*************************************************************************************************************
هذه الصفحة نقلت من كتاب اتعاظ الحنفا - أحمد بن علي المقريزي ج 1 ص 4 لفائدة القارئ الدارس وكعادة الموقع لم نزيد أو ننقص منها وضعناها كما هى ولكننا وضعنا لكل مقطع عناوين للتسهيل على الدارس
*************************************************************************************************************
المعز لدين الله
أبو تميم معد ابن المنصور أبي الطاهر بن القائم أبي القاسم محمد ابن عبيد الله المهدي قال: ولى الأمر بعد أبيه سلخ شوال وقيل يوم الجمعة سابع عشر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وأذن للناس فدخلوا ومولده بالمحمدية على أربع ساعات وأربع أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
ومدة أيامه ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وسبع عشر يوماً.
فلما كان في سنة اثنتين وأربعين جالت عساكره في جبل أوراس وكان ملجأ كل منافق على الملوك يسكنه بنو كملان ومليلة وبعض هوارة ولم يدخلوا في طاعة من تقدمه فأطاعوا المعز ودخلوا معه البلاد وتقدم إلى نوابه بالإحسان إلى البربر فلم يبق منهم إلا من أتاه وشمله إحسان المعز فعظم أمره.
وفي سنة سبع وأربعين عظم أمر أبي الحسين جوهر عند المعز وعلا محله وصار في رتبة الوزارة فسيره في صفر منها على جيش كثيف فيهم الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي وغيره فسار إلى تاهرت وحارب قوماً وافتتح مدنا ونهب وأحرق وسار إلى فارس فنازلها مدة وسار إلى سجلماسة وقد قام بها رجل وتلقب بالشاكر لله وخوطب بأمير المؤمنين ففر من جوهر فتبعه حتى أخذه أسيراً.
ومضى جوهر إلى البحر المحيط فأمر أن يصاد من سمكه وبعثه في قلال الماء إلى المعز وسلك ما هنالك من البلاد فافتتحها ثم عاد فقاتل أهل فاس حتى افتتحها عنوة وقبض على صاحبها وجعله مع صاحب سجلماسة في قفصين وحملهما إلى المعز بالمهدية وعاد في أخريات السنة.
وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كان إعذار المعز لدين الله الأمراء بنيه: عبد الله وتزار وعقيل فحين عزم على طهورهم كاتب عماله وولاته من لدن برقة إلى أقصى سجلماسة وما بين ذلك وما حوته مملكته إلى جزيرة صقلية وما والاها في حضر وبدو وبحر وبر وسهل وجبل بطهور من وجد من أولاد سائر الخلق حرهم وعبدهم وأبيضهم وأسودهم ودنيئهم وشريفهم ومليهم وذميهم الذين حوتهم مملكته لمدة شهر وتوعد على ترك ذلك وأمرهم بالقيام بجميع نفقاتهم وكسوتهم وما يصلح أحوالهم من مطعم ومشرب وملبس وطيب وغيره بمقدار رتبهم وأحوالهم فكان من جملة المنفق في ذلك مما حمل إلى جزيرة صقلية وحدها من المال سوى الخلع والثياب خمسون حملاً من الدنانير كل حمل عشرة آلاف دينار ومثل ذلك إلى كل عامل من عمال مملكته ليفرقه على أهل عمله.
وابتدىء بالختان في مستهل ربيع الأول منها فكان المعز يطهر في اليوم من أيام الشهر بحضرته اثنا عشر ألف صبي وفوقها ودونها وختن من أهل صقلية وحدها خمسة عشر ألف صبي وكان وزن خرق الأكياس المفرغة مما أنفق في هذا الإعذار مائة وسبعين قنطارا بالبغدادي.
واستدعى المعز وهو بالمنصورية في يوم شات باردة الريح عدة شيوخ من شيوخ كتامة وأمر بادخالهم إليه من غير الباب الذي جرى الرسم به فإذا هو في مجلس مربع كبير مفروش باللبود على مطارح وحوله كساء وعليه جبة وحواليه أبواب مفتحة تفضى إلى خزائن كتب وبين يديه مرفع ودواة وكتب حواليه فقال: يا إخواننا: أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد فقلت لأم الأمراء وإنها الآن بحيث تسمع كلامي : أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والغناء كما يفعل أرباب الدنيا! ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم واحتجبت عنكم وأني لا أفضلكم في أحوالكم إلا فيما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم وأني مشغول بكتب ترد على من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطى وأني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما صان أرواحكم وعمر بلادكم وأذل أعداءكم وقمع أضدادكم.
