Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة تسع وستين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
باقى سنة566
سنة567 وسنة568
سنة569
سنة570
سنة571
سنة572 وسنة573
سنة574 وسنة575

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة
ذكر ملك شمس الدولة زبيد وعدن وغيرهما من بلاد اليمن

قد ذكرنا قبل أن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر، وأهله كانوا يخافون من نور الدين محمود أن يدخل إلى مصر فيأخذها منهم، فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويتملكونها تكون عدة لهم إن أخرجهم نور الدين من مصر ساروا إليها وأقاموا بها، فسيروا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، وهو أخوا صلاح الدين الأكبر، إلى بلد النوبة، فكان ما ذكرناه.
فلما عاد إلى مصر استأذنوا نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبي، صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية، فأذن في ذلك. (5/122)
وكان بمصر شاعر اسمه عمارة من أهل اليمن، فكاك يحسن لشمس الدولة قصد اليمن، ويصف البلاد له، ويعظم ذلك في عينه، فزاده قوله رغبة فيها، فشرع يتجهز ويعد الأزواد والروايا والسلاح وغيره من الآلات، وجند الأجناد، فجمع وحشد، وسار عن مصر مستهل رجب، فوصل إلى مكة، أعزها الله تعالى، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحبها المتغلب عليها المعروف بعبد النبي، فلما قرب منها رآه أهلها، فاستقلوا من معه، فقال لهم عبد النبي: كأنكم بهؤلاء وقد حمي عليهم الحر فهلكوا وما هم إلى أكلة رأس؛ فخرج إليهم بعسكره، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا، ووصل المصريون إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب، واخذوا عبد النبي أسيراً وزوجته المدعوة بالحرة، وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة لا سيما إذا حجت، فإن فقراء الحاج كانوا يجدون عندها صدقة دارة ، وخيراً كثيراً، ومعروفاً عظيماًن وسلم شمس الدولة عبد النبي إلى بعض أمراءه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فأعطاه منها شيئاً كثيراً، ثم إنه دلهم على قبر قكان قد صنعه لوالدهن وبنى عليه بنية عظيمة، وله هناك دفائن كثيرة، فأعلمهم بها، فاستخرجت الأموال من هناك وكانت جليلة المقدار، وأما الحرة فإنها أيضاً تدلهم على ودائع لها، فأخذ منها مالاً كثيراً.
ولما ملكوا زبيد واستقر الأمر لهم بها، ودان أهلها، وأقيمت فيها الخطبة العباسية، اصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وهي على البحر، ولها مرسى عظيم، وهي فرضة الهند والزنج والحبشة، وعمان وكرمان، وكيس، وفارس ، وغير ذلك، وهي من جهة البر من أمنع البلاد وأحصنها، وصاحبها إنسان اسمه ياسر، فلو أقام بها ولم يخرج عنها لعادوا خائبين، وإنما حمله جهله وانقضاء مدته على الخروج إليهم ومباشرة قتالهم، فسار إليهم وقاتلهم، فانهزم ياسر ومن معه، وسبقهم بعض عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلد قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحبه ياسر أسيراً، وأرادوا نهب البلد، فمنعهم شمس الدولة، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وغنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحد شيئاً، فبقيت على حالها وثبت ملكه واستقر أمره.
ولما مضى إلى عدن كان معه عبد النبي صاحب زبيد مأسوراً، فلما دخل إلى عدن قال: سبحان الله! كنت قد علمت أنني ادخل إلى عدن في موكب كبير فأنا انتظر ذلك وأسر به، ولم أكن أعلم أنني أدخلها على هذه الحال.
ولما فرغ شمس الدولة من أمر عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضاً قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيف الدولة مبارك ابن منقذ، وجعل في كل قلعة نائباً من أصحابه، وألقى ملكهم باليمن جرانه ودام، وأحسن شمس الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسن أحوالها من العمارة والأمن.
ذكر قتل جماعة من المصريين أرادوا الوثوب بصلاح الدين
في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين.
وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذاً باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد، وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. (5/123)
وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين ادخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: يكون الوزير منا؛ وبني شاور قالوا: يكون الوزير منا؛ فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم، ومخالطتهم، ومواطأتهم على ما يريدون ان يفعلوه، وتعريفه ما يتجدد أولاً بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه.
ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم: عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصلبهم.
وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يوماً، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر؛ فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئاً، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي العادل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم.
وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه، فقال لصلاح الدين: يامولانا لا تسمع منه في حقي، فغضب الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك؛ فندم، ثم أخرج عمارة ليصلب، فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل، فاجتازوا به عليه، فأغلق بابه ولم يجتمع به، فقال عمارة:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب
ثم صلب هو والجماعة، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله.
وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم انه علم بحالهم، وأما الفرنج، فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين؛ وأما فرنج الشام فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال. وكان عمارة شاعراً مفلقاً، فمن شعره:
لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظمت فيض الأدمع
قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين وما دعي
ما القلب أول غادر فألومه ... هي شيمة الأيام مذ خلقت معي
ومن الظنون الفاسدات توهمي ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي
وله أيضاً:
لي في هوى الرشا العذري إعذار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى وأختار
وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة.

