Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

سنة أربع وستين ومائتين عقيدة القرامطة وحروبهم

 +إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
الصناديقي
سنة 295هـ

************************************************************************

الفاطميين الذين أحتلوا مصر بأسم الإسلام نقلت من كتاب اتعاظ الحنفا - أحمد بن علي المقريزي ج 1  49/1 لفائدة القارئ الدارس وكعادة الموقع وضعنا لكل مقطع عناوين

****************************************************************************************************

سنة أربع وستين ومائتين
عقيدة القرامطة

واستحكمت ثقة الناس به، وثقته هو بحمدان قرمط، وسكونه إليه، فأظهر له أمره، وكان مما دعا إليه أنه جاء بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: يقول الفرج بن عثمان إنه داعية المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمة، وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل؛ وأن المسيح تصور في جسم إنسان، وقال إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكريا، وإنك روح القدس؛ وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها؛ وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر ثلاث مرات.
أشهد ألا إله إلا الله. مرتين.
أشهد أن آدم رسول الله.
أشهد أن نوحا رسول الله.
أشهد أن إبراهيم رسول الله.
أشهد أن موسى رسول الله.
أشهد أن عيسى رسول الله.
أشهد أن محمدا رسول الله.
أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله.
والقراءة في الصلاة: الحمد للّه بكلمته، وتعالى باسمه، المنجد لأوليائه بأوليائه، " قل إن الأَهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلموا عدد السنين والحساب والشهور والأَيام، وباطنها لأوليائي الذين عرَّفوا عبادي وسيلتي، فاتقوني يا أولى الألباب، وأنا الذي لا أُسأل عما أفعل وأَنا العليم الحكيم، وأَنا الذي أَبلو عبادي وأَمتحن خلقي، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري أَدخلته في جنتي، وأَخلدته في نعيمي؛ ومن زال عن أَمري، وكذَّب رسلي أَخلدتُه مُهاناً في عذابي، وأَتممت أجلي، وأَظهرت أَمري على أَلسنة رسلي، وأَنا الذي لم يعلُ جبارٌ إلا وضعتُه، ولا عزيز إلا أَذللته، وليس الذي أصرَّ على أَمره، وداوم على جهالته، وقال إِن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين، أولئك هم الكافرون " .
ثم يركع.
ومن شرائعه: صيام يومين في السنة هما: المهرجان، والنوروز.
وأن الخمر حلال.
ولا غسل من جنابة، ولكن الوضوء كوضوء الصلاة.
وأن لا يؤكل ماله ناب ولا مخلب.
ولا يشرب النبيذ.
وأن القبلة إلى بيت المقدس، والحج إليه.
وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شغل.
ولما حضرته الوفاة جعل مكانه حمدان بن الأشعث قرمط، وأخذ على أكثر أهل السواد، وكان ذكيا داهية.
فكان ممن أجابه: مهرويه بن زكرويه السلماني، وجلندي الرازي، وعكرمة البابلي، وإسحاق السوراني، وعطيف النيلي، وغيرهم، وبث دعاته في السواد يأخذون على الناس.
وكان أكبر دعاته عبدان، وكان فطناً خبيثاً، خارجاً عن طبقة نظرائه من أهل السواد، ذا فهم وحذق، وكان يعمل عند نفسه على نصب له من غير أن يتجاوز به إلى غيره، ولا يظهر غير التشيع والعلم، ويدعو إلى الإمام من آل رسول الله ت صلى الله عليه وسلم محمد ابن إسماعيل بن جعفر.
فكان أحد من تبع عبدان زكرويه بن مهرويه، وكان شاباً ذكياً فطناً من قرية بسواد الكوفة على نهر هد، فنصبه عبدان على إقليم نهر هد وما والاه، ومن قبله جماعة دعاة متفرقون في عمله.
وكان داعية عبدان على فرات بادفلي: الحسن بن أيمن؛ وداعيته على طسوج تستر: المعروف بالبوراني وإليه نسب البورانية ؛ وداعيته على جهة أخرى: المعروف بوليد؛ وفي أخرى: أبو الفوارس. وهؤلاء رؤساء دعاة عبدان، ولهم دعاة تحت أيديهم؛ فكان كل داع يدور في عمله ويتعاهده في كل شهر مرة، وكل ذلك بسواد الكوفة.
