Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

ن

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس ستجد تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 3000 موضوع مختلف

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
New Page 3298
New Page 3299
كتاباًً لا تضلوا بعده

Hit Counter

 

#


الفصل الأول: المرحلة الأولى لجمع القرآن

1 - تطور القرآن في عهد محمد

إن أي بحث في موضوع جمع القرآن يجب أن يبدأ بالنظر في مميزات الكتاب نفسه كما بلَّغه محمد إلى أصحابه. فالقرآن لم يُبَلَّغ أو يوحى به مرة واحدة كما يعتقد المسلمون بل جاء على أجزاء خلال فترة من الزمن دامت 23 سنة امتدت منذ أن بدأ محمد يدعو إلى الإسلام في مكة سنة 610 ميلادية وحتى وفاته في المدينة المنورة سنة 632 ميلادية. ففي القرآن نفسه نجد:
قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا[2]

وأيضًا، لم تصلنا لا من محمد ولا من أصحابه أية معلومات عن الترتيب الزمني للفقرات حيث أنه حين بُدِءَ في جمعها على شكل سور لم يؤخد بعين الاعتبار لا الموضوع ولا التسلسل من حيث النزول. كل العلماء المسلمون يُقِرُّون بأن جل السور وخاصةً الطويلة منها هي خليط من المقاطع التي ليست بالضرورة متصلة ببعضها البعض حسب التسلسل الزمني. مع مرور الوقت أصبح محمد يقول لكُتَّابه : "ضعوا أية كذا في موضع كذا"[3]، وهكذا أصبحت تضاف إلى الأجزاء التي كانت مجموعة آنذاك مقاطع أخرى إلى أن أصبحت سورة مكتملة. بعض هذه السور كانت لها أسماء في عهد محمد كما يتبين لنا من خلال الحديثين النبويين التاليين:

من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[4]
من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال[5]

وفي نفس الوقت، هناك دلائل على وجود سُوَرٍ لم يعطها محمد أية أسماء. فسورة الإخلاص (رقم 112) على سبيل المثال، لم يُسَمِّها محمدٌ على الرغم من أنه تكلم عنها مُطَوَّلاً وذكر أنها تساوي ثلث القرآن[6].
وحين صارت الآيات القرآنية تتكاثر أصبح أصحاب محمد يكتبون بعضًا منها ويحفظون البعض الآخر عن ظهر قلب. فمن الظاهر أن الحفظ كان يشكل الطريقة الرئيسية للحفاظ على نص القرآن لأن كلمة "قرآن" تعني "القراءة"، ولأن أول كلمة قال محمد إنها نزلت عليه حين حصلت له رؤيا جبريل في غار حراء كانت كلمة "إقرأ"[7] فكانت القراءة الشفهية ذات قيمة عالية وكانت جد متداولة بين الناس. ومع كل هذا ففي القرآن نفسه ما يدل على أنه دوَّنٌ كِتابيًا كما تشهد الآية التالية:
في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي كرام بررة[8]

هناك أيضًا حجج على أن أجزاءًا مما كان موجودًا من القرآن في المرحلة المكية قد كتب آنذاك. هناك رواية تحكي أن عمر بن الخطاب حين كان لا يزال كافرًا ضرب أخته في بيتها بمكة حين سمعها تقرأ بعض القرآن فلما رأى ما أصابها من الدم قال لها:

اعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد[9]

وحين قرأ قسطًا من سورة طه[10] التي كانت أخته وزوجها يقرآنها قرر الدخول في الإسلام. مع هذا يتضح لنا أن الحفظ كان هو المنهج السائد إلى حين وفاة محمد وكانت تعطى له أهمية أكبر. ففي الحديث النبوي ما يدل على أن جبريل كان يحقق ويراجع القرآن مع محمد كل سنة خلال شهر رمضان وفي السنة الأخيرة راجعه معه مرتين. عن فاطمة ابنة محمد جاء:

أسر النبي صلعم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي[11].

لقد كان بعض الصحابة المقربين من محمد يكرسون كل جهدهم لتعلم القرآن حفظًا عن ظهر قلب. من بين هؤلاء نجد من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد وأبو الدرداء[12] بالإضافة إلى مجمع بن جارية الذي قيل أنه لم يحفظ إلا بضعة سور في حين كان عبد الله بن مسعود، وهو من المهاجرين ومن أوائل الصحابة، يحفظ أزيد من تسعين سورة من بين السور المائة وأربعة عشر التي يحتويها القرآن وتعلم البقية من مجمع (بن سعد كتاب الطبقات الكبير مجلد 2)[13].
لا تتوفر لدينا أية معلومات كافية عن مقدار ما تمت كتابته من نص قرآني في عهد محمد. وبالتأكيد ليس هنالك أي دليل على أن مجموع القرآن قد كتب آنذاك في مصحف واحد سواء تحت الإشراف المباشر لمحمد أو غيره. من خلال المعلومات التي تتوفر لدينا حول جمع القرآن بعد وفاة محمد (سنستعرضها لاحقًا) نستنتج أن القرآن لم يتم أبدًا وضعه في مصحف واحد في عهد محمد. توفي هذا الأخير فجأة سنة 632 ميلادية بعد مرض لم يدم طويلاً وبوفاته اكتمل القرآن وانقضى نزوله ولم يعد من الممكن إضافة آيات أخرى إليه نظرًا لانتهاء نبوة محمد. حين كان لا يزال على قيد الحياة كانت هناك دائمًا إمكانية نزول أجزاء جديدة من القرآن ولهذا لم يكن من اللائق جمع النص في كتاب واحد، وهو أيضًا ما يفسر كون القرآن بقي مفرقًا بين ما في ذاكرة بعض الناس وما في مختلف المواد التي كان مكتوبًا عليها وقت وفاة النبي.

سنرى فيما بعد أنه بشهادة القرآن نفسه كان من الوارد نسخ بعض الآيات خلال فترة النزول (بالإضافة إلى ما تم نسخه من قبل) وهذا ما حال دون جمع النص في كتاب واحد ما دامت إمكانية نسخه قائمة.

إضافة إلى كل هذا يظهر لنا أنه لم تكن هناك سوى نزاعات قليلة حول نص القرآن فيما بين الصحابة حين كان محمد لا يزال على قيد الحياة، خلافًا لما سيحدث بعد موته. إن كل هذه العوامل تفسر غياب نص قرآني رسمي وموحد وقت وفاته. إن إمكانية نسخ أجزاء من القرآن واحتمال نزول آيات جديدة - لا يوجد في القرآن ما يدل على تمامه أو على استحالة نزول آيات جديدة - حالا دون محاولة جمعه خلافًا لما قام به أصحاب محمد بعد وفاته. يتبين كذلك أن الآيات القرآنية صارت تنزل على محمد بشكل مكثف قبيل وفاته ولذلك لم يكن ممكنًا جمعها.

حدَّثنا عَمْرُو بن محمد حدَّثنا يعقوب بن إِبراهيم حدَّثنا أَبي عن صالح بن كَيْسَانَ عن ابن شهاب قال أَخْبَرني أنس بن مالك رضي اللَّهم عنهم أنَّ اللَّه تعالى تابع على رسوله صَلَّى اللَّهم عليه وسلَّم الوحي قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثمَّ توفِّي رسول اللَّه صلَّى اللَّهم عليه وسلَّم بعد[14].

عند نهاية المرحلة الأولى التي مر بها القرآن نجد أن محتواه كان موزعًا بشكل واسع في ذاكرات الناس، بينما كانت بعض أجزاءه مكتوبة على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. لكن لم يكن هنالك أي نص موحد أمر به للأمة الإسلامية. لقد ذكر السيوطي أن القرآن قد كتب كله في عهد محمد وبقي محافظًا عليه بعناية بالغة لكنه لم يجمع في موضع واحد قبل موته[15] وقيل إنه كان متوفرًا بأكمله مبدئيًا (في ذاكرة الصحابة وأيضًا على شكل مكتوب). أما التسلسل النهائي للسور فقد قيل إن محمد قد أمر به شخصيًا.

2 - أول جمع للقرآن في عهد أبي بكر

إذا كان محمد قد ترك بالفعل نصًا كاملاً ومجموعًا كما يزعم العلماء المسلمون[16] فلماذا كانت هناك حاجة إلى جمعه بعد وفاته؟ لقد كان فعلاً من المنطقي أن لا تبدأ عملية الجمع إلاّ بعد أن تنتهي الرسالة بموت الرسول. الرواية الشائعة حول جمع القرآن في أول الأمر تنسب هذا العمل إلى زيد بن ثابت الذي كان من بين الصحابة الذين كانت لهم دراية عميقة بالقرآن.

سنرى فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على أن صحابة آخرون قاموا هم كذلك بجمع القرآن في المصاحف بشكل مستقل عن زيد وذلك بعد وفاة محمد بفترة وجيزة. لكن المشروع الأكثر أهمية هو ذلك الذي قام به زيد لأنه تم بأمر رسمي من أبي بكر أول خليفة في الإسلام. كتب الحديث النبوي أعطت أهمية بالغة لهذا الجمع الذي قام به زيد بن ثابت والنص الذي نتج عنه هو الذي أصبح ذا طابع رسمي خلال خلافة عثمان.

بعد وفاة محمد مباشرة ارتدت بعض القبائل العربية عن الإسلام بعدما كانت قد اعتنقته قبل مدة قصيرة. على إثر هذا اضطر أبو بكر إلى إرسال جيش مكون من أوائل المسلمين لإخضاعها. فقامت معركة اليمامة التي سقط فيها العديد من صحابة محمد الأقربون الذين أخذوا القرآن مباشرة من عنده. والحديث التالي يصف لنا ما حدث بُعيد هذه الأحداث:

حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي اللهم عنهمما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم[17].

انتهى الأمر بزيد بن ثابت إلى قبول الفكرة مبدئيًا بعد إقناع أبي بكر وعمر إياه بضرورة الأمر. وقبل أن يجمع القرآن في كتاب واحد. يتضح جليًا من خلال هذه الرواية أن جمع القرآن كان أمرا لم يقم به "رسول الله".

