ى جريدة وطنى بتاريخ2 /4/2006م السنة 48 العدد 2310عن مقالة بقلم المتنيح العلامة الأنبا غريغوريوس القديس مقاريوس الكبير (1) - من 301-391م كتب فيها : " يعرف هذا القديس بمكاريوس المصري تمييزا له عن آخر يعرف بمكاريوس الإسكندري أو الإسكندراني وثالث يعرف باسم مقاريوس الأسقف -فالثلاثة من كبار الرهبان- ويذكرون معا باسم ثلاثة المقارات القديسين.
والمعروف عن القديس مقاريوس المصري أنه الأشهر بين الثلاثة,ولذلك يسمي بمقاريوس الكبير أو (أبو مقار),وهو صاحب الدير العظيم المنسوب لاسمه (دير أبو مقار),ويعد من أقدم أديرة وادي النطرون في الصحراء الغربية جنوبي الإسكندرية,أو بالقرب من كيلو 92 في الطريق الصحراوي بين القاهرة-والإسكندرية.
والقديس مقاريوس المصري (أو أبو مقار) هو أول من سكن من الرهبان وادي النطرون,ولذلك يعد أبا لرهبان وادي النطرون جميعا,وصار الوادي كله ينسب إليه,فيسمي برية مقاريوس أو إسقيط مقاريوس.وكلمة (إسقيط) ترجع إلي الكلمة اليونانية التي تقبطت بمعني (الناسك),فاصبحت البرية كلها منسوبة إلي الناسك مقاريوس المصري.
ومقاريوس المصري هو المنشئ للنظام الرهباني النسكي الذي انتشر بفضله في كل وادي النطرون.ومن هنا فمقاريوس المصري هو المؤسس الحقيقي لجميع أديرة وادي النطرون.وجميع الرهبان في هذا الوادي هم من تلاميذه,عشقوا الحياة الرهبانية بسببه وتتلمذوا عليه متمثلين به,فكان لهم جميعا هو الأب والراعي والمثل الأعلي والقدوة والمثال والأمثولة.وبفضله تجمع الرهبان في حياته وكانوا أعدادا كبيرة يقدرون في التاريخ بعشرات الآلوف.
وكما سمي القديس أنطونيوس المصري بـ(أبو جميع الرهبان) في الصعيد,صار القديس مقاريوس المصري يعرف بـ(أبو جميع رهبان وادي النطرون أو نيتريا).
والقديس مقاريوس المصري هو ذاته تلميذ القديس أنطونيوس المصري,فقد بدأ حياته معه وأخذ عنه,وتتلمذ عليه,ونال بركته,وهو الذي ألبسه إسكيم الرهبنة قبل أن يذهب شمالا ليكون مؤسس رهبنة نيتريا أو وادي النطرون.وفارق السن بين الراهبين القديسين هو خمسون سنة,فقد كان القديس أنطونيوس شيخا عندما عرفه مقاريوس وتتلمذ عليه,ولذلك كان مقاريوس امتدادا لشخصية معلمه أنطونيوس في تقواه ونسكه وزهده وصبره الطويل علي نسكيات العبادة من صوم انقطاعي طويل وعنيف,وصلاة بلا انقطاع,وتدريبات شديدة علي أنواع الإماتات الحسية,والسيطرة علي الميول الجسدية,والشهوات البدنية,والرغبات المادية,والارتباطات والعلاقات الأرضية,والارتفاع فوق الأنانية والذاتية ومحبة القنية أو التملك بل وفوق الأنية والفردانية والتسامي فوق ضروب الانفعالات من غضب ولذة,وتأثر بالمدح أو الذم وإحساس بالكرامة الشخصية وهي صورة من صور الذاتية والآنية,وذلك للاندماج في الروحانية الصافية,نتيجة الشخوص في الله شخوصا دائما,وبلوغ ما يعرف بالفناء والبقاء بعد الفناء,فيفني الراهب العابد العاشق لله عن ذاته ولكنه مع ذلك يبقي,ولكن لا يبقي في ذاته ولذاته,وإنما يبقي في الله ولله.وهي هذه التدريبات التي يمارس فيها العابد الناسك ممارسة عملية باطنية جوانية العبارة الإنجيلية:لأني مت...لأحيا لله.مع المسيح صلبت,فما أنا أحيا بعد,بل المسيح يحيا في.وإذا كنت أحيا الآن في الجسد,فحياتي هي في الإيمان (غلاطية2:20,19).
