*************************************************************************************************************
هذه الصفحة نقلت من كتاب اتعاظ الحنفا - أحمد بن علي المقريزي ج 1 ص 5 - 6 لفائدة القارئ الدارس وكعادة الموقع لم نزيد أو ننقص منها وضعناها كما هى ولكننا وضعنا لكل مقطع عناوين للتسهيل على الدارس
*************************************************************************************************************
الخليفة العباسى المعتضد بالله وحروبه مع القرامطة
واتصل بالمعتضد بالله خبره فخاف منه على البصرة فأنفذ العباس بن عمرو الغنوي في ألفي رجل وولاه البحرين فخرج في سنة تسع وثمانين ومائتين والتقى مع أبي سعيد فانهزم أصحابه وأسر العباس في نحو من سبعمائة رجل من أصحابه واحتووا على عسكره وقتل من غده جميع الأسرى ثم أحرقهم وترك العباس ومضى المنهزمون فتاه أكثرهم في البر وتلف كثير منهم عطشاً وورج بعضهم إلى البصرة فارتاع الناس وأخذوا في الرحيل عن البصرة.
ثم لما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد العباس بن عمرو وقال له.أتحب أن أطلقك قال: نعم. قال: على أن تبلغ عني ما أقول صاحبك. قال: أفعل.
قال: تقول له: الذي أنزل بجيشك ما أنزل بغيك هذا بلد خارج عن يدك غلبت عليه وقمت به وكان بي من الفضل ما آخذ به غيره فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به ولا أخفت لك سبيلا ولا نلت أحداً من رعيتك بسوء فتوجيهك إلي الجيوش لأي سبب اعلم أني لا أخرج عن هذا البلد ولا توصل إليه وفي هذه العصابة التي معي روح فأكفني نفسك ولا وأطلقه وبعث معه من يرده إلى مأمنه فوصل إلى بغداد في شهر رمضان وقد كان الناس يعظمون أمره ويكثرون ذكره ويسمونه قائد الشهداء فلما وصل إلى المعتضد عاتبه على تركه التحرز فاعتذر ولم يبرح حتى رضى عنه.
وسأله عن خبره فعرفه جميعه وبلغه ما قال القرمطي فقال: صدق ما أخذ شيئاً كان في أيدينا.
وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه وقال: كذب عدو الله الكافر المسلمون رعيتي حيث كانوا من بلاد الله والله لئن طال بي عمري لأشخصن بنفسي إلى البصرة وجميع غلماني ولأوجهن إليه جيشاً كثيفا فإن هزمه وجهت جيشا فإنه هزمه خرجت في جميع قوادي وجيشي إليه حتى يحكم الله بيني وبينه.
فشغل المعتضد عن القرمطي بأمر وصيف غلام أبي الساج.
ثم توفي في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين وما يزال يذكر أبا سعيد الجنابي في مرضه ويتلهف ويقول: حسرة في نفسي كنت أحب أن أبلغها قبل موتي والله لقد كنت وضعت عند نفسي أن أركب ثم أخرج نحو البحرين ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفي إلا ضربت عنقه وإني أخاف وأقبل أبو سعيد بعد إطلاق العباس على جمع الخيل وإعداد السلاح ونسج الدروع والمغافر واتخاذ الإبل وإصلاح الرجال وضرب السيوف والأسنة واتخاذ الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية وطرد الأعراب من قريته وسد الوجوه التي يتعرف منها أمر بلده وأحواله بالرجال وإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل وإصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها ونصب الأمناء على ذلك وأقام العرفاء على الرجال واحتاط على ذلك كله حتى بلغ من تفقده أن الشاة إذا ذبحت يتسلم العرفاء اللحم ليفرقوه على من ترسم لهم ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرقه على من يغزله ثم يدفعه إلى من ينسجه عبيا وأكسية وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال ويسلم الجلد إلى الدباغ ثم إلى خرازى القرب والروايا والمزاد وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفا فأعمل منه ثم يجمع ذلك كله إلى خزائن.
فكان ذلك دأبه لا يغفله ويوجه كل قليل خيلا إلى ناحية البصرة فتأخذ من وجدت وتصير بهم إليه ويستعبدهم فزادت بلاده وعظمت هيبته في صدور الناس.
وواقع بني ضبة وقائع مشهورة فظفر بهم وأخذ منهم خلقا وبنى لهم حبسا عظيما جمعهم فيه وسده عليهم ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا فلم يغثهم فمكثوا على ذلك شهرا ثم فتح عليهم فوجد أكثرهم موتى ويسيرا بحال الموتى وقد تغذوا بلحوم الموتى فحصاهم وخلاهم فمات أكثرهم.
وكان قد أخذ من عسكر العباس خادما له جعله على طعامه وشرابه فمكث مدة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصليا صلاةً واحدة ولا يصوم في شهر رمضان ولا في غيره فأضمر الخادم قتله حتى إذا دخل الحمام معه وكانت الحمام في داره فأعد الخادم خنجرا ماضيا والحمام خال فلما تمكن منه ذبحه ثم خرج فقال: يدعى فلان لبعض بني سنبر فأحضر فلما دخل قبضه وذبحه فلم يزل ذلك دأبه حتى قتل جماعةً من الرؤساء والوجوه فدخل آخرهم فإذا في البيت الأول دم جار فارتاب وخرج مبادرا وأعلم الناس فحصروا الخادم حتى دخلوه فوجدوا الجماعة صرعى وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة وقيل اثنتين وثلاثمائة وكان قتله بأحساء من البحرين.
وكانت سنه يوم قتله نيفا وستين سنة.
وترك أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيدا. وأبا طاهر سليمان. وأبا إسحاق إبراهيم. وأبا العباس محمدا. وأبا يعقوب يوسف.
وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته وأوصى إن حدث به موت يكون القيم بأمرهم سعيد ابنه إلى أن يكبر أبو طاهر وكان أبو طاهر أصغر سنا من سعيد فإذا كبر أبو طاهر كان المدبر فلما قتل جرى الأمر على ذلك.
