Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

 نهاية معركة صفين

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
اجتماع الحكمين

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
ذكر تتمة أمر صفين

في هذه السنة في المحرم منها جرت موادعةٌ بين علي ومعاوية، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعاً في الصلح، واختلفت بينهما الرسل، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد ابن خصفة.
فتكلم عدي بن حاتم فحمد الله وقال: أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء ونصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقةً وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل! فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً لم تأت مصلحاً! هيهات يا عدي! كلا والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالشنان، وإنك والله من المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به! فقال له شبث وزياد بن خصفة جواباً واحداً: أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعم نفعه. وقال يزيد ابن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك، ولن ندع أن نصح لك وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا في الناس رجلاً قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها معه.
فحمد الله معاوية ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً؟ فقال: وما يمنعني من ذلك؟ لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان. فقال شبث: والذي لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك! فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معاوية، وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به وقال له: يا أخا ربيعة، إن علياً قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه أني أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت. فقال زياد: أما بعد فإني على بينة من ربي وما أنعم الله علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين! وقام. فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلم رجلاً منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلا كقلب واحد.
وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن ابن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيبٌ وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن عثمان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولونه من أجمعوا عليه. فقال له علي: ما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر؟ اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقال: والله لتريني بحيث ! فقال له علي: وما أنت؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك! وقال شرحبيل: ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي، فهل عندك جواب غير هذا؟ فقال علي: ليس عندي جواب غيره.
ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإن الله تعالى بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق فأنقذ به من الضلالة والهلكة وجمع به من الفرقة ثم قبضه الله إليه فاستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمور ونحن آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فغفرنا ذلك لهما، وولى الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي: بايع، فأبيت، فقالوا: بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يتفرق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، ولا عجب إلا من اختلافكم معه وانقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذي لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم! ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين. فقالا: تشهد أن عثمان قتل مظلوماً؟ فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلوماً ولا ظالماً. قالا: فمن لم يزعم أنه قتل مظلوماً فنحن منه برآء. وانصرفا، فقال علي، كرم الله وجهه: (إنك لا تسمع الموتى) إلى قوله: (فهم مسلمون) النمل: 80 - 81، ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في الجد في ضلالهم أجد منكم في الجد في حقكم وطاعة ربكم.
فتنازع عامر بن قيس الحذمري ثم الطائي وعدي بن حاتم الطائي في الراية بصفين، وكانت حذمر أكثر من بني عدي رهط حاتم، فقال عبد الله بن خليفة البولاني عند علي: يا بني حذمر أعلى عدي تتوثبون وهل فيكم وفي آبائكم مثل عدي وأبيه؟ أليس بحامي القرية ومانع الماء يوم روية؟ أليس ابن ذي المرباع، وابن جواد العرب، وابن المنهب ماله ومانع جاره، ومن لم يغدر ولم يفجر ولم يبخل ولم يمنن ولم يجبن؟ هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أوفيكم مثله، أليس أفضلكم في الإسلام ووافدكم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم؟ أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء ويوم نهاوند ويوم تستر؟ فقال علي: حسبك يا ابن خليفة. وقال علي: لتحضر جماعة طيء. فأتوه، فقال: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالوا: عدي. فقال ابن خليفة: سلهم يا أمير المؤمنين أليسوا راضين برياسة عدي؟ ففعل، فقالوا: بلى. فقال علي: فعدي أحقكم بالراية، وأخذها. فلما كان ايام حجر بن عدي طلب زيادٌ عبد الله بن خليفة ليبعثه مع حجر، فسار إلى الجبلين ووعده عدي أن يرده وأن يسأل فيه، فطال عليه ذلك، فقال شعراً، منه:
أتنسى بلائي سادراً يا ابن حاتمٍ ... عشية ما أغنت عديك حذمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم اللد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثاً بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعد ال ... بعيد وقد أفردت نصراً مؤزرا
فكان جزائي أن أجرر بينكم ... سحيباً وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا
وسترد قصته بتمامها، إن شاء الله تعالى.