ودخل في دعوته من العرب طائفة، فنصب فيهم دعاة، فلم يتخلف عنه رفاعي ولا ضبعي، ولم يبق من البطون المتصلة بسواد الكوفة بطن إلا دخل في الدعوة منه ناس كثيراً أو قليل: من بني عباس، وذهل، وعنزة، وتيم الله، وبني ثعل، وغيرهم من بني شيبان؛ فقوى قرمط، وزاد طمعه، فأخذ في جمع الأموال من قومه: فابتدأ يفرض عليهم أن يؤدوا درهما عن كل واحد، وسمى ذلك: الفطرة، على كل أحد من الرجال والنساء، فسارعوا إلى ذلك.
فتركهم مديدة، ثم فرض الهجرة، وهو دينار على كل رأس أدرك، وتلا قوله تعالى: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " .
وقال: هذا تأويل هذا.
فدفعوا ذلك إليه، وتعاونوا عليه، فمن كان فقيرا أسعفوه.
فتركهم مديدة، ثم فرض عليهم البلغة وهي سبعة دنانير، وزعم أن ذلك هو البرهان الذي أراد الله بقوله: " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " .
وزعم أن ذلك بلاغ من يريد الإيمان، والدخول في السابقتين المذكورين في قوله تعالى: " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ " .
وصنع طعاما طيبا حلوا لذيذا، وجعله على قدر البنادق، يطعم كل من أدى إليه سبعة دنانير منها واحدة، وزعم أنه طعام أهل الجنة نزل إلى الإمام، فكان ينفذ إلى كل داع منها مائة بلغة، ويطالبه بسبعمائة دينار، لكل واحدة منها سبعة دنانير.
فلما توطأ له الأمر فرض عليهم أخماس ما يملكون وما يتكسبون، وتلا عليهم: " واعْلَموا أَنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فأَنَّ لِلّه خُمُسَةُ الآية " ، فقوموا جميع ما يملكونه من ثوب وغيره وأدوا ذلك إليه، فكانت المرأة تخرج خمس ما تغزل، والرجل يخرج خمس ما يكسبه.
فلما تم ذلك فرض عليهم الألفة، وهو أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد، وأن يكونوا فيه أسوة واحدة لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه، وتلا عليهم: " واذكروا نِعْمَةَ اللّهِ عليكم إِذْ كُنْتُمْ أَعداءً فَأَلَّفَ بين قُلُوبِكم فَأَصْبَحْتُم بنعمته إخْوانا " الآية ، وقوله تعالى: " لو أَنْفَقْتَ ما في الأَرضِ جميعاً ما أَلَّفْتَ بَين قُلُوبِهم ولكنَّ اللّهَ أَلَّفَ بينهم إِنَّهُ عزيز حكيم " .
وعرفهم أنه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم، وقال: هذه محنتكم التي امتحنتم بها ليعلم كيف تعملون.
وطالبهم بشراء السلاح وإعداده.
وذلك كله في سنة ست وسبعين ومائتين.
وأقام الدعاة في كل قرية: رجلا مختارا من ثقاتها يجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره، وكان يكسو عاريهم، وينفق على سائرهم ما يكفيهم، ولا يدع فقيرا بينهم ولا محتاجا ولا ضعيفا؛ وأخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته والكسب بجهده، ليكون له الفضل في رتبته؛ وجمعت المرأة كسبها من مغزلها، والصبي أجرة نظارته للطير، وأتوه به، فلم يتملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه.
فلما استقام له ذلك أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلةً معروفة، ويختلطن بالرجال، ويتراكبن ولا يتنافرن، فإن ذلك من صحة الود والألفة بينهم.