ولد القديس مقاريوس المصري في سنة 301م في بلدة (شبشير) إحدي بلاد المنوفية (وهي قريبة من منوف) وتسمي الآن شبشير أطملاي.ولد من أبوين مسيحيين تقيين,أب كان قسيسا اشتهر بالورع والفضيلة والعطف والبر بالفقراء وأصحاب الحاجات اسمه إبراهيم وأم طيبة تقية ممدوحة السيرة في بلدتها اسمها سارة,وكانا لسنوات ليس لهما ولد,وحدث أن اعتدي بعض اللصوص علي منزلهما وسلبوهما كل ممتلكاتهما,لكن الله لم يتركهما,وفي إحدي الليالي رأي القسيس في منامه النبي إبراهيم الخليل يعزيه عما فقده من مقتنيات ويبشره بأن امرأته ستحبل وتلد أبنا صالحا وسيكون له شأن عظيم,وسيشيع ذكره في كل مكان ويكون أبا روحيا ومرشدا لكثيرين,وقائدا لعباد يخدمون الله علي نحو خدمة ملائكة السماء,يقومون علي عبادة خالقهم آناء الليل وأطراف النهار,عبادة متواصلة بغير انقطاع,وقال له إبراهيم الخليل إن يسمي ولده باسم (مقار) أو مكاريوس ومعناه سعيد أو مبارك لأنه سيكون سعيدا بروحانيته وبرعاية الله له,وسيسعد الآخرين بحسن إرشاده وتوجيهه.
وتحقق وعد الله,فحبلت سارة وولدت مقاريوس,وتربي الطفل في مخافة الله,وكبر وصار يساعد أباه في خدمة الحقول والمزارع.وبارك الله مقاريوس وأبويه,وتبدل فقر العائلة إلي خير وبركة,وصار للعائلة غنم وماشية وخيرات كثيرة,وأخذوا يحسنون منها ويتصدقون علي الفقراء والمساكين,وازدادت محبة الناس لهم.وأما مقاريوس فقد نال رضاء أهل البلدة جميعا,فأتوا به إلي الأسقف فرسمه شماسا (قارئا) في الكنيسة للفصول المقدسة , ولم يكتفوا بهذا,بل أراد الكهنة والشعب أن يرسموه قسيسا ليقوم بالخدمة الدينية في سلك الكهنوت . ولكن قبل أن يرسم قسيسا كان لابد أن يتزوج.فلا زواج بعد الرسامة,وهنا أجمع الكهنة والشعب علي ضرورة زواجه من امرأة , وكذلك ألح الأبوان عليه بالزواج شأن كل الوالدين الذين يسرهما أن يريا ولدهما له زوجة وأسرة . أما هو فأبي بشدة واعتذر بعدم رغبته في الزواج,واعتزامه علي التبتل والعفة الكاملة وأن يكون مقدسا لله روحا وجسدا.ولكن أحدا لم يصغ لرغبته فألزموه بالزواج وعقدوا له علي امرأة فاضلة من أهل بلدته,فرضخ للأمر علي مضض,ولكنه لم يقترب إليها ولم يمسها بل لم ينظر إليها...واستأذن أباه بعد أيام قلائل في أن يمضي بجمال أبيه مع الأجراء يحملون النطرون من جبل النطرون إلي مصر,وقد صار يقوم بهذا العمل مرارا مع الجمالين حتي عرف هو نفسه بين أهل قريته باسم مقاريوس الجمال.وفي إحدي الليالي,وكان نازلا بالجبل مع الجمالين,وكان متعبا فنام,رأي في منامه كائنا نورانيا يقول له:إن الله يقول لك إنني أعطيك هذا الجبل ميراثا لك,وسيكون لك بنون روحانيون ينقطعون لعبادتي...ثم قال له:انهض الآن من نومك,وأمض بسلام إلي موضعك...فاستيقظ مبهورا,مذهولا,وبدا عليه الشرود في الفكر,فسأله رفاقه وأصحابه عما أصابه,فلم يجبهم بشئ,وبعد ثلاثة أيام من الرؤيا رجع من جبل النطرون إلي بيته فوجد زوجته مريضة بحمي شديدة,وما لبثت حتي ماتت وهي بتول طاهرة.