فلما انسلخ المحرم أمر علي منادياً تعبئة الناس للقتال فنادى: يا أهل الشام! يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين! فاجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وكذلك فعل أمير المؤمنين، وقال للناس: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريحٍ ولا تكشفوا عورةً ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس. وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه في كل موطن، وحرض أصحابه فقال: عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، (فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) الأنفال: 45، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال: 46، اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر! وأصبح علي فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى جند البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعل رجالة البصرة قيس بن سعد، وهاشم بن عتبة المرقال معه الراية، وجعل مسعر بن فدكي على قراء الكوفة وأهل البصرة. وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالة دمشق مسلم بن عقبة المري، وعلى الناس كلهم الضحاك بن قيس، وبايع رجالٌ من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكانوا خمسة صفوف، وخرجوا أول يوم من صفر فاقتتلوا، وكان على الذين خرجوا من أهل الكوفة الأشتر، وعلى من خرج من أهل الشام حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا يومهم قتالاً شديداً معظم النهار ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم مع بعض. ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك ثم انصرفوا، وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشد قتال، وقال عمار: يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين؟ فلما رأى الله يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب! ثم قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم واتباع المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه.
وقال عمار لزياد بن النضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام. فحمل وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النضر أخاه لأمه، واسمه عمرو بن معاوية من بني المنتفق، فلما التقيا تعارفا فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه وتراجع الناس. وخرج من الغد محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين فاقتتلوا أشد القتال، وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية يدعوه إلى المبارزة، فخرج إليه، فحرك علي دابته ورد ابنه وبرز علي إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وقال محمد لأبيه: لو تركتني لرجوت قتله. وقال: يا أمير المؤمنين وكيف تبرز إلى هذا الفاسق؟ والله إني لأرغب بك عن أبيه! فقال علي: يا بني لا تقل في أبيه إلا خيراً. وتراجع الناس. وخرج عبد الله بن عباس في اليوم الخامس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فسب الوليد بني عبد المطلب، فطلبه ابن عباس ليبارزه فأبى، وقاتل ابن عباس قتالاً شديداً. وخرج في اليوم السادس قيس بن سعد الأنصاري، وخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انصرفوا. ثم عاد يوم الثلاثاء وخرج الأشتر، وخرج إليه حبيب، فاقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا عند الظهر.

ثم إن علياً قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيباً فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه ولا اختلفت الأمة في شيء ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار فنحن بمرأى من ربنا ومسمع فلو شاء عجل النقمة وجعل الآخرة دار القرار (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) النجم: 31، ألا وإنكم لاقو القوم غداً فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله النصر والصبر والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كبع بن جعيل فقال:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجب ... والملك مجموعٌ غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب
وعبى عليٌّ الناس ليلته حتى الصباح وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام، فسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم، فقال للأزد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة لم يكن بالشام منها إلا القليل صرفهم إلى لخم.
فتناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، فلما كان يوم الخميس صلى علي بغلس وخرج بالناس إلى أهل الشام فزحف إليهم وزحفوا معه، وكان على ميمنة علي عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، والقراء مع ثلاثة نفر: عمار، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلي في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة، وزحف إليهم. ورفع معاوية قبة عظيمة فألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق. وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو في ميسرة معاوية، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر، وحرض عبد الله بن بديل أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الحق أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب الذين قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجسهم، فقاتلوا الطغام الجفاة ولا تخشوهم، (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين) التوبة: 13 - 14.
وحرض علي أصحابه فقال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبينان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في الأطراف فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر.
وقام يزيد بن قيس الأرحبي يحرض الناس فقال: إن المسلم من سلم في دينه ورأيه؛ وإن هؤلاء القوم والله لا يقاتلونا على إقامة دين ضيعناه وإحياء حق أمتناه، إن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبارين فيها ملوكاً، فلو ظهروا عليكم، لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً، ألزموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السفيه الضال، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده في جلسه ثم يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه على أبيه وأمه، وإنما هو مال الله أفاءه علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وخبرتم! والله ما ازدادوا إلى يومهم إلا شراً!

وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالاً شديداً حتى انتهى إلى قبة معاوية وأقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء قد أسند بعضهم إلى بعض وانجفل الناس، وأمر علي سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة فاحتملتهم حتى أوقفتهم في الميمنة، وكان فيما بين الميمنة إلى موقف علي في القلب أهل اليمن. فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف علي يمشي نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة وثبتت ربيعة، وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علي معه حين قصد الميسرة والنبل يمر بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه فيرده، فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي فاختلفا بينهما ضربتان فقتله أحمر، فأخذ علي بجيب درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه، ودنا منه أهل الشام، فما زاده قربهم إلا إسراعاً، فقال له ابنه الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني إن لأبيك يوماً لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه. فلما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها فصبرهم وثبت أقدامهم. وقال للحضين بن المنذر: يا فتى ألا تدني رايتك هذه ذراعاً؟ قال: بلى والله وعشرة أذرع، فأدناها حتى قال: حسبك مكانك. ولما انتهى علي إلى ربيعة تنادوا بينهم: يا ربيعة إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حي افتضحتم في العرب! فقاتلوا قتالاً شديداً ما قاتلوا مثله، فلذلك قال علي:
لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
ويقدمها في الموت حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حربٍ طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتى تولى وأحجما
جزى الله قوماً صابروا في لقائهم ... لدى الموت قوماً ما أعف وأكرما
وأطيب أخباراً وأكرم شيمةً ... إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني، إنهم أهل نجدةٍ ... وبأسٍ إذا لاقوا خميساً عرمرما

