الخليفة العاضد بالله على مصر - الخليفة رقم 155 فى سلسلة الخلفاء المسلمين الذين حكموا مصر وأيضا الخليفة الفاطمى الشيغى رقم 12 من سلسلة عائلة الفاطميين الذين إحتلوا مصر وهو آخر الخلفاء الفاطميين الشيعة الذين حكموا مصر
****************************************************************************************
الجزء التالى من مرجع عن الخلفاء الذين حكموا مصر وهى تحت إستعمار الأسرة الفاطمية الشيعية الإسلامية - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة
****************************************************************************************
خلافة العاضد بالله على مصرسنة 556 - 566 هـ
خلافة العاضد بالله على مصر الخليفة أبو محمد عبد الله العاضد بالله ابن الأمير يوسف ابن الخليفة الحافظ بالله عبد المجيد ابن الأمير محمد ابن الخليفة المستنصر بالله معد ابن الظاهر بالله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله معد بن المنصور إسماعيل ابن القائم بالله محمد بن المهدي عبيد الله الفاطمي العبيدي المغربي الأصل المصري الحادي عشر من خلفاء بني عبيد بمصر والرابع عشر بالثلاثة الذين ولوا بالمغرب : المهدي والقائم والمنصور.
ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة وقيل سنة أربعين.
وقال قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان - رحمه الله -: ولد يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرم سنة سبع وأربعين وخمسمائة وبويع في رجب بعد موت ابن عمه الفائز بنصر الله سنة خمس وخمسين وخمسمائة وهو ابن إحدى عشرة سنة وشهور. وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عباس الوزير بعد قتل الظافر. انتهى.
وقال أبو المظفر بن قز أوغلي في تاريخه: وتوفي يعني العاضد يوم عاشوراء وعمره ثلاث وعشرون سنة فكانت أيامه إحدى عشرة سنة. واختلفوا في سبب وفاته على أقوال. أحدها أنه تفكر قي أموره فرآها في إدبار فأصابه ذرب عظيم فمات منه.
والثاني أنه لما خطب لبني العباس بلغه فاغتم ومات وقيل: إن أهله أخذوا عنه ذلك وقالوا: إن سلم فهو يعلم وإن مات فلا ينبغي أن ننغض عليه هذه الأيام التي بقيت من عمره.
والثالث أنه لما أيقن بزوال دولته كان في يده خاتم له فص مسموم فمصه فمات منه.
وجلس صلاح الدين في عزائه ومشى في جنازته وتولى غسله وتكفينه ودفنه عند أهله.
واستولى السلطان صلاح الدين على ما في القصر من الأموال والذخائر والتحف والجواهر والعبيد والخدم والخيل والمتاع وغيره.
وكان في القصر من الجواهر النفيسة ما لم يكن عند خليفة ولا ملك مما كان قد جمع في طول السنين.
فمنه: القضيب الزمرد وطوله قبضة ونصف والجبل الياقوت الأحمر والمرة اليتيمية مثل بيض الحمام والياقوتة الحمراء وتسمى الحافر وزنتها أربعة عشر مثقالا.
ومن الكتب المنتخبة بالخطوط النفيسة مائة ألف مجلد.
ووجد عمامة القائم وطيلسانه كان البساسيري بعث بهما إلى المستنصر يعني لما استولى البساسيري على بغداد وأسر الخليفة القائم العباسي وخطب ببغداد للمستنصر من بني عبيد ثم بعث بعمامة القائم وطيلسانه فأخذوهما خلفاء مصر فاحتفظوا عليهما نوعًا من النكاية في بني العباس فهذا شرح قول أبي المظفر من عمامة القائم والطيلسان. قال: ووجدوا أموالا لا تعد ولا تحصى.
وأفرد صلاح الدين أهل العاضد ناحية عن القصر وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه وسلمهم إلى الخادم قراقوش فعزل الرجال عن النساء واحتاط عليهم.
ومما وجد في خزانة العاضد طبل القولنج الذي صنع للظافر وكان من ضربه خرج منه ريح واستراح من القولنج - قلت: قد تقدم الكلام قبل ذلك على هذا الطبل في محله -.
قال: فوقع الطبل إلى بعض الأكراد فلم يدر ما هو فكسره لأنه ضرب عليه فخرج منه ريح فحنق وضربه وكسره.
قال: وفرق صلاح الدين الأموال التي أخذها من القصر في العساكر وباع بعض الجواري والعبيد وأعطى للقاضي الفاضل من الكتب ما أراد وبعث إلى نور الدين بعمامة القائم وطيلسانه وهدايا وتحف وطيب ومائة ألف دينار.
وكان نور الدين بحلب فلما حضرت بين يديه قال: والله ما كان لي حاجة إلى هذا ما وصل إلينا عشر معشار ما أنفقناه على العساكر التي جهزناها إلى مصر وما قصدنا بفتحها إلا فتح الساحل و قلع الكفار منه.
وانقضت أيام الخلفاء المصريين بوفاة العاضد وعدتهم أربعة عشر على عدد بني أمية إلا أن أيامهم طالت فملكوا مائتين وثماني سنين وبنو أمية ملكوا نيفًا وتسعين سنة.
قال: وأول المصريين عبيد الله الملقب بالمهدي. قلت: ليس هو كما قال: إن عبيد الله أول خلفاء المصريين وإنما أولهم المعز لدين الله معد. نعم إن كان قصد بأن يكون أولهم ممن دعي له على المنابر بالمغرب وأطلق عليه اسم الخليفة فيكون وأما أنه ملك مصر فلا.
قال أبو المظفر: قال ابن عبد البر: هو عبيد الله بن محمد بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق - عليه السلام -.
والثاني ابنه أبو القاسم محمد ويلقب بالقائم بأمر الله والثالث ابنه إسماعيل ويلقب بالمنصور والرابع ابنه معد ويلقب بالمعز لدين الله.
- قلت: وهذا المعز هو الذي تقدم ذكره أنه أول من ولي مصر من بني عبيد وبنى له جوهر القائد القاهرة وهو أول خليفة سكن مصر من بني عبيد ولهذا كنا نقول في تراجمهم الأول من خلفاء مصر والرابع ممن ولي من آبائه بالمغرب وعلى هذا سلكنا في تراجمهم -.
قال: والخامس ابنه نزار ويلقب بالعزيز بالله والسادس ابنه منصور ويلقب بالحاكم بأمر الله والسابع ابنه علي ويلقب بالظاهر لدين الله والثامن ابنه معد ويلقب بالمستنصر بالله وقد ولي ستين سنة والتاسع أبو القاسم أحمد ويلقب بالمستعلي والعاشر ابنه منصور ويلقب بالآمر بأحكام الله وانقطع نسله وولي ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم بن المستنصر ويلقب بالحافظ لدين الله وهو الحادي عشر والثاني عشر ولده إسماعيل ويلقب بالظافر والثالث عشر أبو القاسم عيسى ويلقب بالفائز بنصر الله والرابع عشر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ويلقب بالعاضد. انتهى كلام صاحب مرآة الزمان وغيره.
قلت: فائدة جليلة لم يل الخلافة أحد من الفاطميين بعد أخيه وهذا لم يقع لغيرهم.
وأما عدد خلفاء بني أمية فهم كما قال: أربعة عشر لكنه ما عدهم فنقول: هم معاوية بن أبي سفيان ثم ابنه يزيد بن معاوية ثم ابنه معاوية بن يزيد ثم مروان بن الحكم ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد ابن عبد الملك ثم أخوه سليمان بن عبد الملك ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن مروان ثم يزيد بن عبد الملك ثم أخوه هشام بن عبد الملك ثم الوليد الفاسق ابن يزيد بن عبد الملك ثم ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك المعروف بالناقص ثم أخوه إبراهيم ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم المعروف بالحمار وهو آخرهم قتل بسيف بني العباس.
قلت: وكان وزير العاضد شاور. وشاور هذا هو الذي وقع له مع الأمير أسد الدين شيركوه الآتي ذكره ما وقع.
يأتي ذلك كله في ترجمة ابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب مفصلا لكن نذكر هنا من أحوال شاور المذكور نبذة كبيرة ليكون الناظر بعد ذلك فيما يأتي على بصيرة بترجمة شاور المذكور.
وكان شاور قد وزر للعاضد بعد قتل رزيك ابن الملك الصالح طلائع بن رزيك. وكان دخوله إلى القاهرة من قوص في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة لما ملكها رزيك ودخل معه خلق كثير ونزل بدار سعيد السعداء ودخل معه أولاده طيئ وشجاع.
فلما وزر زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرات. وكان يجلس والأبواب مغلقة عليه خيفة من حواشي رزيك. وكان رزيك أنشأ أمراء يقال لهم البرقية ويقال لكبيرهم ضرغام.
فولى شاور ضرغامًا المذكور الباب وكان فارسًا شجاعًا جمع على شاور حتى أخرجه من القاهرة وقتل ولده الأكبر المسمى بطيئ وبقي ابنه شجاع المنعوت بالكامل.
فسار شاور إلى الشام واستنجد بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سنقر المعروف بالشهيد فأرسل معه الملك العادل أحد أمرائه وهو الأمير أسد الدين شيركوه بن شادي.
يأتي ذكر ذلك كله في آخر هذه الترجمة وأيضًا في ترجمة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بأوسع من هذا بعد أن نذكر أقوال جماعة من المؤرخين قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخ الإسلام - بعد ما ساق نسبته إلى أن قال -: العبيدي الرافضي الذي زعم هو وبيته أنهم فاطميون وهو آخر خلفاء مصر.
ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة في أولها.
فلما هلك الفائز ابن عمه واستولى الملك الصالح طلائع بن رزيك الديار المصرية بايع العاضد وأقامه صورة وكان كالمحجور عليه لا يتصرف في كل ما يريد ومع هذا كان رافضيًا سبابًا خبيثًا.
قال ابن خلكان: كان إذا رأى سنيًا استحل دمه. وسار وزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك بسيرة مذمومة واحتكر الغلات فغلت الأسعار وقتل أمراء الدولة خيفة منهم وأضعف أحوال دولتهم فقتل ذوي الرأي والبأس وصادر أولي الثروة.
