Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

تاريخ اليهود 63 ق.م - 135 ب.م 

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
أوغسطس قيصر
أربع أباطرة من 68  - 69م
الأمبراطور دوماتيانوس
مصر ولأمبراطور فسباسيانوس
هيكل أونياس اليهودى
الأمبراطور كلوديوس
ثورة اليهود بالأسكندرية
تيتوس قيصر 79- 81م
دوميتان قيصر ٨١–٩٦م
تاريخ اليهود 63 ق.م - 135 ب.م
Untitled 7932
Untitled 7933
نيرون الطاغية

تاريخ اليهود كشعب يدين باليهودية وهم تحت الحكم الرومانى .. أو تاريخ اليهودية أو تاريخ الأراضى المقدسة أو تاريخ إسرائيل او تاريخ بنى إسرائيل ما بين سنة ( 63 ق.م - 135 ب.م) هذا الجزء من كتاب: تاريخ إسرائيل .. من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين .. المؤلف: الأب متى المسكين - الطبعة الأُولى: 1997

*********************************************************************************************************

اليهود تحت حكم الإستعمار  الروماني ( 63 ق.م - 135 ب.م)
أولاً: من بدء الحكم الروماني حتى تولي هيرودس الكبير (37-63 ق.م)

ورث الرومان مملكة السلوقيين التى كان أول من حكم فيها سلوقس أحد قادة الإسكندر الأكبر)  بما فيها اليهودية، ولم يستطيعوا أن يفرِّقوا من الوجهة السياسية بين سوريا واليهودية، فضموا اليهودية إلى سوريا تحت حكم واحد ولكن بعد أن سلخوا من اليهودية جميع البلاد التي لم يكن مواطنوها يهوداً مثل مدن الساحل وجزءاً كبيراً من شرق الأردن(1). وبذلك  وأنحصر اليهود فى بلادهم ذات الغالبية اليهودية بعد أن كانوا قد فرضوا سطوتهم فى عصر المكابيين   السياسي وانحصرت اليهودية على نفسها جداً.

******

المراجع

(1) Josephus, Antiq., XIV, V, 4, Bell Jud., I. 155-157. H, Willrich, The
House of Herod, p. 17.

سكاوروس والي سوريا (  63 - 57 ق.م): -
 وهو أول والٍ تعيَّن من قِبَل القائد بومبي الروماني، وكانت حدود مديريته من نهر
الفرات حتى حدود مصر، تعاونه كتيبتان رومانيتان(2)
وكان أول عمل قام به سكاوروس بالنسبة لليهودية هو تثبيت هركانوس
(الثاني) والياً على اليهودية، وتدعيمه برئاسة الكهنوت سنة 63 ق.م(3)

مكافأة لما أداه من مساعدة في قمع ثورة أرسطوبولس. ولكن ظل يدفع الجزية لسكاوروس باستمرار. وفي طوال أيام بومبي كان الحكم الروماني في غاية الرحمة والحكمة والتلطف، ولكن سرعان ما انقلب إلى شبه نهب  وسلب. فقد طلبت روما ما يزيد عن عشرة آلاف وزنة من الذهب كجزية (4)  ودخلت فلسطين في شبه فوضى وصارت مسرحاً للمغامرات.
وفي الحقيقة منذ عصر اسكندر حنَّاؤس واليهودية تعاني من ظلم الحكام وجورهم، وانتشرت جرائم السرقات والنهب والسلب والقرصنة من اليهود أنفسهم وقد أتهم هركانوس   أخاه أرسطوبولس بجرائم السطو والقرصنة في البر والبحر(5)