ومر به الأشتر وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ فمضى الأشتر فاستقبلا الناس منهزمين فقال لهم ما قال علي، ثم قال: أيها الناس أنا الأشتر، إلي! فأقبل إليه بعضهم وذهب البعض، فنادى: أيها الناس ما أقبح ما قاتلتم مذ اليوم! أخلصوا لي مذحجاً، فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: ما أرضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذي لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم، وما تفعلون هذا اليوم، فإنه مأثور بعده، فانصحوا واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفسي بيده ما من هؤلاء - وأشار إلى أهل الشام - رجل على مثل جناح بعوضة من دين، اجلوا سواد وجهي يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه. قالوا: تجدنا حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم مما يلي الميمنة يزحف إليهم ويردهم، واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل وقتل منهم أحد عشر رئيساً، كان أولهم ذؤيب بن شريح، ثم شرحبيل ثم مرثد ثم هبيرة ثم يريم ثم سمير أولاد شريح فقتلوا، ثم أخذ الراية عميرة ثم الحرث ابنا بشير فقتلا جميعاً، ثم أخذ الراية سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعاً، ثم أخذ الراية وهب بن كريب، فانصرف هو وقومه وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نرجع فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر! فسمعهم الأشتر يقولون هذا فقال لهم: أنا أحالفكم على أن لا نرجع أبداً حتى نظفر أو نهلك. فوقفوا معه، وفي هذا قال كعب بن جعيل:
وهمدان زرق تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ولا جمعاً إلا حازه ورده، فإنه كذلك إذ مر به زياد بن النضر الحارثي يحمل إلى العسكر وقد صرع، وسببه أنه قد كان استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد إليهم ورفع رايته لأهل الميمنة، فصبروا وقاتل حتى صرع. ثم مروا بيزيد بن قيس الأرحبي محمولاً نحو العسكر، وكان قد رفع رايته لأهل الميمنة لما صرع زياد وقاتل حتى صرع، فقال الأشتر حين رآه: هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف ولا يقتل أو يشفى به على القتل؟ وقاتلهم الأشتر قتالاً شديداً، ولزمه الحرث بن جمهان الجعفي يقاتل معه، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية والصف الذي معه بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصابة من القراء نحو المائتين أو الثلثمائة قد لصقوا بالأرض كأنهم جثاً، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة يقاتل الناس أمامه. فقالوا: الحمد لله! قد كنا ظننا أنه قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا. فقال الأشتر: لاتفعل واثبت مع الناس فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى ومضى كما هو نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال وبيده سيفان، وخرج عبد الله أمام أصحابه يقتل كل من دنا منه حتى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به وبطائفة من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين. فبعث الأشتر الحرث بن جمهان الجعفي، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله حتى نفسوا عنهم وانتهوا إلى الأشتر، وكان معاوية قد رأى ابن بديل وهو يضرب قدماً، فقال: أترونه كبش القوم؟ فلما قتل أرسل إليه لينظروا من هو، فلم يعرفه أهل الشام، فجاء إليه، فلما رآه عرفه فقال: هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلاً عن رجالها! وتمثل بقول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت يوماً به الحرب شمرا