وكان قد قال لهم سيكون الفتوح له فجلس سعيد يدبر الأمر بعد قتل أبيه وأمر فشد الخادم بحبال وقرض لحمه بالمقاريض حتى مات فلما كان في سنة خمس وثلاثمائة سلم سعيد إلى أخيه أبي طاهر سليمان الأمر فعظموا أمره.
وكان ابتداء أمر أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي بالقطيف وما والاها في سنة ست وثمانين ومائتين فكانت مدته نحو خمس عشرة سنة.
الصناديقي وفيها استولى النجار أبو القاسم الحسن بن فرج الصناديقي على اليمن وكانت جيوشه بالمذيخرة وسهفنة وكان ابن أبي الفوارس أحد دعاة عبدان أنفذه داعيا إلى اليمن وكان من أهل النرس موضع يعمل فيه الثياب النرسي وكان يعمل من الكتان فصار إلى اليمن ودخل في دعوته خلق كثير فأظهر العظائم وقتل الأطفال وسبا النساء وتسمى برب العزة وكان يكاتب بذلك وأعلن سب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء واتخذ دارا خاصة سماها دار الصفوة يجتمع فيها النساء ويأمر الرجال بمخالطتهن ووطئهن ويحفظ من تحبل منهن في تلك الليلة ومن تلد من ذلك ويتخذ تلك الأولاد لنفسه خولاً ويسميهم أولاد الصفوة.
قال بعضهم: دخلت إليها لأنظر فسمعت امرأة تقول: يا بني فقال: يا أمة نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا.
وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد فتكونوا كنفس واحدة.
فعظمت فتنته باليمن وأجلى أكثر أهله عنه وأجلى السلطان وقاتل أبا القاسم محمدا ابن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الحسني الهادي وأزاله عن عمله من صعدة ففر منه بعياله إلى الرس ثم أظفره الله به فهزمه بأمر إلهي وهو أن الله جلت قدرته ألقى على عسكره وقد بايته برداً وثلجا قتل به أكثر أصحابه في ليلة واحدة وقلما عرف مثل ذلك في تلك الناحية.
وسلط الله عليه الأكلة وذلك أن القاسم أنفذ إليه طبيبا بمبضع مسموم فصده به فقتله وأنزل الله بالبلدان التي غلب عليها بثراً يخرج في كتف الرجل منهم بثرة فيموت سريعا فسمى ذلك البثر بتلك البلاد حبة القرمطي مدة من الزمان.
وأخرب الله أكثر تلك البلاد التي ملكها وأفنى أهلها بموت ذريع فاعتصم ابنه بجبال وأقام بها وكاتب أهل دعوتهم وعنون كتبه: من ابن رب العزة.
فأهلكه الله وبقي منهم بقية فاستأمنوا إلى القاسم بن أحمد الهادي ولم يبق للنجار لعنه الله ولا لمن كان على دعوته بقية.
وكان قرمط يكاتب من بسلمية فلما مات من كان في وقته وخلفه ابنه من بعده كتب إلى قرمط فأنكر منه أشياء فاستراب وبعث ابن مليح أحد دعاته ليعرف الخبر فامتنع فأنفذ عبدان وعرف موت الذي كانوا يكاتبونه فسأل ابنه عن الحجة ومن الإمام الذي يدعو إليه فقال الابن: ومن الإمام فقال عبدان: محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان.
فأنكر ذلك وقال: لم يكن إمام غير أبي وأنا أقوم مقامه.
فرجع عبدان إلى قرمط وعرفه الخبر فجمع الدعاة وأمرهم بقطع الدعوة حنقا من قول صاحب سلمية: لا حق لمحمد بن إسماعيل في هذا الأمر ولا إمامة.
وكان قرمط إنما يدعو إلى إمامة محمد بن إسماعيل فلما قطعوها من ديارهم لم يمكنهم قطعها من غير ديارهم لأنها امتدت في سائر الأقطار ومن حينئذ قطع الدعاة مكاتبة الذين كانوا بسلمية.
وكان رجل منهم قد نفذ إلى الطالقان يبث الدعوة فلما انقطعت المكاتبة طال انتظاره فشخص يسأل عن قرمط فنزل على عبدان بسواد الكوفة فعتبه وعتب الدعاة في انقطاع كتبهم فعرفه عبدان قطعهم الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأنه تاب من هذه الدعوة حقيقة فانصرف عنه إلى زكرويه بن مهرويه ليدعو كما كان أبوه ويجمع الرجال فقال زكرويه: إن هذا لا يتم مع عبدان لأنه داعي البلد كله والدعاة من قبله والوجه أن نحتال على عبدان حتى نقتله.
وباطن على ذلك جماعة من قرابته وثقاته وقال لهم: إن عبدان قد نافق وعصى وخرج من الملة.
فبيتوه ليلا وقتلوه فشاع ذلك وطلب الدعاة وأصحاب قرمط زكرويه بن مهرويه ليقتلوه فاستتر وخالفه القوم كلهم إلا أصل دعوته وتنقل في القرى وذلك في سنة ست وثمانين والقرامطة تطلبه إلى سنة ثمان وثمانين فأنفذ ابنه الحسن إلى الشام ومعه من القرامطة رجل يقال له أبو الحسين القاسم بن أحمد وأمره أن يقصد بني كلاب وينتسب إلى محمد بن إسماعيل ويدعوهم إلى الإمام من ولده فاستجاب له فخذ من بني العليص ومواليهم وبايعوه فبعث إلى زكرويه يخبر بمن استجاب له بالشام فضم إليه ابن أخيه فتسمى بالمدثر لقبا وبعبد الله اسما وتأول أنه المذكور في القرآن بالمدثر ويقال إن المدثر هذا اسمه عيسى بن مهدي وأنه تسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق وعهد إليه صاحب الخال من بعده وغلاما من بني مهرويه يتلقب بالمطوق وكان سيافا وكتب إلى ابنه الحسن يعرفه أنه ابن الحجة ويأمره بالسمع والطاعة له وابن الحجة هذا ادعى أنه محمد بن عبد الله وقيل علي بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وأنكر قوم هذا النسب وقالوا إنما اسمه يحيى بن زكرويه بن مهرويه وكنيته أبو القاسم ويلقب بالشيخ ويعرف بصاحب الناقة وبصاحب الجمل وهو أخو صاحب الخال القائم من بعده فسار حتى نزل في بني كليب فلقيه الحسن بن زكرويه وسر به وجمع له الجمع وقال: هذا صاحب الإمام فامتثلوا أمره وسروا به فأمرهم بالاستعداد للحرب وقال: قد أظلكم النصر ففعلوا واتصلت أخبارهم بشبل الديلمي مولى المعتضد في سنة تسع وثمانين فقصدهم فحاربوه وقتلوه في عدة من أصحابه بالرصافة من غربي الفرات ودخلوها فأحرقوا مسجدها ونهبوا.