وتردد زيد إزاء المهمة التي أسندت إليه كان سببه من جهة كون محمد نفسه لم يهتم بجمع القرآن، ومن جهة أخرى ضخامة المشروع. ما يدل على أن المهمة لم تكن بالسهلة بتاتًا. فإذا كان زيد يحفظ القرآن جيدًا ويعرفه بأكمله عن ظهر قلب ولا يجهل أي جزء منه وإذا كان عدد من الصحابة يتوفرون كذلك على مقدرة هائلة في مجال الحفظ والإستظهار فإن عملية جمع القرآن لن تكون إلا سهلة (خلافًا لما جاء في حديث البخاري المذكور أعلاه). فلم يكن على زيد إلا أن يكتب ما كان يحفظ من القرآن في ذاكرته ويطلب من الصحابة أن يضبطوا ما كتب. يزعم ديزاي وبعض الكتاب الأخرون أن كل الحفاظ من أصحاب محمد كانوا يعرفون القرآن بأكمله عن ظهر قلب، كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا. وذهب ديزاي بعيدًا في مزاعمه حين قال إن هذه القدرة الهائلة على حفظ القرآن هي موهبة إلهية :

إن قوة الذاكرة ملكة وهبها الله للعرب لدرجة أنهم كانوا يحفظون الآلاف من أبيات الشعر ببالغ السهولة. الاستعمال الكامل لهذه الموهبة هو ما مكن من حفظ القرآن وصيانته من الضياع[18].

يذهب بعد هذا إلى وصف استظهار القرآن بأنه "قوة حفظ ذات طبيعة إلهية". والنتيجة المنطقية لهذا الزعم هي أن جمع القرآن كان من أسهل الأمور. فإذا كان زيد والقراء الآخرون يعرفون القرآن بكامله حتى آخر كلمة منه بدون أي غلط أو نقصان وبرعاية ربانية - هذا ما يدعيه العلماء المسلمون - فمن غير المعقول أن نجده - أي زيد - يقوم بجمع القرآن بالشكل الذي فعله؛ حيث، عوضًا عن أن يعتمد فقط على ذاكرته مباشرة نجده يبحث عن النصوص في مختلف المصادر: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم"[19].

لقد رأينا سابقًا أن القرآن كان وقت وفاة محمد مفرقًا بين ما كان في ذاكرة الصحابة وما كان مكتوبًا على مختلف المواد التي كانت تستعمل آنذاك في الكتابة. إلى هذه المصادر لجأ الصحابي الشاب حين كان يُعِد لجمع القرآن في مصحف واحد. والمصدران الرئيسيان من بين المصادر التي ذكرت هما "الرقاع" و"صدور الرجال"[20]. لم يعتمد زيد على ذاكرة الناس فقط بل اعتمد كذلك على ما كان مكتوبًا أيّ كانت طريقة كتابته (اللخاف أي الحجارة الرقاق الخ..)، والتجأ إلى كثير من الصحابة وإلى جميع المواد التي كانت أجزاء من القرآن مكتوبة عليها. لم يكن هذا تصرف شخص يعتقد أن الله وهبه ذاكرة خارقة للعادة يمكنه الاعتماد عليها كليًا في مهمته بل تصرف ككاتب نبيه كان يريد جمع القرآن من جميع المصادر الممكنة. كان هذا تصرف رجل يعي كل الوعي أن النص القرآني كان متناثرًا في أماكن عدة لدرجة أنه وجب جمع كل ما أمكن جمعه من أجل الحصول قدر المستطاع على نص كامل نسبيًا.

أقدم الروايات في الإسلام تبين لنا بوضوح أن زيدًا قام ببحث على نطاق واسع بينما نجد أن علماء متأخرين زعموا أنه اعتمد على ما دُون كتابيًا على مختلف المواد: عظام الحيوانات، الرقاع، جلود الحيوانات الخ.. التي كانت محفوظة في بيت محمد. وزعموا أن زيدًا لم يفعل شيئا أكثر من جمعه لهذه النصوص من أجل الاحتفاظ بها في موضع واحد.

يقول الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن إن محمدا كان يأمر بكتابة القرآن ولذلك حين أمر أبو بكر بجمع القرآن في مصحف واحد وُجِدت المواد التي كان مكتوبًا عليها "في دار رسول الله التي نزل فيها"[21] فجُمِعت وحُدِّدت لكي لا يضيع منها شيء. لكن يتضح من خلال ما دُوِّن في إطار الحديث النبوي أن زيدًا قام ببحث واسع النطاق عن هذه المواد التي كتبت عليها أجزاء من القرآن. ديزاي يجاحد قائلاً إن البحث الذي قام به زيد إنما كان مقتصرًا على المواد التي كُتب عليها القرآن "بين يدي رسول الله" لأن زيدًا كان هو الصحابي الوحيد الذي أتيحت له الفرصة لكي يكون جنب محمد حين جاءه جبريل ورتل معه القرآن آخر مرة[22].يضيف ديزاي أنه رغم وجود نصوص قرآنية أخرى في تلك الفترة فهي لم تكن تتمتع بمصداقية كاملة لأنها لم تكتب تحت الإشراف المباشر لمحمد إنما كتبت من طرف أصحابه الذين اعتمدوا في ذلك على ما استطاعوا حفظه في ذاكراتهم. يمتنع ديزاي عن إعطاء أية دلائل أو نصوص من أي نوع كانت ولا يُرينا المصادر التي اعتمد عليها في البرهنة على مزاعمه والتي من المفروض أن تكون من أقدم ما دُوِّن من التراث الإسلامي. في الواقع كون القرآن عُرض مرتين في آخر المطاف كان سرًا لم يبح به محمد سوى لابنته فاطمة الزهراء[23].

قال مسروق عن عائشة عن فاطمة عليها السلام: "أسر إلي النبي صلى اللهم عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي". فكيف أمكن أن يكون هذا سرًا إذا كان زيد بن ثابت حاضرًا في هذه المناسبة؟

وفي نفس السياق نعرف من خلال أقدم ما دُوِّن حول جمع القرآن خلال خلافة أبي بكر أنه لم يكن هناك أي تمييز بين ما كتب من القرآن تحت إمرة محمد أو غيره من المصادر. ولا شيء يوحي بأن زيدًا اعتمد على الأول دون الثاني. وكما سنرى لاحقًا فإن هذه التفاسير الحديثة العهد نسبيًا كان الغرض منها التأكيد على أن القرآن جمع في ظروف مثالية لكنها لا ترتكز على أية نصوص قديمة وأصيلة للبرهنة على مزاعمها.
هناك حكايات مفادها أنه كلما نزل شيء من القرآن كان محمد يطلب من كتابه ومن بينهم زيد أن يكتبوه[24].

حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله) قال النبي صلى اللهم عليه وسلم ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة، ثم قال اكتب (لا يستوي القاعدون) وخلف ظهر النبي صلى اللهم عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى قال: يا رسول الله فما تأمرني فإني رجل ضرير البصر فنزلت مكانها (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (والمجاهدون في سبيل الله ) (غير أولي الضرر).

لكن لا شيء يؤكد أن القرآن كان مجموعًا بأكمله في بيته. هناك أيضًا روايات عديدة في كتاب المصاحف لابن أبي داود تشير إلى أن أبا بكر كان أول من قام بتدوين القرآن نذكر من بينها :

حدثنا عبد الله قال حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال حدثنا خلاد قال حدثنا سفيان عن السدى عن عبد خير عن علي قال: رحمة الله على أبي بكر كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين[25].

هنا أيضًا نجد أدلة قوية على أن أشخاصًا آخرين سبقوا أبا بكر لجمع القرآن في مصحف واحد:

عن بن بريدة قال: أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة[26].

سالم هذا كان من بين أربعة رجال أمر محمد أصحابه أن يأخذوا القرآن عنهم[27].

حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن إبراهيم عن مسروق ذكر عبدالله بن عمرو عبدالله بن مسعود فقال لا أزال أحبه سمعت النبي صلى اللهم عليه وسلم يقول خذوا القرآن من أربعة من عبدالله بن مسعود وسالم ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب...

وكان من القراء الذين قتلوا في معركة اليمامة. وبما أن أبا بكر لم يأمر بجمع القرآن إلا بعد هذه المعركة فمن البديهي إذًا أن سالمًا سبق زيد بن ثابت في جمع القرآن.

3 - نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن

ونلاحظ هنا أن اتجاهًا معينًا أصبح يبرز بوضوح. الروايات الرسمية تحاول أن تظهر لنا أن المشروع الذي قام به أبو بكر بخصوص جمع القرآن كان الأهم والوحيد الذي تم بعد وفاة محمد. وقد حاول العلماء بعد ذلك أن يدعموا هذه الفكرة مدعين أن زيدًا كان الشخص الوحيد المؤهل للقيام بالمهمة، وأن القرآن كان بشكل أو بآخر موجودًا في بيت محمد، وأن الأشخاص الذين قاموا بعملية الجمع إنما اعتمدوا على ما تمت كتابته تحت الإشراف الفعلي لمحمد نفسه ولا شيء غير هذا. ويذهب العلماء المسلمون أبعد من هذا حيث يزعمون أن المصحف كما تم جمعه كان صورة طبق الأصل لما جاء به محمد لم يضف إليه لا حرف ولا كلمة ولا نقطة ولم يفتقد منه أي شيء من هذا القبيل.

من جهة أخرى وجب القول بأن التحليل الموضوعي لمسألة جمع القرآن في المرحلة البدائية، والذي يجب أن يعتمد على المعطيات المدونة، سيمكننا من إبراز أن النص الذي جمعه زيد والذي أصبح فيما بعد النموذج الذي اعتمد عليه المصحف العثماني ما هو إلا المنتوج النهائي لمحاولة صادقة لجمع القرآن انطلاقًا من مصادر متنوعة كان الرجوع إليها أمرًا ضروريًا.

يجب علينا الآن أن نقوم بتقييم للمصادر التي اعتُمِد عليها بإعادة النظر فيها. اعتمد زيد بن ثابت على صدور الرجال وعلى ما كُتِب من القرآن كيفما كانت المواد التي استعملت في ذلك. لأنه، ومهما كانت المجهودات التي قام بها الصحابة الأوائل لحفظ القرآن بشكل كامل فإن ذاكرة الإنسان تبقى دائمًا عرضة للنقصان والخطأ. وإذا أخذنا بعين الإعتبار طول القرآن (أي ما وجب حفظه) فإنه ليس من الغريب أن نجد اختلافات في طرق قراءة القرآن. ما سيظهر لنا جليًا أن هذا الارتسام مبني على أسس صحيحة.