وزحف الأشتر بعك والأشعرين وقال لمذحج: اكفونا عكاًن ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى المساء، وقاتلهم الأشتر في همدان وطوائف من الناس، فأزال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقلين بالعمائم حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرسه فركب وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة الأنصاري، وكان جاهلياً:
ابت لي عفتي وأبى بلائي ... وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فمنعني هذا القول من الفرار، ونظر إلي عمرو وقال: اليوم صبر وغداً فخر. فقلت: صدقت. وتقدم جندب بن زهير فبارز رأس أزد الشام، فقتله الشامي وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل أبو زينب بن عوف. وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه، وتقدم عقبة بن حديد النميري وهو يقول: ألا إن مرعى الدنيا أصبح هشيماً، وشجرها خضيداً، وجديدها سملاً، وحلوها مر المذاق، إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وإني أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم، وإني متعرض لها من ساعتي هذه وقد طمعت أن لا أحرمها فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ - في كلام طويل - وقال: يا إخوتي قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها. فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقاتلوا حتى قتلوا. وتقدم شمر بن ذي الجوشن فبارز، فضرب أدهم بن محرز الباهلي بالسيف وجهه وضربه شمر فلم يضره، فعاد شمر إلى رحله فشرب ماء، وكان ظمآن، ثم أخذ الرمح ثم حمل على أدهم فصرعه وقال: هذه بتلك.
وكانت راية بجيلة مع أبي شداد قيس بن هبيرة الأحمسي وهو قيس بن مكشوح، ومكشوح لقب، فقال لقومه: والله لأنتهين بكم إلى صاحب الترس المذهب، وكان صاحبه عبد الرحمن بن خالد، فقاتل الناس قتالاً شديداً وشد بسيفه نحو صاحب الترس، فعرض له مولى رومي لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها، وضربه أبو شداد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتل، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس. وقتل حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم يومئذ، وقتل أبوه أيضاً، له صحبة، ونعيم بن صهيب بن العيلة البجليون مع علي.
فلما رأى علي ميمنة أصحابه قد عادت إلى مواضعها ومواقفها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق. فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، لوجب عليكم ما يجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي وشفى أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم، فالآن فاصبروا فقد نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه، في كلام طويل.
وكان بشر بن عصمة المري قد لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين نظر بشر إلى مالك بن العقدية الجشمي وهو يفتك بأهل الشام، فاغتاظ لذلك فحمل على مالك وتجاولا ساعة ثم طعنه بشر بن عصمة فصرعه ولم يقتله وانصرف عنه، وقد ندم على طعنته إياه، وكان جباراً، فقال:
وإني لأرجو من مليكي تجاوزاً ... ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ... على ساعةٍ فيها الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية فقال:
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ... شغلت وألهاني الذين أمارس
وصادفت مني غرةً وأصبتها ... كذلك والأبطال ماضٍ وحابس

وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على أهل الشام، فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن مرة ممن لحق بمعاوية من أهل العراق فوضع الرمح بين كتفي عبد الله، واعترضه ابن عم لعبد الله اسمه يزيد بن معاوية فوضع الرمح بين كتفي التميمي، فقال له: والله لئن طعنته لأطعننك! فقال له: عليك عهد الله وميثاقه إن رفعت الرمح عن ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! قال: نعم. فرفع التميمي سنانه ورفع يزيد سنانه، فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب يزيد على ابن الطفيل، فقال له:
ألم ترني حاميت عنك مناصحاً ... بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى ... على سابحٍ ذي ميعةٍ وهزيم
وخرج رجل من آل عك من أهل الشام يسأل المبارزة، فبرز إليه قيس ابن فهدان الكندي فحمل عليه وتجاولا ساعة ثم طعنه عبد الرحمن فقتله، وقال:
لقد علمت عكٌّ بصفين أننا ... إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها ... فنوردها بيضاً ونصدرها حمرا
وخرج قيس بن يزيد، وهو ممن فر إلى معاوية، فخرج إليه أبو العمرطة ابن يزيد فتعارفا فتوافقا ثم انصرفا وأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه. وقاتلت طيء يومئذ قتالاً شديداً فعبيت لهم جموع، فأتاهم حمرة بن مالك الهمداني فقال: من القوم؟ فقال له عبد الله بن خليفة، وكان شيعياً شاعراً خطيباً: نحن طيء السهل وطيء الرمل وطيء الجبل الممنوع ذي النخل، نحن طيء الرماح وطيء البطاح فرسان الصباح. فقال حمرة بن مالك: إنك لحسن الثناء على قومك. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فناداهم: يا معشر طيء، فدى لكم طارفي وتالدي! قاتلوا على الدين والأحساب. وحمل بشر بن العسوس فقاتل، ففقئت عينه يومئذ، فقال في ذلك:
ألا ليت عيني هذه مثل هذه ... ولم أمش في الأحياء إلا بقائد
ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ... ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
ويا ليتني لم أبق بعد مطرفٍ ... وسعدٍ وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ... إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
وقاتلت النخع يومئذ قتالاً شديداً، فأصيب منهم حيان وبكر ابنا هوذة، وشعيب بن نعيم، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي أخو علقمة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل علقمة يومئذ، فكان يقول: ما أحب أن رجلي أصح مما كانت، وإنها لمما أرجو بها الثواب وحسن الجزاء من ربي. قال: ورأيت أخي في المنام فقلت له: ماذا قدمتم عليه؟ فقال لي: إنا التقينا نحن والقوم عند الله تعالى فاحتججنا فحججناهم،فما سررت بشيء سروري بتلك الرؤيا، وكان يقال لأبي ابي الصلاة لكثرة صلاته. وخرجت حمير في جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، ومقدمهم ذو الكلاع، ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عباس على الميسرة، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله بن عمر وقال: يا أهل الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي. فشدوا على الناس شدةً عظيمة، فثبتت ربيعة وصبروا صبراً حسناً إلا قليلاً من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالاً حسناً، وانهزم خالد بن المعمر مع من انهزم، وكان على ربيعة، فلما رأى أصحاب الرايات قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فرجعوا، وكان خالد قد سعي به إلى علي أنه كاتب معاوية، فأحضره علي ومعه ربيعة فسأله علي عما قيل، وقال له: إن كنت فعلت ذلك فالحق بأي بلد شئت لا يكون لمعاوية عليكم حكم. فأنكر ذلك.