ومن أعظم الشخصيات التي ظهرت في الميدان لتطهير هذه المفاسد الاجتماعية - سواء في سوريا أو اليهودية - والضرب على أيدي المغامرين بشدة هو بومبي، وقد مدحه المؤرِّخون وبالأخص سترابو المؤرِّخ المشهور إذ حسبوه ليس امبراطوراً فحسب بل مصلحاً.
وقد حاول سكاوروس إخضاع النباطيين العرب، وجهَّز جيشاً واتجه لمحاربتهم في الجنوب والجنوب الشرقي، وكاد جيشه يخسر المعركة لولا تدخُّل أنتيباس والي أدومية الذي دخل كوسيط لأنه كان صديقاً لبومبي وصديقاً لأريتاس والي العرب، فاستطاع أن يقنع سكاوروس بالانسحاب بعد أن أعان جيشه وموَّنه بالمؤن إذ كان في شبه حالة جوع، كما دخل كضامن للجزية المالية التي كان على أريتاس أن يدفعها(
6)

****

المراجع
(2) Josephus, Antiq., XIV, V, 5.
(3) Josephus, Antiq., XIV, V, 4, Bell. Jud., I, 153.
(4) Josephus, Antiq., XIV, V, 5.
(5) Josephus, Antiq., XIV, III, 2.
(6) Josephus, XIV, V, 1, Bell Jud., I, VIII, 1.

جابينيوس “والي سورية” ( 57 - 55 ق.م): -
تولَّى خلفاً لسكاوروس سنة 57 ق.م، وكان عليه أن يساعد هركانوس ضد ابن أخيه اسكندر بن أرسطوبولس المطالب برئاسة الكهنوت والحكم، والذي هرب من المركب التي كانت تقل أباه وعائلته إلى روما لإقصائهم عن مسرح الحكم ومغامراته، وعاد لمناوءة عمه هركانوس، فجمع الموالين له من اليهود من أطراف البلاد وجهَّز جيشاً من عشرة آلاف متسلِّح وألف وخمسمائة فارس
7). وتحصَّن في الحصون على حدود جبال العربية (1) وقد بعث جابينيوس بحملة 
بقيادة مارك أنطوني، ثم لحقه بجيش كبير بقيادته هو نفسه، وقد التحم معه جنوب أُورشليم وحارب جيش الرومان الرئيسي مع جيش هركانوس جنباً إلى جنب، جنب فإنهزم  اسكندر أرسطوبولس وفَّر إلى الحصون الجنوبية، فحاصروه هناك حتى استسلم، وكان مُزْمَعاً التخلُّص منه، لولا تدخُّل أُمه التي كانت صديقة . للرومان، فأفرجوا عنه (2)
ولكن تسبب هذا العمل الأحمق الذي قام به اسكندر أرسطوبولس في سحب الحكم منه نهائيا  من هركانوس وإعطائه رئاسة الكهنوت فقط. وتقسَّمت البلاد إلى خمسة أجزاء كما يقول يوسيفوس. القسم الأول يشمل أُورشليم .. والقسم الثاني يشمل جدارا (جذارا) على حدود الأراضى المقدسة (الأردن حاليا) ، والثالث حماه، والرابع أريحا، والخامس سيفوريس في الجليل.

وقد قابل الشعب هذا التقسيم بالارتياح لتخلصهم من استبداد الحكم  الفردي(3)
وكان غرض جابينيوس الرئيسي من تقسيم البلاد سهولة جمع الجزية، بالإضافة إلى وضع العراقيل في وجه اسكندر الطامح في الحكم.
في هذه الأثناء فرَّ أرسطوبولس من روما ( 56 ق.م) هو وابنه أنتيجونيس وظهر في فلسطين فجأة، وقد انحازت له حامية أُورشليم التي كانت بقيادة
 بيثولوس (اليهودي) مع ألف محارب(4)
وقد تحرَّج موقف أنتيباتر لأنه كان مقيماً هو وعائلته في أُورشليم لإدارة شئون البلاد من خلف هركانوس، فاضطر إلى ترحيل عائلته لتكون تحت رعاية وحماية الملك العربي أريتاس ملك النباطيين(5)  وقد نجح جابينيوس في تشتيت شمل أرسطوبولس الذي فرَّ إلى الحصون ولم يستطع الصمود، فسلَّم وقُبض عليه وأُرسل  سجيناً إلى روما مرَّة أخرى، أمَّا ولداه فظلا في اليهودية(6)
وقد التجأ إلى جابينيوس في هذه الأثناء أحد قواد البطالسة المدعو بطليموس الحادي عشر “أوليتس ”Auletes"  الذي كان والياً على مصر، وأعطاه عشرة  آلاف وزنة لمعونته في استرداد عرش مصر، وفعلاً قام جابينيوس وغزا مصر وأعان أوليتس في استرداد الحكم
13 ). وكان F  هناك، وكان ذلك في ربيع سنة 55 ق.م(7)