وفكرة أن زيد اعتمد على ما كان متناثرًا في ذاكرات الصحابة وجب أن تؤدي إلى بعض النتائج المنطقية التي لا مفر منها، حيث هناك احتمال ضياع أجزاء من النص لأن هذا الأخير لم يكن مجموعًا في كتاب واحد بل كان متناثرًا بشكل واسع. وهذا ما سيتضح حين سنقدم الدلائل المأخوذة من التراث الإسلامي القديم.

المثال النموذجي الذي وجب تقديمه بخصوص هذه المسألة يتجلى في الحديث التالي الذي يؤكد بوضوح أن أجزاء من القرآن فُقِدت نهائيًا إثر مقتل بعض الحفاظ من الصحابة في معركة اليمامة:

حدثنا أبو الربيع قال أخبرنا بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب قال: بلغنا إنه انزل قرآن كثير فقُتِل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه فلم يُعْلَم بعدهم ولم يُكْتَب، فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن لم يوجد مع أحد بعدهم[28].

لا يمكن تجاهل كون هذا الحديث يستعمل أسلوب النفي بوضوح : "لم يعلم"، "لم يكتب"، "لم يوجد"؛ تأكيد ثلاثي على أن هذه الأجزاء من القرآن التي كان يحفظها قراء اليمامة فقدت بدون رجعة. وفي المقابل يظهر أنه من الصعب تصور أية زيادة أو تغيير في القرآن بعد وفاة محمد لأن أجزاء النص كانت موجودة بطريقة متناثرة عند الصحابة لكن إمكانية ضياع بعض الأجزاء من النص تبقى واردة كما ذكرنا سالفًا. إذا كان هناك جزء مهم من القرآن قد احتُفِظ به عن طريق الحفظ فهذه ضمانة أكيدة أن لا أحد من الصحابة كان بإمكانه إضافة شيء إلى القرآن دون أن يلقى معارضة الآخرين[29].

وفي النهاية، حين نستعرض المصادر الأصلية يجب ألا نستغرب من كون مصاحف أخرى كانت حيز الجمع زيادة على المصحف الذي كلف زيد بجمعه. كان هنالك عدد من الصحابة الذين كانت لهم دراية واسعة بالقرآن وكان من الحتمي أن يحاولوا توثيق ما كان لا يزال مثبتًا في ذاكراتهم على شكل مصحف مستعينين كذلك بما كان مكتوبًا. كنتيجة حتمية سنرى أن ما توقعناه من نتائج بخصوص جمع كتاب كالقرآن أمر تدعمه النصوص التاريخية خلافًا للفرضية القائلة بأن الحفاظ على الكتاب تم بفضل العناية الربانية دون أدنى نقصان أو تغيير.

وإمكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدًا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن:
حدثنا موسى يعني ابن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلاً قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانًا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها[30].

لقد وضع مترجم المرجع السابق إلى الإنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدًا لم ينس بعض الآيات تلقائيًا بل إن الله هو الذي أنساه إياها مقيمًا بذلك عبرة للمسلمين. ومهما كانت الغاية والأسباب فالمهم هو أن محمدًا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه. والقول بأن النسيان كان من الله إنما يعتمد على الآية التالية:

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير[31].
كلمة آية تعني النص القرآني ذاته وكلمة ننسها أصلها من فعل نسي الذي يعني، أينما وجد في القرآن (وردت 45 مرة على مختلف الأشكال)، فقدان الشيء من ذاكرة الإنسان.

لنعطي الآن خلاصة لما قيل في هذا الجزء.

حاول زيد بن ثابت، الذي كان من الصحابة ذوي المعرفة العميقة بالقرآن، أن يدون قدر مستطاعه مصحفًا أقرب ما يكون إلى الموثوقية. وروح الأمانة التي اتصف بها خلال قيامه بمشروعه ليست موضع شك. لذلك يمكننا أن نقول بأن المصحف الذي قدمه في النهاية إلى أبي بكر لم يكن إلا تعبيرًا صادقًا عما جمعه من صدور القراء ومن ما كتب على مختلف المواد، لأن هذا هو ما تعكسه النصوص المأخوذة من التراث الإسلامي الأصيل. نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء ولم يمسسها أي تغيير. وليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف، وكل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن دحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد (كما رأينا سابقًا) وأن كثيرًا من فقراته وآياته انتقلت على أشكال مختلفة. سنتمكن من خلال هذا الكتاب من استعراض الوقائع التي تبرهن على مقولاتنا وكذا نتائجها الحتمية.

4 - الآيات التي فقدت ثم وجدت عند أبي خزيمة الأنصاري

قبل أن نسدل الستار على بحثنا حول جمع القرآن في عهد أبي بكر ارتئينا أنه من المفيد تحليل ما ذكره زيد بخصوص آيتين قال إنه لم يجدهما إلا عند أبي خزيمة الأنصاري. نص الحديث هو كالتالي:
... حتَّى وجدتُ آخر سورة التَّوبة مع أَبي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لمْ أجدها مع أحدٍ غيره (لقد جاءكمْ رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة براءة فكانت الصُّحُفُ عند أبي بكر حتى توفَّاهُ اللَّه ثمَّ عند عُمَرَ حَيَاتَهُ ثمَّ عند حَفْصَةَ بنت عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهم[32].

يتبين من خلال هذا الحديث أن زيد بن ثابث اعتمد بخصوص الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة على مصدر واحد فقط لأن لا أحد غير أبي خزيمة كان على دراية بهما ولو لم يكن الأمر كذلك لفقدتا من القرآن. فمن المستبعد إذن أن يكون كثير من الحفاظ قد علموا جميع القرآن إلى آخر حرف منه لأنه كان متناثرًا لدرجة أن بعض المقاطع لم يكن يعرفها إلا القليل من الصحابة، وفي الحالة التي نحن بصددها كان هناك شاهد واحد عليها فقط - أبي خُزيمة الأنصاري.

إن التأويل الطبيعي لهذه الرواية يحطم الشعور السائد في الأوساط الإسلامية الذي مفاده أن القرآن بقي مصونًا محفوظًا لأن محتواه كان شائعًا بين الصحابة الذين لم يبخلوا بجهدهم لحفظه. تفسير ديزاي لهذه الرواية يستخلص من المقطع التالي من كتيبه The Quraan Unimpeachable:

يتضح جليًا مما قاله حضرة زيد أن من بين الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله كان أبو خزيمة الأنصاري الوحيد الذي وُجِدت عنده الآيتين الأخيرتين من سورة براءة[33].

نرى هنا أن ديزاي يدعي أن قولة زيد تعني أن أبا خزيمة كان فقط الوحيد الذي أتيحت له فرصة كتابة الآيتين تحت الإشراف المباشر لمحمد على الرغم من أن الحديث كما دَوَّنه البخاري لا يشير بتاتًا إلى شيء من هذا القبيل. يضيف ديزاي:

لم يكن هناك أدنى شك أن الآيتين كانتا من ضمن القرآن حيث كان مئات الصحابة يحفظونهما. زيادة على هذا فقد كانتا مكتوبتين عند كل الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن بأجمعه لكن خلافًا لأبي خزيمة لم يكتبوهما بين يدي رسول الله صلعم[34].

لم يُحَمِّل مولانا نفسه عبء تقديم أية أدلة على مزاعمه هذه. وبالتأكيد لا توجد أية روايات من الحديث توحي بأن مئات من الصحابة كانوا يعرفون هاتين الآيتين وأن بعضهم أتيحت له فرصة كتابتهما عبر النقل الغير المباشر وأن أبا خزيمة كان الوحيد من بين من كتبهما بعد أن تلقاهما بغير واسطة أي من عند محمد مباشرة. امتناع ديزاي عن تقديم أدلة أو نصوص تؤكد مزاعمه أمر له مغزى عميق.

في مقال له نُشر في مجلة البلاغ يزعم الصديق أيضًا أن زيدًا حين قال "لم أجد آية كذا.." كان يعني في واقع الأمر أنه لم يجدها مكتوبة. وكما قيل سابقًا، ليس في نص الحديث ما يبرر تأويلاً من هذا النوع. فما هو إذًا المصدر الذي استوحى منه هؤلاء العلماء النوابغ مواقفهم؟ للجواب عن هذا السؤال يجب الرجوع إلى مقطع من كتاب فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني:

قوله: (لم أجدها مع أحد غيره) أي مكتوبة لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة[35].

المصدر الذي استُنبطت منه هذه المواقف لا يعتبر من أقدم المصادر التي تحدثت عن موضوع جمع القرآن إذ لا يعد إلا تفسيرًا لصحيح البخاري ألفه في زمن متأخر نسبيًا العلامة المشهور بن حجر العسقلاني الذي عاش بين سنة 773 هـ (1372 م) وسنة 852 هـ (1451 م). هذا التأويل الخاص لقولة زيد يفصله إذن ما لا يقل على ثمانية قرون عن زمن محمد حيث أنه منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا أصبحت الفكرة السائدة في الأوساط الإسلامية هي أن الصحابة كانوا يحفظون القرآن بأكمله ولا يجهلون أي جزء منه. فالأمر إذن يتعلق فقط بتأويل مريح الغرض منه إثبات فرضية حديثة العهد نسبيًا. لكن مع الأسف ليس في نص الحديث ذاته ما يدعم هذا التأويل. يضيف بن حجر: "ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد[36]".