وقالت ربيعة: يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل ذلك لقتلناه، فاستوثق منه علي بالعهود، فلما فر اتهمه بعض الناس واعتذر هو بأني لما رأيت رجالاً منا قد انهزموا استقبلتهم لأردهم إليكم فأقبلت بمن أطاعني إليكم. ولما رجع إلى مقامه حرض ربيعة فاشتد قتالهم مع حمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت بينهم القتلى فقتل سمير بن الريان العجلي، وكان شديد البأس، وأتى زياد ابن عمر بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم، فأتت عبد القيس بني بكر فقاتلوا معهم فقتل ذو الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر، قتله محرز بن الصحصح من تيم الله بن ثعلبة من أهل البصرة، وأخذ سيفه ذو الوشاح، وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه منه، وقيل: بل قتله هانىء بن خطاب الأرحبي، وقيل: قتله مالك بن عمرو التنعي الحضرمي.
وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته. والله إني لأرى قوماً ليضربنكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة، فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا اتباعهم وإن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، فبلغوا ما ترون، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المرقال، وكان صاحب راية علي، وكان أعور، فقال: يا هاشم أعوراً وجبناً؟ لا خير في أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم؛ فركب ومضى معه وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلاً ... قد عالج الحياة حتى ملا
لابد أن يفل أو يفلا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت السماء وتزينت الحور العين. اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له: يا عمرو بعت دينك بمصر، تباً لك! فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان. قال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك، لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى. ثم قاتل عمار فلم يرجع وقتل.
وقال حبة بن جوين العرني: قلت لحذيفة بن اليمان: حدثنا فإنا نخاف الفتن. فقال: عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن)، وهو الممزوج بالماء من اللبن. قال حبة: فشهدته يوم قتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا، فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال: اليوم ألقى الأحبة. محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قتل، قتله أبو الغازية، واحتز رأسه ابن حوي السكسكي؛ وقيل قتله غيره.

وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمار بن ياسر: (تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن)، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو؟ فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية، وأصيب عمار بعده مع علي، فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي. فأتى جماعةٌ إلى معاوية كلهم يقول: أنا قتلت عماراً. فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوي فقال: أنا قتلته فسمعته يقول: اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه. فقال له عمرو: أنت صاحبه، ثم قال: رويداً والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
قيل: إن أبا الغازية قتل عماراً عاش إلى زمن الحجاج ودخل عليه فأكرمه الحجاج وقال له: أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عماراً. قال: نعم. فقال: من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية، ثم سأله أبو الغازية حاجته فلم يجبه إليها، فقال: نوطىء لهم الدنيا ولا يعطونا منها ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة! فقال الحجاج: أجل والله من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل جبل ورقان ومجلسه مثل المدينة والربذة إنه لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أن عماراً قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار.
وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا وتحدثنا إليهم، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون، فقال عبد الله لأبيه: يا أبه قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما قال، قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (ويحك يا ابن سمية، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية). فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم.
فلما قتل عمار قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفاً وتقدمهم علي على بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقول:
أقتلهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه
ثم نادى معاوية فقال علي: علام يقتل الناس بيننا؟ هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفك. فقال له معاوية: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال له عمرو: ما يحسن بك ترك مبارزته. فقال له معاوية: طمعت فيها بعدي! وكان أصحاب علي قد وكلوا به رجلين يحافظانه لئلا يقاتل، وكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى انثنى سيفه فألقاه إليهم وقال: لولا أنه أنثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش لأبي عبد الرحمن: هذا والله ضرب غير مرتاب. فقال أبو عبد الرحمن: سمع القوم شيئاً فأدوه ما كانوا بكاذبين.
وأسر معاوية جماعةً من أصحاب علي، فقال له عمرو: اقتلهم. فقال عمرو ابن أوس الأودي: لا تقتلني فإنك خالي. قال: من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود مصاهرة؟ قال: إن أخبرتك فهو أماني عندك؟ قال: نعم. قال: أليست أختك أم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: فإني ابنها وأنت أخوها فأنت خالي. فقال معاوية: ما له لله أبوه! أما كان في هؤلاء من يفطن لها غيره؟ وخلى سبيله، وكان قد أسر علي أسارى كثيرة فخلى سبيلهم، فجاؤوا معاوية وإن عمراً ليقول له وقد أسر أيضاً أسارى كثيرة: اقتلهم، فلما وصل أصحابهم قال معاوية: يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسارى لوقعنا في قبيح من الأمر؛ وخلى سبيل من عنده.