وساروا نحو الشام يقتلون ويحرقون القرى وينهبونها إلى أن وردوا أطراف دمشق وكان عليها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون فبرز إليهم فهزموه وقتل كثير من أصحابه والتجأ إلى دمشق فحصروه وقاتلوه.
وكان القرمطي يحضر الحرب على ناقة ويقول لأصحابه: لا تسيروا من مصافكم حتى تنبعث بين أيديكم فإذا سارت فاحملوا فإنه لا ترد لكم راية إذ كانت مأمورة.
طغج والأخشيدى والقرامطة
فسمى بذلك: صاحب الناقة فأقام طغج سبعة أشهر محصورا بدمشق فكتب إلى مصر بأنه محصور وقد قتل أكثر أصحابه وضرب البلد فأنفذ إليه بدر الكبير غلام ابن طولون المعروف بالحمامي فسار حتى قرب من دمشق فاجتمع هو وطغج على محاربة القرمطي بقرب دمشق فقتل القرمطي واحتمى أصحابه وانحازوا فمضوا وكان القرمطي قد ضرب دراهم ودنانير وكتب عليها: قل جاء الحق وزهق الباطل.
فلما انصرف القرامطة عن دمشق وقد قتل محمد بن عبد الله صاحب الناقة بايعوا الحسن بن زكرويه وهو الذي يقال له أحمد بن عبد الله ويقال عبد الله بن أحمد بن محمد ابن إسماعيل بن جعفر الصادق ويعرف بصاحب الخال فسار بهم وافتتح عدة مدن من الشام وظهر على حمص وقتل خلقا وتسمى بأمير المؤمنين المهدي على المنابر وفي كتبه وذلك في سنة تسع وثمانين وبعض سنة تسعين.
ثم صاروا إلى الرقة فخرج إليهم مولى المكتفي وواقعهم فهزموه وقتلوه واستباحوا عسكره ورجعوا إلى دمشق وهم ينهبون جميع ما يمرون به من القرى ويقتلون ويسبون فخرج إليهم جيش كثيف عليه بشير غلام طغج وقاتلهم حتى قتل في خلق من أصحابه.
واتصل ذلك بالمكتفي بالله فندب أبا الأغر السلمى في عشرة آلاف وخلع عليه لثلاث عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة تسعين فسار حتى نزل حلب ثم خرج فوافاه جيش القرامطة غفلة يقدمهم المطوق فانهزم أبو الأغر وركبت القرامطة أكتاف الناس يقتلون ويأسرون حتى حجز بينهم الليل وقد أتوا على عامة العسكر ولحق أبو الأغر بطائفة من أصحابه فالتجأوا بحلب وصار في نحو الألف فنازله القرامطة فلم يقدروا منه على شيء فانصرفوا.
وجمع الحسن بن زكرويه بن مهرويه أصحابه وسار بهم إلى حمص فخطب له على منابرها.
ثم سار إلى سلمية فحارب أهلها وامتنعوا منه فأمنهم ودخلها فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم.
ثم كر على أهلها فقتلهم أجمعين وخربها وخرج عنها وما بها عين تطرف فلم يمر بقرية إلا أخربها ولم يدع فيها أحدا فخرب البلاد وقتل الناس ولم يقاومه أحد وفنيت رجال طغج وبقي في عدة يسيرة فكانت القرامطة تقصد دمشق فلا يقاتلهم إلا العامة وقد أشرفوا على الهلكة فكثر الضجيج ببغداد واجتمعت العامة إلى يوسف بن يعقوب القاضي وسألوه إنهاء الخبر إلى السلطان.
ووردت الكتب من مصر إلى المكتفي بخبر قتل عسكرهم الذي خرج إلى الشام بيد القرامطة وخراب الشام فأمر المكتفي الجيش بالاستعداد وخرج إلى مضربه في القواد والجند لاثنتي عشرة خلت من رمضان ومضى نحو الرقة بالجيوش حتى نزلها وانبثت الجيوش بين حلب وحمص وقلد محمد بن سليمان حرب الحسن بن زكرويه واختار له جيشا كثيفا وكان صاحب ديوان العطاء .
وعارض الجيش فسار إليهم والتقاهم لست خلون من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم وقتل عامة رجال وكان الحسن بن زكرويه لما أحس بالجيوش اصطفى مقاتلة ممن معه ورتب أحوالهم فلما انهزم أصحابه رحل من وقته وتلاحق به من أفلت فقال لهم: أتيتم من قبل أنفسكم وذنوبكم وأنكم لم تصدقوا الله وحرضهم على المعاودة إلى الحرب فاعتلوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم فقال لهم: قد كاتبني خلق من أهل بغداد بالبيعة لي ودعاتي بها ينتظرون أمري وقد خلت من السلطان الآن وأنا شاخص نحوها لأظهر بها ومستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبي وكتبي ترد عليه بما يعمل فاسمعوا وأطيعوا.
