنا حُكمه وقد سبق وقال ماذا سيكون قضاءه. أي عذر ممكن أن يكون لمن لا يعمل هكذا؟ أي دفاع يكون للعقيم (البخيل)؟ فإن لم يُنفذ العبد ما أُمر به، فسوف يُنفِّذ الرب ما هدّد به. فقد قال: "ومتى جاء ابن الانسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه فحينئذ يجلس على كرسي مجده ويجتمع امامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تاسيس العالم لاني جعت فاطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فاويتموني، عريانا فكسيتموني، مريضاً فزرتموني محبوسا فاتيتم الي فيجيبه الابرار حينئذ قائلين يا رب متى رأيناك جائعا فاطعمناك او عطشانا فسقيناك و متى رأيناك غريبا فآويناك او عريانا فكسوناك و متى رأيناك مريضا او محبوسا فأتينا اليك فيجيب الملك و يقول لهم الحق اقول لكم بما انكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم ثم يقول ايضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين الى النار الابدية المعدة لابليس و ملائكته لاني جعت فلم تطعموني عطشت فلم تسقوني كنت غريبا فلم تأووني عريانا فلم تكسوني مريضا و محبوسا فلم تزوروني حينئذ يجيبونه هم ايضا قائلين يا رب متى رأيناك جائعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا او محبوسا و لم نخدمك فيجيبهم قائلا الحق اقول لكم بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر فبي لم تفعلوا فيمضي هؤلاء الى عذاب أبدي و  الأبرار الى حياة أبدية "(مت ٣١:٢٥-46) هل كان من الممكن أن يعطينا المسيح إعلاناً أكثر وضوحاً من هذا؟ كيف يحفزِّنا على أعمال الخير والبر والرحمة أكثر من قوله أن كل ما نعطيه للفقراء والمحتاجين قد أعطى له؟ وبقوله أنه يُهان ما لم نعطِ للفقراء والمحتاجين! فمن هو في الكنيسة ولا يرِق لحال أخيه فقد يشعر بشئ إذا فكر في المسيح أي رأي المسيح في أخيه، والذي لا يفكر في رفيقه العبد الذي يكون في ضيقة وفي إحتياج، فليفكر في الرب الذي هو في ذلك الشخص الذي يحتقره.   فللنظر إلى السماويات!! 24. وهكذا أيها الأخوة الأحباء دعونا نقدم الطاعة بكل الإيمان بعقول مكرَّسة وبأعمال صالحه مستمرة، نحن الذين نخاف الله، نحن الذين قد تحولت عقولنا إلى الأمور السماوية والإلهية، بعد أن رفضت (عقولنا) وداست على العالم لتستحق خيراً من الرب. هيا بنا نعطى المسيح الرداء الأرضي لكي ما نحصل على الثوب السماوى، هيا بنا نعطي الطعام والشراب الدنيوي لكي ما نأتي إلى الوليمة السماوية مع إبراهيم واسحق ويعقوب، لنزرع كثيراً جداً لئلا تحصد قلي ً لا ما دام لدينا الوقت فلنفكر في النجاة والخلاص الأبدي، كما ينصحنا بولس الرسول قائلا: "فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل. فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما  أهل الإيمان" (غل ٩: 10) ٢٥ . لننظر أيها الأخوة الأحباء إلى ما كانت تفعله جماعة المؤمنين (في أيام الرسل) إذ كانت قلوبهم منذ البداية تفيض بالفضائل العظيمة، وعندما كان إيمان المؤمنين مشتعلا ً بحرارة الإيمان الجديد، قاموا ببيع منازلهم وحقولهم وبكل سرور وكرم أعطوا