وأما هاشم بن عتبة فإنه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي! فأقبل إليه ناس كثير، فحمل على أهل الشام مراراً ويصبرون له، وقاتل قتالاً شديداً وقال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق. ثم حرض أصحابه وحمل في عصابة من القراء فقاتل قتالاً شديداً حتى رأوا بعض ما يسرون به، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم شاب وهو يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان ... والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان ... أن علياً قتل ابن عفان
ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن. فقال له هاشم: يا هذا إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني قاتلكم لأن صاحبك لا يصلي وأنتم لا تصلون، وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله. فقال له هاشم: ما أنت وعثمان، قتله أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبناء أصحابه وقراء الناس، وهم أهل الدين والعلم، وما أهمل أمر هذا الدين طرفة عين. وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فإنه أول من صلى وافقه خلق الله في دين الله وأولى بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأما كل من ترى معي فكلهم قارىء لكتاب الله لا ينام الليل تهجداً، فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء. فقال الفتى: فهل لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فرجع الفتى، فقال له أهل الشام: خدعك العراقي. فقال: كلا ولكن نصح لي. وقاتل هاشم وأصحابه قتالاً شديداً حتى رأوا الظفر، فأقبلت عليهم عند المغرب كتيبة لتنوخ، فقاتلهم هاشمٌ وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلا ... لابد أن يفل أو يفلا
قد عالج الحياة حتى ملا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحرث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط، فأرسل إليه علي أن قدم لواءك. فقال لرسوله: انظر إلى بطني، فإذا هو قد انشق. فقال الحجاج بن غزية الأنصاري:
فإن تفخروا بابن البديل وهاشمٍ ... فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
ونحن تركنا عند معترك القنا ... أخاك عبيد الله لحماً ملحبا
ونحن أحطنا بالبعير وأهله ... ونحن سقيناكم سماماً مقشبا
ومر علي بكتيبة من أهل الشام فرآهم لا يزولون، وهم غسان، فقال: إن هؤلاء لا يزولون إلا بطعنٍ وضربٍ يفلق الهام ويطيح العظام تسقط منه المعاصم والأكف وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر طلاب الأجر؟ فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمداً فقال له: تقدم نحو هذه الراية مشياً رويداً على هينتك حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك حتى يأتيك أمري. ففعل وأعد لهم علي مثلهم وسيرهم إلى ابنه محمد وأمره بقتالهم، فحملوا عليهم فأزالوهم عن مواقفهم وأصابوا منهم رجالاً. ومر الأسود بن قيس المرادي بعبد الله بن كعب المرادي وهو صريع، فقال عبد الله: يا أسود! قال: لبيك! وعرفه وقال له: عز علي مصرعك. ثم نزل إليه وقال له: إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً، أوصني رحمك الله. فقال: أوصيك بتقوى الله وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين حتى تظهر أو تلحق بالله، وأبلغه عني السلام وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من اصبح غداً والمعركة خلف ظهره كان العالي، ثم لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره، فقال: رحمه الله، جاهد عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة. وقيل: إن الذي أشار على أمير المؤمنين علي بهذا عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي.

قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلها إلى الصباح، وهي ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح، وتراموا حتى نفد النبل وأخذوا السيوف، وعليٌّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ويأمر كل كتيبة أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون من كل جانب، وذلك يوم الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ويقول لأصحابه: ازحفوا قيد هذا الرمح، ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك بهم قال: ازحفوا قيد هذه القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام. فلما رأى الأشتر ذلك قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم! ثم دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي وخرج يسير في الكتائب ويقول: من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه ناس كثير فيهم حيان بن هوذة النخعي وغيره. فرجع إلى المكان الذي كان فيه وقال لهم: شدوا شدة، فدىً لكم خالي وعمي، ترضون بها الرب وتعزون بها الدين! ثم نزل وضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته: اقدم بها، وحمل على القوم وحملوا معه، فضرب أهل الشام حتى اتهى بهم إلى عسكرهم، ثم قاتلوه عند العسكر قتالاً شديداً، وقتل صاحب رايته. ولما رأى علي الظفر من ناحيته أمده بالرجال، فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه: أتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال: كالأشقر إن تقدم وإن تأخر عقر، لئن تأخرت لأضربن عنقك. قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت، ضع يدك على عاتقي؛ ثم جعل يتقدم ويتقدم ويقول: لأوردنك حياض الموت، واشتد القتال.