في الوقت الذي يعلن فيه ديزاي بجرأة لا مثيل لها أن الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة كانتا "بدون أدنى شك" ضمن القرآن وأنهما كانتا معروفتين لدى المئات من الصحابة عن طريق الحفظ وأن صحابة آخرين ذهبوا إلى حد كتابتهما، في الوقت نفسه نجد أن النص الذي يستشهد به لا يذهب أبعد من القول بأنه من المحتمل أن يكون زيد حين أخذ الآيتين من أبي خزيمة قد أعطى الفرصة للصحابة الآخرين أن يتذكروا سماعهما من قبل، وهذا هو المقصود من عبارة "لعلهم". بدون أدنى حشمة يُحَول ديزاي اقتراحًا مليئًا بالحذر مفاده أن صحابة آخرين من المحتمل أن يكونوا قد تذكروا سماع الآيتين من قبل إلى إعلان أنهما كانتا معروفتين عند مئات الصحابة "بدون أدنى شك".

يتضح لنا إذن أن العلماء المسلمين الحديثين يبذلون كل جهدهم لإثبات فرضية غالية على قلوبهم - كمال القرآن غير القابل للنقاش - عوض تقديم الأدلة الموضوعية كما تتضح من خلال المصادر الإسلامية القديمة. بالرغم من أن المصدر الذي اعتمد عليه ديزاي ينتمي إلى حقبة تارخية حديثة نسبيًا إلا أنه لا يستطيع مقاومة اندفاعاته ليجعل منه ادعاء يهم الوقائع وليس فقط الفرضيات والتآويل. يضيف بن حجر في نفس الصفحة:

وحكى ابن التين عن الداودي قال: لم يتفرد بها أبو خزيمة بل شاركه زيد ابن ثابت فعلى هذا تثبت برجلين[37].

وهذا ما يدل على أن بعض العلماء الآخرين كانوا يعتقدون أن قولة زيد يجب أن تستعمل كبرهان على أن الآيتين لم تكونا مكتوبتين لهذا وجب أن تأخذ بمعناها الواضح والمباشر الذي يبين بجلاء أن الآيتين لم يكن يعرفهما أحد غير أبي خزيمة.

لقد جاء في كتاب المصاحف لابن أبي داود ما يُفَنِّد مزاعم هؤلاء العلماء:
فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) إلى آخر السورة، فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فكيف ترى أن تجعلهما؟ قال: أختم بهما آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة.

هذه الرواية تشير إلى أن الحدث كان في زمن عثمان وليس أثناء جمع القرآن في عهد أبي بكر لكن ليس هناك اختلاف جوهري مع الحدث الذي نحن بصدد مناقشته. ميزة هذه الرواية هي أنها تبرز بوضوح أن زيد والصحابة الآخرون افتقدوا كليًا هاتين الآيتين عند نسخ القرآن. في الواقع القول بأن زيدًا وجدهما عند أبي خزيمة يعني أن هذا الأخير هو الذي أثار الانتباه حول وجودهما ولولاه لما كانتا ضمن القرآن، فبالتأكيد لم يعثر عليهما زيد على إثر البحث الذي قام به لجمع القرآن. يتضح كذلك من خلال النص المذكور أن أبا خزيمة سئل عن موضعهما داخل المصحف فاقترح أن يضافا إلى آخر ما نزل من الوحي يعني آخر سورة التوبة.
إذا سَلَّمْنا بحقيقة هذه الرواية بالإضافة إلى ما ورد من حديث البخاري وجب الاعتراف ببعض الحقائق التي لا مفر منها: فُقِدَت آيتان كليًا وما وجدتا إلا بمبادرة شخصية من أبي خزيمة الذي أوضح بنفس المناسبة موضعهما داخل المصحف. لذلك لا يمكن للعلماء المسلمين أن يتبثوا فرضيتهم القائلة بوجود عدد كبير من الصحابة الذين كانوا يعرفون الآيتين إلا إذا جعلوا كلمة "تلقيت" تعني أن الطريقة التي تم بها توصيل الآيتين من محمد إلى أبي خزيمة كانت كتابية. لكن من المؤكد أن كلمة "تلقيت" عنى بها أبو خزيمة أنه أخذ الآيتين مباشرة من عند محمد وليس بالضرورة كتابيًا. وما أراد قوله هو أنه لم يأخذهما من مصدر ثانوي بل من محمد نفسه إذ ليس هناك ما يبرر أن الصحابي تلقاهما من محمد بشكل كتابي.

إن هذه التآويل المريحة تنافي بشكل مكشوف ما جاء في الروايات المدونة. على سبيل المثال لو كان زيد يعرف الآيتين جيدًا لما غفل عنهما ولما اضْطَرَّ أبو خزيمة لإثارة الانتباه إلى وجودهما بعدما نُسِيَتا بالكامل. وجب هنا أن نطرح على العلماء المسلمين هذا السؤال: انطلاقًا من التأويل الذي قمتم به هل يمكننا أن نعرف ما إذا كان زيد سيضيف هاتين الآيتين إلى القرآن لو لم يجدهما مكتوبتين بين يدي محمد على الرغم من أنهما كانتا معروفتين عند بعض الصحابة ومكتوبتين عند البعض الآخر دون أن يكون ذلك تحت الإشراف المباشر لمحمد؟

يتبين لنا من خلال هذا البحث أن المشروع الذي قام به زيد في عهد أبي بكر لم يكن سوى تجميعًا لنصوص قرآنية من مصادر مختلفة كانت متناثرة داخلها. كنتيجة لهذه الحالة فُقِدت أجزاء من القرآن على إثر وفاة بعض القراء في معركة اليمامة. ونجد في حالة أخرى أن جزء من القرآن لم يشهد عليه إلا شخص واحد (أبو خزيمة الأنصاري). قال زيد: تتبعت القرآن أجمعه... معلنًا بذلك أنه لم يكن يتوقع أن يجد القرآن بأكمله عند صحابي معين أو بشكل مكتوب في موضع واحد.

المصحف الذي جمعه زيد جاء نتيجة بحث موسع شمل ما كان يحفظه الصحابة وما كان مكتوبًا. اختلاف المصادر وتنوعها (الرقاع، اللخاف، صدور الرجال) لا يؤيد فكرة أن القرآن الذي جُمع كان كاملاً إلى أدنى نقطة أو حرف منه، ما يعني أن الفرضية التي يطرحها العلماء المسلمون ما هي إلا نتيجة شعور مبني على رغبة مسبقة وليس على الحقيقة والواقع الذي يمكن استخلاصه من المنقول الإسلامي القديم.

وللبحث صلة...


مترجم مجهول
تدقيق: أكرم أنطاكي


.../...

المادة 19
من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان
لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
10-17-2009 09:37 PM #2
نقوس المهدي
نقوس المهدي متصل الآن
عضو وفي نقوس المهدي is on a distinguished road الصورة الرمزية نقوس المهدي

تاريخ التسجيل
Nov 2008
المشاركات
10,517

جون جلكرايست
جمع القرآن
-II-

الفصل الثاني: جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان

1 - هل كان لمصحف أبي بكر طابع رسمي؟

كيف كانت منزلة المصحف الذي جمع من طرف زيد بأمر من أبي بكر، هل كان مصحفًا خاصًا بالخليفة، أم كان الغرض جعله مصحفًا رسميًا للأمة الإسلامية التي كانت آنذاك سائرة في النمو؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نحقق فيما وقع لهذا المصحف بعد جمعه. جاء في صحيح البخاري ما يلي - كتاب المصاحف لابن أبي داوود، ص 87 -:

فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللهم عنهم[1].

كان هؤلاء الثلاثة، الذين تناقلوا المصحف في بداية الأمر، شخصيات ذات مكانة عالية، إذ أن أبا بكر وعمر كانا أول من خلف محمد على التوالي، في حين كانت حفصة، بدورها، شخصية بارزة، وهذا ما جعل بن أبي داود، في كتاب المصاحف، يصفها بأنها كانت في نفس الوقت "بنت عمر" و"زوج النبي"[2]. لقد أُخِذ هذا المصحف بقدر كاف من الجدية من طرف الخليفتين أبي بكر وعمر لذلك لاقى اعتناءً خاصًا في عهديهما، أما معرفة ما إذا كان هذا المصحف قد اكتسب طابعًا رسميًا في تلك الفترة فهذه مسألة أخرى.

كان لعملية جمع القرآن التي تمت في عهد أبي بكر منزلة خاصة، لأن لجامعه زيد بن ثابت مكانة خاصة بين الصحابة الذين اهتموا بالقرآن. حاول زيد، قدر استطاعته، أن يجمع مصحفًا أقرب ما يكون إلى الكمال - لأنه من غير السهل على العموم إثبات حدوث تحريف. يستنتج من هذا أنه كانت للمصحف قيمة عالية لذلك استفاد من رعاية أبي بكر وعمر خلال فترتي خلافتهما، لكن، بالرغم من كل هذا، ليس هناك أدنى شك في أن هذا المصحف لم يُمنح طابعًا رسميًا في عهديهما. يزعم ديزاي أنه لم تكن في ذلك الوقت أية حاجة ماسة لـ"منح هذا المصحف طابعًا رسميًا" لأن القرآن كان، حسب زعمه، ما يزال محفوظًا في ذاكرات الحفّاظ من أصحاب محمد الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك[3] (ديزاي، ص 31). لقد رأينا سابقًا أن ما زُعِمَ بخصوص الحفظ الكامل والمثالي لنص القرآن في ذاكرات الصحابة مبني على فرضيات مجانية، إذ لا يمكننا قبول فكرة أنه لم تكن هناك حاجة لفرض مصحف أبي بكر على الجمهور، بعد جمعه، فقط لوجود بعض الأشخاص الذين كانوا يحفظون القرآن في ذاكراتهم. على العكس من ذلك فإن أبا بكر وعمر لم يأمرا بجمع القرآن في نص موحد إلا بعد أن شعرا بالحاجة الماسة إلى ذلك نظرًا، بالدرجة الأولى، إلى عدم جدوى التعويل على ذاكرات الناس وحدها. من المؤكد أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان جيدًا أن أشخاصًا كابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل هم على دراية واسعة بالقرآن، وبالتالي كان بإمكانهم هم كذلك جمع مصاحف قرآنية ذات مصداقية كافية. رغم طابع الأهمية الذي أعطي له لم يكن مصحف زيد بن ثابت يعتبر أكثر نفوذًا بالمقارنة مع باقي المصاحف التي جُمِعت آنذاك، ولهذا السبب بالذات لم يكن من الممكن فرضه كمصحف رسمي وموحد على مجموع الأمة الإسلامية. لقد تم، في واقع الأمر، إخفاء هذا المصحف مباشرة بعد جمعه، فبعد وفاة عمر انتقل هذا المصحف إلى ابنته حفصة التي كانت تعيش في عزلة شبه تامة منذ وفاة محمد، وهذا ما يبين بوضوح أنه لم تكن هنالك أية رغبة في نشره بين الجمهور. يزعم ديزاي أنه قد اُحتفظ بالمصحف كل هذه السنين كي يتم استعماله في المستقبل حين سيكون كل القراء من صحابة محمد أمواتًا. مع الأسف لا يوجد، فيما تركه لنا الأقدمون من روايات، ما يشير إلى أن الغرض من جمع مصحف زيد هو هذا الهدف المزعوم. على العكس، كانت الحاجة الماسة إلى نص مكتوب هي التي دفعت إلى جمعه. كان زيد، في الوقت الذي كان فيه يجمع القرآن، على دراية بأنه قد لا يُنظر إلى مصحفه كنص مكتمل لأن بعض الفقرات قد فقدت منه وآيتين على الأقل لم يكن يعرفهما إلى أن ذكّره بهما أبو خزيمة. لو كان أبو بكر وعمر يعلمان علم اليقين أن المصحف كان مكتملاً لتم فرضه على مجموع المسلمين في الحين.