وفي أيام العاضد ورد حسين بن نزار بن المستنصر العبيدي من المغرب وقد جمع وحشدت فلما قارب مصر غدر به أصحابه وقبضوا عليه وأتوا به إلى العاضد فذبحه صبرًا في سنة سبع وخمسين.
ثم قتل العاضد طلائع بن رزيك ووزر له شاور فكان سبب خراب دياره ودخل أسد الدين إلى ديار مصر وقتل شاور ومات أسد الدين شيركوه وقام في الأمر ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وتمكن وقال القاضي جمال الدين بن واصل: حكى لي الأمير حسام الدين بن أبي علي قال: كان جدي في خدمة صلاح الدين فحكى أنه لما وقعت هذه الواقعة يعني وقعة السودان بالقاهرة التي زالت دولتهم فيها وزالت آل عبيد من مصر يأتي ذكر هذه الواقعة في آخر ترجمة العاضد إن شاء الله تعالى قال: وشرع صلاح الدين يطلب من العاضد أشياء من الخيل والرقيق والأموال ليتقوى بذلك.
قال: فسيرني يومًا إلى العاضد أطلب منه فرسًا ولم يبق عنده إلا فرس واحد فأتيته وهو راكب في البستان المعروف بالكافوري الذي يلي القصر فقلت: السلطان صلاح الدين يسلم عليك ويطلب منك فرسًا فقال: ما عندي إلا الفرس الذي أنا راكبه ونزل عنه وشق خفيه ورمى بهما وسلم إلي الفرس فأتيت به صلاح الدين ولزم العاضد بيته.
واشتغل صلاح الدين بالأمر وبقي العاضد معه صورة إلى أن خلعه وخطب في حياته لأمير المؤمنين المستضيء بأمر الله العباسي وأزال الله تلك الدولة المخذولة. انتهى.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: اجتمعت بالأمير أبي الفتوح بن العاضد وهو مسجون مقيد في سنة ثمان وعشرين وستمائة فحكى لي أن أباه في مرضه استدعى صلاح الدين فحضر فأحضرونا يعني أولاده ونحن صغار فأوصاه بنا فالتزم إكرامنا واحترامنا. ثم قال أبو شامة: وهم أربعة عشر خليفة وعدهم نحوًا مما ذكرناه إلى أن قال: ويدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوائم فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي الدولة اليهودية والمجوسية الملحمة الباطنية. قال: وقد ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر وأنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحًا بل المعروف أنهم بنو عبيد وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي.
قال: وقيل إن والد عبيد هذا كان يهوديًا من أهل سلمية وكان جوادًا. وعبيد كان اسمه سعيدًا فلما دخل المغرب تسمى بعبيد الله وادعى نسبًا ليس بصحيح قال ذلك جماعة من علماء الأنساب.
ثم ترقت به الحال إلى أن ملك المغرب وبنى المهدية وتلقب بالمهدي وكان زنديقًا خبيثًا عدوًا للإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة.
وقد بين نسبهم جماعة مثل القاضي أبي بكر الباقلاني فإنه كشف في أول كتابه المسمى بكشف أسرار الباطنية عن بطلان نسب هؤلاء إلى علي - رضي الله عنه - وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد استقصى الكلام في أصولهم. انتهى.
قلت. وقد ذكرنا نوعًا من ذلك في عدة تراجم من هذا الكتاب من بني عبيد المذكورين وفي المحضر المكتتب من جهة الخليفة القائم بأمر الله العباسي وغيره. وقال بعضهم: كانت وفاة العاضد في يوم عاشوراء بعد إقامة الخطبة بيوميات قليلة في أول جمعة من المحرم لأمير المؤمنين المستضيء بالله والعاضد آخر خلفاء مصر فلما كانت الجمعة الثانية خطب بالقاهرة أيضًا للمستضيء بسائر الجوامع ورجعت الدعوة العباسية بعد أن كانت قد قطعت بها أعني الديار المصرية وأعمالها أكثر من مائتي سنة.
وتسلم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قصر الخلافة واستولى على ما كان به من الأموال والذخائر وكانت عظيمة الوصف وقبض على أولاد العاضد وحبسهم في مكان واحد بالقصر وأجرى عليهم ما يمونهم وعفى آثارهم وقمع مواليهم وسائر نسائهم. قال: وكانت هذه الفعلة من أشرف أفعاله فلنعم ما فعل فإن هؤلاء كانوا باطنيين زنادقة دعوا إلى مذهب التناسخ واعتقاد حلول الجزء الإلهي في أشباحهم. وقد قال الحاكم لداعيه: كم في جريدتك قال ستة عشر ألفًا يعتقدون أنك الإله.
وقال قائلهم - وأظنه في الحاكم بأمر الله -: الكامل ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار قال: فلعن الله المداح والممدوح فليس هذا في القبح إلا كقول فرعون: أنا ربكم الأعلى.
وقال الحافظ شمس الدين الذهبي: وقال بعض شعرائهم في المهدي - وهو غاية في الكفر -: مخلع البسيط حل برقادة المسيح حل بها آدم ونوح حل بها الله في علاه وما سوى الله فهو ريح قال: وهذا أعظم كفرًا من النصارى لأن النصارى يزعمون أن الجزء الإلهي حل بناسوت عيسى فقط وهؤلاء يعتقدون حلوله في جسد آدم ونوح والأنبياء وجميع الأمة. هذا اعتقادهم. لعنهم الله!.
وقال القاضي شمس الدين بن خلكان - رحمه الله -: سمعت جماعة من المصريين يقولون: هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء: أكتب لنا ألقابًا في ورقة تصلح للخلفاء حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب. فكتب لهم ألقابًا كثيرة وآخر ما كتب في الورقة العاضد فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتفاق. وأخبرني أحد علماء المصريين أيضًا: أن العاضد المذكور في آخر دولته رأى في منامه أنه بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها فلدغته. فلما استيقظ ارتاع لذلك فطلب بعض معبري الرؤيا وقص عليه المنام فقال: ينالك مكروه من شخص هو مقيم بالمسجد.
فطلب والي مصر وقال له: اكشف عمن هو مقيم بالمسجد الفلاني - وكان العاضد قد رأى ذلك المسجد - فإذا رأيت أحدًا أحضره إلي. فمضى الوالي إلى المسجد فوجد به رجلا صوفيًا فأخذه ودخل به إلى العاضد. فلما رآه سأله من أين هو ومتى قدم البلاد وفي أي شيء قدم وهو يجاوبه عن كل سؤال. فلما ظهر منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئًا وقال له: يا شيخ ادع لنا وخلى سبيله وخرج من عنده وعاد إلى المسجد. فلما استولى السلطان صلاح الدين على الديار المصرية وعزم على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء وأفتوه بجواز ذلك لما كان عليه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة والاشتهار بذلك فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم بالمسجد وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني. انتهى كلام ابن خلكان.
ولما استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على مصر كتب إلى الوزير ببغداد على يد شمس الدين محمد بن المحسن بن الحسين بن أبي المضاء البعلبكي الذي خطب أول شيء بمصر لبني العباس بإشارة السلطان صلاح الدين وكان الكتاب من إنشاء القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني وكان مما فيه: وقد توالت الفتوح غربًا ويمنًا وشامًا وصارت البلاد بل الدنيا والشهر بل الدهر حرمًا حرامًا وأضحى الدين واحدًا بعد ما كان أديانًا والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها صفًا وعميانًا والبدعة خاشعة والجمعة جامعة والمذلة في شيع الضلال شائعة وذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء وسموا أعداء الله أصفياء وتقطعوا أمرهم بينهم شيعًا وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعًا وكذبوا بالنار فعجلت لهم نار الحتوف ونثرت أقلام الظبا حروف رؤوسهم نثر الأقلام للحروف ومزقوا كل ممزق وأخذ منهم كل مخنق وقطع دابرهم ووعظ ائبهم غابرهم ورغمت أنوفهم ومنابرهم وحقت عليهم الكلمة تشريدًا وقتلا وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلا.
وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم ولا النيل عن السير إليهم بنائم.
ولا خفاء عن المجلس الصاحبي أن من شد عقد خلافة وحل عقد خلاف وقام بدولة وقعد بأخرى قد عجز عنها الأخلاف والأسلاف فإنه مفتقر إلى أن يشكر ما نصح ويقلد ما فتح ويبتغ ما اقترح ويقدم حقه ولا يطرح ويقرب مكانه وإن نزح وتأتيه التشريفات الشريفة.
- ثم قال بعد كلام آخر -: وقد أنهض لإيصال ملطفاته وتنجيز تشريفاته خطيب الخطباء بمصر وهو الذي اختاره بمصر لصعود المنبر وقام بالأمر قيام من بر.
واستفتح بلبس السواد الأعظم الذي جمع الله عليه السواد الأعظم.
ثم كتب السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل نور الدين يطلب منه أباه وأقاربه ويأتي ذلك كله في ترجمة صلاح الدين مفصلا إن شاء الله تعالى.
ذكر المؤرخ المسلم المقريزى فى لمواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار البلاد التالية فى الجزء الأول 43 / 167 :ثم كانت خلافة العاضد لدين الله في وزارة شاور بن مجير السعديّ الوزارة الثانية عندما حضر ملك الفرنج مري إلى القاهرة وحصرها وقرّر على أهلها المال واحترقت مدينة الفسطاط فنزل على تنيس وأشموم ومنية عمر وصاحب أسطول الفرنج في عشرين شونة قتل وأسر وسبى.
ذكر المؤرخ المسلم المقريزى فى لمواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار البلاد التالية فى الجزء الأول 43 / 167 : وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب للعاضد وصل الفرنج إلى دمياط في شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة وهم فيما يزيد على ألف ومائتي مركب فخرجت العساكر من القاهرة وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار فأقامت الحرب مدّة خمسة وخمسين يومًا وكانت صعبة شديدة واتهم في هذه النوبة عدة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم وقبض عليهم الملك الناصر وقتلهم.