رفع المصاحف
فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله، عز وجل، بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعةً ووهناً ومكيدةً. فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فتأبى أن نقبله! فقال لهم علي: فإني إنما أقاتلهم ليدينوا الحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب إلى كتاب الله، عز وجل، إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان! قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم. قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث عليٌّ يزيد بن هانىء إلى الأشتر يستدعيه. فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إنني قد رجوت أن يفتح الله لي! فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال لعي: هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك! فقال له: ويلك يا يزيد! قل له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة! إنها مشورة ابن العاهر! ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء، وانصرف عنهم. فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل؟ قال: لا والله، سبحان الله! فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه؟ فأمهلوني فاقاً فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فخبروني عنكم متى كنتم محقين؟ أحين تاقتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله وندع قتالهم لله! قال: خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحاً يا أشباه النيب الجلالة! ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه وسبهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه فصاح به وبهم علي فكفوا. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً.

فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: ائته. فأتاه، فقال لمعاوية: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به ونبعث نحن رجلاً نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه. قال له الأشعث: هذا الحق. فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عمراً. وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: إنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، لا أرى أن أولي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد ابن حصين ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه. قال علي: فإنه ليس بثقة، قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس! لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء. قال علي: فإني أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ فقال: قد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم.
فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض، فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال: الحمد لله. قال: قد جعلوك حكماً. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر، وجاء الأشتر علياً فقال: ألزني بعمرو بن العاص فوالله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. وجاء الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض وإني قد عجمت أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكماً فاجعلني ثانياً أو ثالثاً، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحل عقدة أعقدها لك إلا عقدت أخرى أحكم منها.
فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب. فقال الأحنف: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب القضية بحضوره، فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك علي ملياً من النهار، ثم إن الأشعث ابن قيس قال: امح هذا الاسم، فمحي، فقال علي: الله أكبر! سنة بسنة. والله إني لكاتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية فكتبت: محمد رسول الله، وقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال: أرنيه، فاريته، فمحاه بيده وقال: إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال علي: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرادها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.

وشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني ووقاء بن سمي البجلي وعبد الله بن محل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الطفيل العامري وعقبة بن زياد الحضرمي ويزيد بن حجية التميمي ومالك بن كعب الهمداني، ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري وحمرة ابن مالك الهمداني وعبد الرحمن بن خالد المخزومي وسبيع بن يزيد الأنصاري وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحر العبسي.
وقيل للأشتر ليكتب فيها، فقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خط لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أولست على بينة من ربي من ضلال عدوي، أولستم قد رأيتم الظفر؟ فقال له الأشعث: والله ما رأيت ظفراً، هلم إلينا لا رغبة بك عنا. فقال: بلى والله، الرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ولا أحرم دماً. قال: فكأنما قصع الله على أنف الأشعث الحمم. وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلا لله! ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربةً خفيفة واندفعت الدابة، وصاح به أصحاب الأشعث، فرجع، وغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى إليه الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي وناس من تميم فاعتذروا، فقبل وشكر.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، واتفقوا على أن يوافي أمير المؤمنينعلي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان. وقيل لعلي: إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم. فقال علي: وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر الله، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك فلست أخاف على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي ما أرى إذاً لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم، وقد نهيتكم فعصيتموني، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
والله لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوةً وأسقطت منةً وأورثت وهناً وذلةً، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ويقطعوا الحرب ويتربصوا بكم المنون خديعةً ومكيدةً، فأعطيتموهم ما سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا، وايم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم.
ثم رجع الناس عن صفين، فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت، كان ذلك أول ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البر، وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله، ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا.