لهركانوس وأنتيباس يدٌ في هذه الغزوة إذ أمدّا جابينيوس بكل ما لزم الحملة من سلاح وقمح للمؤونة. ولكن بسبب غياب جابينيوس في مصر وإنهماكه في الحرب هناك قام اسكندر أرسطوبولس بمحاولة أخرى لغزو اليهودية  متحدِّيا السلطة الرومانية كلها، وقد وجد له موالين ومشجعين كثيرين من اليهود، وابتدأ بذبح كل روماني يقع في يديه. وقد قاوم أنتيباتر الموالين لاسكندر وضيَّع عليهم الفرصة، وإذ علم جابينيوس بالأمر أسرع لملاقاته بجيشه في منطقة الجليل على جبل تابور وأنزل به هزيمة شديدة (8)
 وقد كافأ جابينيوس أنتيباتر على معونته له وصدِّه لاسكندر بأن منحه حكم مقاطعة أُورشليم(9 ولكن كل ذلك لم يثنِ اسكندر أرسطوبولس عن أطماعه، فبحيلة تزوَّج ألكسندرا بنت هركانوس رئيس الكهنة لكي يضمن ميراث رئاسة الكهنوت، لأن هركانوس لم يكن له بنون.
**********

المراجع
(1) Josephus, Antiq., XIV, V, 2, Bell Jud. I, VIII, 2.
(2) Bell. Jud. I, VIII, 3-5.
(3) Josephus, Antiq. XIV, V, 4., Bell Jud. I, VIII, 5.
(4) Josephus, Antiq., VIX, VI, 1., Bell. Jud.
(6) H. Willrich. op. cit., p. 19.
(6) Josephus, Antiq., VI, 1. Dio Cassius, Hist. of Rom., XXXIX, LVI, 5,6.
(7) Bevan, The Ptolemaic Dynasty, p. 236.
(8) Josephus, Antiq., XIV, VI, 2-3, Bell. Jud. I, VIII, 7.
(9) Josephus, Antiq., XIV, VI, 4, Bell. Jud. I, VIII, 7

ثورة بيثولوس حاكم منطقة أُورشليم السابق ( 53 ق.م):
􀄔 لماَّ استُدعي جابينيوس إلى روما وغادر البلاد نهائسا  خلفه القائد كراسوس  الروماني سنة 54 ق.م. كان جابينيوس شديد الوطأة في التثقيل بالضرائب، وبالرغم من ذلك كان محبوباً لعدالته، أمَّا كراسوس فكان لصاً، فقد سطا على أموال اليهود المودعة في الهيكل، وبطرق التحايل والخداع والقوة معاً اغتنم منها ألفي وزنة ذهب دفعة أُولى، ثم تجرأ أكثر واستولى على ثمانية آلاف بحجج كاذبة (16) والمعروف أنه لا يوجد شيء يثير اليهود ويهيج سخطهم مثل ابتزاز أموالهم، وبذلك بدأت فكرة المقاومة العامة. ولمَّا مات كراسوس سنة 53 ق.م
حانت الفرصة لليهود لبدأ إعلان المقاومة بقيادة بيثولوس، لكن اسكندر أرسطوبولس ظل يراقب الأحداث من بعيد ولم يشترك في هذه الثورة. وبمجيء خليفة كراسوس وهو كاسيوس استطاع أن يخمد الثورة في مبدأها، وقبض على  بيثولوس وبمشورة أنتيباتر أعدمه(17)

***********************

المراجع
(16) Josephus, Antiq., XIV, VII, 1, Bell. Jud. I, VIII, 8.
17) Josephus, Antiq, XIV, VIII, 2, Bell. Jud. I, VIII, 9.