أما مقاريوس,فقد ظل في بلده يعمل بنشاط ليعول أسرته.وكان أبوه قد طعن في السن,وصار مقاريوس يخدم أباه في شيخوخته كما كان في الوقت نفسه يوزع الصدقات علي الفقراء ويخدم الأرامل والأيتام حتي أحبه جميع الناس,ولم يعد أحد من أسرته أو من أهل قريته يحدثه في موضوع زواجه,وكان يقضي في المساء وقتا طويلا في الصلاة والعبادة,فالعبادة كانت له لذة ومتعة وتعليما.
فلما توفي أبوه,لاحظت أمه العجوز أنه قد بدأ يوزع كل ما يملك علي الفقراء وأصحاب الحاجات,فلامته أمه علي ذلك,وقالت له : ما هذا الذي تصنعه يا ولدي؟ إنك إذا بددت كل مالك صرت محتاجا لآخرين,وأنت لاتزال بعد شابا,فلم يسفه نصيحة أمه ولم يحزن قلبها,بل وافقها,وقال لها:سأعمل بنصيحتك,ولا أعصي لك أمرا...
وبعد ستة أشهر ماتت أمه فدفنها إلي جوار أبيه...وأقبل العيد,فأولم وليمة دعا إليها الفقراء ترحما علي أبيه وأمه.
قصد مقاريوس بعد ذلك إلي راهب متوحد بالقرب من قريته.وبات عنده في صومعته.ورأي المتوحد,وهو يصلي,رؤيا جميلة...رأي مقاريوس وجموعا من الرهبان محدقة به,وكلهم يضيئون وعلي أكتافهم أجنحة كالطيور...ففهم الراهب المتوحد مغزي هذه الرؤيا...ثم بارك المتوحد الشاب مقاريوس,وصرفه من عنده,وقال له:ما اعتزمت عليه سر فيه,فإن دعوتك هي من الله.فمضي مقاريوس وفرق كل ما بقي معه من ماله ومقتنياته علي الفقراء والمساكين,ثم ذهب فسكن في صومعة خارج القرية متعبدا في هدوء وسكون.
علي أن أهل قريته لم يتركوه في هدوء,وإنما رغبوا في رسامته قسيسا ليخدمهم,فحملوه علي الرغم منه وساقوه إلي أسقفهم,فرسمه قسيسا...وروي مقاريوس فيما بعد أنه آثر الوحدة علي الخدمة,قال:وإذ لم أوثرأن أتقلد هذه الرتبة (القسيسية) هربت إلي مكان آخر.
وبينما هو يصلي ظهر له ملاك من السماء بنور عظيم وأرشده إلي المكان الذي يستقر فيه,وقاده بيده فسار مسيرة يومين أو يزيد إلي أن جاء به إلي برية وادي النطرون.ولما طلب مقاريوس من الملاك أن يعين له المكان الذي يحفر فيه مغارته ليتعبد فيها,قال له الملاك:ها هي كل البرية أمامك...فحفر له مغارة في الصخر...لم يلبث حتي تركها لغيره ممن بدأوا يتوافدون عليه...وهكذا تعددت المغارات والصوامع بكثرة عدد الذين أقبلوا عليه يطلبون إرشاده,ويسيرون مسيرته.
***************************
ذكرت جريدة وطنى 9 /4/2006م السنة 48 العدد 2311 وسمع بسيرة القديس الأنبا أنطونيوس المصري في الجبل الشرقي بالقرب من البحر الأحمر,واشتهي أن يلتقي به,وفعلا سار إليه علي قدميه ليسترشد به.ولما وصل إلي المكان قبله الأنبا أنطونيوس,ولم يوار نفسه عنه,بل فرح به وقبل رأسه,وكان قد علم مسبقا بالروح بمجيئه إليه,كما علم باستقامة قلبه,فشجعه علي حياة العزلة والروحانية والعبادة الحارة.ولما طلب إليه مقاريوس أن يقيم عنده,ذكره بأن يلزم المكان الذي أرشده إليه الملاك لأن له في هذا المكان رسالة ليصير أبا ومرشدا وإماما لكثيرين.وقال له الأنيا أنطونيوس:فليصر كل واحد منا في الموضع الذي دعاه الرب إليه.