من جهة أخرى، إذا افترضنا أن زيدًا كان مقتنعًا بأن مصحفه لم يكن أحسن من المصاحف التي قام عبد الله بن مسعود وصحابة آخرون بجمعها أمكننا أن نفهم لماذا تم إخفاء هذا المصحف. حين انتقلت الخلافة إلى عثمان كانت المصاحف الأخرى تكتسح الميدان في مختلف مناطق الدولة الإسلامية الناشئة في الوقت الذي كان فيه مصحف زيد يرقد في بيت إحدى زوجات محمد. لقد جُمِع هذا المصحف بأمر رسمي من الخليفة أبي بكر بدون أن يُعطى له، في أي وقت من الأوقات، أي طابع رسمي؛ فلم يكن في واقع الأمر إلا واحدًا من مصاحف عديدة تم جمعها في نفس الفترة تقريبًا وكانت لها نفس المصداقية.

2 - إحراق عثمان للمصاحف الأخرى

بعد تسعة عشر سنة من وفاة محمد تقلد عثمان كرسي الخلافة بعد أبي بكر وعمر فكان لهذا الحدث أهمية بالغة بالنسبة لتطور النص القرآني. كان حذيفة بن اليمان يقود غزوة شمال بلاد الشام، وكان جزء من جيشه متكَوِّنًا من أهل الشام وجزء آخر من أهل العراق. لم يمر وقت طويل حتى اختلف الفريقان حول طريقة قراءة القرآن. بعض هؤلاء قدم من دمشق وحمص والبعض الآخر من الكوفة والبصرة، وفي كل واحدة من هذه المناطق ساد مصحف معين. على سبيل المثال نذكر أن أصحاب الكوفة كانوا يتّبِعون مصحف عبد الله بن مسعود في حين كان أهل الشام يعملون بمصحف أبي بن كعب. أقلق هذا الأمر حذيفة فتشاور بشأنه مع سعيد بن العاص، وأبلغ على إثر ذلك الخليفة عثمان. جاء في حديث البخاري ما يلي:
حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان. فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق[4].

هذه أول مرة نجد فيها تلميحًا لوجود مصاحف غير مصحف زيد بن ثابت في نصوص الحديث المعترف بها رسميًا. يشير الحديث كذلك إلى أن هذه المصاحف كانت معروفة ومقبولة لدى المسلمين ربما أكثر من مصحف زيد الذي كان آنذاك في حوزة حفصة. كانت بعض النصوص مجرد مقاطع من القرآن في حين كانت نصوص أخرى موجودة على شكل مصاحف قرآنية كاملة.

ما الذي دفع عثمان إلى تعميم مصحف زيد في جميع الأمصار وإحراق باقي المصاحف؟ هل السبب هو كون تلك المصاحف كانت تتضمن أخطاء بخلاف مصحف زيد الذي كان نصًا كاملاً لا غبار عليه؟ ليس في الروايات القديمة ما يوحي بهذا. لمعرفة الظروف والملابسات التي جعلت عثمان يقرر فرض مصحف زيد بن ثابت على جميع الأقطار التي كانت تحت إمرته نورد هذه الرواية التي جاءت في كتاب المصاحف لابن أبي داوود:
قال علي بن أبي طالب: يا أيها الناس لا تقولوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل إلاّ عن ملأ منا جميعًا، فقال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا كاد أن يكون كفرًا. فقلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت. قال: فقيل أي الناس أفصح وأي الناس أقرأ؟ قالوا: أفصح الناس سعيد بن العاص وأقرأهم زيد بن ثابت. فقال: فليكتب أحدهما وليملي الآخر. ففعلا وجمع الناس على مصحف واحد[5].

تنص هذه الرواية بوضوح على أن السبب الذي دفع عثمان إلى اتخاد قراره هو رغبته في فرض إجماع حول نص قرآني واحد. لم يكن قرار إحرق المصاحف الأخرى بسبب كونها غير جديرة بالثقة بل كان الدافع هو الرغبة في تجنب الشقاق بين المسلمين حول القرآن. يقبل ديزاي فكرة أن هذه المصاحف كانت كاملة وأصيلة على السواء، لكن، في المقابل، يزعم أن قرار الإحراق كان مبرره فقط الرغبة في تجنب الاختلاف في قراءة النص. يظن هذا الباحث أن النص الزيدي - نسبة لزيد بن ثابت - عُدَّ نصًا رسميًا وأن غيره من المصاحف جُمِع بمبادرات شخصية فقط، وأما اختلاف القراءات فهو لا يعتبره دليلاً على عدم صلاحية تلك المصاحف بل هو، حسب ظنه، خير مثال على أن القرآن نزل على سبعة أحرف كما ورد في الحديث[6]. يقول ديزاي:
أبسط طريقة لضمان هيمنة مصحف عثمان هو إحراق المصاحف الأخرى[7]

لقد كان هذا هو الدافع الحقيقي لإحراق المصاحف، لأن عثمان أراد توحيد المسلمين على نص قرآني واحد، وهذا هو السبب الذي جعل حذيفة بن اليمان يُشعره بضرورة الأمر - فهو الذي كان وراء ذلك كما ذكر ابن أبي داود[8]. يضيف ديزاي:
كان الغرض من إحراق المصاحف والاحتفاظ بمصحف زيد هو تجنب الاختلاف في قراءة القرآن[9].

فالمشروع الذي قام به أبو بكر اقتصر على جمع القرآن من مصادر متعددة في حين حاول عثمان فرض هيمنة هذا المصحف على المسلمين على حساب المصاحف الأخرى التي كانت تكتسي يومًا بعد يوم مكانة كبيرة في الأمصار.

لكن ما الدافع لاختيار مصحف زيد ليكون هو المصحف الرسمي؟ الرواية التي قدمنا سالفًا تبرز المصداقية التي كان يتمتع بها زيد في مجال القرآن، لذلك لا يمكن نفي أن يكون مصحفه على العموم خاليًا من التحريف. صحيح أن هذا المصحف قد تم جمعه تحت الرعاية الرسمية للخليفة أبي بكر لكن هذا لا يدل على أنه أصبح بذلك نصًا رسميًا، أو على أن المصاحف الأخرى قد تم جمعها بمبادرات شخصية اتخذها بعض الصحابة[10]. إنَّ كون هذا المصحف قد أُخْفِي مباشرة بعد جمعه وبقي قابعًا في الظلّ لمدة معينة ولم يتم إشهاره لدليل كاف على أنه لم يكن يعتبر نصًا رسميًا.

على عكس المصاحف الأخرى التي كانت تكتسب شهرة كبيرة وإقبالاً بالغًا في مختلف الأمصار، كان مصحف زيد غير معروف لدى المسلمين في تلك المناطق، ولهذا السبب لم يكن ليعتبر مصحفًا منافسًا. لقد كانت الغاية الحقيقية من فرض مصحف زيد هي القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها بعض قراء القرآن في الأمصار التي كان عثمان يفتقد فيها شيئًا من مصداقيته بسبب السياسة التي كان ينتهجها حيث أنه كان يعين، كعمال، أقرباؤه من بني أمية، أعداء محمد، على حساب الصحابة الذين ظلوا أوفياء لمحمد طيلة حياتهم. يمكننا أن نستنتج مما سبق أن مصحف زيد لم يتم اختياره لأنه كان يتميز على المصاحف الأخرى من حيث الكمال، ولكن لأنه كان يخدم الأهداف السياسية التي كان يبتغيها عثمان من توحيد نص القرآن. لقد أخرج عثمان هذا المصحف من الظلّ وجعل منه مصحفًا رسميًا لكل المسلمين بعد أن بقي مدة طويلة في الخفاء، وهو إجراء لم يحاول لا أبو بكر ولا عمر، خلال مدتي خلافتهما، أن يقوما به. لا يجوز إعطاء مصحف زيد أي امتياز مقارنة مع المصاحف الأخرى رغم ما كان يعرف عن جامعه من دراية بالقرآن، لأن الإطار الرسمي الذي جمع فيه هذا المصحف تجلى فقط في كون الخليفة هو الذي أعطى الضوء الأخضر لجمعه. فلو كان محمد نفسه هو الذي رخَّص وأشرف على عملية جمع القرآن لصح نعت المصحف بالرسمي. لكن في الحالة التي تهمنا جاء المصحف كنتيجة لمبادرة من الخليفة أبي بكر، حيث حاول بإخلاص أن يجمع نصًا أقرب ما يكون إلى الكمال على قدر استطاعته تاركًا لنفسه حرية اختيار ما وجب إدخاله وما وجب إسقاطه.

مرة أخرى يجب أن لا ننسى أن أبا بكر لم يحاول فرض مصحفه بعد جمعه كما فعل عثمان لاحقًا لذلك لا يمكن النظر إليه على أساس أنه كان نصًا رسميًا قبل زمن عثمان كما يزعم ديزاي وآخرون.