النزاع بين قيصر وبومبي ( 49 ق.م):
في بداية سنة 49 ق.م قامت حرب داخلية بين قيصر وبومبي، وما أن جائت نهاية  هذه السنة حتى اعتلى قيصر عرش روما وفرَّ بومبي إلى مكدونية ثم  جاءت إلى مصر.
وقد استعان قيصر في البداية بأرسطوبولس الذي كان أسيراً في روما، فأرسله إلى سوريا مزوداً بكتيبتين رومانيتين لمقاومة أتباع بومبي.
 فأسرع بومبي بقتل اسكندر أرسطوبولس خوفاً من الانحياز إلى أبيه(18) وعندما هزمه بومبي في موقعة “فارسالوس” سنة 48 ق.م ثم فرَّ إلى مصر، فتعقَّبه قيصر إلى هناك، ولكن بومبي مات بعد ذلك بأسابيع قليلة.
**************
المراجع
(18) Josephus, Antiq, XIV, VIII, 4, Bell. Jud. I, VIII, 2
اليهودية في أيام يوليوس قيصر ( 48 - 44 ق.م): -
بعد موت بومبي وجد قيصر نفسه في مواجهة عدو آخر وهو بطليموس الثاني عشر والي مصر، الذي كان في موقع يهيئ له فرصة الغلبة، وهنا يبرز أنتيباتر مرَّة أخرى ببعد نظره الشديد، ففي الحال أرسل إلى قيصر إمدادات عسكرية وتموينية، كما أرسل رسالة سريعة إلى اليهود المقيمين في ليبتوبوليس بمصر لمناصرة قيصر بكل قوتهم  وبهذه المعونة تمكن قيصر من الانتصار أخيراً، ولم يتأخَّر في إبداء رضاه وتشكراته لليهود.
وقد حاول أنتيجونيس بن أرسطوبولس الوحيد الباقي أن يعكِّر العلاقة بين قيصر وأنتيباتر، فذهب بنفسه إلى قيصر وقدَّم دعاوي وشكاوي ودموعاً إلى قيصر لينصفه من أنتيباتر الذي تسبب في قتل أبيه أرسطوبولس وقتل أخيه أسكندر كما وضى بهركانوس   ولكن لم يسمع له قيصر(19) وقام قيصر بتدعيم سلطة هركانوس كرئيس كهنة وكحاكم عام على اليهودية وجعل لقبه متوارثاً لبيته. وفي نفس الوقت جعل أنتيباتر عميلاً لروما على اليهودية. وهذا الإجراء السياسي دقيق في الواقع وغاية في الحذق والمهارة، لأن بُعد نظر قيصر جعله يدرك أن عدم استتباب الأمن في اليهودية عائد لكون الشعب ذا قدرة للتعبير عن مشاعره مباشرة ضد روما المعروف بالحكم الديمقراطي، فعمل على فصل الشعب وجعله تحت سلطة حاكم مفرد، ثم فصل الشعب وحاكمه عن الاتصال المباشر بروما بواسطة عميل يتبع روما ويخضع له بالولاء الكامل، وفي نفس الوقت يمت بصلة مباشرة بالمنطقة  وبهذا ألغى مناوءة الشعب ومناوءة فرقة  الصدوقيين المترأسين على الكهنوت تجاه روما(20)
بذا الإجراء أيضاً أخذ هركانوس حرية كبيرة في إدارة شئون البلاد بدون تحمُّل أي هم أو مسئولية ما، لا من جهة الاتصال بروما ولا من جهة الخوف من ثورات الشعب. ولكي يستطيع أنتيباتر أن يباشر سلطانه على اليهودية بمقتضى الأوامر الرومانية
مَنَحَهُ قيصر حق “الرعوية الرومانية” هو وأولاده من بعده، حتى يكفُل له حق . الحماية الرومانية تجاه أي عداء أو اعتداء من جهة اليهود(20)
وقد أبرز هذا الإجراء الخاص في عين اليهود الاعتقاد والافتخار بأنهم شعب يُحسب حسابه مما جعلهم أكثر تحفزاً. وابتدأوا يستغلون موقف أنتيباتر للمطالبة بحقوق أكثر.
وقد استجاب قيصر لكثير من المطالب، فخفَّض الجزية ومنحهم حرية كاملة للعبادة، مع إعطائهم حق تطبيق ناموسهم وعوائدهم حسب تقاليد جنسهم. وعلى هذا الأساس بدأت المحاكم اليهودية تمارس وظيفتها المستقلة. كما أعفى الشعب من التجنُّد في الجيش الروماني. وقام الجيش الوطني بحماية البلاد بدلاً من الاعتماد على الكتائب الرومانية التي سُحبت من البلاد. كما منحهم قيصر كل إقليم الجليل مرَّة أخرى وبعض مدن الساحل وأهمها يافا، فابتدأت التجارة
اليهودية تنشط من جديد، وكان لها أكبر الأثر في انتعاش اقتصاديات البلاد.
*****************
المراجع
(19) Josephus, Antiq, XIV, VIII, 4, Bell. Jud., I, X, 1.
(20) Willrich, op. cit., p. 24 f.