وكان سبب هذه النوبة أنّ الغزو لما قدموا إلى مصر من الشام صحبة أسد الدين شيركوه تحرّك الفرنج لغزو ديار مصر خشية من تمكن الغزو بها فاستمدّوا إخوانهم أهل صقلية فأمدّوهم بالأموال والسلاح وبعثوا إليهم بعدة وافرة فساروا بالدبابات والمجانيق ونزلوا على دمياط في صفر وهم في العدة التي ذكرنا من المراكب وأحاطوا بها بحرًا وبرًّا فبعث السلطان بابن أخيه تقي الدين عمرو وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحازميّ في العساكر إلى دمياط وأمدّهما بالأموال والميرة والسلاح واشتدّ الأمر على أهل دمياط وهم ثابتون على محاربة الفرنج.
فسيَّر صلاح الدين إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستنجده ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفًا من قيام المصريين عليه فجهز إليه العساكر شيئًا بعد شيء وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التي بالساحل وأغار عليها واستباحها فبلغ ذلك الفرنج وهم على دمياط فخافوا على بلادهم من نور الدين أن يتمكن منها فرحلوا عن دمياط في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل بعدما غرق لهم نحو الثلثمائة مركب وقلت رجالهم بفناء وقع فيهم وأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها وكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إليَّ مدة مقام الفرنج عل دمياط: ألف ألف دينار سوى ما أرسله إلي من الثياب وغيرها.
الأسباب التي كانت سببًا لذهاب ملك العاضد وزوال دولة الفاطميين
بني عبيد من ديار مصر وابتداء ملك بني أيوب على سبيل الاختصار مجملا.
وقد ذكرنا ذلك كله في التراجم والحوادث على عادة سياق هذا الكتاب من أوله إلى آخره غير أن الذي نذكره هنا متعلق بالوزراء وكيفية انفصال الدولة فأول الأمر قتل العاضد وزيره الملك الصالح طلائع بن رزيك وكنيته أبو الغارات الأرمني الأصل.
أقام وزيرًا بمصر سبع سنين وقد ذكرنا ابتداء أمره في آخر ترجمة الظافر وأول ترجمة الفائز وكان الفائز معه كالمحجور عليه.
ولما مات الفائز أقام العاضد هذا في الخلافة وتولى تدبير ملكه على عادته وولى شاور بن مجير السعدي الصعيد. ثم ثقل طلائع هذا على العاضد فدبر في قتله. فلما كان عاشر شهر رجب سنة ست وخمسين وخمسمائة حضر الصالح طلائع إلى قصر الخلافة فوثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه ثم في ترقوته فحمل إلى داره وقتل الباطني.
ومات الملك الصالح طلائع بن رزيك من الغد فحزن الناس عليه لحسن سيرته وأقيم المأتم عليه بالقصر وبالقاهرة ومصر.
وكان جوادًا ممدحًا فاضلا شاعرًا كثير الصدقات حسن الآثار بنى جامعًا خارج بابي زويلة يعرف بجامع الصالح وآخر بالقرافة وتربة إلى جانبه وهو مدفون بها.
وقام بعده في الوزر ابنه رزيك بن طلائع بن رزيك ولقب بمجد الإسلام.
وفرح العاضد بقتل طلائع المذكور إلى الغاية وكان في ذلك عكسه على ما يأتي : وهو أن رزيك لما وزر مكان والده طلائع سار على سيرة أبيه فلم يحسن ذلك ببال العاضد فأحب ذهابه أيضًا ليستبد بالأمور من غير وزيرة فدس إلى شاور فتحرك شاور بن مجير السعدي من بلاد الصعيد وجمع أوباش الصعيد من العبيد والأوغاد وقدم إلى القاهرة تحرابًا لرزيك.
فخرج إليه رزيك بن طلائع وقاتله والعاضد في الباطن مع شاور فانهزم رزيك.
ودخل شاور إلى القاهرة وملكها وأخرب دور الوزارة ودور بني رزيك واختفى الوزير رزيك المذكور إلى أن ظفر به شاور وقتله.
وتولى شاور الوزارة فعامل العاضد بأفعال قبيحة وأساء السيرة في الرعية وأخذ أمر مصر في وزارته في إدبار. ولما كثر ظلمه خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر من الصعيد - وقيل من مصر - وحشد. فخرج إليه شاور بدسته فهزمه ضرغام وقتل ولده الأكبر طيئ وخذل أهل القاهرة شاور لبغضهم له. فهرب شاور إلى الشام ودخل إلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد فالتقاه نور الدين وأكرمه. فطلب شاور منه النجمة والعساكر وأطمعه في الديار المصرية وقال له: أكون نائبك بها وأقنع بما تعين لي من الضياع والباقي لك. فأجابه نور الدين لذلك وجهز له العساكر مع الأمير أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي أحد أمراء نور الدين.
وخرجوا من دمشق في العشرين من جمادى سنة سبع وخمسين وخمسمائة وكان مع أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في خدمته. فلما وصلوا إلى القاهرة خرج إليهم أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار فحاربهم أيامًا ووقع بينهم حروب وأمور يطول شرحها إلى أن التقوا على باب القاهرة فحمل ضرغام بنفسه في أوائل الناس فطعن وقتل واستقام أمر شاور.
فكانت وزارة ضرغام تسعة أشهر. واستولى شاور ثانيًا على القاهرة. وكان خبيثًا سفاكًا للدماء. ولما ثبت أمره ظهر منه إمارات الغدر بأسد الدين شيركوه.
فأشار صلاح الدين يوسف بن أيوب على عمه أسد الدين شيركوه بالتأخر إلى بلبيس.
وكان أسد الدين لا يقطع أمرًا دون صلاح الدين ففعل ذلك وخرج إلى بلبيس وبعث أسد الدين يطلب من شاور رزق الجند أعني النفقة فاعتذر وتعلل عليه. فكتب أسد الدين إلى نور الدين يخبره بما جرى ودس شاور إلى الفرنج رسلا يدعوهم إلى مصر ويبذل لهم الأموال فاجتمع الفرنج من الساحل وساروا من الداروم متفقين مع شاور على أسد الدين شيركوه.
فتهيأ أسد الدين لحربهم وحاربهم فقوي الفرنج عليه وحاصروه بمدينة بلبيس نحو شهرين حتى صالحهم أسد الدين على مال.
وكان حصارهم له من أول شهر رمضان إلى ذي القعدة. ووقع بينهم حروب وأمور حتى بلغهم أن نور الدين الشهيد قصد بلادهم من الشام فعند ذلك رجعت الفرنج وصالحوا أسد الدين شيركوه فعاد أسد الدين إلى الشام وهو في غاية من القهر. وأقام شاور بالقاهرة على عادته يظلم ويقتل ويصادر الناس ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي.
وأقام أسد الدين بدمشق في خدمة نور الدين إلى سنة اثنتين وستين فعاد بعساكر الشام إلى مصر ثانيًا.
وسببه أن العاضد لما غلب عليه شاور كتب إلى نور الدين يستنجده على شاور وأنه قد استبد بالأمر وظلم وسفك الدم.
وكان في قلب نور الدين من شاور حرازة لكونه غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد عليه بالفرنج. فخرج أسد الدين بعساكر الشام من دمشق في منتصف شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وستين المذكورة وسار أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب حتى نزل بر الجيزة غربي مصر على بحر النيل.
وكان شاور قد أعطى الفرنج الأموال وأقطعهم الإقطاعات وأنزلهم دور القاهرة وبنى لهم أسواقًا تخصهم. وكان مقدم الفرنج الملك مري وابن نيرزان. فأقام أسد الدين على الجيزة شهرين وعمى إلى بر مصر والقاهرة في خامس عشرين جمادى الآخرة وخرج إليه شاور والفرنج.
ورتب شاور عساكره فجعل الفرنج على الميمنة مع ابن نيرزان وعسكر مصر في الميسرة وأقام الملك مري الفرنجي في القلب في عسكره من الفرنج.
ورتب أسد الدين عساكره فجعل صلاح الدين في الميمنة وفي الميسرة الأكراد وأسد الدين في القلب فحمل الملك مري على القلب فتعتعه وكانت أثقال المسلمين خلفه فاشتغل الفرنج بالنهب وحمل صلاح الدين على شاور فكسره وفرق جمعه.
وعاد أسد الدين إلى ابن أخيه صلاح الدين وحملا على الفرنج فانهزموا فقتلا منهم ألوفًا وأسرا مائة وسبعين فارسًا. وطلبوا القاهرة فلو ساق أسد الدين خلفهم في الحال فأقام صلاح الدين بها وسار أسد الدين إلى الصعيد فاستولى عليه وأقام يجمع أمواله.
وخرج شاور والفرنج من القاهرة فحصروا الإسكندرية أربعة أشهر وأهلها يقاتلون مع صلاح الدين ويقوونه بالمال.
وبلغ أس
د الدين فجمع عرب البلاد وسار إلى الإسكندرية فعاد شاور إلى القاهرة وراسل أسد الدين حتى تم الصلح بينهم وأعطى شاور أسد الدين إقطاعًا بمصر وعجل له مالا.
فعاد أسد الدين إلى الشام ومعه صلاح الدين. واعتذر أسد الدين إلى الملك العادل نور الدين محمود بكثرة الفرنج والمال.
ورأى صلاح الدين لأهل الإسكندرية ما فعلوا فلما ملك مصر بعد ذلك أحسن إليهم.
ثم إن الفرنج طلبوا من شاور أن يكون لهم شحنة بالقاهرة ويكون أبوابها بأيدي فرسانهم وتحمل إليهم في كل سنة مائة ألف دينار ومن سكن منهم بالقاهرة يبقى على حاله ويعود بعض ملوكهم إلى الساحل فأجابهم شاور إلى ما طلبوا منه.
كل ذلك تقرر بين شاور والفرنج والعاضد لا يعلم بشيء منه. وسار بعض الفرنج إلى الساحل.
