المصرى اليوم تاريخ العدد الخميس ٢٨ مايو ٢٠٠٩ عدد ١٨١٠ بقلم حلمى النمنم
ما بعد «عزازيل»
تفتقد جامعاتنا مركزاً أو معهداً للدراسات القبطية، يتناول بأسلوب علمى تماماً جميع القضايا المسكوت عنها، تجاهلاً أو تخوفاً، من البحث العلمى وما يمكن أن يقود إليه، ولنعترف صراحة بأن سبب التجاهل والتخوف يعود إلى بعض الأيديولوجيات ذات الطابع الدينى، بين المسلمين من يتصور أن دراسة هذه الفترة والتخصص العلمى يمثل جرحاً أو اعتداء على مفهومنا السائد عن الفتح العربى لمصر، وبعض المسيحيين يفهمون أن تلك الدراسة تعنى العودة بالمجتمع المصرى وثقافته إلى المرحلة القبطية، وكلا الموقفين بينهما تشابه، وكلاهما يحمل قدراً كبيراً من سوء الفهم وربما الجهل..
فتاريخ مصر فى مرحلة معين هو ملك لجميع المصريين، يجب أن ندرسه ونتعلم منه، والأهم أن نعتز به، وأتصور أن جانباً غير قليل من الاحترام الطائفى فى مصر سببه أننا نجهل تلك الفترة بما لها وما عليها، ومعظم ما لدينا عنها لا يخرج عن كونه بعض أساطير أو فولكلوراً شائعاً، لا يقدم فكرة ولا رأياً متماسكاً.
وهذا الجهل مرده أن جامعاتنا، خاصة أقسام التاريخ بها، لم تقم بما ينبغى عليها القيام به، من دراسة وتدريس تاريخ مصر القبطية، اعتماداً على أنها تدرس ضمن تاريخ مصر الرومانية، رغم أن الجامعات الكبرى فى العالم، لم تعد تعمل بهذا التصنيف.
لقد امتدت الحقبة القبطية إلى القرن الثانى الهجرى، حين بدأ تعريب الدواوين فى مصر، وأخذت العربية تنتشر بين المصريين، وسادت فى القرن الرابع الهجرى، وأظن أنه دون دراسة الحقبة أو المرحلة القبطية، لن نتمكن جيداً من دراسة وفهم دخول اللغة والثقافة العربية فى مصر، حتى صارت مصر إلى اليوم حاملة هذه الثقافة ورائدتها، وليس من اللائق علمياً، وأقول وطنياً وقومياً، أن تكون لدينا أقسام للدراسات الكلاسيكية «يونانية ولاتينية» وأقسام لدراسة اللغات الصينية واليابانية والروسية، فضلاً عن العبرية والفارسية والأردية، بينما نتجاهل لغة أو لهجة المصريين فى مرحلة طويلة من تاريخها.
أعرف أن الكنيسة القبطية لديها معاهدها المتخصصة، ونحن لا نُريد دراسة كنسية لتلك الحقبة ولا فهماً لاهوتياً لها، فلنترك ذلك لأهله، لكننا نفتقد دراسة علمية مدنية تعتمد المناهج العلمية الحديثة، ولا تستبعد آراء أو أفكاراً معينة بدعوى أنها علمانية أو وثنية، وإذا لم تقم جامعاتنا بهذا الدور، فسوف تبقى مقصِّرة فى حق مصر وأبنائها وثقافتها، وفى حق العلم والمعرفة والبحث العلمى، وفى حق رسالتها والهدف من إنشائها.. كل الجامعات، بلا استثناء، من القاهرة وعين شمس والإسكندرية إلى جامعة جنوب الوادى، وكذلك الجامعات الخاصة.
أطالب مجدداً وزير التعليم العالى د.هانى هلال، والمجلس الأعلى للجامعات، والسادة رؤساء الجامعات، بالعمل سريعاً على تجاوز هذا القصور العلمى والأكاديمى، أعرف أن هناك اقتراحات سابقة بذلك من بعض المتخصصين، وتمت إزاحتها فى أروقة المجلس الأعلى للجامعات.
أصدر الأنبا بيشوى كتاباً فى الرد على رواية د. يوسف زيدان «عزازيل»، نيافة الأنبا اعتبر «عزازيل» أخطر كتاب صدر ضد المسيحية والكنيسة المصرية، وتناول عدة قضايا يعرفها الدارس المتخصص، ومختلف عليها بين العلماء، مثل قضية مقتل فيلسوفة الإسكندرية هيباتيا،
ومن درس تاريخ الفلسفة يجد لدى أغلبية الدارسين أن هيباتيا قتلت بتحريض الرهبان ورجال الكنيسة فى الإسكندرية، وهو ما جاء فى الرواية، حيث نسبت «عزازيل» إلى كيرلس عمود الدين القيام بالتحريض، المراجع الكنسية ترفض ذلك على النحو الذى ورد فى رد الأنبا بيشوى، صحيح أن الذين قتلوها كانوا مسيحيين، لكنه يرى أن ذلك تم لدوافع سياسية وبتحريض سياسى، أما الكنيسة فلا علاقة لها بتلك الجريمة.
لا أريد هنا مناقشة تلك القضية وغيرها من القضايا التى انطوت عليها «عزازيل» ومآخذ الأنبا بيشوى وغيره من رجال الكنيسة عليها، لكن الرواية والجدل الذى أثارته يثيران قضية سبق أن تناولتها هنا، على هذه الصفحة، وهى أن تاريخ مصر فى المرحلة القبطية مجهول للكثيرين منا، من درس الفلسفة مثلى تعرض لها خلال تناول الفلسفة الهلينستية فى مكتبة الإسكندرية القديمة، ومن تخصص فى التاريخ عبر عليها، وهو يتناول تاريخ مصر الرومانية، قبل الفتح العربى،
ومن يبحث فى الآثار سوف يصطدم بها من خلال بعض المعابد الفرعونية التى غُطيت رموزها القديمة وتحولت إلى أديرة، وكما ترى فهى جزئيات متناثرة ومشتتة، ربما لا تغطى الصورة كاملة.. وهذا يقودنا إلى إعادة المطالبة بتأسيس مركز للدراسات القبطية، يجمع كل هذه الأمور والجوانب المتعلقة بتلك الحقبة العزيزة فى تاريخ مصر، ولا يليق أن تكون جامعات فى ألمانيا والولايات المتحدة بها مراكز من هذا النوع ولا يوجد فى جامعة واحدة بمصر مركز متخصص فى الدراسات القبطية.