ذكر وفاة نور الدين محمود بن زنكي
في هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، ودفن بقلعة دمشق، ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين.
ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء الأخيار، فقال له الأمير: سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا؟ فقال نور الدين: لا تقل هكذا، بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا؟ فمات نور الدين رحمه الله، بعد أحد عشر يوماً، ومات الأمير قبل الحول، فأخذ كل منهما بما قاله. (5/124)
وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف ابن أيوب، فإنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، وكان يعلم انه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به، فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم عن نور الدين، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي، صاحب الموصل بالشام، ويسير هو بعساكره إلى مصر، فبينما هو يتجهز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مرد له.
حكى لي طبيب يعرف بالطبيب الرحبي وهو كان يخدم نور الدين، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا إليه وهو في بيت صغير في قلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه، وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته؛ وكان يخلو فيه للتعبد، فابتدأ به المرض، فلم ينتقل عنه، فلما دخلنا ورأيت ما به قلت له: كان ينبغي أن لا تؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض الآن، وينبغي أن تعجل الانتقال من هذا المكان إلى مكان فسيح مضيء، فله اثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه، وأشرنا بالفصد، فقال: ابن ستين لا يفتصد، وامتنع به، فعالجناه بغيره، فلم ينجع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات، رحمه الله ورضي عنه.
وكان أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين الشريفين، وباليمن، لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها، وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله. وقد طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً للعدل منه.
وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر هاهنا نبذة مختصرة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به؛ فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له، منها يحصل له في السنة نحو عشرين ديناراً، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما يدي أنا خازن فيه للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك.
وكان يصلي كثيراً بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث، واسمعه طلباً للأجر.
وأما عدله، فإنه لم يترك في بلاده ، على سعتها، وكساً ولا عشراً بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة، ويقف عند أحكامها؛ وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم، فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري يقول: قد جئت محاكماً، فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم؛ وظهر الحق له، فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: أردت أن أترك له ما يدعيه، وإنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة، فحضرت، ثم وهبته ما يدعيه.
وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي بها ينصف المظلوم، ولو أنه يهودي، من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده.
وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين ليقاتل بها، فقال له القطب النشاوي الفقيه: بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام والمسلمين، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف. فقال له نور الدين: ومن محمود حتى يقال له ذلك؟ من قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو. (5/125)
وأما فعله الصالح، فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها، فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة. سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويعطيهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه، وينبسط معهم، ولا يرد لهم قولاً، ويكاتبهم بخط يده؛ وكان وقوراً مهيباً مع تواضعه، وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب.
ذكر ملك ولده الملك الصالح
لما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبر دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله، ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حجة علينا، وهو أقوى منا، لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر؛ فلم يوافق هذا القول أغراضهم، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم، فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك، وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه.
فلما سار سيف الدين غازي، صاحب الموصل، وملك البلاد الجزرية، على ما نذكرهن أرسل صلاح الدين أيضاً إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدولة بلاده وأخذها، ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين، وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ن أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي اعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري، وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني، وسوف أصل إلى خدمته، وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأجازي كلاً منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده.
وتمسك ابن المقدم وجماعة من الأمراء بالملك الصالح، ولم يرسلوه إلى حلب، خوفاً أن يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية، فإنه كان أكبر الأمراء النورية، وإنما منعه من الاتصال به والقيام على خدمته مرض لحق به، وكان هو وأخوته بحلب، وأمرها إليهم، وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين، فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب لما ذكرناه.
ذكر ملك سيف الدين البلاد الجزرية
كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية، الموصل وديار الجزيرة وغيرها، يستدعي العساكر منها للغزاة، والمراد غيرها، وقد تقدم ذكره، فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في عساكره، وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين، فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين، فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة، فهرب جريدة.
وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره، وعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه، وأقطعه، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام، وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني، فامتنع بها، وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له، ونزل إلى خدمة سيف الدين، فقبض عليه وأخذ حران منه، وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضاً عنها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر، فأعطيها، ثم أخذت منه، ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوته.
وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها، وكذلك سروج، واستكمل ملك جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر، فإنها كانت منيعة، وسوى رأس عين، فإنها كانت لقطب الدين، صاحب ماردين، وهو ابن خال سيف الدين، فلم يتعرض إليها. (5/126)
وكان شمس الدين علي بن الداية، وهو أكبر الأمراء النورية، بحلب مع عساكرها، فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد، لفالج كان به، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح، فلم يرسل إليه، لما ذكرناه؛ ولما ملك سيف الدين الديار الجزرية قال له فخر الدين عبد المسيح، وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين ، وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه قطب الدين، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلكن فلم يجن ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعض الأمراء، قال له: الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع؛ فقال له أكبر أمراءه، وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار: قد ملكت أكثر ما كان لأبيك، والمصلحة أن تعود؛ فرجع إلى قوله، وعاد إلى الموصل ليقضي الله مراً كان مفعولاً.