وكان الملك العادل نور الدين محمود يخاف على مصر من غلبة الفرنج عليها فسار بعساكره من دمشق وفتح المنيطرة وقلاعًا كثيرة فخاف من كان بمصر من الفرنج. وبينما هم في ذلك عاد الفرنج من الساحل إلى نحو مصر في سنة أربع وستين وطمعوا في أخذها.
وكان خروجهم من عسقلان والساحل إلى نحو مصر في أوائل السنة وساروا حتى نزلوا بلبيس وأغاروا على الريف وأسروا وقتلوا. هذا وقد تلاشى أمر الديار المصرية من الظلم ولم يبق للعاضد من الخلافة سوى الاسم والخطبة لا غير.
فلما بلغ شاور فعل الفرنج بالأرياف أخرج من كان بمصر من الفرنج بعد أن أساء في حقهم قبل ذلك وقتل منهم جماعة كبيرة وهرب الباقون.
ثم أمر شاور أهل مصر بأن ينتقلوا إلى القاهرة ففعلوا وأحرق شاور مصر. وسار الفرنج من بلبيس حتى نزلوا على القاهرة في سابع صفر وضايقوها وضربوها بالمجانيق.
فلم يجد شاور بدًا أن كاتب الملك العادل نور الدين محمودًا بأمر العاضد. وكان الفرنج لما وصلوا إلى مصر في المرتين الأوليين اطلعوا على عوراتها وطمعوا فيها وعلم نور الدين بذلك فأسرع بتجهيز العساكر خوفًا على مصر.
ثم جاءته كتب شاور والعاضدة فقال نور الدين لأسد الدين شيركوه: خذ العساكر وتوجه إليها وقال لصلاح الدين: أخرج مع عمك أسد الدين فامتنع وقال: يا مولاي يكفي ما لقينا من الشدائد في تلك المرة.
فقال نور الدين: لا بد من خروجك فما أمكنه مخالفة مخدومه نور الدين المذكور فخرج مع عمه وساروا إلى مصر. وبلغ الفرنج ذلك فرجعوا عن مصر إلى الساحل. وقيل: إن شاور أعطاهم مائة ألف دينار. وجاء أسد الدين بمن معه من العساكر ونزل على باب القاهرة. فاستدعاه العاضد إلى القصر وخلع عليه في الإيوان خلعة الوزارة ولقبه بالمنصور وشر أهل مصر بذلك.
وقيل: إنه لم يستدعه وإنما بعث إليه بالخلع والأموال والإقامات وكذلك إلى الأمراء الذين كانوا معه.
وأقام أسد الدين مكانه وأرباب الدولة يترددون إلى خدمته في كل يوم ولم يقدر شاور على منعهم لكثرة العساكر ولكون العاضد مائلا إلى أسد الدين المذكور.
فكاتب شاور أيضًا الفرنج واستدعاهم وقال لهم: يكون مجيئكم إلى دمياط في البحر والبر. فبلغ ذلك أعيان الدولة بمصر فاجتمعوا عند الملك المنصور أسد الدين شيركوه وقالوا له: شاور فساد العباد والبلاد وقد كاتب الفرنج وهو يكون سبب هلاك الإسلام.
ثم إن شاور خاف لما تأخر وصول الفرنج فعمل في عمل دعوة لأسد الدين المذكور ولأمرائه ويقبض عليهم. فنهاه ابنه الكامل وقال له: والله لئن لم تنته عن هذا الأمر لأعرفن أسد الدين. فقال له أبوه شاور: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن كفنا. فقال له ابنه الكامل: لأن نقتل والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل والبلاد بيد الفرنج.
وكان شاور قد شرط لأسد الدين شيركوه ثلث أموال البلاد فأرسل أسد الدين يطلب منه المال فجعل شاور يتعلل ويماطل وينتظر وصول الفرنج فابتدره أسد الدين وقتله. واختلفوا في قتله على أقوال أحدها أن الأمراء اتفقوا على قتله لما علموا مكاتبته للفرنج وأن أسد الدين تمارض وكان شاور يخرج إليه في كل يوم والطبل والبوق يضربان بين يديه على عادة وزراء مصر.
- قلت: وعلى هذا القول يكون قول من قال: إن العاضد خلع على أسد الدين شيركوه بالوزارة ولقبه بالمنصور في أول قدومه إلى مصر ليس بالقوي ولعل ذلك يكون بعد قتل شاور على ما سيأتي ذكره. - فجاء شاور ليعود أسد الدين فقبض عليه وقتله.
والثاني أن صلاح الدين وجرديك اتفقا على قتله وأخبرا أسد الدين فنهاهما وقال: لا تفعلا فنحن في بلاده ومعه عسكر عظيم فأمسكا عن ذلك إلى أن اتفق أن أسد الدين ركب إلى زيارة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأقام عنده فجاء شاور على عادته إلى أسد الدين فالتقاه صلاح الدين وجرديك وقالا: هو في الزيارة انزل فامتنع فجذباه فوقع إلى الأرض فقتلاه.
والثالث أنهما لما جذباه لم يمكنهما قتله بغير أمر أسد الدين فسحبه الغلمان إلى الخيمة وانهزم أصحابه عنه إلى القاهرة ليجيشوا عليهم. وعلم أسد الدين فعاد مسرعًا وجاء رسول من العاضد برقعة يطلب من أسد الدين رأس شاور وتتابعت الرسل.
وكان أسد الدين قد بعث إلى شاور مع الفقيه عيسى يقول: لك في رقبتي أيمان وأنا خائف عليك من الذي عندي فلا تجىء.
فلم يلتفت وجاء على العادة فوقع ما ذكرناه.
ولما تكاثرت الرسل من العاضد دخل جرديك إلى الخيمة وجزر رأسه وبعث أسد الدين برأسه إلى العاضد فسر به.
ثم طلب العاضد ولد شاور الملك الكامل وقتله في الدهليز وقتل أخاه واستوزر أسد الدين شيركوه وذلك في شهر ربيع الأول.
وهذا الذي أشرنا إليه من أن ولاية أسد الدين للوزر كانت بعد قتل شاور.
ولما قتل شاور وابنه الكامل بعث العاضد منشورًا بالوزارة لأسد الدين بخط القاضي الفاضل وعليه خط العاضد بما صورته: هذا عهد لم يعهد إلى وزير بمثله فتقفد ما أراك الله أهلا بحمله وخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الافتخار بخدمتك بيت النبوة والزم حق الإمامة تجد إلى الفوز سبيلا.
" ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ".
ثم أرسل العاضد نسخة الأيمان إلى أسد الدين وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الوفاء والطاعة والصفاء. فتصرف أسد الدين شهرين ومات. ولما احتضر أوصى إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فولي صلاح الدين الوزارة ولقب بالملك الناصر على ما يأتي ذكر ذلك كله في ترجمتهما بأوضح من ذلك.
ولما وزر صلاح الدين اختلف عليه جماعة من الأمراء عقيب وفاة أسد الدين.
وبلغ الملك العادل نور الدين اتفاق الأمراء عليه بمصر فقال له توران شاه بن أيوب الذي لقب بعد ذلك بالملك المعظم وكان أسن من صلاح الدين: يا مولانا أريد أن أسير إلى أخي يعني إلى صلاح الدين فقال له نور الدين: إن كنت تسير إلى مصر وترى يوسف أخاك بعين أنه كان يقف في خدمتك وأنت قاعد فلا تسر فإنك تفسد العباد والبلاد فتحوجني إلى عقوبتك بما تستحقه وإن كنت تسير إليه وترى أنه قائم مقامي وتخدمه كما تخدمني أفسر إليه وأشد أزره وساعده على ما هو بصدده وإلا فلا تذهب إليه.
فقال: يا مولانا سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة والطاعة.
وسار إلى مصر فتلقاه صلاح الدين من بلبيس وخدمه وقدم له المال والخيل والتحف وأقام عنده على أحسن حال وفعل ما ضمن لنور الدين من خدمة أخيه صلاح الدين وقوي أمر صلاح الدين به واستقام أمره.
كل ذلك والخطبة باسم العاضد في هذه السنين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة على ما يأتي ذكره في ترجمة السلطان صلاح الدين. ولما تم أمر صلاح الدين بمصر خاف العاضد عاقبة أمره. وكان للعاضد خادم يقال له مؤتمن الخلافة وكان مقدم السودان والخدم والمشار إليه بالقصر.
فأمره العاضد بقتال الترك والغز. واتفق العسكر المصري مع الخادم وثاروا على الترك فقتلوا منهم جماعة.
فركب صلاح الدين وشمس الدولة ودخلا إلى باب القصر وتقاتلا مع مؤتمن الخلافة وأبلى شمس الدولة بلاء حسنًا وقتل الخادم مؤتمن الخلافة وجماعة كبيرة من السودان بعد حروب وقتال عظيم.
فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتب عليه ويقول له: فأين أيماناتكم! هذا الخادم جاهل فعل ما فعل بغير أمرنا فقال صلاح الدين: نحن على الأيمان والعهود ما نتغير وما قتلنا إلا من قصد قتلنا.
وقول العاضد: أين الأيمان والعهود يعني بذلك أنه لما مات أسد الدين شيركوه وأوصى لابن أخيه صلاح الدين المذكور اختلف جماعة من أمراء نور الدين الذين كانوا قدموا مع أسد الدين على صلاح الدين ورام كل واحد منهم الأمر لنفسه استصغارًا بصلاح الدين وهم: عين الدين الياروقي رأس الأتراك وسيف الدين المشطوب ملك الأكراد وشهاب الدين محمود صاحب حارم وهو خال صلاح الدين وجماعة أخر فبادر العاضد واستدعى صلاح الدين وخلع عليه في الإيوان خلعة الوزارة وكتب عهده ولقبه الملك الناصر.
وقيل: الذي لقبه بالملك الناصر إنما هو الخليفة المستضيء العباسي بعد ذلك. ولما ولي الوزارة شرع الفقيه عيسى في تفريق البعض عن بعض وأصلح الأمور لصلاح الدين على ما يأتي في ترجمة صلاح الدين بعد ذلك.