فلما تمكن من أمورهم، ووثق بطاعتهم، وتبين مقدار عقولهم، أخذ في تدريجهم، وأتاهم بحجج من مذهب الثنوية، فسلكوا معه في ذلك حتى يقضي ما كان يأمرهم به في مبدأ أمرهم من الخشوع والورع والتقوى، وظهر منهم بعد تدين كثير إباحة الأموال والفروج، والغناء عن الصوم والصلاة والفرائض، وأخبرهم أن ذلك كله موضوع عنهم وأن أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم، وأن معرفة صاحب الحق تغني عن كل شيء، ولا يخاف معه إثم ولا عذاب يعني إمامه الذي يدعو إليه، وهو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وأنه الإمام المهدي الذي يظهر في آخر الزمان ويقيم الحق، وأن البيعة له، وأن الداعي إنما يأخذها على الناس له، وأن ما يجمع من الأموال مخزون له إلى أن يظهر، وأنه حي لم يمت، وأنه يظهر في آخر الزمان، وأنه مهدي الأمة.
فلما أظهر هذه الأمور كلها بعد تعلقه بذكر الأئمة والرسل والحجة والإمام، وأنه المعول والمقصد والمراد، وبه اتسقت هذه الأمور، ولولا هذه لهلك الخلق وعدم الهدى والعلم، ظهر في كثير منهم الفجور، وبسط بعضهم أيديهم بسفك الدماء، وقتلوا جماعة ممن خالفهم، فخافهم الناس واستوحشوا من ظهور؛ السلاح بينهم، فأظهر موافقتهم كثير من مجاوريهم جزعاً منهم .
ثم إن الدعاة اجتمعوا واتفقوا على أن يجعلوا لهم موضعاً يكون وطنا ودار هجرة يهاجرون إليها، ويجتمعون بها، فاختاروا من سواد الكوفة في طسوج الفرات من ضياع السلطان المعروفة بالقاسميات قرية تعرف بمهتماباد، فحاذوا إليها صخرا عظيما، ثم بنوا حولها سوراً منيعا عرضه ثماني أذرع، ومن ورائه خندق عظيم، وفرغوا من ذلك في أسرع وقت، وبنوا فيها البناء العظيم، وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان، وسميت دار الهجرة، وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين؛ فلم يبق حينئذ أحد إلا خافهم، ولا بقي أحد يخافونه لقوتهم وتمكنهم في البلاد.
وكان الذي أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة بفتنة الخوارج، وصاحب الزنج بالبصرة، وقصريد السلطان، وخراب العراق، وتركه لتدبيره، وركوب الأعراب واللصوص بعد السبعين ومائتين بالقفر، وتلاف الرجال، وفساد البلدان، فتمكن هؤلاء، وبسطوا أيديهم في البلاد، وعلت كلمتهم.

وكان منهم مهرويه أحد الدعاة في مبدأ أمره ينطر النخل ويأخذ أجرته تمرا فيفرغ منه النوا ويتصدق به، ويبيع النوا ويتقوت به، فعظم في أعين الناس قدره، وصارت له مرتبة في الثقة والدين، فصار إلى صاحب الزنج لما ظهر على السلطان وقال له.
ورائي مائة ألف ضارب سيف أعينك بهم.
فلم يلتفت إلى قوله، ولم يجد فيه مطمعا، فرجع وعظم بعد ذلك في السواد، وانقاد إليه خلق كثير، فادعى أنه من ولد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر، فقيل له: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يقال له عبد الله.
فكف عن هذه الدعوى، وصار بعد ذلك في قبة على جمل، ودعى بالسيد، وظهر بسواد الكوفة؛ وسيأتي ذكر ابنه زكرويه، وابن ابنه الحسين بن زكرويه إن شاء الله.
وكان رجل من أهل قرية جنابة يعمل الفراء، يقال له أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، أصله من الفرس، سافر إلى سواد الكوفة، وتزوج من قوم يقال لهم: بنو القصار كانوا من أصول هذه الدعوة، فأخذ عن عبدان، وقيل بل أخذ عن حمدان قرمط، وسار داعية، فنزل القطيف وهي حينئذ مدينة عظيمة فجلس بها يبيع الرقيق، فلزم الوفاء والصدق، وكان أول من أجابه الحسين بن سنبر، وعلي بن سنبر، وحمدان بن سنبر، في قوم ضعفاء، ما بين قصاب وحمال وأمثال ذلك، فبلغه أن بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا، أنفذه عبدان قبل أبي سعيد وكان قد أخذ على بني سنبر من قبل، فعظم أمره على أبي سعيد وقبض عليه وقتله، فحقد عليه بنو سنبر قتله.