أثمانها للرسل ليقوموا هم بدورهم بتوزيعها على الفقراء. لقد قاموا ببيع وتوزيع ميراثهم الأرضي محوّلين أملاكهم إلى المكان الذي فيه سيحصلون على ثمار الميراث الأبدي، الذي فيه يعِدُّون مساكنهم التي سيسكنون فيها إلى الأبد. هكذا كان فيض أعمالهم الصالحة في ذلك الوقت وكذلك توحدهم في المحبة كما نقرأ في سفر أعمال الرسل :"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحداً يقول أن شيئا من أمواله له بل كان عندهم كل شئ مشتركاً". (أع 4: 24) هذا يعني أننا نكون أبناء الله بالحقيقة بقوة الميلاد الروحانى، وأننا بحسب القانون السماوي نتمثل بإنصاف الله الآب لأن كل ما يأتي من الله هو للجميع في إستخدامنا له ولا يُستثنى أحد من عطاياه ونعمه، ولا يوجد أي شئ يمنع كل الجنس البشرى من التساوى في التمتع بإحسان وكرم الله، فالنهار ينير للكل بالتساوى، الشمس ترسل أشعتها والمطر يرطِّب، الريح تهب والنوم واحد لجميع النائمين ولمعان النجوم و القمر يكون أيضاً للجميع. على هذا المثال في المساواة فإن من يمتلك شيئاً في العالم ويشارك أخوته في دخله وثماره فهو يتمثل بالله الآب لأنه يكون عاد ً لا ويساوي الكل في كرمه المفرط. 26. أيها الاخوة الأحباء كم يكون مجد الذين يعطون، ما هو عِظم وكمال فرحتهم عندما يفرز الرب شعبه ويوزع المكافآت بحسب استحقاقنا وأعمالنا ويمنح السماويات عوض الأرضيات والأبديات عوض الزمنيات، العظيمة عوض الصغيرة ويقدمنا للآب الذي أعادنا إليه بتقديسه لنا أي بتقديس الرب يسوع للمؤمنين ويمنحنا عدم الموت الابدى الذي أعده لنا إذ أحيانا بدمه، ويعيدنا مرة أخرى للفردوس ويفتح لنا ملكوت السماوات حسب وعده الأمين والصادق! لتثبت هذه الأمور في أذهاننا، لنفهم هذه الأمور بإيمان كامل، لنعيش هذه الأمور بمِلء القلب، لنستحق هذه الأمور من خلال سخاء الأعمال الصالحة الدائمة. أيها الأخوة الأعزاء إن أعمال المحبة عظيمة وإلهية، هى تعزية عظيمة للمؤمنين، حارس نافع لنجاتنا، وحصن للرجاء، حماية للإيمان وعلاج للخطية. هي أمر موضوع في يد من يفعلها، أمر عظيم وسهل، تاج سلام لنا بدون أخطار الاضطهاد، نعمة حقيقية وعظيمة من الرب، ضرورية للضعفاء، عظيمة للأقوياء، بها يحمل الإنسان المسيحى نعمة روحية ويستحق الخير من المسيح الديّان ويحسب الله كمُدين له. فلنجاهد بفرح وبلا كلل لأجل إكليل أعمال الخير، لَنجري كلنا في ميدان البر حيث يتطلع الله (الآب) والمسيح علينا، ولا نتراخى في جهادنا لأجل أية رغبة في هذه الحياة أو في هذا العالم، نحن الذين أصبحنا أعظم من هذه الحياة وهذا العالم.  فإذا جاء يوم المكافأة أو يوم الإضطهاد ونحن مستعدون ومسرعون في ميدان الأعمال الصالحة هذه، فلن يتأخر الرب عن إعطاء المكافأة حسب استحقاقنا. في السلام سيعطينا نحن الذين غلبنا تاجاً أبيض لأجل أعمالنا الصالحة، وفي الإضطهاد سيعطي معها تاجاً قرمزيا لأجل آلامنا.   (١ (راجع يو ١٤:٥ (٢ (يشير القديس آبريانوس في هذه الجملة إلى الناموس الذي قيد الإنسان تحت نيره لكنه عجز عن أن يخلصه من ذنوبه التي خالف بها الناموس راجع رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية (3) " أعمال البر" مثلما ذُآر في آثير من مواضع الكتاب المقدس على سبيل المثال "... كما هو مكتوب فرق أعطى للمساآين بره يبقى إلى الأبد والذي يقدم بذاراً للزارع وخبزاً للأآل سيقدم ويكثر بذارآم وينمي غلات برآم" (2كو 9 : 10) تحمل مفهوم البر  الإحسان، لذلك أخذ القديس آبريانوس هذا المفهوم الإنجيلي وأوضحه بالأآثر في الفقرة ٢٥ من هذا العظة. (٤) ما يقصده القديس كبريانوس من هذا الحديث عن العطاء أنه ليس عطاءاً مادياً من الخارج وإنما نابع من محبة قلبية لله وللقريب أي إيمان عامل بالمحبة (غل ٦:٥ ) فإذا تغيّر القلب وصار محباً لله وللقريب فهذا التغير هو التوبة الحقيقية. والكنيسة تُسمي التوبة – كحياة معاشة - "المعمودية الثانية" ومن هنا يكون العطاء هو علامة التوبة التي تسري في داخل الإنسان وبهذا يصبح الداخل نقياً. فعندما ربط القديس آبريانوس بين العطاء والمعمودية كان يقصد العطاء الذي هو ثمرة تغيير القلب بالتوبة التي هي المعمودية الثانية التي يحياها الإنسان المسيحي آلحياته بعد معموديته الأولى من خلال السر الكنسي. وسيأتي هذا الإيضاح في الفقرة رقم ٨ من هذا الكتاب. ويؤآد القديس كيرلس الإسكندري في تفسيره للإنجيل بحسب القديس لوقا على أن الطمع والبخل والربح القبيح هو داء يمتلك على القلوب غير الرحيمة، والشفاء من هذا الداء يصل بالإنسان إلى نقاء الفكر والقلب ويصير بالتالي عابداً حقيقياً لله (راجع تفسير إنجيل لوقا، للقديس كيرلس  الإسكندري) (٥) راجع  : (مت ٢:١٥ )، (مر ٢:٧ )، (لو ١١ :٣٨) (6) يهاجم القديس كبريانوس هنا العبادة الشكلية التي تعتمد على المظهر فقط دون أن ترتبط بأعمال حية أنظر فقرة ١٢ في هذا الكتاب. (7) راجع حاشية رقم ٤ في هذا الكتاب. (8) راجع (أع ٣٦:٩) (9) راجع (يو ١٣:١٤) (10) راجع (تك 5: 6) (غلا 3: 6) (11) راجع حاشية رقم ٤ في هذا الكتاب. (12) راجع (مت 3: 10)، (مت 5: 7)، (مت 7: 19)، (لو 3: 9) (13) راجع ( ١مل ٦:١٧ ) (14) يشير القديس كبريانوس إلى قصة طرح دانيال في جب الأسود المذآورة في تتمة دانيال (الموجودة في الترجمة السبعينية): "فالقوه في جب الأسود فكان هناك ستة أيام. وآان في الجب سبعة أسود يلقى لها آل يوم جثتان ونعجتان فلم يُلق لها حينئذ شيء لكي تفترس دانيال. وآان حبقوق النبي في أرض يهوذا، وآان قد طبخ طبيخاً وثرد خبزاً في جفنة وانطلق الى الصحراء ليحمله للحصادين. فقال ملاك الرب لحبقوق احمل الغداء الذي معك الى بابل إلى دانيال في جب الأسود. فقال حبقوق أيها السيد إني لم أر بابل قط ولا أعرف الجب. فأخذ ملاك الرب بجمته وحمله بشعر رأسه ووضعه في بابل عند الجب باندفاع روحه. فنادى حبقوق قائلا: يا دانيال يا دانيال خذ الغذاء الذي أرسله لك الله." (دا 14: 30- 38) (15) (٢٦ : ١٠ )، (لو ٤ -٦ : ١مل ١٧ ) (16) في الفقرة التالية يسرد القديس كبريانوس حواراً تخيلياً موجهاً من الشيطان إلى المسيح مقارناً رد الفعل الجاحد للإنسان تجاه محبة الله له وعلى عكس مسايرة الإنسان للشيطان رغم كراهيته له. (17) الحديث هنا عن شكل من أشكال العادات التي شاعت عند الوثنيين.