وبذل صلاح الدين الأموال وأحسن لجميع العسكر الشامي والمصري فأحبوه وأطاعوه وأقام نائبًا عن نور الدين يدعى لنور الدين على منابر مصر بعد الخنيفة العاضد ولصلاح الدين بعدهما. واستمر صلاح الدين على ذلك والخطبة للعاضد وقد ضعف أمره وقوي أمر صلاح الدين حتى كانت أول سنة سبع وستين وخمسمائة فكتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة لبني عبيد وأن يخطب بمصر لبني العباس.
فخاف صلاح الدين من أهل مصر ألا يجيبوه ولم يسعه مخالفة أمر نور الدين وقال: ربما وقعت فتنة لا تتدارك فكتب الجواب إلى نور الدين يخبره بذلك فلم يسمع منه نور الدين وخشن عليه في القول وألزمه إلزامًا لا محيد عنه.
ومرض العاضد فجمع صلاح الدين الأمراء والأعيان واستشارهم في أمر نور الدين بقطع الخطبة للعاضد والدعاء لبني العباس فمنهم من أجاب ومنهم من امتنع وقالوا: هذا باب فتنة وما يفوت ذلك والجميع أمراء نور الدين فعاودوا نور الدين فلم يلتفت وأرسل إلى صلاح الدين يستحثه في ذلك فأقامها والعاضد مريض.
واختلفوا في الخطيب فقيل: إنه رجل من الأعاجم يسمى الأمير العالم وقيل: هو رجل من أهل بعلبك يقال له محمد بن المحسن بن أبي المضاء البعلبكي المقدم ذكره الذي توجه في الرسلية من قبل صلاح الدين إلى بغداد وقيل: إنه كان رجلا شريفًا عجميًا ورد من العراق أيام الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك.
قلت: فأشبه أمر الفاطميين في هذا الأمر أمر العباسيين لما انتقلت الدعوة منهم إلى الفاطميين بني عبيد فإنه أول من خطب للمعز معد أول خلفاء مصر من بني الخطيب عمر بن عبد السميع العباسي الخطيب بجامع عمرو وجامع أحمد ابن طولون وهذا من باب المكافأة والمجازاة أعني أن الذي خطب لبني عبيد كان عباسيًا والذي خطب لبني العباس الآن علوي.
انتهى أمر الفاطميين.
وأقيمت الخطبة لبني العباس في أول المحرم والعاضد مريض فأخفى عنه أهله ذلك وقيل: بلغه فأرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه فخاف أن يكون خديعه فلم يتوجه إليه.
ومات العاضد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة وانقضت دولة الفاطميين من مصر بموته. وندم صلاح الدين على قطع خطبته وقال: ليتني صبرت حتى يموت. ثم كتب صلاح الدين يخبر الملك العادل نور الدين بإقامة الدعوة العباسية بمصر.
فكتب نور الدين كتابًا إلى بغداد من إنشاء العماد الكاتب الأصبهاني وفيه: الخفيف قد خطبنا للمستضيء بمصر نائب المصطفى إمام العصر ولدينا تضاعفت نعم الل - - ه وجلت عن كل عد وحصر واستنارت عزائم الملك العا - - دل نور الدين الهمام الأغر هو فتح بكر ودون البرايا خضنا الله بافتراع البكر وهي أطول من ذلك.
وصفا الوقت لصلاح الدين وسمي السلطان وصار يخطب باسمه على منابر مصر بعد الخليفة العباسي والملك العادل نور الدين محمود. وكان ابتداء مرض العاضد من أواخر ذي الحجة سنة ست وستين وخمسمائة.
فلما كان رابع المحرم سنة سبع وستين جلس العاضد في قصره بعد الإرجاف بأنه أثخن في مرضه فشوهد وهو على ما حقق الإرجاف من ضعف القوى وتخاذل الأعضاء وظهور الحمى. وقيل: إن الحمى فشت بأعضائه وأمسك طبيبه المعروف بابن السديد عن الحضور إليه وامتنع من مداواته وخذله مساعدة عليه للزمان وميلا مع الأيام.
ثم خطب في سابع المحرم باسم الخليفة المستضيء بالله العباسي وصرح باسمه ولقبه وكنيته بمصر حسب ما تقدم ذكره.
فمات العاضد بعد ذلك بثلاثة أيام في يوم الاثنين يوم عاشوراء.
وكان لموته بمصر يوم عظيم إلى الغاية وعظم مصابه على المصريين إلى الغاية ووجدوا عيه وجدًا عظيمًا لا سيما الرافضة فإن نفوسهم كادت تزهق حزنًا لانقضاء دولة الرافضة من ديار مصر وأعمالها.
وقد تقدم التعريف بأحوال العاضد في أول ترجمته من عدة أقوال فلا حاجة لتكرار ذلك في هذا المحل.
السنة الأولى من خلافة العاضد وهي سنة ست وخمسين وخمسمائة
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ثماني عشر ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا.
السنة الثانية من خلافة العاضد وهي سنة سبع وخمسين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وأربع أصابع.
السنة الثالثة من خلافة العاضد وهي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة:الماء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثماني أصابع.
السنة الرابعة من خلافة العاضد وهي سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثماني أذرع وثماني أصابع. مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وعشر أصابع.
السنة الخامسة من خلافة العاضد وهي سنة ستين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثماني عشرة إصبعًا.
السنة السادسة من خلافة العاضد وهي سنة إحدى وستين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وإحدى عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا.
السنة السابعة من خلافة العاضد وهي سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم أربع أذرع وأربع وعشرون إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا.
وذكر المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الأول 36 / 167 : "وفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة كانت وقعة البابين بين الوزير شاور وأسد الدين شيركوه فانهزم عسكر شيركوه ومضى منهم طائفة إلى الإسكندرية ثم كانت لشيركوه على شاور فانهزم منه إلى القاهرة ومضى شيركوه إلى الإسكندرية فخرج إليه أهل الثغر وفيهم: نجم الدين محمد بن مصال والي الثغر وقاضيه الأشرف بن الخباب وناظره القاضي الرشيد بن الزبير وسُرّوا بقدومه وسلَّموه المدينة ثم سار منها يريد بلاد الصعيد.
واستخلف ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على الثغر في ألف فارس فنزل عليه شاور ومعه: مري ملك الفرنج فقام معه أهل الثغر واستعدّوا لقتال شاور فكان ما أخرجوه أربعة وعشرين ألف فرس فوعدهم شاور أن يضع عنهم المكوس والواجبات ويعطيهم الخمس إذا سلموه صلاح الدين فأبوا ذلك وألحوا في قتاله فحصرهم حتى قلّ الطعام عندهم فتوجه إليهم شيركوه وقد حشد من العربان جموعًا كثيرة فبعث إليه شاور وبذل له خمسة آلاف دينار على أن يرجع إلى الشام فأجابه إلى ذلك وفتحت المدينة وخرج صلاح الدين إلى مري ملك الفرنج وجلس معه فما زال به شاور أن يسلمه صلاح الدين فلم يوافقه بل سيره إلى عمه شيركوه من البحر على عكا بمن معه إلى دمشق ودخل شاور إلى الإسكندرية في سابع عشر شوّال فاستتر ابن مصال وفرّ إلى الشام وقبض على ابن الخباب وعوقب حتى فداه أهله بمال جزيل ولم يقدر على ابن الزبير وخرج إلى رشيد.
هذا وقد امتنع الفقيه أبو الطاهر بن عوف وجماعة كثيرة بالمنار فوقف عليهم شاور فقال له ابن عوف: اعذرنا يا أمير الجيوش وسامحنا بما فعلناه فعفا عنهم وولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا ناظرًا على الأموال وخرج ومعه مري ملك الفرنج إلى القاهرة ثم توجه مري إلى بلاده.
السنة الثامنة من خلافة العاضد وهي سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وأربع عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا.
السنة التاسعة من خلافة العاضد
السنة التاسعة من خلافة العاضد وهي سنة أربع وستين وخمسمائة.
وفيها قدم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب لقتال الفرنج.
وهذه قدمته إلى مصر الثالثة التي ملك فيها مصر حسب ما تقدم ذكره في ترجمة العاضد: من قتله لشاور وتوليته الوزر للعاضد ووفاته بديار مصر وتولية صلاح الدين يوسف بعده.
والملك أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار السعدي وزير العاضد قتله جرديك النوري.
والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي فجأة بعد شاور بشهرين.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ست أذرع وثماني أصابع.مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا.
السنة العاشرة من خلافة العاضد : وهي سنة خمس وستين وخمسمائة.
وقد وزر له الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ولم يكن له مع صلاح الدين إلا مجرد الاسم فقط.
فيها نزل الفرنج على دمياط يوم الجمعة في ثالث صفر وجدوا في القتال وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يومًا يحاصرونها ليلا ونهارًا.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم خمس أذرع وثماني عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا.
وتحكم وزيره الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
السنة الحادية عشر من خلافة العاضد : وهي سنة ست وستين وخمسمائة.
فيها سار الملك العادل نور الدين محمود من دمشق إلى الموصل وسلمها لابن أخيه عماد الدين زنكي بعد أمور وقعت بينه وبين فخر الدين عبد المسيح المقدم ذكره في الماضية.
وفيها بنى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مدرسة للشافعية وكان موضعها حبس المعونة وبنى بها أيضًا مدرسة للمالكية تعرف بدار الغزل وولى صدر الدين عبد الملك بن درباس الكردي القضاء بالقاهرة.
وفيها في جمادى الآخرة خرج صلاح الدين يوسف بن أيوب بعساكر العاضد إلى الشام فأغار على غزة وعسقلان والرملة ومضى إلى أيلة وكان بها قلعة فيها جماعة من الفرنج والتقاه الأسطول في البحر فافتتحها وقتل من فيها وشحنها بالرجال والعدد وكان على درب الحجاز منهم خطر عظيم. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر في جمادى الآخرة.
وفيها في شعبان اشترى تقي الدين عمر بن شاهنشاه منازل العز بمصر وعملها مدرسة للشافعية.