فضمنوا ذلك له وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمى بالمدثر وصاحبه المعروف بالمطوق وغلام له رومى وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق فساروا يريدون سواد الكوفة وسلك البر وتجنب القرى والمدن حتى صار قريبا من الرحبة بموضع يقال له الدالية فأمر الدليل فمال بهم إليها ونزل بالقرب منها خلف رابية ووجه بعض من معه لابتياع ما يصلحه فدخل القرية فأنكر بعض أهلها زيه وسأله عن أمره فورى وتلجلج فارتاب به وقبض عليه وأتى به واليها ويقال له أبو خبزة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات والدالية قرية من عمل الفرات فسأله أبو خبزة ورهب عليه فعرفه أن القرمطي الذي خرج الخليفة المكتفي في طلبه خلف رابية أشار إليها فسار الوالي مع جماعة بالسلاح فأخذوهم وشدوهم وثاقا وتوجه بهم إلى ابن كشمرد فصار بهم إلى المكتفي وهو بالرقة فشهرهم بالرقة وعلى الحسن بن زكرويه دراعة ديباج وبرنس حرير وعلى المدثر دراعة وبرنس حرير وذلك لأربع بقين من المحرم.
وقدم محمد بن سليمان بجيوشه إلى الرقة ومعه الأسرى فخلف المكتفي عساكره مع محمد ابن سليمان بالرقة وشخص في خاصته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد ومعه القرمطي وأصحابه.
فلما صار إلى بغداد عمل له كرسي سمكه ذراعان ونصف وركب على فيل وأركب عليه ودخل المكتفي وهو بين يده مع أصحابه الأسرى وذلك ثالث ربيع الأول ثم سجنوا.
فلما وصل محمد بن سليمان ببقية القرامطة لاثنتي عشرة خلت منه أمر المكتفي القواد بتلقيه والدخول معه فدخل في زي حسن وبين يديه نيف وسبعون أسيرا فخلع عليه وطوق بطوق من ذهب وسور سوارين من ذهب وخلع على جميع من كان معه القواد وطوقوا وسوروا.
وأمر المكتفي ببناء دكة في الجانب الشرقي من مربعة ذرعها عشرون ذراعا في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج فلما كان لأربع بقين منه خرج القواد والعامة وحمل وقدم الحسن بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه إلى أعلى الدكة ومعهما أربعة وثلاثون إنساناً من قبل وجوه القرامطة ممن عرف بالنكاية وكان الواحد منهم يبطح على وجهه وتقطع يده اليمنى فيرمى بها إلى أسفل ليراها الناس ثم تقطع رجله اليسرى ثم رجله اليمنى ويرمى بهما ثم يضرب عنقه ويرمى بها.
ثم قدم المدثر ففعل به كذلك بعد ما كوى ليعذب وضربت عنقه.
ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه ورفع رأسه على خشبة وكبر من على الدكة فكبر الناس وانصرفوا.
وحملت الرءوس فصلبت على الجسر وصلب بدن القرمطي فمكث نحو سنة.
*******************************
من كتب الحسن بن زكرويه إلى عماله
ومن كتب الحسن بن زكرويه إلى عماله ما هذه نسخته بعد البسملة: من عند المهدي المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله الداعي إلى كتاب الله الذاب عن حرم الله المختار من ولد رسول الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين ومذل المنافقين وخليفة الله على العالمين وحاصد الظالمين وقاصم المعتدين ومبيد الملحدين وقاتل القاسطين ومهلك المفسدين وسراج المستبصرين وضياء المستضيئين ومشتت المخالفين والقيم بسنة سيد المرسلين وولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم كثيراً .
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد جدي رسول الله.
أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد في الأرض فأعظمنا ذلك ورأينا أن ننفذ إلى ما هنالك من جيوشنا من ينتقم الله به من أعدائه الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنقذنا عطيراً داعيتنا وجماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص وأمددناهم بالعساكر ونحن في أثرهم وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم.
فينبغي أن تشد قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا وتثق بالله وبنصره الذي لم يزل يعودنا في كل من مرق عن الطاعة وانحرف عن الإيمان وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها ولا تخف عنا شيئا من أمرها إن شاء الله.
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جدي محمد رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا.
وسلم القاسم بن أحمد أبو الحسين خليفة الحسن بن زكرويه فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه بن مهرويه فأخبره بخبر القوم الذين استخلفهم ابنه عليهم وأنهم اضطربوا فخافهم وتركهم فلامه زكرويه على قدومه لوما شديدا وقال له: ألا كاتبتني قبل انصرافك إلي.
ووجده مع ذلك على خوف شديد من طلب السلطان ومن طلب أصحاب عبدان.
ثم إنه أعرض عن أبي الحسين وأنفذ إلى القوم في سنة ثلاث وتسعين رجلا من أصحابه كان معلما يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد ويكنى بأبي غانم فتسمى نصرا ليعمى أمره وأمره أن يدور أحياء كلب ويدعوهم فدار ودعاهم فاستجاب له طوائف من الأصبغيين ومن بني العليص فسار بهم نحو الشام وعامل المكتفي بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ وهو بمصر في حرب ابن الخليج فاغتنم ذلك محمد ابن عبد الله المعلم وسار إلى بصرى وأذرعات فحارب أهلها وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم وقتل مقاتلنهم وسار يريد دمشق فخرج إليه جيش مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بن كيغلغ فظهروا عليه وقتلوا عسكره وأسروه فقتلوه وهموا بدخول دمشق فدافعهم أهلها فمضوا إلى طبرية فكانت لهم وقعة على الأردن غلبوا فيها ونهبوا طبرية وقتلوا وسبوا النساء.
فبعث المكتفي بالحسين بن حمدان في طلبهم مع وجوه من القواد فدخل دمشق وهم بطبرية فساروا نحو السماوة وتبعهم ابن حمدان في البرية فأخذوا يغورون ما يرتحلون عنه من الماء فانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء ومال نحو رحبة مالك بن طوق فأسرى القرامطة إلى هيت وأغاروا عليها لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ونهبوا الربض والسفن التي في الفرات وقتلوا نحو مائتي إنسان.
ثم رحلوا بعد يومين بما غنموه فأنفذ المكتفي إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداج في جماعة من القواد بجيش كثيف وأتبعه بمؤنس فإذا هم قد غوروا المياه فأنفذ إليهم من بغداد بالروايا والزاد وكتب إلى ابن حمدان بالنفوذ إليهم من الرحبة.