واتفق أن البلد كان واسعاً، ولأهله عادة بالحروب، وهم رجال شداد جهال، فظفر أبو سعيد باشتهار دعوته في تلك الديار، فقاتل بمن أطاعه من عصاه، حتى اشتدت شوكته.
وكان لا يظفر بقرية إلا قتل أهلها ونهبها، فهابه الناس، وأجابه كثير منهم، وفر منه خلق كثير إلى بلدان شتى خوفاً من شره، ولم يمتنع عليه إلا هجر وهي مدينة البحرين ومنزل سلطانها، وبها التجار والوجوه فنازلها شهوراً يقاتل أهلها، ثم وكل بها رجلا.
وارتفع فنزل الأحساء وبينها وبين هجر ميلان فابتنى بها دارا، وجعلها منزلا، وتقدم في زراعة الأرض وعمارتها، وكان يركب إلى هجر، ويحارب أهلها، ويعقب قومه على حصارها.
ودعا العرب فأجابه بنو الأضبط من كلاب، وساروا إليه بحرمهم وأموالهم، فأنزلهم الأحساء، وأطمعوه في بني كلاب، وسائر من يقرب منه من العرب فضم إليهم رجالا، وساروا فأكثروا من القتل، وأقبلوا بالحريم والأموال والأمتعة إلى الأحساء، فدخل الناس في طاعته، فوجه جيشاً إلى بني عقيل فظفر بهم، ودخلوا في طاعته.
فلما اجتمع إليه العرب مناهم ملك الأرض كلها، ورد إلى من أجابه من العرب ما كان أخذ منهم من أهل وولد، ولم يرد عبداً ولا أمة ولا إبلا ولا صبيا إلا أن يكون دون الأربع سنين.
وجمع الصبيان في دور وأقام عليهم قوماً، وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه، ووسمهم لئلا يختلطون بغيرهم، ونصب لهم عرفاء، وأخذ يعلمهم ركوب الخيل والطعان، فنشأوا لا يعرفون غير الحرب، وقد صارت دعوته طبعاً لهم.
وقبض كل مال في البلد، والثمار، والحنطة، والشعير.
وأقام رعاةً للإبل والغنم، ومعهم قوم لحفظها، والتنقل معها على نوب معروفة.
وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن يصل لأحد غير ما يطعمه.
هذا وهو لا يغفل عن هجر، وطال حصاره لهم على نيف وعشرين شهراً حتى أكلوا الكلاب، فجمع أصحابه، وعمل دبابات، ومشى بها الرجال إلى السور، فاقتتلوا يومهم، وكثر بينهم القتلى، ثم انصرف عنهم إلى الأحساء، وباكرهم فناشوه، فانصرف إلى قرب الأحساء، ثم عاد في خيل، فدار حول هجر يفكر فيما يكيدهم به، فإذا لهجر عين عظيمة كثيرة الماء، تخرج من نشز من الأرض غير بعيد منها، فيجتمع ماؤها في نهر يستقيم حتى يمر بجانب هجر، ثم ينزل إلى النخل فيسقيه، فكانوا لا يفقدون الماء في حصارهم.
فلما تبين له أمر العين انصرف إلى الأحساء، ثم غدا فأوقف على باب المدينة رجالاً كثيراً، ورجع إلى الأحساء، وجمع الناس كلهم، وسار في آخر الليل فورد العين بكرة بالمعاول والرمل وأوقار الثياب الخلقان ووبر وصوف، وأمر بجمع الحجارة ونقلها إلى العين، وأعد الرمل والحصى والتراب، ثم أمر بطرح الوبر والصوف وأوقار الثياب في العين، وطرح فوقها الرمل والحصى والتراب والحجارة، فقذفته العين، ولم يعن ما فعله شيئاً، فانصرف إلى الأحساء بمن معه.