وفيها توفي الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بأمر الله عبد الله الهاشمي العباسي البغدادي. استخلف يوم مات أبوه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
أمر النيل ني هذه السنة: الماء القديم سبع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا.
ولاية أسد الدين شيركوه على مصر وقد اختلف المؤرخون في أمر ولايته على مصر فمنهم من عده من الأمراء ومنهم من ذكره من الوزراء.
وقد ذكرنا من تردده إلى مصر وقتله لشاور وتوليته الوزارة من قبل العاضد نبذة كبيرة في ترجمة العاضد المذكور.
ونذكر ترجمته الآن على هيئة تراجم أمراء مصر ففي مساق هذه الترجمة وفي سياق تلك الترجمة جمع بين القولين وللناظر فيهما الاختيار فمن شاء يجعله وزيرًا ومن شاء يجعله أميرًا. هو الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وعلى سبيل الاختصار فنقول: كان شاور قد توجه إلى الشام يستنجد نور الدين في سنة تسع وخمسين وخمسمائة فنجده بأسد الدين شيركوه هذا بالعساكر ووصلوا إلى مصر في الثاني من جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين وغدر بهم شاور ولم يف بما وعدهم به فعادوا إلى دمشق وعرفوا نور الدين بذلك.
ثم إن شاور ألجأته الضرورة لطلبهم ثانيًا خوفًا من الفرنج فعاد أسد الدين ثانيًا إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسلك طريق وادي الغزلان وخرج عند وادي إطفيح فكالت بينه وبينهم وقعة هائلة.
وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية واحتمى بها وحاصره شاور لأنه كان قد وقع بينهم وبينه أيضًا واصطلح عليهم مع الفرنج.
ثم رجع أسد الدين من الصعيد نجمة لابن أخيه صلاح الدين وأخذه وسار إلى بلبيس حتى وقع الصلح بينه وبين المصريين وعاد إلى الشام. فحنق نور الدين لذلك ولم يمكنه الكلام لاشتغاله بفتح السواحل ودام ذلك إلى أن وصل الفرنج إلى مصر وملكوها في سنة أربع وستين وقتلوا أهلها. أرسل العاضد يطلب النجدة من نور الدين فنجدهم بأسد الدين شيركوه وهي ثالث مرة فمضى إليهم أسد الدين وطرد الفرنج عنهم وملك مصر في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وخمسمائة.
وعزم شاور على قتل أسد الدين وقتل أصحابه أكابر أمراء نور الدين معه ففطن أسد الدين لذلك فاحترز على نفسه.
وعلم ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب أيضًا فاتفق صلاح الدين يوسف مع الأمير جرديك النوري على مسك شاور وقتله واتفق ركوب أسد الدين إلى زيارة قبر الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وكان شاور يركب في كل يوم إلى أسد الدين فلما توجه إليه في هذا اليوم المذكور قيل له: إنه توجه إلى الزيارة.
فطلب العود فلم يمكنه صلاح الدين وقال: انزل الساعة يحضر عمي. فامتنع فجذبه هو وجرديك فأنزلوه عن فرسه وقبضوا عليه وقتلوه بعد حضور أسد الدين. وخلع العاضد على الأمير أسد الدين شيركوه المذكور بالوزارة ولقبه بالملك المنصور.
فلم تطل مدته ومات بعد شهرين فجأة في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة - وقيل: يوم الأحد ثالث عشرينه - سنة أربع وستين وخمسمائة ودفن بالقاهرة ثم نقل إلى المدينة.
وقال ابن شداد: كان أسد الدين شيركوه كثير الأكل كثير المواظبة على أكل اللحوم الغليظة فتواتر عليه التخم والخوانيق وهو ينجو منها بعد مقاساة شدة عظيمة ثم اعترضه بعد ذلك مرض شديد واعتراه خانوق فقتله في التاريخ المقدم ذكره.
قلت: ولما مات تولى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة من بعده. وكان أسد الدين أميرًا عاقلا شجاعًا مدبرًا عارفًا فطنًا وقورًا. كان هو وأخوه أيوب من أكابر أمراء نور الدين محمود الشهيد وهو الذي أنشأهم حتى صار منهم ما صار.
************************************************************************************
حــــريق القاهرة
ذكر المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثاني ( 67 من 167 ) : " فكان سببه: أن الفرنج لما تغلبوا على ممالك الشام واستولوا على الساحل حتى صار بأيديهم ما بين ملطية إلى بلبيس إلا مدينة دمشق فقط وصار أمر الوزارة بديار مصر: لشاور بن مجير السعدي والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف اسم لا معنى له وقام في منصب الوزارة بالقوة في صفر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وتلقب بأمير الجيوش وأخذ ا ل بني رزيك وزراء مصر وملوكها من قبله فلما استبد بالأمرة حسده ضرغام صاحب الباب وجمع جموعًا كثيرة وغلب شاور على الوزارة في شهر رمضان منها فسار شاور إلى الشام واستقل ضرغام بسلطنة مصر فكان بمصر في هذه السنة ثلاثة وزراء هم: العادل بن رزيك بن طلائع بن رزيك وشاور بن مجير وضرغام فأساء ضرغام السيرة في قتل أمراء الدولة وضعفت من أجل ذلك دولة الفاطميين بذهاب رجالها الأكابر ثم إن شاور استنجد بالسلطان: نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فانجده وبعث معه عسكرًا كثيرًا في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وقد عليه أسد الدين شيركوه على أن يكون لنور الدين إذا عاد شاور إلى منصب الوزارة ثلث خراج مصر بعد إقطاعات العساكر وأن يكون شيركوه عنده بعساكره في مصر ولا يتصرف إلا بأمر نور الدين فخرج ضرغام بالعسكر وحاربه في بلبيس فانهزم وعاد إلى مصر فنزل شاور بمن معه عند التاج خارج القاهرة وانتشر عسكره في البلاد وبعث ضرغام إلى أهل البلاد فأتوه خوفًا من الترك القادمين معه وأتته الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية فامتنعوا بالقاهرة وتطاردوا مع طلائع شاور بأرض الطبالة فنزل شاور في المقس وحارب أهل القاهرة فغلبوه حتى ارتفع إلى بركة الحبش فنزل على الرصد واستولى على مدينة مصر وأقام أيامًا فمال الناس إليه وانحرفوا عن ضرغام لأمور فنزل شاور باللوق وكانت بينه وبين ضرغام حروب آل إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة خارج القاهرة وقتل كثير من الفريقين واختل امر ضرغام وانهزم فملك شاور القاهرة وقتل ضرغام آخر جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين فأخلف شيركوه ما وعد به السلطان نور الدين وأمر بالخروج عن مصر فأبى عليه واقتتلا.
وكان شيركوه قد بعث بابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى بلبيس ليجمع له الغلال وغيرها من الأموال فحشد شاور وقاتل الشاميين فجرت وقائع واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره وقطعة من حارة زويلة فبعث شاور إلى الفرنج واستنجد بهم فطمعوا في البلاد وخرج ملكهم مري من عسقلان بجموعه فبلغ ذلك شيركوه فرحل عن القاهرة بعد طول محاصرتها ونزل بلبيس فاجتمع على قتاله بها شاور وملك الفرنج وحصروه بها وكانت إذ ذاك حصينة ذات أسوار فأقام محصورًا مدة ثلاثة أشهر وبلغ ذلك نور الدين فأغار على ما قرب منه من بلاد الفرنج وأخذها من أيديهم فخافوه ووقع الصلح مع شيركوه على عوده إلى الشام فخرج في ذي الحجة ولحق بنور الدين فأقام وفي نفسه من مصر أمر عظيم إلى أن دخلت سنة اثنتين وستين فجهزه نور الدين إلى مصر في جيش قوي في ربيع الأول وسيره فبلغ ذلك شاور فبعث إلى مري ملك الفرنج مستنجدًا به فسار بجموع الفرنجن حتى نزل بلبيس فوافاه شاور وأقام حتى قدم شيركوه إلى أطراف مصر فلم يطق لقاء القوم فسار حتى خرج من إطفيح إلى جهة بلاد الصعيد من ناحية بحر القلزم فبلغ شاور أن شيركوه قد ملك بلاد الصعيد فسقط في يده ونهض للفور من بلبيس ومعه الفرنج فكان من حروبه مع شيركوه ما كان حتى انهزم بالإشمونين وسار منها بعد الهزيمة إلى الإسكندرية فملكها وأقر بها ابن أخيه صلاح الدين وخرج إلى الصعيد فخرج شاور بالفرنج وحصر الإسكندرية أشد حصار فسار شيركوه من قوص ونزل على القاهرة وحاصرها فرحل إليه شاور وكانت أمور آلت إلى الصلح وسار شيركوه بمن معه إلى الشام في شوال فطمع مري في البلاد وجعل له شحنة بالقاهرة وصارت أسوارها بيد فرسان الفرنج وتقرر لهم في كل سنة مائة ألف دينار ثم رحل إلى بلاده وترك بالقاهرة من يثق به من الفرنج وشار شيركوه إلى الشام فتحكم الفرنج في القاهرة حكمًا جائرًا وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم وانكشفت لهم عورات الناس إلى أن تدخلت سنة أربع وستين فجمع مري جمعًا عظيمًا من أجناس الفرنج وأقطعهم بلاد مصر وسار يريد أخذ مصر فبعث إليه شاور يسأله عن سبب مسيره فاعتل بأن الفرنج غلبوه على قصد ديار مصر وأنه يريد ألفي ألف دينار يرضيهم بها وسار فنزل على بلبيس وحاصرها حتى أخذها عنوة في صفر فسبي أهلها وقصد القاهرة فسير العاضد كتبه إلى نور الدين وفيها شعور نسائه وبناته يسأله إنقاذ المسلمين من الفرنج وسار مري من بلبيس فنزل على بركة الحبش وقد انضم من الأعمال إلى القاهرة فنادى شاور بمصر أن لا يقيم بها أحد وأزعج الناس في النقلة منها فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وقد ماج الناس واضطربوا كأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده ولا يلتفت أخ إلى أخيه وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارًا وكراء الحمل إلى ثلاثين دينارًا ونزلوا بالقاهرة في المساجد والحمامات والأزقة وعلى الطرقات فصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم وقد سلبوا سائر أموالهم وينتظرون هجوم العدو على القاهرة بالسيف كما فعل بمدينة بلبيس وبعث شاور إلى مصر بعشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار فرق ذلك فيها فارتفع لهب النار ودخان الحريق إلى السماء فصار منظرًا مهولًا فاستمرت النار بأتي على مسكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يومًا والنهابة من العبيد ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل في طلب الخبايا فلما وقع الحريق بمصر رحل مري من بركة الحبش