فلما أحسوا بذلك ائتمروا بصاحبهم المعلم ووثب عليه رجل من أصحابه يقال له الذئب بن القائم فقتله وشخص إلى بغداد متقربا بذلك فأسنيت له الجائزة وكف عن طلب قومه وحملت رأس القائم المسمى بنصر المعلم إلى بغداد.
ثم إن قوما من بني كلب أنكروا فعل الذئب وقتله المعلم ورضيه آخرون فاقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا فرقتين فصارت الفرقة التي رضيت قتل المعلم إلى عين التمر وتخلفت الأخرى وبلغ ذلك زكرويه وأحمد بن القاسم عنده فرده إليهم فلما قدم عليهم جمعهم ووعظهم وقال: أنا رسول وليكم وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الذئب بن القائم وأنكم قد ارتددتم عن الدين.
فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبتهم وأعلموه بما كان بينهم من الخلف والحرب فقال لهم: قد جئتكم الآن بما لم يأتكم به أحد تقدمني يقول لكم وليكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوادها أكثر وموعدكم اليوم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ يقول: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة فإنه لا دافع لكم عنها ومنجز وعدي الذي جائتكم به رسلي.
فسروا بذلك وارتحلوا نحو الكوفة فنزلوا دونها بستة وثلاثين ميلا قبل يوم عرفة بيوم من سنة ثلاث وتسعين فخلفوا هناك الخدم والأموال وأمرهم أن يلحقوا به على ستة أميال من القادسية.
ثم شاور الوجوه من أصحابه في طروق الكوفة أي وقت فاتفقوا على أن يكمنوا في النجف فيريحوا الخيل والدواب ثم يركبوا عمود الصبح فيشنوها غارةً والناس في صلاة العيد.
فركبوا وساروا ثم نزلوا فناموا فلم يوقظهم إلا الشمس يوم العيد لطفاً من الله بالناس فلم يصلوا إلى الكوفة إلا وقد انقضت الصلاة وانصرف الناس وهم متبددون في ظاهر الكوفة ولأمير البلد طلائع تتفقد وكان قد أرجف في البلد بحدوث فتن فأقبلوا ودخلت خيل منهم الكوفة فوضعوا السيف وقتلوا كثيرا من الناس وأحرقوا فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح وتكاثروا عليهم يقذفونهم بالحجارة فقتلوا منهم عدةً وأقبل بقيتهم فخرج إليهم إسحق بن عمران في يسير من الجند وتلاحق به الناس فاقتتلوا قتالا شديدا في يوم صائف شديد الحر فانصرف القرامطة مكدودين فنزلوا على ميلين من الكوفة ثم ارتحلوا عشاء نحو سوادهم واجتازوا بالقادسية وقد تأهبوا لحربهم فانصرفوا عنها وبعث أمير الكوفة بخبر ذلك إلى بغداد.
وسار القرامطة إلى سواد الكوفة فاجتمع أحمد بن القاسم بزكرويه بن مهرويه وكان مستترا فقال للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليكم الذي تنتظرونه.
فترجل الجميع وألصقوا خدودهم بالأرض وضربوا لزكرويه مضربا عظيما وطافوا به وسروا سروراً عظيما واجتمع إليهم أهل دعوته من السواد فعظم الجيش جدا.
الخليفة العباسى المكتفى والقرامطة
وسير المكتفي جيشا عظيما فساروا بالأثقال والبنود والبزاة على غير تعبئة مستخفين بالقوم فوصلوا وقد تعب ظهرهم وقل نشاطهم فلقيهم القرامطة وقاتلوهم وهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتل الأكثر ونجا الأقل إلى القادسية فأقاموا في جمع الغنائم ثلاثاً فكان من قتل من الجيش نحو الألف وخمسمائة فقويت القرامطة بما غنموا وبلغ المكتفي فخاف على الحاج وبعث محمد ابن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب القرامطة وضم إليه خلقا عظيما.
فسار القرامطة وأدركوا الحاج فأخذوا الخراسانية لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة أربع وتسعين ووضعوا فيهم السيف وقتلوا خلقا عظيما واستولى زكرويه على الأموال.
وقدم ابن كنداج فأقام بالقادسية وقد أدركه من هرب من حاج خراسان وقال: لا أغدر بجيش السلطان.
وقدمت قافلة الحاج الثانية والثالثة فقاتلوا القرامطة قتالا شديدا حتى غلبوا وقتل كثير من الحاج واستولوا على جميع ما في القافلة وأخذوا النساء ولم يطلقوا منهم إلا من لا حاجة لهم فيها ومات كثير من الحاج عطشاً ويقال إنه هلك نحو من عشرين ألفا فارتجت بغداد لذلك.
وأخرج المكتفي الأموال لإنفاذ الجيوش من الكوفة لإحدى عشرة بقيت من المحرم . وخزائن السلاح.
ورحل زكرويه فلم يدع ماء إلا طرح فيه جيف القتلى وبث الطلائع فوافته القافلة التي فيها القواد والشمسة وكان المعتضد جعل فيها جوهرا نفيسا ومعهم الخزانة ووجوه الناس والرؤساء ومياسير التجار وفيها من أنواع المال ما يخرج عن الوصف فناهضهم زكرويه بالهبير وقاتلهم يومه فأدركتهم قافلة العمرة وكان المعتمرون يتخلفون للعمرة بعد خروج الحاج ويخرجون إذا دخل المحرم ويتفردون قافلة وانقطع ذلك من تلك السنة فاجتمع الناس وقاتلوا يومهم وقد نفد الماء فملك القافلة وقتل الناس وأخذ ما فيها من حريم ومال وغيره وأفلت ناس فمات أكثرهم عطشا وسار فأخذ أهل فيد.
وأما بغداد فإنه حصل بها وبالكوفة وجميع العراق مصاب بحيث لم يبق دار إلا وفيها مصيبة وعبرة سائلة وضجيج وعويل واعتزل المكتفي النساء هما وغما وتقدم بالمسير خلف زكرويه وأنفذ الجيوش فالتقوا مع زكرويه لسبع بقين من ربيع الأول فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان حتى انهزم زكرويه وقتل أكثر من معه وأسر منهم خلق كثير وطرحت النار في قبته فخرج من ظهرها وأدركه رجل فضربه حتى سقط إلى الأرض فأدركه رجل يعرفه.