إعادة بناء سور أورشليم
ومن أهم الامتيازات التي منحها قيصر لليهود هي إعادة بناء سور أُورشليم الذي كان قد هدمه بومبي.
وفوق كل هذا لم ينسَ قيصر المعونة التي قدَّمها له اليهود في مصر أثناء حربه مع بومبي وبطليموس الثاني عشر، لذلك عمل على استرضاء يهود الشتاتوالإحسان إليهم، فأعطى يهود مصر حرية العبادة وبعض الامتيازات (22)
منحهم في روما أيضاً حرية ممارسة طقوسهم الدينية الأمر الذي كان ممنوعاً على أي جماعة أخرى أجنبية عن الرعوية الرومانية.
كما أعطى قيصر تعليمات لكافة الحكومات التابعة والمتحالفة مع روما لمنح اليهود هذه الامتيازات في حدود دوائرهم الخاصة.
كما أمَّن قيصر اليهود ضد أي أعتداء أو ظلم من قبل البلاد المعادية لليهود في الخارج في روما نفسها، أو في الداخل مثل صور وصيدا وأشقلون. فجعل لهم حق الشكوى في أي مكان على أن تُرفع لرئيس كهنتهم أو حاكمهم الخاص.
وقد جعل قيصر هذه الأوامر تعلّق على الكبيتول في روما وفي كافة الهياكل الحكومية في البلاد.
فكانت هذه الإجراءات الأخيرة ذات قيمة عظمى من جهة ربط اليهود المشتتين في كافة البلاد والأُمم بعضهم ببعض، كما جعلت صلتهم المركزية برئيس الكهنة والحاكم المركزي في اليهودية ذات أهمية بالغة القيمة في تمركزهم في أُورشليم وخضوعهم لسلطاتهم الخاصة التى أصبحت قادرة على حمايتهم ومساعدتهم
كما زادت هذه الإجراءات من قوة السلطات المركزية الكهنوتية والمدنية ومن تأثيرها على كافة اليهود المشتتين.
وقد أعفى قيصر كافة اليهود من الجزية (العينية وتسمى فى مصر الجراية)  المفروضة (التي كانت تقدَّم على هيئة قمح) في كل سنة سابعة التي كان مفروضاً على اليهود أن لا يباشروا فيها الزراعة ( 23)  (أي كل سبع سنوات).