فأطاع مقاريوس نصيحة الأنبا أنطونيوس,ولكنه أقام عنده أياما,كاشفه بما في قلبه,وسأله التوجيه والإرشاد كمعلم كبير سبقه في ميدان الجهاد الروحاني مع النفس ومع القوات الروحية المضادة من الشياطين والأرواح النجسة,فأجابه علي أسئلته ورسم له طريق العبادة,وعلمه أن للحياة الرهبانية مقاماتها في سلم صاعد,وعلي العابد أن يكون متزنا رصينا,ولا يكون عجولا,وأن يبدأ الطريق من أوله,ولا يقفز إلي مقام أعلي من مقامه إلا إذا أقام في المقام الأدني وقتا كافيا,وقد شبع منه وارتوي,وبلغ فيه النضج وصار مالكا فيه لنفسه وعلي يقين من نفسه,لئلا يجمح ويجنح إلي الغرور والصلف فيرتد ويسقط ويفشل,وهكذا أخذ الأنبا أنطونيوس يزوده بنصائح من خبراته الطويلة,ويهديه إلي سبيل النصرة والغلبة علي حروب النفس وحروب الجسد,وعلي حروب الشياطين,ثم ألبسه إسكيم الرهبنة,وصرفه من عنده بسلام ليذهب إلي المكان الذي أرشده الملاك إليه ليصبح فيه قائدا ومرشدا ومعلما ومدبرا لحياة الكثيرين ممن يقصدونه ليتعلموا منه طريق النمو الروحاني للوصول إلي مقام المشاهد الطوباوية والاتحاد بالله بعد طريق طويل شاق في إماتة الميول والرغبات الحسية والانفعالات البشرية حتي تسقط عن العابد كل رغبة ذاتية,وتصبح إرادة الله هي إرادته ومشيئة الله هي مشيئته,وهو مقام الفناء,والبقاء بعد الفناء.
وعاد القديس مقاريوس إلي برية وادي النطرون,وأخذ يمارس ضروب العبادة والتقشف كما علمه الأنبا أنطونيوس,وكما أرشده روح التقوي التي تملكته وكأنه لم يخلق إلا لعبادة الله,ولم يكن له من مثل أعلي يحتذيه إلا خدمة الملائكة في السماء الواقفين أمام عرش الله يعبدونه ويخدمونه منذ بدء الخليقة.
والواقع أن هذا هو المفهوم الحقيقي للرهبنة المصرية...فالراهب عابد لله وحده,وخادم واقف علي خدمة سيده طوال حياته,وقد رغب في أن يكون كالملاك في السماء.ومن هنا سمي الرهبان بـملائكة أرضيين أوبشر سمائيين وسميت الرهبنة بخدمة الملائكة وطريق الكمال.
وفي البرية واصل مقاريوس الجهاد الروحاني,فكان يجاهد الشيطان عن نفسه,بالصلوات الدائمة والأصوام الطويلة,والهذيذ في المزامير والتسابيح وأقوال الكتب المقدسة.وتحقق له الصفاء الروحاني,والشفافية ووصل إلي مقام الثيئورية (أي المكاشفات والرؤي الإلهية)...ووهبه الله موهبة شفاء المرضي,فكان يصلي عليهم ويدهنهم بزيت فيبرأون,وشهد عنه القديس أنطونيوس بقوله:إن الأب مقاريوس أعطاه الله نعمة الشفاء ثم وهبه الله أيضا بعد كل تلك المجاهدات الروحانية سلطانا علي إخراج الشياطين والأرواح النجسة من المجانين والمصروعين.وذلك بالصلاة عليهم ودهنهم بالزيت المصلي عليه,وكذلك بصلواته كان يبطل قوة السحر والأعمال السحرية الشيطانية,ويعود الإنسان سليما معافي وقد نجا وتخلص من أثر السحر وأعمال السحر علي روحه ونفسه وجسده.
ووهبه الله موهبة النبوءة,فصار يخبر بأمور آتية...
وبسبب سيرته ومواهبه الكثيرة أقبل إليه إناس كثيرون,قصدوا إلي البرية وتتلمذوا عليه,هذا غير أعداد كبيرة ممن قصدوا إليه من أهل العالم لينتفعوا به ويستفيدوا من صلواته وبركاته.