ونزل بظاهر القاهرة مما يلي باب البرقية وقاتل أهلها قتالًا كثيرًا حتى زلزلوا زلزالًا شديدًا وضعفت نفوسهم وكادوا يؤخذون عنوة فعاد شاور إلى مقاتلة الفرنج وجرت أمور آلت إلى الصلح على مال فبينا هم في جبايته إذ بلغ الفرنج مجيء أسد الدين شيركوه بعساكر الشام من عند السلطان نور الدين محمود فرحلوا في سابع ربيع الآخر إلى بلبيس وساروا منها إلأى فاقوس فصاروا إلى بلادهم بالساحل ونزل شيركوه بالمقس خارج القاهرة وكان من قتل شاور واستيلاء شيركوه على مصر ما كان فمن حينئذ خربت مصر الفسطاط هذا الخراب الذي هو الآن: كيمان مصر وتلاشى أمرها وافتقر أهلها وذهبت أموالهم وزالت نعمهم فلما استبد شيركوه بوزارة العاضد أمر بإحضار إعيان أهل مصر الذين خلوا عن ديارهم في الفتنة وصاروا بالقاهرة وتغمم لمصابهم وسفه رأي شاور في إحراق المدينة وأمرهم بالعود إليها فشكوا إليه ما بهم من الفقر والفاقة وخراب المنازل وقالوا: إلى أي مكن نرجع وفي أي مكان ننزل ونأوي وقد صارت كما ترى وبكوا وأبكوا فوعدهم جميلًا وترفق بهم وأمر فنودي في الناس بالرجوع إلى مصر فتراجع إليها الناس قليلًا وعمروا ما حول الجامع إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء العظيم في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب لسنتي خمس وخمسمائة فخرب من مصر جانب كبير ثم تحايا الناس بها وأكثروا من العمارة بجانب مصر الغربي على شاطئ النيل لما عمر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة وصار بمصر عدة آدار جلية وأسواق ضخمة فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل: كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء وصار ما يحيط بالجامع العتيق وما على شط النيل عامرًا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة فشرقت بلاد مصر وحدث الوباء بعد الغلاء فخرب كثير من عامر مصر ولم يزل يخرب شيئًا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة فعظم الخراب في خط زقاق القناديل وخط النحاسين وشرع الناس في هدم دور مصرن وبيع أنقاضها حتى صارت على ما هي عليه الآن وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا.
*******************************************************************************
وقال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثاني ( 70 من 167 ) : " فأقام الصالح بن زريك في الخلافة بعده: العاضد لدين الله أبا محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله ومولده لعشر بقين من المحرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وكان عمره يوم بويع نحو إحدى عشرة سنة وقام الصالح بتدبير الأمور إلى أن قتل في رمضان سنة ست وخمسين كما ذكر في خبره عند ذكر الجوامع فقام من بعده ابنه رزنك بن طلائع وحسنت سيرته فعزل شاور بن مجير السعدي عن ولاية قوص فلم يقبل العزل وحشد وسار على طريق الواحات في البرية إلى تروجة فجمع الناس وسار إلى القاهرة فلم يثبت رزيك وفر فقبض عليه بإطفيح واستقر شاور في الوزارة لأيام خلت من صفر سنة ثمان وخمسين فأقام إلى أن ثار ضرغام صاحب الباب ففر منه إلى الشام واستبد ضرغام بالوزارة فقتل أمراء الدولة وأضعفها بسبب ذهاب أكابرها فقدم الفرنج ونازلوا مدينة بلبيس مدة ودافعهم المسلمون عدة مرار حتى عادوا إلى بلادهم بالساحل ورجع العسكر إلى القاهرة وقد قتل منهم كثير فوصل شاور بعساكر الشام في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين فحاربه ضرغام على بلبيس بعساكر مصر وكانت لهم منه معارك انهزموا في آخرها وغنم شاور ومن معه سائر ما خرجوا به وكان شيئًا جليلًا فسروا بذلك وساروا إلى القاهرة فكانت بين الفريقين حروب آلت إلى هزيمة ضرغام وقتله في شهر رمضان منها.
فاستولى شاور على الوزارة مرة ثانية واختلف مع الغزاة القادمين معه من الشام وكانت له معهم حروب آلت إلى أن شاور كتب إلى مري ملك الفرنج يستدعيه إلى القاهرة ليعينه على محاربة شيركوه ومن معه من الغز فحضر وقد صار شيركوه في مدينة بلبيس فخرج شاور من القاهرة ونزل هو ومري على بلبيس وحصرا شيركوه ثلاثة أشهر ثم وقع الصلح فسار شيركوه بالغز إلى الشام ورحل الفرنج وعاد شاور إلى القاهرة في سنة ستين وخمسمائة فلم يزل إلى أن قدم شيركوه من الشام بالعساكر مرة ثانية في ربيع الآخر فخرج شاور من القاهرة إلى لقائه واستدعى مري ملك الفرنج فسار شيركوه على الشرق وخرج من إطفيح فسار إليهشاور بالفرنج وكانت له معه الوقعة المشهورة فسار شيركوه بعد الوقعة من الأشمونين وأخذ الإسكندرية بعد أن استخلف عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب ولم يزل يسير من الإسكندرية إلى قوص وهو يجبي البلاد فخرج شاور من القاهرة بالفرنج ونازل الإسكندرية فبلغ شيركوه ذلك فعاد من قوص إلى القاهرة وحصرها.
ثم كانت أمور آخرها مسير شيركوه وأصحابه من أرض مصر إلى الشام في شوال وقد طمع الفرنج في البلاد وتسلموا أسوار القاهرة وأقاموا فيها شحنة معه عدة من الفرنج لمقاسمة المسلمين ما يتحصل من مال البلد وفحش أمر شاور وساءت سيرته وكثر تجريه على الدماء وإتلافه للأموال فلما كان في سنة أربع وستين قوي تمكن الفرنج في القاهرة وجاروا في حكمهم بها ركبوا المسلمين بأنواع الإهانة.
فسار مري يريد أخذ القاهرة ونزل على مدينة بلبيس وأخذها عنوة فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام يستصرخه ويحثه على نجدة الإسلام وإنقاذ المسلمين من الفرنج فجهز أسد الدين شيركوه في عسكر كثير وجهزهم وسيرهم إلى مصر وقد أحرق شاور مدينة مصر كما تقدم ونزل مري ملك الفرنج على القاهرة وألح في قتال أهلها حتى كاد أن يأخذها عنوة فسير إليها شاور وخادعه حتى رضي بمال يجمعه له فشرع في جبايته وإذا بالخبر ورد بقدوم شيركوه فرحل الفرنج عن القاهرة في سابع ربيع الآخر نز شيركوه على القاهرة بالغز ثالث مرة فخلع عليه العاضد وأكرمه فأخذ شاور يفتك بالغز على عادته فكان من قتله ما ذكر في موضعه وذلك في سابع عشر ربيع الآخر المذكور وتقلد شيركوه وزارة العاضد وقام بالدولة شهرين وخمسة أيام ومات في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة ففوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب فساس الأمور ودبر لنفسه فبذل الأموال وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال فلم يزل أمره في ازدياد.
وأمر العاضد في نقصان وصار يخطب من بعد العاضد للسلطان محمود نور الدين وأقطع أصحابه البلاد وأبعد أهل مصر وأضعفهم واستبد بالأمور ومنع العاضد من التصرف حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة إلى أن كان من واقعة العبيد ما ذكرنا فأبادهم وأفناهم ومن حينئذ تلاشى العاضد وانحل أمره ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة فقط هذا وصلاح الدين يوالي الطلب منه في كل يوم ليضعفه فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى لم يبق عند العاضد غير فرس واحد فطلب منه وألجأه إلى إرساله وأبطل ركوبه من ذلك الوقت.
وصار لا يخرج من القصر البتة وتتبع صلاح الدين جند العاضد وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله فقدموا من الشام عليه فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر وهدم دار المعونة بمصر وعمرها مدرسة للشافعية وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية وعزل قضاة مصر الشيعة وقلد القضاء صدر الدين بن عبد الملك بن درباس الشافعي وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله فعزل سائر القضاة واستتاب قضاة شافعية فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر وأخذ في غزو الفرنج فخرج إلى الرملة وعاد في ربيع الأول ثم سار إلى أيلة ونازل قلعتها حتى أخذها من الفرنج في ربيع الآخر ثم سار إلى الإسكندرية لم شعث سورها وعاد وسير توران شاه فأوقع بأهل الصعيد وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة وعاد فكثر القول من صلاح الدين وأصحابه في ذم العاضد وتحدثوا بخلعه وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر ثم قبض على سائر من بقي من أمراء الدولة وأنزل أصحابه في دورهم في ليلة واحدة فأصبح في البلد من العويل والبكاء ما يذهل وتحكم أصحابه في البلد بأيديهم وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه وقبض على بلاد العاضد ومنع عنه سائر مواده وقبض على القصور وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي وجعله زمامها فضيق على أهل القصر وصار العاضد معتقلًا تحت يده وأبطل من الأذان: حي علي خير العمل وأزال شعار الدولة وخرج بالعزم على قطع خطبة العاضد فمرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلا عشرة أيام منها في الخلافة إحدى عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام وذلك في ليلة يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة والدعاء للمستنجد العباسي بثلاثة أيام وكان كريمًا لين الجانب مرت به مخاوف وشدائد وهو أخر الخلفاء الفاطميين بمصر وكانت مدتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد مائتي سنة واثنتين وسبعين سنة وأيامًا بالقاهرة منها مائتان وثماني سنين فسبحان الباقي
******************************************************************************
موقعة العبيد أو حرب العبيد
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث ( 97 من 167 ) : " وسببها أنّ مؤتمن الخلافة جوهرًا أحد الأستاذين المحنكين بالقصر تحدّث في إزالة صلاح الدين يوسف بن أيوب من وزارة الخليفة العاضد لدين الله عندم ضايق أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة وأضعف جانب الخلافة وقبض على أكابر أهل الدولة فصار مع جوهر عدّة من الأمراء المصريين والجند.