فافعلوا يا شيوخ في خلوتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التجبر والتكبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلها إلى غيركم وتحننوا على من وراءكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل ويكثر الخير وينتشر العدل.
وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم ولا تشرهوا إلى التكثير منهن والرغبة فيهن فيتنغص عيشكم وتعود المضرة عليكم وتنهكوا أبدانكم وتذهب قوتكم وتضعف نحايزكم فحسب الرجل الواحد الواحدة ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم.
واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم.
انهضوا رحمكم الله ونصركم.
الإعداد لغـــزو مصـــر
وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة أمر المعز بحفر الآبار في طريق مصر وأن يبنى له في كل منزلة قصر ففعل ذلك.
وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من السنة وردت النجب من مصر بموت كافور الأخشيدي يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى.
واستدعى المعز يوما أبا جعفر بن حسين بن مهذب صاحب بيت المال وهو بالمغرب فوجده في وسط القصر جالسا على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة في صحن القصر فقال له: هذه صناديق مال وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها.
قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة وبين يدي جماعة من خدام بيت المال والفراشين وأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها وأن يغلق عليها وتختم بخاتمه وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك ففعل.
وكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار وذلك في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر في سنتي ثمان وتسع وخمسين مع القائد جوهر.
وكان رحيله في رابع عشر ربيع الأول منها ومعه ألف حمل مال ومن السلاح والخيل والعدد ما لا يوصف فقدم جوهر إلى مصر ووصلت البشارة بفتحها في نصف رمضان سنة ثمان وخمسين فسر المعز سرورا كثيراً وأنشده ابن هانىء قصيدة أولها: يقول بنو العباس: هل فتحت مصر فقل لبني العباس: قد قضي الأمر ولما وصلت البشارة من الشام بكسر عسكر أبي عبد الله الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم أنشده ابن هانىء قصيدة منها: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القّهار وأنشد أيضاً أخرى أولها: وعلى أمير المؤمنين مظلّةٌ زاحمت تحت لوائها جبريلا ولما أنفذ جوهر إلى مصر وبرز يريد المسير إلى مصر بعث المعز خفيفاً الصقلبي صاحب الستر إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا: قد رأينا أن ننفذ رجالا من بلدان كتامة يقيمون بينهم ويأخذون صدقاتهم ومراعيهم ويحفظونها علينا في بلادهم فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها فاستعنا بها على ما نحن بسبيله.
فقال بعض شيوخهم لخفيف وقد بلغهم ذلك : قل لمولانا: والله لا فعلنا هذا أبدا.
كيف تؤدي كتامة الجزية ويصير عليها في الديوان ضريبة وقد أعزها الله قديما بالإسلام وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب.
فعاد خفيف بذلك إلى المعز فأمر بإحضار جماعة كتامة فدخلوا عليه وهو راكب فرسه فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم.
فقالوا: نعم هو جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدي جزية تبقى علينا.
فقام المعز في ركابه وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا وإنما أردت أن أجربكم فانظروا كيف أنتم بعدى إذا سرنا عنكم إلى مصر هل تقبلون هذا أو تفعلونه وتدخلون تحته ممن يرومه منكم والآن سررتموني بارك الله فيكم.
وكتب إلى جوهر وهو بمصر من الغرب: وأما ما ذكرت يا جوهر من أن جماعة من بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة ويعدون بالمسارعة في المسير إليك فاسمع لما أذكره لك: احذر أن تبتدىء أحدا من بني حمدان بمكاتبة ترهيبا له ولا ترغيبا ومن كتب إليك منهم فأجبه بالحسن الجميل ولا تستدعه إليك ومن ورد إليك منهم فأحسن إليه ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش ولا ملك طرف فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم وليس لهم فيها نصيب: يتظاهرون بالدين وليس لهم فيه نصيب ويتظاهرون بالكرم وليس لواحد منهم كرم في الله ويتظاهرون بالشجاعة وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة فاحذر كل الحذر من الاستنامة إلى أحد منهم ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه بالمغرب فوقع اختياره على أبي أحمد جعفر بن عبد الأمير فاستدعاه وأسر إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب فقال: تترك معي أحد أولادك أو أخوتك جالسا في القصر وأنا أدبر ولا تسألني عن شيء من الأموال إن كان ما أجبيه بازاء ما أنفقه وإذا أردت أمراً فعلته ولم أنتظر ورود الأمر فيه لبعد ما بين فغضب المعز وقال: يا جعفر: عزلتني عن ملكي وأردت أن تجعل لي شريكا في أمري واستبددت بالأموال والأعمال دوني قم فقد أخطأت حظك وما أصبت رشدك.فخرج.