ما قام به عثمان كان قاسيًا بالفعل، وهذا هو أقل ما يمكن قوله في هذا الصدد. حيث أنه لم ينج من قرار الحرق أي مصحف من تلك المصاحف التي كانت متداولة آنذاك. لا مفر إذن من الاعتراف بأن هذا الخليفة لم يكن يملك بديلاً غير هذا نظرًا لأن الفروق كانت شاسعة في خصوص طريقة قراءة القرآن. كون أن ولا نسخة واحدة من المصاحف نجت من الحرق يُظهر بجلاء أنه لم يكن هناك توافق كامل فيما بينها. لقد كانت هناك بالفعل تعارضات كبيرة بين تلك النصوص وجب بسببها اتخاد قرار حازم بتدميرها جميعًا والاحتفاظ بمصحف معين ألا وهو مصحف زيد. لا يمكن للإنسان أن يعتقد أن النص العثماني، الذي ظلّ في الخفاء لمدة معينة، أصبح النص المثالي في عشية وضحاها، وأنه كلما ظهر اختلاف بينه وباقي المصاحف وجب نعت هذه الأخيرة بالخطأ. إن الإختباء تحت هذا القناع من أجل إخراج مصحف عثمان من إشكالية الاختلافات القرائية لا يمكن قبوله إذا نظر إلى المسألة بقدر كاف من الموضوعية، حيث لم يكن مصحف زيد إلا واحدًا من عدد من المصاحف التي جمعت من قبل الصحابة، وكانت تختلف فيما بينها بخصوص طريقة قراءتها. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يميزه بالنسبة إليها هو كونه مُسْتَمَدٌ من مصحف جُمِعَ بين يدي أبي بكر. وبما أن هذا المصحف لم يكن مشهورًا عند عامة المسلمين فقد بقي خارج نطاق النقاشات التي أُثيرت حول المصاحف الأخرى.

إذًا، كما رأينا، لم يكن مصحف زيد مصحفًا رسميًا بل نصًا قام شخص واحد بجمعه، ألا وهو زيد بن ثابت، بنفس الطريقة التي جمع بها عبد الله بن مسعود والصحابة الآخرون مصاحفهم. لم يكن هذا أبدًا النص الذي أَذِن به محمد شخصيًا بل لم يكن إلا نصًا واحدًا من بين عدة نصوص مختلفة كانت منتشرة آنذاك، وقد أُعْطِيت صفة الرسمية لهذا المصحف باختيار أحادي الجانب من الخليفة عثمان حيث أراد له هذا الأخير أن يكون مصحف كل المسلمين بقرار انفرادي.

يَعي العلماء المسلمون المعاصرون، الذين يزعمون بتهور أن نص القرآن الذي بين أيدينا يتميز بكمال مطلق، كل الوعي أن وجود قراءات مختلفة للنصوص الأولى للقرآن ستجعل مزاعمهم مجرد هراء لا محالة، لذلك نجدهم يقولون إن الاختلافات لم تكن في النصوص نفسها وإنما في طريقة التلفظ بها فقط.

عبر كوكب الصديق عن هذا التصور كما يلي:
لم يهدف عثمان إلى فرض مصحف معين على حساب المصاحف الأخرى لأنه لم يكن هناك إلا مصحف واحد منذ البداية. ما أراد عثمان فعله هو فقط توحيد المسلمين على قراءة معينة لنص القرآن مع التأكيد على أن هذه القراءة يجب أن تبقى بالضرورة مطابقة للهجة قريش التي نزل بها القرآن. ما كان يشغل باله هو اختلاف أهل الشام مع أهل العراق في طريقة تلاوة القرآن[11].

ما يُزْعَم هنا هو أنه كانت هناك اختلافات في القراءات مرجعها فقط طريقة "تلفظ" أو "ترتيل" النص القرآني. هذا النوع من الاستدلال يستند كليًا إلى مقدمات فاسدة لأن التلاوة والتلفظ والترتيل ليست لها علاقة سوى بالنص المنطوق ولا يمكن للاختلافات بخصوصها أن تظهر في النصوص المكتوبة، لكن عثمان أمر بإتلاف نصوص مكتوبة. يجب كذلك أن لا ننسى أنه في الفترة التي كان يُجمَع فيها القرآن على شكل مصاحف لم تكن الكتابة العربية مشكلة ولا الحروف منقطة. لذلك فالاختلافات لم تكن لتظهر في النصوص المكتوبة. فلماذا إذن قام عثمان بحرقها؟ هناك جواب منطقي واحد لهذا السؤال ألا وهو أن الاختلافات كانت في النصوص ذاتها وليس فقط في طريقة نطقها. وسنحاول في الأجزاء التالية أن نُظْهِر إلى أي مدى وصلت هذه الاختلافات النصّية. قام عثمان بإرغام المسلمين على قبول مصحف معين على حساب مصاحف أخرى، ولن يكون لقراره هذا أي مبرر إذا كانت هذه النصوص لا تختلف فيما بينها إلا في نقاط بسيطة وتافهة تخص التلاوة فقط، لأن هذا القرار المتشدد لا يمكن أن يأت إلا نتيجة لوجود اختلافات جوهرية عديدة بين النصوص المكتوبة.

يجب على المسلمين أن يفكروا ويتمعنوا بجدية فيما قام به عثمان بن عفّان. لقد كان القرآن يعتبر، ولا زال، كلام الله المنزل على رسوله محمد. أمّا المصاحف فقد كتبت من طرف صحابة محمد المقربون. ما القيمة التي كانت ستعطى للمصاحف التي أحرقت بأمر من عثمان لو بقيت حتى يومنا هذا؟ حاول الصحابة، الذين كانوا يعتبرون، بشهادة الأحاديث الصحيحة، من ذوي الدراية العالية بالقرآن (عبد الله بن مسعود‚ أبي بن كعب.. )، أن يكتبوا المصاحف بأيديهم، وبذلوا في ذلك كل جهدهم لكي تكون أقرب ما يمكن إلى الكمال. هذه هي المصاحف التي أمر عثمان بإحراقها، مصاحف جمعها صحابة أجلاء لا غبار عليهم. فإذا لم تكن فيما بينها اختلافات عميقة فلماذا قرر عثمان إحراق ما كان عزيزًا على كل المسلمين ويعتبرونه كلام الله المنزل على رسوله؟ لا يمكن قبول الطريقة التي يحاول بها علماء الإسلام المعاصرون تبرير ما قام به عثمان، وعلى الخصوص إذا افترضنا، كما يزعم الصديق، أنه لم تكن هناك أبدًا اختلافات بين النصوص. ماذا سيعتقد المسلمون لو قام أحد في عصرنا هذا بإحراق مصاحف عزيزة على قلوبهم؟ ليس هناك إلا تفسير واحد لكل ما جرى ألا وهو وجود اختلافات نصّية عميقة بين المصاحف استوجب معها حلٌّ واحد وهو الاحتفاظ بأحدها وتنحية المصاحف الأخرى.

في الوقت الذي نجد فيه أن كوكب الصديق يعلن مقولته "نص واحد لا اختلاف فيه" زاعمًا أنه "لم يكن هنالك أكثر من نص واحد" نرى أن مولانا ديزاي يتناقض معه حين يعترف بوجود اختلافات في النصوص الأولى تجلى بعضها في "تغيرات نصية"[12] وكذلك حين يعترف بأن بعض المصاحف لم تكن مماثلة للمصحف الذي قام زيد بن ثابت بجمعه[13]. لكن ديزاي يحاول أن يثبت أن نص القرآن ذو كمال مطلق بزعمه أن الاختلافات التي كانت موجودة بين النصوص كانت مشروعة وهي ما يُدعى بـ"الأحرف السبع". يبرر ديزاي ضرورة توحيد المصاحف القرآنية بكون هذه الأحرف لم تكن معروفة عند كل المسلمين لذلك يكون قد وجب الإبقاء على نص واحد. يقول ديزاي:
القرار الذي اتخذه عثمان بحرق مصاحف مشروعة كانت تمثل ترجمة وفية للقرآن المجيد مبرره الصراعات التي كانت قائمة آنذاك في المناطق التي تم فتحها بين مسلمين حديثي العهد بالقرآن لم تكن لهم دراية بكل أشكال القراءات المشروعة... فكان من الصعب جدًا تدقيق كل النسخ القرآنية لدرجة وجب معها، كحلِّ وحيد، تنحية جميع تلك النسخ من أجل الحفاظ على مصحف واحد يجتمع عليه كل المسلمين[14].

إذن أصبح من الملائم تنحية ستة قراءات مشروعة لفائدة قراءة واحدة فقط لأن الخليفة رأى أنه من الصعب قراءة المصاحف الأخرى بالرغم من أنه كان بالإمكان تصحيح وتدوين كل تلك المصاحف كما حصل مع مصحف زيد. لا يمكن للمرء إلا أن يستغرب الطريقة التي يحاول بها بعض المسلمين تبرير ما قام به عثمان من حرق مصاحف كانت لها قيمة عالية في نفوس المسلمين دون أن يخدش هذا التفكير أحاسيسهم. إنه لمن المشوق معرفة ما سيكون رد مولانا لو قام أحد في عصرنا الحاضر بحرق أجزاء من القرآن تحت نفس الذريعة التي قدمها في النص المذكور أو لو قرر أحدهم تصوير شريط حول ما قام به عثمان.
قرار حرق مصاحف قرآنية كالذي اتخده عثمان لا يمكن تفسيره بهذا الاستخفاف، لذلك وجب على الباحثين المسلمين أن يُقَيِّموا بجدية هذه المسألة. سَتُتاح لنا الفرصة لكي نرى أن رد فعل عبد الله بن مسعود، إثر سماعه قرار عثمان، كان قويًا جدًا. كذلك كان هذا القرار من بين الأسباب التي دفعت بعض الصحابة إلى إعلان معارضتهم لعثمان لأنه "محا كتاب الله عز وجل"[15]. الكلام هنا خَصَّ كتاب الله بعينه وليس فقط النصوص التي كانت موجودة قبل قرار الحرق، والغرض منه إبراز المعارضة الشديدة لهؤلاء الصحابة لقرار عثمان.