واتفق رأيهم أن يبعثوا إلى الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة واجتمعوا مع الفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة حتّى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكر ثاروا وهم بالقاهرة واجتمعوا مع الفرنج على إخراجه من مصر.
فسيروا رجلًا إلى الفرنج وجعلوا كتبهم التي معه في نعل وحفظت بالجلد مخافة أن يفطن بها فسار الرجل إلى البئر البيضاء قريبًا من بلبيس فإذا بعض أصحاب صلاح الدين هناك فأنكروا أمر الرجل من أجل أنّه جعل النعلين في يده ورآهما وليس فيهما أثر المشي والرجل رثّ الهيئة فارتاب وأخذ النعلين وشقّهما فوجد الكتب ببطنهما فحمل الرجلَ والكتب إلى صلاح الدين فتتّبع خطوط الكتب حتّى عرفت فإذا الذي كتبها من اليهود الكتّاب فأمر بقتله فاعتصم بالإسلام وأسلم وحدّثه الخبر.
فبلغ ذلك مؤتمنّ الخلافة فاستشعر الشرَّ وخاف على نفسه ولزم القصر وامتنع من الخروج منه فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة وطال الأمد فظنّ الخصيّ أنه قد أُهمل أمره وشرع يخرج من القصر.
وكانت له منظرة بناها بناحية الخرقانية في بستان فخرج إليها في جماعة.
وبلغ ذلك صلاح الدين فأنهض إليه عدّة هجموا عليه وقتلوه في يوم الأربعاء لخميس بقين من ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة واحتزوا رأسه وأتوا بها إلى صلاح الدين فاشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع فغضب العسكر المصريّ وثاروا بأجمعهم في سادس عشريّة وقد أنضمّ إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامّة حتّى صاروا ما ينيف عن خمسين ألفًا وساروا إلى دار الوزارة - وفيها يومئذٍ ساكنًا بها صلاح الدين - وقد استعدّوا بالأسلحة فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين وصرخ في عساكر الغزّ وركب صلاح الدين وقد اجتمع إلهي طوائف من أهله وأقاربه وجميع الغزّ ورتبهم ووقفت الطائفة الريحانية والطائفة الجيوشية والطائفة الفرحية وغيرهم من الطوائف السودانية ومن انظمّ إليهم بين القصرين فثارت الحروب بينهم وبين صلاح الدين واشتدّ الأمر وعظم الخطب حتىّ لم يبق إلى هزيمة صلاح الدين وأصحابه.
فعند ذلك أمر توران شاه بالحملة على السودان فقُتل فيها أحد مُقدَّميهم فانكفّ بأسهم قليلًا وعظمت حملة الغزّ عليهم فانكسروا إلى باب الذهب ثمّ إلى باب الزُهومة وقتل حينئذٍ عدّة من الأمراء المصريين وكثير ممّن عداهم.
وكان العاضد في هذه الواقعة يشرف من المنظرة فلمّا رأى أهلُ القصر كسرة السودان وعساكر مصر راموا على الغزّ من أعلى القصر بالنشّاب والحجارة حتّى أنكوا فيهم وكفّوهم عن القتال وكادوا ينهزمون فأمر حينئذٍ صلاح الدين النفّطين بإحراق المنظرة فاحضر شمس الدين النفّاطين وأخذوا في تطييب قارورة النفط وصوَّبوا بها على المنظرة التي فيها العاضد فخاف العاضد على نفسه وفتح بابَ المنظرة زعيم الخلافة أحدُ الأستاذين وقال بصوت عالٍ: أمير المؤمنين يسلّم على شمس الدولة ويقول: دونكم والعبيد الكلاب أخرجوهم من بلادكم.
فلمّا سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم وتخاذلوا فحمل عليهم الغزُّ فانكسروا وركب القوم أقفيتهم إلى أن وصولا إلى السيوفيين فقتل منهم كثير وأسر منهم كثير وامتنعوا هناك على الغزّ بمكان فأحرق عليهم.
وكان في دار الأرمن التي كانت قريبًا من بين القصرين خلق عظيم من الأرمن كلّهم رماة لهم جار في الدولة يجري عليهم فعندما قرب منهم الغزّ رموهم عن يد واحة حتّى امتنعوا عن أن يسيروا إلى العبيد فأحرق شمس الدولة دارهم حتّى هلكوا حرقًا وقتلًا ومرّوا إلى العبيد فصاروا كلّما دخلوا مكانًا أحرق عليهم وقتلوا فيه إلى أن وصلوا إلى باب زُوَيْلة فإذا هو مغلوق فحصروا هناك واستمرّ فيهم القتل مدّة يومين.
ثمّ بلغهم أنّ صلاح الدين أحرق المنصورة التي كانت أعظم حاراتهم وأخذت عليهم أفواه السكك فأيقنوا أنّهم قد أُخذوا لا محالة فصاحوا الأمان فأمنوا - وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة - وفتح لهم باب زويلة فخرجوا إلى الجيزة فعدا عليهم شمس الدولة في العسكر وقد قووا بأموال المهزومين وأسلحتهم وحكّموا فيهم السيف حتى لم يبقَ منهم إلا الشريد وتلاشى من هذه الواقعة أمر العاضد.
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث ( 100 من 167 ) : " الحارة المنصورية هذه الحارة كانت كبيرة متسعة جدًا فيها عدّة مساكن السودان فلمّا كانت واقعتهم في ذي القعدة سنة أربع وستّين وخمسمائة كما تقدّم في ذكر حارة بهاء الدين أمر صلاح الدين يوسف بن أيوّب بتخريب المنصورة هذه وتعفية أثرها فخرّبها خطلبا بن موسى الملقّب صارم الدين وعملها بستانًا.
وكان للسودان بديار مصر شوكة وقوّة فتبعهم صلاح الدين ببلاد الصعيد حتّى أفناهم بعد أن كان لهم بديار مصر في كلّ قرية ومحلّة وضعية مكان مفرد لا يدخله والٍ ولا غيره احترامًا لهم.
وقد كانوا يزيدون على خمسين ألفًا وإذا ثاروا على وزير قتلوه وكان الضرر بهم عظيمًا لامتداد أيديهم إلى أموال الناس وأهاليهم فلمّا كثر بغيهم وزاد تعدّيهم أهلكهم الله بذنوبهم وفي واقعة السودان وتخريب المنصورة وقتل مؤتمن الخلافة الذي تقدّم ذكره العماد الأصفهاني الكاتب يخاطب بهاء الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب: يوسف مصر الذي إليه تشدّ آمالنا الرواحل رأيك في الدهر عن رزايا جلى مهماته الجلائل أجريت نيلين في ثراها نيل نجيع ونيل نائل كم كرم من نداك جارٍ وكم دم من عداك سائل وكم معادٍ بلا معاد ومستطيل بغير طائل وحاسد كاسد المساعي وسائد نافق الوسائل أقررت عين الإسلام بملك مصر حتّى لم يبق فيها قذى لباطل وكيف يزهى بملك مصر من يستقلّ ذنبًا لنائل وما نفيت السودان حتّى حكمت البيض في المقاتل صيّرت رحب الفضا مضيقًا عليهم كفّة لجائل وكلّ رأي منهم كرا وأرض مصر كلام واصل وقد خلت منهم المغاني وأقفرت منهم المنازل وقد خلت منهم المغاني وأقفرت منهم المنازل وما أصيبوا إلا بطلّ فكيف لو أمطروا بوابل وقد تجلّى بالحقّ ما بال - باطل في مصر كان عاجل مؤتمن القوم خان حتّى غالته من شرّه الغوائل عاملكم بالخنا فأضحى ورأسه فوق رأس عامل وحالف الذلّ بعد عزّ والدهر أحواله حوائل يا مخجل البحر بالأيادي قدآن أن تفتح السواحل نقدّس القدس من خباث أرجاس كفر غُتم أراذل وكان موضع المنصور على يمنة من سلك في الشارع خارج باب زويلة.
قال ابن عبد الظاهر: كانت للسودان حارة تعرف بهم تسمّى المنصورة خرّبها صلاح الدين وأخذها خلطبا فعمرها بستانًا وحوضًا وهي إلى جانب الباب الحديد يعني الذي يعرف اليوم بالقوس عند رأس المنجبية فيما بينها وبين الهلالية وقد حكر هذا بستان في الأيام الظاهرية وبعضها يعني المنصورة من جهة بركة الفيل إلى جانب بستان سيف الإسلام ويسمّى الآن بحكر الغتمي لأن الغتمي هذا كان شرع بستان سيف الإسلام فحكر في هذه الجهة وهي الآن أحكار الديوان السلطاني وحكر الغتمي الذي كان بستان سيف الإسلام يعرف اليوم بدرب ابن البابا تجاه البندقدارية بجوار حمّام الفارقاني قريب من صليبة جامع ابن طولون.
************************************************
نهاية الإحتلال الفاطمى
قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار - الجزء الثالث ( 97 من 167 ) : " أن الدولة الفاطمية كان الذي افتتح لها بلاد مصر وبنى القاهرة جوهر القائد والذي كان سببًا في إزالة الدولة وخراب القاهرة جوهر المنعوت بمؤتمن الخِلافة هذا