فأركبه نجيباً فارهاً وسار به إلى نحو بغداد فمات من جراحا كانت به وصبر وأدخل به إلى بغداد ميتا فشهر كذلك ومه حرمه وحرم أصحابه وأولادهم أسرى ورءوس من قتل بين يديه في الجوالقات ومات خبر القرامطة بموت زكرويه. ودعوتهم ذكرها شائع.
سنة خمس وتسعين ومائتين
خرج رجل من السواد من الظط يعرف بأبي حاتم الظطي فقصد أصحاب البوراني داعيا وهم يعرفون بالبورانية وحرم عليها الثوم والبصل والكرات والفجل وحرم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان وأمرهم أن يتمسكوا بمذهب البوراني وأمرهم بما لا يقبله إلا أحمق وأقام فيهم نحو سنة ثم زال فاختلفوا بعده فقالت طائفة: زكرويه بن مهرويه حي وإنما شبه على الناس به. وقالت فرقة: الحجة لله محمد بن إسماعيل.
ثم خرج رجل من بني عجل قرمطي يقال له محمد بن قطبة فاجتمع عليه نحو مائة رجل فمضى بهم نحو واسط فنهب وأفسد فخرج إليه آمر الناحية فقتلهم وأسرهم.
ثم خمدت أحوال القرامطة إلى أن تحرك أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي وعمل على أخذ البصرة سنة عشر وثلاثمائة فعمل سلالم عراضا يصعد على كل مرقاة اثنان سورافيت إذا احتيج إليها نصبت وتخلع إذا حملت فرحل يريد البصرة فلما قاربها فرق السلاح وحشى الغرائر بالرمل وحملها على الجمال فسار إلى السور قبل الفجر فوضع السلالم وصعد عليها قوم ونزلوا فوضعوا السيف وكسروا الأقفال فدخل الجيش فأول ما عملوا أن طرحوا الرمل المحمول في الأبواب ليمنع من غلقها وبدر لهم الناس ومعهم الأمير فقاتلوا وقتل الأمير فأقاموا النهار يقتتلون حتى حجز بينهم الظلام فخرجوا وقد قتل من الناس مقتلة عظيمة فباتوا ثم باكروا البلد فقاتلوا ونهبوا.
ثم رحلوا إلى الأحساء فأنفذ السلطان عسكراً وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلد أعمال الكوفة والسواد وطريق مكة فدخل في أثرهم وأسر منهم وعاد.
فلما قدمت قوافل الحاج اعترضها أبو طاهر القرمطي فقتل منهم وأدركهم أبو الهيجاء ابن حمدان بجيوش كثيرة فحملت القرامطة عليهم فهزموهم وأخذ أبو الهيجاء أسيرا فلما رآه أبو طاهر تضاحك وقال له: جئناك عبد الله ولم نكلفك قصدنا.
فتلطف له أبو الهيجاء حتى استأمنه وأمر بتمييز الحاج وعزل الجمالين والصناع ناحية فأخذوا ما مع الحاج وخلوهم فردوا بشر حال في صورة الموتى ورحل من الغد من بعد أن أخذ من أبي الهيجاء وحده نحو عشرين ألف دينار مع أموال لا تحصى كثرة ثم أطلق أبا فلما كان في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة خرج من بغداد جيش كثيف لحفظ الحاج فلقي أبو طاهر القرمطي الحاج بالعقبة فرجع الحاج إلى الكوفة فتبعهم القرمطي حتى نزل بظاهرها لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة فناوشه الناس وانكفأ راجعاً ثم باكرهم بالقتال وخرجت إليه جيوش السلطان فقاتلهم وهزمهم وقتل قوادهم وكثيرا من العامة ونهب البلد إلى العشرين منه فرحل عن البلد.
فلما كان في سنة خمس عشرة وثلاثمائة خرج القرمطي من بلده لقتال ابن أبي الساج وقد كان السلطان أنزله في جيش كثير بواسط ليسير إلى بلد القرمطي فاستصعب مسيره لكثرة من معه وثقل عليه سيره في أرض قفر فاحتال على القرمطي وكاتبه باظهار المواطأة وأطمعه في أخذ بغداد ومعاضدته فاغتر بذلك ورحل بعيال وحشم وأتباع وجيشه على أقوى ما يمكنه وأقبل يريد الكوفة.
ورحل ابن أبي الساج بجيشه عن واسط إلى الكوفة وقد سبقه القرمطي ودخلها لسبع خلون من شوال فاستولى عليها وأخذ منها الميرة وأعد ما يحتاج إليه وأقبل ابن أبي الساج على غير تعبئة وعبر مستهينا بأمر القرمطي مستحقرا له ثم واقعه وهو في جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره وقد تفرق عنه عسكره وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور شيئا كثيرا فأقبل إليه القرمطي وقاتله فانهزمت عساكر ابن أبي الساج بعد ما كثرت بينهما القتلى والجراح فقتلوا الناس قتلا ذريعاً حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أربع واحتوى على عسكره ونهب الأكرة من أهل السواد ما قدروا عليه وأقام أربعين يوماً وخرج بعد أن يئس من مجيء عسكر إليه فقصد بغداد ونزل بسواد الأنبار وعبر الفرات إلى الجانب الغربي وتوجه بين الفرات ودجلة يريد بغداد فجيش الجيش إليه وسار مؤنس حتى نازله على نحو ثلاثة فراسخ من بغداد وقاتل القرامطة قتالا شديداً وورد كتاب المقتدر يأمر مؤنسا بمعاجلته القتال ويذكر ما لزم من صرف الأموال إلى وقت وصوله.
فكتب إليه: إن في مقامنا أطال الله بقاء مولانا نفقة المال وفي لقائنا نفقة الرجال ونحن أحرياء باختيار نفقة المال على نفقة الرجال.