وغدا في خيل فضرب البر حتى عرف أن منتهى العين بساحل البحر، وأنها تنخفض كلما نزلت، فرد جميع من كان معه، وانحدر على النهر نحوا من ميلين، ثم أمر بحفر نهر هنك، وأقبل يركب هو وجمعه في كل يوم والعمال يعملون حتى حفره إلى السباخ، ومضى الماء كله فصب في البحر ثم سار فنزل على هجر وقد انقطع الماء عنهم ففر بعضهم فركب البحر، ودخل بعضهم في دعوته، وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء، وبقيت طائفة لم يفروا لعجزهم، ولم يدخلوا في دعوته فقتلهم، وأخذ ما في المدينة، وأخربها فبقيت خراباً، وصارت مدينة البحرين هي الأحساء.
ثم أنفذ سرية إلى عمان في ستمائة، وأردفهم بستمائة أخرى، فقاتلهم أهل عمان حتى تفانوا، وبقي من أهل عمان خمسة نفر، ومن القرامطة ستة نفر، فلحقوا بأبي سعيد، فأمر بهم فقتلوا، وقال: هؤلاء خاسوا بعهدي ولم يواسلوا أصحابهم الذين قتلوا.
وتطير بهلاك السرية، وكف عن أهل عمان.
واتصل بالمعتضد بالله خبره، فخاف منه على البصرة، فأنفذ العباس بن عمرو الغنوي في ألفي رجل، وولاه البحرين، فخرج في سنة تسع وثمانين ومائتين والتقى مع أبي سعيد، فانهزم أصحابه، وأسر العباس في نحو من سبعمائة رجل من أصحابه، واحتووا على عسكره، وقتل من غده جميع الأسرى، ثم أحرقهم وترك العباس؛ ومضى المنهزمون فتاه أكثرهم في البر، وتلف كثير منهم عطشاً، وورج بعضهم إلى البصرة، فارتاع الناس وأخذوا في الرحيل عن البصرة.
ثم لما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد العباس بن عمرو وقال له.
أتحب أن أطلقك ؟ قال: نعم.
قال: على أن تبلغ عني ما أقول صاحبك.
قال: أفعل.
قال: تقول له: الذي أنزل بجيشك ما أنزل بغيك، هذا بلد خارج عن يدك، غلبت عليه، وقمت به، وكان بي من الفضل ما آخذ به غيره، فما عرضت لما كان في يدك، ولا هممت به، ولا أخفت لك سبيلا، ولا نلت أحداً من رعيتك بسوء؛ فتوجيهك إلي الجيوش لأي سبب ؟ اعلم أني لا أخرج عن هذا البلد، ولا توصل إليه وفي هذه العصابة التي معي روح، فأكفني نفسك، ولا تتعرض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر.
وأطلقه، وبعث معه من يرده إلى مأمنه، فوصل إلى بغداد في شهر رمضان، وقد كان الناس يعظمون أمره ويكثرون ذكره، ويسمونه قائد الشهداء، فلما وصل إلى المعتضد عاتبه على تركه التحرز فاعتذر، ولم يبرح حتى رضى عنه.
وسأله عن خبره، فعرفه جميعه، وبلغه ما قال القرمطي، فقال: صدق، ما أخذ شيئاً كان في أيدينا.
وأطرق مفكرا، ثم رفع رأسه وقال: كذب عدو الله الكافر، المسلمون رعيتي حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بي عمري لأشخصن بنفسي إلى البصرة وجميع غلماني، ولأوجهن إليه جيشاً كثيفا، فإن هزمه وجهت جيشا، فإنه هزمه خرجت في جميع قوادي وجيشي إليه حتى يحكم الله بيني وبينه.
فشغل المعتضد عن القرمطي بأمر وصيف غلام أبي الساج.