سنرى في الفصول القادمة إلى أي حدٍّ بلغت الاختلافات في طرق قراءة القرآن، وكذلك مدى اختلاف مصاحف بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي موسى وآخرون. لكن قبل هذا يجب أن نستعرض بإيجاز بعض التطورات المهمة التي واكبت قرار عثمان بجعل مصحف زيد المصحف الرسمي والوحيد للأمة الإسلامية.

3- مراجعة مصحف زيد بن ثابت

بما أن المصحف الأصلي الذي جمعه زيد في عهد أبي بكر كان على قدر كاف من الكمال فقد يميل البعض إلى الاعتقاد أن نسخه كان كافيًا في عهد عثمان دون أية حاجة إلى بحث موسع عما يجب أن يحتوي عليه وإعادة النظر فيه. لكن هناك أدلة تشير إلى أن هذا النص لم يكن ينظر إليه على هذا الأساس. حيث نجد أن عثمان قد أمر بإعادة جمعه وكذلك تصحيحه كلما تطلب الأمر ذلك. نقرأ في صحيح البخاري ما يلي:
حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري وأخبرني أنس بن مالك قال: فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبدالله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف، وقال لهم إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فإن القرآن أنزل بلسانهم. ففعلوا[16].

لقد رأينا سابقًا أن سعيد ابن العاص كان يعتبر من ذوي المعرفة الواسعة باللغة العربية، وقد تم اختياره لهذا السبب، وكذلك الشخصين الآخرين لأنهم كانوا ينتمون إلى قبيلة قريش التي كان ينتمي إليها محمد، في حين كان زيد من المدينة المنورة. لقد كانت رغبة عثمان أن يُكتب القرآن بلهجة قريش التي نزل بها أصلاً على محمد، لهذا أمر أن يكتب بهذه اللهجة كلما وقع اختلاف بين زيد وهؤلاء الثلاثة. يتبين لنا مرة أخرى أن الأمر لم يكن يتعلق فقط بنقاط اختلاف تهم طريقة النطق والترتيل لأن هذا النوع من الاختلاف لا يمكن أن يكون له أثر على النص المكتوب. من الواضح إذن أن عثمان قام بإدخال تعديلات على النص المكتوب حين أمر الكتاب الأربعة بالعمل سويًا، بل هناك أدلة على أن عثمان لم يكتف بهؤلاء الأربعة بل تشاور مع بعض الصحابة الآخرين بخصوص جمع القرآن، وربما كانت هناك مراجعة شاملة للمصحف[17].

هناك رواية مفادها أنه كان على زيد أن يتذكر آية فقدت من المصحف الذي جمعه في عهد أبي بكر:
قال زيد: فقدت آية من الأحزاب (السورة 33، الآية 23) حين نسخنا المصحف قد كنت سمعت رسول الله يقرأ بها. فالتمسناها فوجدناها لدى خزيمة بن ثابت الأنصاري - من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه - فألحقناها في سورتها في المصحف[18].

نفس الرواية حول فقدان ما يعتبر الآن الآية 23 من سورة الأحزاب نجدها في صحيح البخاري[19]. في النظرة الأولى نلاحظ أن هذه الرواية تشبه إلى حد بعيد تلك التي تتحدث عن فقدان الآيتين الأخيرتين من سورة التوبة خلال عملية جمع القرآن في عهد أبي بكر، والتي قام بها نفس الشخص يعني زيد. جُمِع القرآن واكتشفوا فيما بعد أن مقطعًا قد فُقِد منه، ووجد هذا المقطع أخيرًا عند خزيمة بن ثابت. زيادة على هذا هناك حديث، سبق ذكره، مفاده أن الحادث وقع زمن عثمان، لهذا يرى الصديق أن الرواية التي تتحدث عن الآية المفقودة من سورة الأحزاب إنما تتعلق بالآيتين الأخيرتين من سورة براءة، وأن الحديث المتعلق بهاتين الآيتين أكثر صحة من الآخر[20].

المعطيات المتوفرة لا تمكننا من اصدار أية استنتاجات حول هذا الموضوع، فقط نستغرب من كون زيد لم يكتشف فقدان آية من القرآن إلا بعد مرور 19 سنة على وفاة محمد، وبمحض الصدفة يجدها عند نفس الصحابي الذي وجد عنده الآيتين الأخيرتين من سورة براءة! لقد رأينا سالفًا أن خزيمة هذا هو الذي أثار انتباه زيد إلى عدم وجود آيتين من سورة براءة؛ فإذا كان هناك نص آخر فقد ولم يوجد إلا معه فلماذا بقي صامتًا ولم يتحدث عنه خلال هذه المدة الطويلة؟

ديزاي لا يشك في صحة الحديث المذكور لكنه يفسر المسألة بزعمه أن (السورة 33، الآية 23) كانت بالفعل موجودة في المصحف الأصلي الذي جمع في عهد أبي بكر لكن وقع نسيانها خلال عملية النسخ في عهد عثمان، ويردد مرة أخرى أن الآية كانت معروفة لدى "عدد كبير من الحفاظ"[21]. هذا المزعم لا يستطيع أن يصمد أمام التحليل النقدي.
المصحف الذي قام زيد ومساعدوه بنقله لم يتم إحراقه مع المصاحف التي أحرقت بل أعيد إلى حفصة بعد إنتهاء العمل به. إذن لو كانت الآية المعنية بالأمر موجودة فيه فلن تكون هناك حاجة إلى البحث عنها (إلى أن وجدت عند أبي خزيمة). في نفس السياق لا يمكن قبول فكرة أن الآية كانت تُفقَدُ كل مرة يُنقَلُ فيها مصحف ليُرسل إلى إحدى الأقطار الإسلامية رغم كونها موجودة في المصحف الأصلي! إن الأدلة التي يقدمها ديزاي لتفسير فقدان الآية في المصاحف هي أدلة واهية لا يمكن قبولها.

ليس للحديث إلا معنى واحد ألا وهو أن الآية لم يتذكرها زيد إلا بعد انتهاء العملية الثانية لجمع القرآن بأمر من عثمان. وقوع مثل هذا الحدث محتمل إذا علمنا أن زيد لم يطلب منه التدقيق في المصحف في السنوات التي فصلت بين جمعه لمصحف أبي بكر وأمر عثمان بإعادة جمع القرآن.

يحاول الصديق من جديد أن يقنعنا بأن زيد لم يجد الآية في شكل مكتوب رغم كونها معروفة جيدًا لدى الصحابة. إنه يرفض المعنى الواضح للحديث الذي قدمنا (فُقِدت آية من سورة الأحزاب...) قائلاً إن هذا فيه شيء من "عدم الدقة" وإن المعنى الحقيقي هو: "لم أجد آية..."[22]. بعبارة أخرى لم يكن زيد يجهل وجود هذه الآية بل حاول فقط التأكد من وجودها على شكل مكتوب. الكلمة الرئيسية في الحديث هي "فُقِدَت" وتعني "ضاع مني، حُرِمت من..."، وهي كلمة شائعة الاستعمال في حالة وفاة شخص ما (المفقود= الشخص المتوفى). المعنى في سياق الحديث الذي يهمنا ليس أن زيد حاول البحث عن آية محفوظة عند الصحابة فيما كتب من القرآن بل حاول أن يجد آية ضاعت كليًا من القرآن ولم توجد أخيرًا إلا عند أبي خزيمة.

إذا كانت هذه الرواية صحيحة[23] فإنها توضح بما يدع مجالاً للشك أن المحاولة الأولى لزيد بن ثابت لجمع مصحف مكتمل لم تكن ناجحة مائة بالمائة حيث لم تضف الآية من سورة الأحزاب إلا بعد الانتهاء من نسخ المصاحف خلال المحاولة الثانية التي تمت في عهد عثمان.

يتبين لنا الآن أن ما يقال عن الكمال المطلق للقرآن، وخلوه من الزيادة والتحريف والاختلاف لا يمكن أن يثبت ويصمد أمام البراهين الثاقبة، ما هو إلا نِتاج للمشاعر والتمنيات، ولا يمت بصلة إلى الإثبات العقلي!

4- مميزات المصحف العثماني

لقد نجح عثمان في تحقيق هدفه بفرض مصحفه على كل الأمة الإسلامية مُنَحِّيًا في الوقت ذاته ما عداه من المصاحف. لا يتوفر في العالم الإسلامي الآن إلاّ مصحف واحد. لكن هذا لا يعني أنه نسخة طبق الأصل لما جاء به محمد، بل هناك مصاحف أخرى كانت تنافسه المصداقية والموثوقية. الترتيب الذي جاء عليه النص القرآني لم يكن أمرًا إلهيًا لأن زيد كان هو المسؤول عنه حيث تُرِكت له حرية القيام بذلك، وكذلك عملية الجمع التي أمر بها عثمان وليس محمد. كان هذا مرتين، وقد تم على إثر المحاولة الثانية حرق كل المصاحف التي كانت تختلف مع مصحف زيد رغم كونها جُمِعت من طرف صحابة لا مجال للشك في مصداقيتهم ودرايتهم في القرآن كما يشهد على ذلك الحديث الصحيح.
حتى بعد عملية الجمع الأخيرة للمصحف، في عهد عثمان، استمرت النزاعات بين المسلمين حول مصداقية هذا النص. مثال جيد على هذا يتجلى في تعدد القراءات للآية 238 من سورة البقرة التي توجد في المصحف العثماني على الشكل التالي: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين".

ورد في موطأ الإمام مالك الحديث التالي:
حدثني يحيى عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين). فلما بلغتها آذنتها فأملت علي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى اللهم عليه وسلم[24].

هذه عائشة زوج محمد رسول الإسلام تؤكد وجوب إضافة عبارة "وصلاة العصر" بعد عبارة "والصلاة الوسطى" مستشهدة في ذلك بمحمد نفسه. في نفس الموضع من الموطأ هناك حديث آخر مفاده أن حفصة بنت عمر بن الخطاب التي هي كذلك من بين زوجات محمد طلبت أيضًا من كاتبها عمرو بن رافع أن يقوم بتعديل مماثل لمصحفها.