وشاء الله أن يقصد إليه أناس لا من مصر وحدها,في شمالها وجنوبها,بل قصد إليه كثيرون من بلاد أخري خارجية ممن سمعوا عنه:من فلسطين والشام ومن بلاد السودان والنوبة وكل أقاليم أفريقيا,بل أيضا من إيطاليا وإسبانيا وآسيا الصغري وغيرها.وممن قصدوا إليه ابنا الملك فالنتينيانوس الأول قيصر الغرب (364-375) وهما مكسيموس ودوماديوس,وإليهما ينتسب دير البراموس وهو أقدم دير بناه القديس مقاريوس -وتعد كنيسة دير البراموس لهذا أقدم كنيسة بنيت في برية مقاريوس- وكلمة البراموس كلمة قبطية تعني الخاص بالروم-أو الرومانيين) فكان حقا نورا وهاجا أضاء في ظلمات الليل,وجذب برائحته الزكية وسيرته العطرة ومواهبه الروحانية,المئات والألوف وعشرات الألوف,فتحولت بسببه الصحراء القاحلة إلي دوحة فيحاء تآوت تحت أغصانها جماعات من كل شعب وأمة تحت السماء,وهربت منها الشياطين والأرواح المقدسة وأصبحت موئلا للملائكة والأرواح المقدسة,وصارت تسمع في جنباتها الترانيم والتسابيح والأغاني الروحية والصلوات بغير انقطاع.
وعلي غير ما يتوقعه الناس,وعلي غير ما يستدل من المنطق البشري,فإن الرجل الذي أخفي نفسه في أعماق الصحراء طلبا للهدوء والسكون والعبادة الصامتة,صار الرجل,علي غير ما كان يرجو هو نفسه أن يكون,شهيرا وعلما عاليا علي ربوة,معروفا ومرموقا,وأصبح الرجل الذي هرب من الخدمة بين الناس خادما للناس علي أروع وأعمق وأسمي ما تكون الخدمة للناس.
أن سيرة القديس مقاريوس ومن قبله سيرة القديس أنطونيوس كشفت عن حقيقة إنسانية أن من يبدأ خدمته بين الناس بخدمة الناس قد يتحول إلي زعيم شعبي يحبه الناس ويمدحونه ويكرمونه...أما الذي يبدأ خدمته بخدمة الله,في عبادة صامتة خفية,وبهذه العبادة يصفو ويتطهر من بواعثه الشخصية ودوافعه الذاتية,وبها يرتفع ويسمو فوق كل انفعال,يتحول بالتدريج ودون أن يشعر إلي خادم لجميع الناس,ولكن خدمته للناس في هذه الحالة ستكون في إطار خدمته لله بروحانية صافية وتكون خدمته بغير هوي,خدمة للخير في ذاته,وهذا أرقي مقام للخدمة بين الناس,بعد أن تكون قد أصبحت خدمة لله,ومن أجل الله,ومن أجل خير القريب ويكون الإنسان قد صار في خدمته شبيها بالله ذاته والله صانع الخيرات,أو هو علي ما يسميه أرسطو هو الخير الأعظم وربما لهذا يسمي بالإنجليزية God اللفظ المشتق من Good وبالألمانية Gott المشتق من Gute أي الخير-أو الجودة.
وفي سنة 375م نفي القديس مقاريوس المصري ومعه القديس مقاريوس الإسكندراني وآخرون من قادة الرهبان وأئمتهم إلي جزيرة بأعلي الصعيد قيل إنها جزيرة فيلي,وفي زمن الأمبراطور-أريوسي العقيدة فالنس أو والس VALENS الذي أمر باضطهاد الأرثوذكس في كل أنحاء مصر فزحف لوكيوس الأريوسي ومعه رئيس الجند وفرق كثيرة من الجند إلي كل أديرة مصر,وقبضوا علي مقاريوس المصري وآخرين من كبار الرهبان وأرسلوهم إلي جزيرة فيلي التي تغمرها المستنقعات,وكان كل سكان تلك الجزيرة وثنيين يعبدون الأوثان,فما أن رسا الرهبان علي الجزيرة حتي ذهبت إليهم ابنة كاهن الجزيرة الوثني وكان بها شيطان وأخذت تصيح قائلة:من أين أتيتم إلينا يا خدام الله العظيم؟ فانتهر القديس مقاريوس الشيطان فيها,فعادت سليمة العقل,وللحال اعتنق أبواها المسيحية وكل أهل بيتها,وكل سكان الجزيرة,وحولوا المعبد الوثني إلي كنيسة مسيحية.ولما علم لوكيوس بذلك حزن حزنا شديدا,ثم أرسل أوامر سرية بإرجاع القديس مقاريوس وزميله الإسكندراني والآخرين إلي محل إقامتهم في البرية,فعادوا نحو سنة 376م.