ثم توفي في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وما يزال يذكر أبا سعيد الجنابي في مرضه، ويتلهف ويقول: حسرة في نفسي كنت أحب أن أبلغها قبل موتي، والله لقد كنت وضعت عند نفسي أن أركب ثم أخرج نحو البحرين، ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفي إلا ضربت عنقه، وإني أخاف أن يكون من هناك حوادث عظيمة.
وأقبل أبو سعيد بعد إطلاق العباس على جمع الخيل، وإعداد السلاح، ونسج الدروع والمغافر، واتخاذ الإبل، وإصلاح الرجال، وضرب السيوف والأسنة، واتخاذ الروايا والمزاد والقرب، وتعليم الصبيان الفروسية، وطرد الأعراب من قريته، وسد الوجوه التي يتعرف منها أمر بلده وأحواله بالرجال، وإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل، وإصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وأقام العرفاء على الرجال، واحتاط على ذلك كله، حتى بلغ من تفقده أن الشاة إذا ذبحت يتسلم العرفاء اللحم ليفرقوه على من ترسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء، ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرقه على من يغزله، ثم يدفعه إلى من ينسجه عبيا وأكسية وغرائر وجوالقات، ويفتل منه حبال، ويسلم الجلد إلى الدباغ، ثم إلى خرازى القرب والروايا، والمزاد؛ وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفا فأعمل منه، ثم يجمع ذلك كله إلى خزائن.
فكان ذلك دأبه لا يغفله، ويوجه كل قليل خيلا إلى ناحية البصرة، فتأخذ من وجدت، وتصير بهم إليه ويستعبدهم، فزادت بلاده، وعظمت هيبته في صدور الناس.
وواقع بني ضبة وقائع مشهورة فظفر بهم، وأخذ منهم خلقا، وبنى لهم حبسا عظيما جمعهم فيه، وسده عليهم، ومنعهم الطعام والشراب، فصاحوا فلم يغثهم، فمكثوا على ذلك شهرا، ثم فتح عليهم فوجد أكثرهم موتى، ويسيرا بحال الموتى وقد تغذوا بلحوم الموتى، فحصاهم وخلاهم فمات أكثرهم.
وكان قد أخذ من عسكر العباس خادما له جعله على طعامه وشرابه، فمكث مدة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصليا صلاةً واحدة، ولا يصوم في شهر رمضان ولا في غيره، فأضمر الخادم قتله، حتى إذا دخل الحمام معه وكانت الحمام في داره فأعد الخادم خنجرا ماضيا والحمام خال فلما تمكن منه ذبحه، ثم خرج فقال: يدعى فلان، لبعض بني سنبر فأحضر، فلما دخل قبضه وذبحه، فلم يزل ذلك دأبه حتى قتل جماعةً من الرؤساء والوجوه، فدخل آخرهم فإذا في البيت الأول دم جار، فارتاب وخرج مبادرا، وأعلم الناس، فحصروا الخادم حتى دخلوه، فوجدوا الجماعة صرعى، وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة، وقيل اثنتين وثلاثمائة، وكان قتله بأحساء من البحرين.
وكانت سنه يوم قتله نيفا وستين سنة.
وترك أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيدا.
وأبا طاهر سليمان.
وأبا منصور أحمد.
وأبا إسحاق إبراهيم.
وأبا العباس محمدا.
وأبا يعقوب يوسف.
وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته، وأوصى إن حدث به موت يكون القيم بأمرهم سعيد ابنه إلى أن يكبر أبو طاهر، وكان أبو طاهر أصغر سنا من سعيد، فإذا كبر أبو طاهر كان المدبر؛ فلما قتل جرى الأمر على ذلك.
وكان قد قال لهم سيكون الفتوح له، فجلس سعيد يدبر الأمر بعد قتل أبيه، وأمر فشد الخادم بحبال، وقرض لحمه بالمقاريض حتى مات؛ فلما كان في سنة خمس وثلاثمائة سلم سعيد إلى أخيه أبي طاهر سليمان الأمر، فعظموا أمره.
وكان ابتداء أمر أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي بالقطيف وما والاها في سنة ست وثمانين ومائتين؛ فكانت مدته نحو خمس عشرة سنة.

This site was last updated 02/17/12