ذكر حصر الفرنج بانياس وعودهم عنها
لما مات نور الدين محمود ، صاحب الشام، اجتمعت الفرنج وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها، فجمع شمس الدين محمد بن المقدم العسكر عنده بدمشق، فخرج عنها، فراسلهم، ولاطفهم، ثم أغلظ لهم بالقول، وقال لهم: إن أنتم صالحتمونا وعدتم عن بانياس، فنحن على ما كنا عليه، وإلا فنرسل إلى سيف الدين، صاحب الموصل، ونصالحه، ونستنجده، ونرسل إلى صلاح الدين بمصر فنستنجده، ونقصد بلادكم من جهاتها كلها، ولا تقومون لنا. وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين، والآن قد زال ذلك الخوف، وإذا طلبناه إلى بلادكم فلا يمتنع. فعلموا صدقه، فصالحوه على شيء من المال أخذوه وأسرى أطلقوا كانوا عند المسلمين وتقررت الهدنة.
فلما سمع صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه، وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يقح لهم ما فعلوه ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجهم عن قصد شيء من بلاد الملك الصالح؛ وكان قصده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام ليتملك البلاد، والأمراء الشاميون إنما صالحوا الفرنج خوفاً منه ومن سيف الدين غازين صاحب الموصل، فإنه كان قد أخذ البلاد الجزرية، وخافوا منه أن يعبر إلى الشام، فرأوا صلح الفرنج أصلح من أن يجيء هذا من الغرب وهذا من الشرق، وهم مشغولون عن ردهم.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في المحرم، وقع الحريق ببغداد فاحترق أكثر الظفرية ومواضع غيرها، ودام الحريق إلى بكرة وطفئت النار.
وفيها، في شعبان، بنى ابن سنكا، وهو ابن أخي شملة، صاحب خوزستان، قلعة بالقرب من الماهكي ليتقوى بها على الاستيلاء على تلك الأعمال، فسير إليه الخليفة العساكر من بغداد لمنعه، فالتقوا وحمل بنفسه على الميمنة فهزمها، واقتتل الناس قتالاً عظيماً، وأسر ابن أخي شملة، وحمل رأسه إلى بغداد، فعلق بباب النوبي، وهدمت القلعة.
وفيها، في رمضان، توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل، فدامت أربعين يوماً ما رأينا الشمس فيها غير مرتين، كل مرة مقدار لحظة، وخربت المساكن وغيرها، وكثر الهدم، ومات تحته كثير من الناس، وزادت دجلة زيادة عظيمة، وكان أكثرها ببغداد، فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر، وخاف الناس الغرق، وفارقوا البلد، وأقاموا على شاطئ دجلة خوفاً من انفتاح القورج وغيره، وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده، ونبع الماء في البلاليع، وخرب كثيراً من الدور، ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي، ودخلت السفن من الشبابيك التي له، فإنها كانت قد تقلعت، فمن الله على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق.
وفيها في جمادى الأولى، كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة، وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين بن رئيس الرؤساء إلى الوزارة، فمنع منه قطب الدين، وأغلق باب النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة، فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته، فقال قطب الدين: لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد؛ فأمر بالخروج منها، فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطه وأجاره، ونقله إلى دار الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة. (5/127)
وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة، وهو الذي صر خليفة، من قبة عالية إلى ارض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح، فألقى نفسه بعده، وسلم ابن الخليفة ونجاح، فقيل لنجاح: لم ألقيت نفسك؟ فقال: ما كنت أريد البقاء بعد مولاي؛ فرعى له الأمير أبو العباس ذلك؛ فلما صار خليفة جعله شرابياً، وصارت الدولة جميعها بحكمه، ولقبه الملك الرحيم عز الدين، وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له، وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم.
وفيها، في رمضان، وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله، فهدم الدور، وقتل جماعة من الناس وكثيراً من المواشي، فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال، وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان. هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه، والعهدة عليه.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد، ن صاحب نيسابور، وبين شاه مازندران، قتل فيها كثير من الطائفتين، فانهزم شاه مازندران، ودخل المؤيد بلد الديلم وخربه وفتك بأهله وعاد عنه.
وفيها وقعت وقعة كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ، وسببها أن الماء لما زاد سكر أهل الكرخ سكراً رد الماء عنهم، فغرق مسجد فيه شجرة، فانقلعت، فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة، لعن الله العشرة! فقامت الفتنة، فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش بكفهم، فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعياً، وأراد خول المحلة، فمنعه أهلها، وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور؛ وأراد إحراق الأبواب، فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار، وأمر بإعادة تنامش، فعاد، ودامت الفتنة أسبوعاً، ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان.
وفيها عبر الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج ارسلان، فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون، فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلاده، وقد قتل من عسكره جماعة كثيرة.
وفيها في جمادى الأولى، مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد.
وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن احمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمذاني، سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة، وكان من أعيان المحدثين في زمانه، وكان له قبول عظيم ببلده عند العامة والخاصة.
وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان إماماً في النحو، له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها.

This site was last updated 07/28/11