نقلاً من الشبكة  الأرثوذكسية العربية الأنطاكية

***********************

المراجع

(1) قرطاجنة : قرطاجنة (1) في حدود دولة تونس في شمال أفريقيا علي خليج تونس وكانت مدينة كانت على ساحل البحر الأبيض من ساحل أفريقية في ما يسمى اليوم بتونس ، وكان - فيما روى ياقوت - بينها وبين مدينة تونس اثنا عشر ميلا. وهي بلدة تجاور اليوم تونس مما يلي الشمال حتى كاد عمرانهما يتماس ، وهي من القرى السياحية في الجمهورية التونسية .

تميزت المدن البيزنطية بوجود مخبأ تحت الأرض يتجمع فيه المياة أو قد يختفى فيه أهل البلدة من الغزاة والصورة الجانبية لما يوجد تحت ارض مدينة قرطاجنة

وبين سنة 201 و 149 قبل الميلاد نشبت الحروب البونيقية الحروب البونيقية هي سلسلة من ثلاث حروب دارت بين روما و قرطاج . و هي تعرف باسم البونيقية لأن اللفظ اللاتيني لكلمة قرطاجي كان بونيكي Punici كان السبب الرئيسي للحروب البونيقية هو تصادم المصالح بين الإمبراطوريتين القرطاجية والرومانية الآخذتان في التوسع. اهتم الرومان في البداية بالتوسع في صقلية، والتي كانت تقع تحت سيطرة القرطاجيين. في بداية الحرب البونيقية الأولى كانت قرطاج هي القوة المهيمنة على البحر المتوسط بإمبراطورية بحرية متوسعة، في حين كانت قوة روما آخذة في الاستيلاء السريع على السلطة في إيطاليا. بحلول نهاية الحرب البونيقية الثالثة، وبعد مقتل مئات الآلاف من جنود الجانبين استولى الرومان على إمبراطورية قرطاج وهدموا المدينة، لتصبح الإمبراطورية الرومانية أقوى دولة في غرب البحر الابيض المتوسط. تزامن ذلك مع نهاية الحروب المقدونية وهزيمة الإمبراطور السلوقي أنتيوكوس الثالث العظيم في الحرب الرومانية السورية وإبرام (معاهدة أباميا ، 188 قبل الميلاد) في شرقي البحر المتوسط، مما أدى إلى بروز روما بوصفها القوة المهيمنة في البحر المتوسط وأقوى مدينة في العالم القديم. كانت تلك نقطة التحول التي أدت إلى مرور الحضارة المتوسطية القديمة من أفريقيا إلى أوروبا عبر روما.

(*)  تخلط كتب الكنيسة القبطية  (السنكسار والدفنار) وكتب تاريخية أخرى بين كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد والقديس كبريانوس أسقف أنطاكية الشهيد أيضاً ويختلف الأثنان فى أسم المدينة التى كانا أساقفة عليها فبينما الأول كان أسقف قرطاجنة التى هى بتونس حالياً بينما ألاخر كان أسقف على أنطاكية بسيدية بآسيا الصغرى وكان ساحراً قبل إيمانه وآمن بواسطة القديسة العظيمة يوستينا وكبريانوس أسقف أنطاكية ويوستينا أستشهدا فى 26 سبتمبر سنة 304م .

أما أوجه التشابة الذى أحدث الخلط بينهما أنهم لهم أسم واحد وكانا وثنيين ورسما كاهنين فى فترة وجيزة قبل رسامتهما أساقفة وأنهما شهيدين وإستشهدا فى نفس الشهر ولكن يوجد فرق آخر أنه بين إستشهادهما فترة قدرت بحوالى 46 عاماً .

This site was last updated 09/29/09