ثم أنفذ إلى القرمطي يقول له: ويلك ظننتني كمن لقيك أبرز لك رجالي والله ما يسرني أن أظفر بك بقتل رجل مسلم من أصحابي ولكني أطاولك وأمنعك مأكولا ومشروبا حتى آخذك أخذاً بيدي إن شاء الله.
وأنفذ يلبق في جيش للإيقاع بمن في قصر ابن هبيرة فعظم ذلك على القرمطي فاضطرب وأخذ أصحابه يحتالون في الهرب وتركوا مضاربهم فنهب مؤنس ما خلفوه وسار جيش القرمطي من غربي الفرات وسار مؤنس من شرقيه إلى أن وافى القرمطي الرحبة ومؤنس يحتال في إرسال زواريق فيها فاكهة مسمومة فكان القرامطة يأخذونها فكثرت الميتة فيهم وكثر بهم الذرب وظهر جهدهم فكروا راجعين وقد قل الظهر معهم فقاتلوا أهل هيت وانصرفوا مفلولين فدخل الكوفة على حال ضعف وجراحات وعلل لثلاث خلون من رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة فأقام بها إلى مستهل ذي الحجة ولم يقتل ولا نهب ثم رحل.
فلما كان في سنة سبع عشرة رحل بجيشه فوافى مكة لثمان خلون من ذي الحجة فقتل الناس في المسجد قتلا ذريعا ونهب الكعبة وأخذ كسوتها وحليها ونزع الباب وستائره وأظهر الاستخفاف به وقلع الحجر الأسود وأخذه معه وظن أنه مغناطيس القلوب وأخذ الميزاب أيضا.
وعاد إلى بلده في المحرم سنة ثماني عشرة وقد أصابه كد شديد وقد أخذ ستة وعشرين ألف حمل خفا وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار واستملك من النساء والغلمان والصبيان ما ضاق بهم الفضاء كثرةً وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة حتى عدل به دليل إلى غير الطريق المعروف إلى بلده.
فلما كان في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة سار إلى الكوفة فعاث عسكره في السواد وبعث أبو طاهر سرية في البحر نحو أربعين مركبا فوضعوا السيف في أهل الساحل ولم يلقوا أحدا إلا قتلوه من رجل وامرأة وصبي فما نجا منهم إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء واجتمع الناس فقتلوا منهم في الحرب معهم خلقا كثيرا وأسروا جماعة ثم تحاملوا عليهم وتبادوا بالشهادة وجدوا فقتلوا أكثرهم وأخذوا جميع من بقى أسرا بحيث لم يفلت منهم أحد وحملت الأسرى إلى بغداد مع الرءوس وهم نحو المائة رجل ومائة رأس فحبسوا ببغداد.
ثم خلصوا وصاروا إلى أبي طاهر فكانوا يتحدثون بعد خلاصهم إلى أبي طاهر أن كثيرا من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم بما يتقربون به إليهم وكان سبب خلاصهم مكاتبة جرت بينهم بالمهادنة على أن يردوا الحجر الأسود ويطلق الأسرى ولا يعترضوا الحاج فجرى الأمر على ذلك.
ودخل القرمطي في سنة ثلاث وعشرين إلى الكوفة والحاج قد خرج في ذي القعدة وعاد الحاج إلى الكوفة ولم يقدر على مقاومتهم فظفر بمن ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد.
وبلغ القرمطي أن رجلا من أصحابه قال: والله ما ندري ما عند سيدنا أبي طاهر من تمزيق هؤلاء الذين من شرق الأرض وغربها واتخاذهم ومن وراءهم أعداء وما يفوز بأكثر أموالكم إلا الأعراب والشذاذ من الناس فلو أنه حين ظفر بهم دعاهم إلى أن يؤدي كل رجل منهم دينارا ويطلقهم ويؤمنهم لم يكره ذلك منهم أحد وخف عليهم وسهل وحج الناس من كل بلد لأنهم ظمأى إلى ذلك جدا ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل بلده وخاصته وجاء في كل سنة من المال ما لا يصير لسلطان مثله من الخراج واستولى على الأرض وانقاد له الناس وإن منع من ذلك سلطان اكتسب المذمة وصار عند الناس هو المانع من الحج.
فاستصوب القرمطي هذا الرأي ونادى من وقته في الناس بالأمان وأحضر الخراسانية فوطأ أمرهم على أنهم يحجوا ويؤدوا إليه المال في كل سنة ويكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وأخرج أهل مصر أيضاً عن الحاج ضرائب من مال السلطان ثم ولى تدبير العراق من لم ير ذلك دناءة ولا منقصة فصار لهم على الحاج رسما بالكوفة.
فلما كان سنة خمس وعشرين كبس أبو طاهر الكوفة وقبض على شفي اللؤلؤي أميرها بأمان فبعثه إلى السلطان يعرفه أنهم صعاليك لا بد لهم من أموال فإن أعطاهم مالا لم يفسدوا عليه وخدموه فيما يلتمسه وإلا فلا يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وبر أبو طاهر شفيعاً ووصله فوصل شفيع إلى السلطان وعرفه فبعث إليهم رجلا فناظر القرمطي وملأ صدره من السلطان وأتباعه فزاده انكسارا وسار عن البلد فابتلاه الله بالجدري وقتله فملك التدبير بعده أخوته وابن سنبر.
القرامطة يحملون الحجر الأسود إلى الكوفة
فلما كان في سنة تسع وثلاثين أرادوا أن يستميلوا الناس فحملوا الحجر الأسود إلى الكوفة ونصبوه فيها على الاسطوانة بالجامع.
وكان قد جاء عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين : أن الحجر الأسود يعلق في مسجد الجامع بالكوفة في آخر الزمان.
ثم قدم به سنبر بن الحسن بن سنبر إلى مكة وأمير مكة معه فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصونا وعلى الحجر ضباب فضة قد عملت عليه تأخذه طولا وعرضا تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه وكان قد أحضر له صانع معه جص يشد به الحجر وحضر جماعة من حجبة البيت فوضع سنبر بن الحسن بن سنبر الحجر بيده في موضعه ومعه الحجبة وشده الصانع الجص بعد وضعه وقال لما رده: أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئته.
ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه وطاف سنبر بالبيت.
وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الإثنين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة سبع عشرة وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
فكانت مدة كينونته عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام.
وكان في سنة ست عشرة وثلاثمائة قد تحركت القرامطة بسواد الكوفة عند انصراف أبي طاهر القرمطي عن بغداد إلى نحو الشام وتداعوا إلى الاجتماع في دار هجرتهم فكثروا وكبسوا نواحي الوسط وقتلوا خلقا كثيرا وملكوا ما حواه العسكر هناك من سلاح وغيره فقوى أمرهم وسار بهم عيسى بن موسى والحجازي وهما داعيان وكان الحجازي بالكوفة يبيع الخبز فصحب يزيد النقاش واجتمع عليهما غلمان وساروا فنهبوا وأخافوا والبلد ضعيف لاتصال الفتن وتخريب البوراني لسواده وضعف يد السلطان وطالبوا جميع أهل السواد بالرحيل إليهم فاجتمعوا نحو العشرة آلاف وفرقوا العمال ورحلوا إلى الكوفة فدخلوها عنوة وهرب واليها وولوا على خراجها وعلى حربها وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه فأنفذ السلطان إليهم جيشا فواقعهم فانهزموا وقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم وهرب الباقون وحملت الأسرى إلى بغداد فقتلوا وصلبوا وحبس عيسى بن موسى مدة ثم تخلص بغفلة السلطان وحدوث الفتن آخر أيام المقتدر فأقام ببغداد يدعو الناس ووضع كتبا نسبها إلى عبدان الداعي نسبه فيها إلى الفلسفة وأنه يعلم ما يكون قبل كونه فصار له أتباع وأفسد فسادا عظيما وصار له وأما خراسان فقدم إليها بالدعوة أبو عبد الله الخادم فأول ما ظهرت بنيسابور فاستخلف عند موته أبا سعيد الشعراني وصار منهم خلق كثير هناك من الرؤساء وأصحاب السلاح.
وانتشرت في الري من رجل يعرف بخلف الحلاج وكان يحلج القطن فصرف بها طائفة الخلفية وهم خلق كثير ومال إليهم قوم من الديلم وغيرهم وكان منهم أسفار فلما قتل مرداويج أسفار عظمت شوكة القرامطة في أيامه بالري وأخذوا يقتلون الناس غيلةً حتى أفنوا خلقا كثيرا.
ثم خرج مرداويج إلى جرجان لقتال نصر بن أحمد الساماني فنفر عليهم وقتلهم مع صبيانهم ونسائهم حتى لم يبق منهم أحد وصار بعضهم إلى مفلح غلام ابن أبي الساج فاستجاب له ودخل في دعوته.
فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وقد استعد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة لقتال من يرد عليه من قبل جوهر القائد فورد عليه الخبر بأن القرامطة تقصده ووافت الرملة فهزموا الحسن بن عبيد الله ثم جرى بينهم صلح وصاهر إليهم في ذي الحجة منها فأقام القرمطي بظاهر الرملة ثلاثين يوما ورحل.
وسار جعفر بن فلاح من مصر فهزم الحسن بن عبيد الله بن طغج وقتل رجاله وأخذه أسيرا فسار إلى دمشق فنزل بظاهرها فمنعه أهل البلد وقاتلوه قتالا شديدا ثم إنه دخلها بعد حروب وفر منه جماعة منهم ظالم بن موهوب العقيلي ومحمد بن عصودا فلحقا بالأحساء إلى القرامطة وحثوهم على المسير إلى الشام فوقع ذلك منهم بالموافقة لأن الإخشيدية كانت تحمل إليهم في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فلما صارت عساكر المعز إلى مصر مع جوهر وزالت الدولة الاخشيدية انقطع المال عن القرامطة فسارت.
بعد أن بعثوا عرفاءهم لجمع العرب فنزلوا الكوفة وراسلوا السلطان ببغداد فأنفذ إليهم خزانة سلاح وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان ورحلوا إلى الرحبة وعليها أبو تغلب فحمل إليهم العلوفة والمال الذي كتبا به لهم.
وجمع جعفر بن فلاح أصحابه واستعد لحربهم فتفرق الناس عنه إلى مواضعهم ولم يفكروا بالموكلين على الطرق وكان رئيس القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي فبعث إليه أبو تغلب يقول: هذا شيء أردت أن أسير أنا فيه بنفسي وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد علي خبرك فإن احتجت إلى مسيري سرت إليك.
ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض لنا فخرج إلى عسكر القرمطي جماعة من عسكر أبي تغلب وفيهم كثي من الإخشيدية الذين كانوا بمصر صاروا إليه لما دخل جوهر من مصر وفلسطين وكان سبب هذا الفعل من أبي تغلب أن جعفر بن فلاح كان قد أنفذ إليه من طبرية داعيا يقال له أبو طالب التنوخي من أهل الرملة يقول له: إني سائر إليك فنقيم الدعوة فقال له أبو تغلب وكان بالموصل: هذا ما لا يتم لأنا في دهليز بغداد والعساكر قريبة منا ولكن إذا قربت عساكركم من هذه الديار أمكن ما ذكرتم.
فانصرف من عنده على غير شيء.
وبلغ ذلك القرمطي فسره وزاده قوة وسار عن الرحبة فأشار أصحاب جعفر لما قارب القرامطة دمشق أن يقاتلهم بطرف البرية فخرج إليهم وواقعهم فانهزم وقتل لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة.
ونزل القرمطي ظاهرة المزة فجبى مالا وسار يريد الرملة وعليها سعادة ابن حيان فالتجأ إلى يافا ونزل عليه القرمطي وقد اجتمعت إليه عرب الشام وأتباع من الجند فناصبها القتال حتى أكل أهلها الميتة وهلك أكثرهم جوعا ثم سار عنها وترك على حصارها ظالم العقيلي وأبا الهيجا بن منجا وأقام القرامطة الدعوة للمطيع لله العباسي في كل بلد فتحوه وسودوا أعلامهم ورجعوا عما كانوا يمخرقون به وأظهروا أنهم كأمراء النواحي الذين من قبل الخليفة العباسي.