وساروا حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، فإذا بشيخ في ظل بيت عليه أثر المرض، فسلم عليه أمير المؤمنين، فرد رداً حسناً، فقال له علي: أرى وجهك متغيراً، أمن مرض؟ قال: نعم. قال: لعلك كرهته. قال: ما أحب أنه بغيري. فقال: أليس احتساباً للخير فيما أصابك؟ قال: بلى. قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟ قال: صالح ابن سليم. قال: ممن أنت؟ قال: أما الأصل فمن سلامان طيء، وأما الدعوة ولاجوار ففي سليم بن منصور. فقال: سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه واسم ادعائك! هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا والله ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر الحمى منعني عنها. فقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) التوبة: 91 الآية، خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المسرور، وهم أغشاء الناس، وفيهم المكبوت الآسف بما كان بينك وبينهم، وأولئك نصحاء الناس لك. قال: صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطاً لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع على العبد ذنباً إلا حطه، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل، وإن الله، عز وجل، ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالماً من عباده الجنة. ثم مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره، فقال له: ما سمعت الناس يقولون إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه، فمتى يبني ما هدم ويجمع ما فرق؟ ولو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم. قال علي: أنا هدمت أم هم هدموا؟ أنا فرقت أم هم فرقوا؟ أما قولهم: لو كان مضى بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك، فوالله ما خفي هذا عني، وإن كنت لسخياً بنفسي عن الدنيا طيب النفس بالموت، ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني، يعني الحسن والحسين، ونظرت إلى هذين قد استقدماني، يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي، فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من هذه الأمة وكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار.
ثم مضى وإذا على يمينه قبور سبعة أو ثمانية فقال علي: ما هذه؟ فقيل: يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك وأوصى بأن يدفن في الظهر، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، وكان أول من دفن بظاهر الكوفة ودفن الناس إلى جنبه، فقال علي: رحم الله خباباً فلقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، ووقف عليها وقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات! أنتم لنا سلفٌ فارط ونحن لكم تبعٌ وبكم عما قليل لاحقون! اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم! طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله، عز وجل! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين فسمع البكاء فقال: ما هذه الأصوات؟ فقيل: البكاء على قتلى صفين. فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابراً محتسباً بالشهادة. ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك، ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له علي: أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟ قال: يا أمير المؤمنين لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا وفيها البكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي ولكنا نفرح بالشهادة. قال علي: رحم الله قتلاكم وموتاكم! فأقبل يمشي معه وعلي راكب، فقال له عليك ارجع، ووقف ثم قال له: ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن. ثم مضى حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية، فسمع بعضهم يقول: والله ما صنع علي شيئاً، ذهب ثم انصرف في غير شيء، فلما رأوا أبلسوا، فقال علي لأصحابه: وجوه قوم ما رأوا الشام. ثم قال لأصحابه: قوم فارقناهم آنفاً خير من هؤلاء. ثم قال:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمةٌ ... من الدهر لم يبرح لبثك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك الأمور ظل لحاك لائما

ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر. فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوراج معه فأتوا حروراء فنزلوا بها. وقتل أويس القرني بصفين، وقيل: بل مات بدمشق، وقيل: بأرمينية، وقيل: بسجتسان. وفيها قتل جندب ابن زهير الأزدي، وهو من الصحابة، مع علي، وقتل بصفين أيضاً حابس ابن سعد الطائي مع معاوية، وهو خال يزيد بن عدي بن حاتم، فقتل يزيد قاتله غدراً، فأراد عدي إسلامه إلى أولياء المقتول فهرب إلى معاوية. وممن شهد صفين مع علي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ولم يقاتل، فلما قتل عمار ابن ياسر جرد سيفه وقاتل حتى قتل، وقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (تقتل عماراً الفئة الباغية)، وقتل مع علي سهيل ابن عمرو بن أبي عمر الأنصاري، وهو بدري. وممن شهد وقتل فيها مع علي من المهاجرين خالد بن الوليد، وله صحبة.
شريح بن هانىء بضم الشين، وآخره حاء مهملة. الهمداني بفتح الهاء، وسكون الميم، وفتح الدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن. حمرة بن مالك بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، وآخره راء. حضين بن المنذر بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة. يريم بفتح الياء تحتها نقطتان، وكسر الراء، وسكون الياء الثانية، وآخره ميم. بديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة. حازم بن أبي حازم بالحاء المهملة. حبة بن جوين بفتح الحاء المهملة، والباء المشددة الموحدة. والعرني بضم العين المهملة، وفتح الراء، وآخره نون.
ذكر استعمال جعدة بن هبيرة على خراسان
وفي هذه السنة بعث علي جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان بعد عوده من صفين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا، فرجع إلى علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو.
ذكر اعتزال الخوارج علياً ورجوعهم إليه
ولما رجع علي من صفين فارقة الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أوياء من واليت وأعداء من عاديت. فقالت الخوارج: استبقم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) النساء: 35، فكيف بأمة محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: (يحكم به ذوا عدلٍ منكم) المائدة: 95. فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتاباً وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
وبعث علي زياد بن النضر فقال: أنظر بأي رؤوسهم هم أشد إطافة. فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس.

فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم، فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فصلى فيه ركعتين وأمره على أصبهان والري، ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس فقال: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقامٌ من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا. قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين. قال: أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا باصحاب دين؟ وذكر ما كان قاله لهم، ثم قال لهم: قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله. فدخلوا من عند آخرهم.
قيل: والخوارج يزعمون أنهم قالوا له: صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفراً منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون. فبايعنا علي وقال: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا. وقد كذب الخوارج فيما زعموا.

This site was last updated 06/09/11