واستدعى المعز يوسف بن زيرى الصنهاجي وقال له: تأهب لخلافة المغرب فأكبر ذلك وقال: يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح.
ولم يزل به حتى أجاب وقال: يا مولانا: بشريطة أن تولي القضاء والخراج لمن تراه وتختاره والخبر لمن تثق به وتجعلني أنا قائما بين أيديهم فمن استعصى عليهم أمروني به حتى أعمل فيه ما يجب ويكون الأمر لهم وأنا خادم بين ذلك.
فحسن هذا من المعز وشكره فلما انصرف قال له عم أبيه أبو طالب أحمد بن المهدي عبيد يا مولانا: وتثق بهذا القول من يوسف أنه يفي بما ذكره فقال المعز: يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر واعلم يا عم أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره.
ووجهت أم الأمراء من المغرب بصبية ربتها لتباع في مصرن فطلب الوكيل فيها ألف دينار فجاءت امرأة شابة على حمار فلم تزل حتى اشترتها منه بستمائة دينار وقيل له يا مغربي: هذه بنت الأخشيد اشترت الجارية تتمتع بها وهي ست كافور.
فلما عاد أخبر المعز بذلك فأمر بإحضار الشيوخ وأمر الرجل فحدثهم بخبر الجارية ثم قال: يا إخواننا: انهضوا إليهم فلن يحول بينكم وبينهم شيء وإذا كان قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات ملوكهم تخرج وتشتري لنفسها جارية تتمتع بها فقد ضعفت نفوس رجالهم وذهبت الغيرة منهم فانهضوا بنا إليهم.فقالوا: السمع والطاعة.
فقال: خذوا في حوائجكم فنحن نقدم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله.
ولما عزم المعز على الرحيل إلى مصر أتاه بلكين بن زيرى بألفي جمل من إبل زناتة وحمل ما له بالقصور من الذخائر وسبك الدنانير على شكل الطواحين جعل على كل جمل قطعتين في وسط كل قطعة ثقبا تجمع به القطعة إلى الأخرى فاستعظم ذلك الجند والرعية وصاروا يقفون في الطرق لرؤية بيت المال المحمول.
وخرج المعز من المغرب يوم الإثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة وخرج من المنصورية ومعه بلكين واسمه يوسف إلى سردانية من بلاد إفريقية فسلم إليه إفريقية والمغرب يوم الأربعاء لتسع بقين من ذي الحجة وأمر سائر الناس له بالسمع والطاعة وفوض إليه أمور البلاد ما خلا جزيرة صقلية فإنه ترك أمرها لحسن بن علي بن أبي الحسين وطرابلس وأعمالها.
وقال له: إن نسيت ما وصيناك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجباية عن أهل البادية ولا ترفع السيف عن البربر ولا تول أحدا من أخوتك وبني عمك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك وافعل مع أهل الحاضرة خيراً.وفارقه.
وكان قيصر ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والمعز وكان المظفر يدل على المعز لأنه علمه الخط وهو صغير فاتفق أنه حرد يوما فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب بها فأخذ المعز نفسه بحفظ اللغات فابتدأ بالبربرية فأحكمها ثم بالرومية ثم بالسودانية ثم استدعى الصقلبية فمرت به تلك الكلمة فيها فإذا هي شتمة فبقيت في نفسه حتى قتلهما.
وبلغه وهو بالمغرب أمر الحرب من بني حسن وبني جعفر بن أبي طالب بالحجاز وأنه قتل من بني الحسن أكثر ممن قتل بنو حسن من بني جعفر فأنفذ مالا ورجالا سرا سعوا بين الطائفتين حتى اصطلحوا وتحملوا الحمالات عنهما.
وكان فاضل القتلى لبني حسن عند بني جعفر سبعين قتيلاً فأدى القوم ذلك إليهم وعقدوا بينهم في المسجد الحرام صلحاً وتحملوا دياتهم من مال المعز وذلك في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فصار ذلك جميلا عند بني حسن للمعز فلما دخل جوهر مصر بادر حسن بن جعفر الحسني فملك مكة ودعا للمعز وكتب إلى جوهر بذلك فبعث بالخبر إلى المعز فأنفذ من المغرب إليه بتقليد الحرم وأعماله.