لا يجوز أن يكون هذا هو نفس المصحف الذي جمعه زيد بن ثابت وورثته حفصة من والدها بل من المحتمل أن يكون مصحفًا كُتِب لها خِصِّيصًا من قبله، لأن بن رافع أوضح أنه كان يكتب النص بأمر منها (أي حفصة). وقد أشار بن أبي داود إلى هذا المصحف على أنه مصحف مختلف أسماه مصحف حفصة زوجة الرسول (صلعم). في فقرة من كتاب المصاحف تحت عنوان "مصحف حفصة زوج النبي صلعم" يعطينا أسانيد الروايات التي عرضنا مشيرًا في نفس الوقت إلى أنها كانت مشهورة في أوساط المسلمين دون أن يعطي مزيدًا من التفاصيل حول القراءات الأخرى التي من المحتمل أنها كانت موجودة في هذا المصحف. إحدى هذه الروايات تقول:
حدثنا عبد الله حدثنا محمد بن عبد الملك حدثنا يزيد محمد يعني ابن عمرو عن أبي سلمة قال: أخبرني عمرو بن نافع مولى عمر ابن الخطاب قال مكتوب في مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه و سلم "حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وصلوة العصر"[25].

لقد قيل كذلك في نفس الكتاب إن القراءة المتجلية في إضافة عبارة "وصلاة العصر" إلى عبارة "والصلاة الوسطى" كانت أيضًا في مصحف أبي بن كعب وكذلك في مصحف أم سلمة زوج محمد (كتاب المصاحف نفس الصفحة). الصحابي بن عباس هو كذلك شَهِدَ على وجود هذه القراءة التي كانت بالتأكيد موجودة قبل جمع المصحف العثماني لأن مصحف هذا الصحابي كان من بين المصاحف التي أحرِقت بأمر من عثمان والتي من المحتمل أنها كانت أيضًا تحوي هذه القراءة. خبر وجودها لم يكن بالإمكان إخفاءه ومحيه حيث أن البعض قال إنها كانت بمثابة تأكيد على وجوب إقامة صلاة العصر زيادة على صلاة الظهر، وقال آخرون إن هذه القراءة ليست إلا تفسيرًا للنص المشهور (أي أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر بعينها). مثال على هذا التأويل ورد في النص التالي:
قال أبو عبيد في فضائل القرآن: المقصود من القراءة الشادة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها، كقراءة عائشة وحفصة: والصلاة الوسطى صلاة العصر[26].

لقد كان فشل عثمان في القضاء نهائيًا على كل الدلائل على وجود هذه القراءات المختلفة هو ما دفع مروان بن الحكم، حين كان عاملاً لبني أمية على المدينة، إلى إتلاف المصحف الذي بقي بحوزة حفصة، ولما كانت حفصة لا تزال على قيد الحياة رفضت بشدة تسليمه لمروان على الرغم من إصراره[27]. ولذلك لم يتمكن من تحقيق غرضه إلا بعد موتها حيث قام أخوها عبد الله بن عمر بن الخطاب بتسليمه له من أجل تنحيته نهائيًا. علل مروان فعلته هذه بخشيته أن يؤدي إلى انتشار القراءات التي أراد عثمان تنحيتها. هناك روايات عديدة غير تلك التي وردت في كتاب المصاحف تفيد بوجود قراءات أخرى. في مصحف حفصة على سبيل المثال كانت (الآية 56-39) تُقرأ "في ذكر الله" شأنها في ذلك شأن بن مسعود عوض "في جنب الله".

قد يكون المشروع العثماني قد نجح فعلاً في توحيد المسلمين على نص قرآني واحد، لكنه في نفس الوقت كان السبب في ضياع كنز من المصاحف كانت شائعة ومقبولة لدى فئة عريضة من المسلمين وكانت لها نفس مصداقية مصحف زيد بن ثابت.

روى الطبري أن الناس أعابوا على عثمان كونه أسقط المصاحف من أجل الابقاء على مصحف واحد (1-6-2952). هذا يدل على أن مصحف زيد لم يكن يتمتع بصفة خاصة واستثنائية مقارنةً مع باقي المصاحف من حيث الموثوقية والشرعية. وبالرغم من أن هذه المصاحف قد انقرضت فإن عددًا كبيرًا من القراءات بقي شائعًا وتم تدوينه حيث ورد ذكره في مؤلفات عدة. ستُتاح لنا، في الفصل المقبل، فرصة الإطلاع على بعض من هذه القراءات، وكذلك على المصاحف التي وردت فيها، وعلى الخصوص مصحفي عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب.



مترجم مجهول

تدقيق: أكرم أنطاكي

.../...

المادة 19
من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان
لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
10-17-2009 09:52 PM #3
نقوس المهدي
نقوس المهدي متصل الآن
عضو وفي نقوس المهدي is on a distinguished road الصورة الرمزية نقوس المهدي

تاريخ التسجيل
Nov 2008
المشاركات
10,517

جمع القرآن
¨جون جلكرايست


فهرست جI
[1]ابنة عمر ابن الخطاب، وكانت من زوجات محمد.
[2]سورة الفرقان 25، الآية 32.
[3]الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، م 1، ص 135.
[4]كتاب صلاة المسافرين، صحيح البخاري، حديث رقم 1341.
[5]المرجع السابق، حديث رقم 1342.
[6]الحديثين 1344 و1346 من كتاب صلاة المسافرين، صحيح مسلم.
[7]سورة 96، الآية 1.
[8]سورة عبس 13-16.
[9]سيرة ابن هشام، مجلد 2، صفحة 190.
[10]السورة 20.
[11]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4612.
[12]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4620.
[13]تكلم البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، عن بضع وسبعين سورة: "حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق بن سلمة قال خطبنا عبدالله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من رسول الله صلى اللهم عليه وسلم بضعا وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي صلى اللهم عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم، قال شقيق فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادًا يقول غير ذلك".
[14]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4599.
[15]السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، م 1، ص 126.
[16]عبد القادر عبد الصمد مثلاً، انظر الفصل 6.
[17]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4603، باب جمع القرآن. نفس الحديث نجده مكررًا في كتاب الأحكام رقم 6654، وفي كتاب تفسير القرآن رقم 4311.

[18]Desai, The Quraan Unimpeachable, p.25: The faculty of memory which was divinely bestowed to the Arabs, was so profound that they were able to memorize thousands of verses of poetry with relative ease. Thorough use was thus made of the faculty of memory in the preservation of the Qur'aan.

[19]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4603.
[20]السيوطي، الإتقان في علوم القرآن.
[21]السيوطي، الإتقان في علوم القرآن.

[22]Desai, The Quraan Unimpeachable, p.18.

[23]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن.
[24]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن. 4606 على سبيل المثال.
[25]كتاب المصاحف، ص 5.
[26]السيوطي، الإتقان في علوم القرآن.
[27]صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 4615، وكتاب المناقب 3524.
[28]كتاب المصاحف 23.
[29]هذا لا يدل على استحالة زيادة بعض الفقرات في النص الأصلي، الإسراء مثلاً.
[30]كتاب الحروف والقراءات، سنن بن أبي داود، رقم 3456.
[31]سورة البقرة 2، الآية 106.
[32]صحيح بخاري، كتاب فضائل القرآن 4603، باب جمع القرآن. نفس الحديث نجده مكررًا في كتاب الأحكام رقم 6654، وفي كتاب تفسير القرآن رقم 4311.
[33]ص 20.
[34]ص 21.
[35]فتح الباري، المجلد 9، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن.
[36]المرجع السابق.
[37]المرجع السابق.


فهرست ج II
[1] صحيح البخاري، الكتاب 6، الصفحة 478.
[2] كتاب المصاحف، ابن داوود، الصفحات 7 و85.
[3]ديزاي، القرآن الذي لا يرقى إليه الشك The Quraan unimpeachable الصفحة 31.
[4] صحيح البخاري، الجزء السادس، الصفحة 479.
[5] كتاب المصاحف، ابن أبي داوود، ص 22.
[6] انظر الفصل الخامس.
[7]ديزاي، القرآن الذي لا يرقى إليه الشك The Quraan unimpeachable الصفحة 33.
[8] كتاب المصاحف، ابن أبي داوود، ص 35.
[9]ديزاي، القرآن الذي لا يرقى إليه الشك The Quraan unimpeachable الصفحة 33.
[10] المرجع السابق، ص 32.
[11]مجلة البلاغ، مرجع سابق، ص 2.
[12]ديزاي، القرآن الذي لا يرقى إليه الشك The Quraan unimpeachable الصفحة 22.
[13] المرجع السابق، الصفحة 23.
[14] المرجع السابق، ص 32 – 33.
[15] كتاب المصاحف، ابن أبي داوود، ص 36.
[16] صحيح البخاري، الجزء الرابع، الصفحة 466.
[17] الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ص 138.
[18] المرجع السابق، ص 138.
[19] صحيح البخاري، الجزء الرابع، الصفحة 479.
[20]مجلة البلاغ، مرجع سابق، ص 2.
[21]ديزاي، القرآن الذي لا يرقى إليه الشك The Quraan unimpeachable الصفحة 38.
[22]مجلة البلاغ، مرجع سابق، ص 2.
[23]وهي كذلك بالنظر إلى معيار الصحة الذي يقدمه لنا علم الحديث.
[24] موطأ الإمام مالك، ص 64.
[25] كتاب المصاحف، ابن أبي داوود، ص 87.
[26] الإتقان في علوم القرآن، السيوطي. ص 178.
[27] كتاب المصاحف، ابن أبي داوود، ص 24.

المادة 19
من الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان
لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس
#
10-17-2009 11:00 PM #4
محمود المغربي
محمود المغربي غير متصل
Banned محمود المغربي is on a distinguished road

تاريخ التسجيل
Aug 2009
المشاركات
17

هذه هي كتب هذا الحقير الذي يشك في القرآن نحن لسنا بحاجة الى مثل هذا الكلب لنتعلم الإسلام
كان ينتقد الشيخ أحمد ديدات وشتان بين الأسد والحمار

La compilation du Coran
صَلْب المسيح حقيقة لا افتراء La crucifixion du Christ est vraiment ne mentent pas
صَلْب المسيح وقيامته La crucifixion du Christ et sa résurrection

موقع الشيخ أحمد ديدات - Sheikh Ahmed Deedat *** site - ترجمة الشيخ

 

This site was last updated 12/14/10