وفاة القديس مقاريوس
وبلغ القديس مقاريوس من العمر عتيا.وعاش أكثر من تسعين سنة وقيل إنه عاش نحو 97 عاما,وهزل وضعف من كثرة النسك والجهاد الروحي,وأصيب بحمي شديدة,وكان ينام علي حصيرة وبات عاجزا عن النهوض من مكانه,واجتمع حوله أولاده الرهبان,فأخذ يوصيهم بمواصلة الثبات في الفضيلة ومداومة الصلاة بغير انقطاع,وقال لهم وهو يودعهم إنه لم يؤخر عنهم شيئا من الفوائد,وأعطاهم من خبراته واهتمامه,كل ما كان يملك أن يعطيه,فحزنوا جميعا وبكوا إذ أدركوا أنه أشرف علي نهاية حياته.
وفي تلك الليلة بينما هو يصلي ظهر له اثنان منيران عليهما سحنة روحانية وسعادة وإشراق,وسألاه إذا كان يعرفهما:فعرف أحدهما وهو القديس أنطونيوس الكبير,وعرفه القديس أنطونيوس بالآخر الذي يرافقه وقال عنه:إنه الأب باخوم وهو المعروف بالأنبا باخوم أبي الشركة,وهو مؤسس النظام الرهباني الديري المعروف بنظام الشركة أو الحياة المشتركة (*) وأعلماه أن رحلة حياته علي الأرض هي في نهايتها,وأنه سيلحق بهما بعد تسعة أيام.
وفعلا في الليلة الثامنة لظهور القديسين أنطونيوس وباخوم ظهر له الملاك ومعه جموع من الروحانيين من القديسين,ودعاه إلي الخروج من الجسد,وقال له:إن هؤلاء كلهم ينتظرونك.عند ذاك أسلم القديس مقاريوس روحه بيد الملاك,وكانت وفاته في السابع والعشرين من شهر برمهات القبطي سنة 108 للشهداء,فبكاه من كان حاضرا وفاته من أولاده,وسمع الباقون فاجتمعوا في الكنيسة وصلوا عليه,وتباركوا من جسده وقبلوه.وبعد أن دفنوه أنصرفوا كل واحد إلي صومعته,وخلفه في المسئولية العامة تلميذه بفنوتيوس أو ببنوده (=عبد الله) وتعيد الكنيسة القبطية لوفاة القديس مقاريوس في السابع والعشرين من الشهر القبطي ويوافق الخامس من أبريل.
ولما علم أهل قريته شبشير بوفاته عقدوا النية علي أن يحملوا جسده إلي بلدتهم...فانتظروا زمانا وأتوا سرا إلي برية القديس مقاريوس,وتمكنوا من سرقة جسده,وحملوه إلي قريتهم بفرح كبير,وبنوا كنيسة في الجانب الغربي من القرية,ووضعوا جسد القديس مقاريوس إلي جانب المذبح.
(*) نظام الشركة أنشأه الأنبا باخوم ليكون طريقا وسطا بين حياة العالم في المجتمع الكبير وبين حياة التوحد المطلق.فقد رأي الأنبا باخوم أن حياة التوحد المطلق لمشقتها تصعب علي المبتدئين في حياة الرهبنة,وقد تؤدي بهم إلي الفشل فضلا عما يتعرضون له من مشاق وصعوبات أضرت بصحة الكثيرين,فرأي إنشاء نظام الشركة,وهو حياة اجتماعية لا انفرادية,لرهبان مبتدئين يصلون معا,ويعملون معا,ويأكلون معا,ويسكنون معا,ولهم في حياتهم المشتركة نظام دقيق,في اليقظة والنوم,والعمل,والأكل...ومحظور علي أحد منهم أن ينفرد بسيرة حياته,ومن يخرج علي النظام المرسوم يطرد من الدير -ويعد العمل اليدوي من مقومات نظام الشركة...وكان التصنيع من أبرز خصائص النظام الديري الباخومي- وكان بين الرهبان خبازون,وبناؤون,ونجارون,وزراع,ودباغون,وحدادون,وصناع لسائر الحرف اللازمة ومنها صناعة الأسبتة والخيرزان والصناعات الجلدية وتجليد الكتب, والزخارف,والحياكة,وتطعيم أحجية الكنائس وما إلي ذلك...
ويتبين نظام الشركة بالأكثر عند مقارنته بنظام الرهبنة الأنطوني الذي بموجبه يحيا كل راهب منفردا في صومعة أو مغارة له نظامه الخاص المستقل في عبادته وأكله ونومه.ومهمة أب الدير أن يطوف بالرهبان من وقت إلي آخر للإرشاد والتوجيه ولكن من دون أن يجمعهم في حياة مشتركة أو مجتمع واحد.