من هذا لا نتعجَّب أن يبكي اليهود الذين في كافة أنحاء العالم على قيصر يوم وفاته(24)
وبالرغم من أن الحاكم كان يذُكر اسمه أنه هركانوس، إلاَّ أن أنتيباتر كان هو الشخصية الحقيقية المدبِّرة، والتي كانت مرموقة جد اً من الرومان كأقوى شخصية شرقية ذات ثقافة يونانية. وكان قيصر يقدِّر أنتيباتر تقديراً يفوق الوصف كشخص يستحق الإعجاب بسبب كفاءته الشخصية وحكمته وبعد نظره، بالإضافة إلى أمانته ومحبته لخير البلاد التي يحكمها.
ولقد تضافرت شخصية قيصر مع شخصية أنتيباتر - وهما أجنبيان عن اليهود
- لخير اليهود.
ولكن تعامى اليهود عن كل هذه الظروف المواتية وعن كل هذه الامتيازات، ولم يكن يشغل بالهم إلاَّ الحقد المستمر على الرومان وعلى أنتيباتر معاً. على الرومان لأنهم يحكمون بلادهم ويطالبونهم  بالجزية، وعلى أنتيباتر لأنه أدومي  نصف يهودي. وتزعَّم كلٌّ من الصدوقيين والفريسيين معاً إثارة هذا الحقد وتنميته في الشعب معتبرين أن هذا الحقد هو الوسيلة المقدَّسة التي ينبغي أن يمارسوها كجزء لا يتجزأ من أمانتهم لله!
وكان لأنتيباتر ابنان مخلصان حكيمان أيضاً، الأول فاسائيل وهذا جعله حاكماً محلياً على أُورشليم، والثاني هيرودس وقد جعله حاكماً على الجليل سنة 48 ق.م. وكان عمر هيرودس لماَّ بدأ أعماله في الجليل حوالي 25 سنة، وبدأ بالضرب على أيدي اللصوص، وقبض على زعيم لهم يدُعى حزقياس الذي كان قد أفسد الأمن في الجليل كلها، وأراح سوريا كلها وإقليم الجليل من هذا العاتى (25)

مما نال إعجاب والي سوريا وكان سبباً في توطيد أواصر الود  والاحترام بينهما.
(هذه الحقائق التاريخية تكشف لنا الجو المضطرب السائد أيام المسيح الذي
على أساسه ضرب المثل بأن إنساناً كان نازلاً من أُورشليم إلى أريحا فوقع بين اللصوص ...).
ولكن هذا الإجراء لم يُرضِ الفريسيين إذ اعتبروه صادراً من أدومي غريب عن عن البلاد ينبغة إذلاله وإحتقاره
أنه ليس لأحد الحكم بالإعدام إلا  لمجلس السنهدريم وحده، فهو تحدٍّ لسلطانهم  م ومناقضة للناموس. لذلك انتهزوا هذه الفرصة للإ نهاء على
هيرودس، بأن قدَّموا شكوى لهركانوس طالبوه فيها بتقديم هيرودس ليعطي جواباً عن خطئه أمام السنهدريم.
ولم يكن هركانوس أشرف منهم، بل وجدها فرصة أيضاً أن يتخلَّص من هيرودس، فأبلغ هيرودس الطلب رسمياً للحضور، ولمَّا حضر أمام السنهدريم كاد أن يحكم عليه، فلمَّا أحسَّ بالمكيدة هرب بجيشه إلى سوريا واحتمى في عاهلها سكستوس قيصر، الذي عيَّنه سنة 47 ق.م على “كويلا سوريا”، وهو السهل المعروف الآن “بالبقاع” الجزء المتاخم للبنان شرقاً والممتد من دمشق شمالاً حتى أطراف الجنوب، والمسمَّى أيضاً في سفر المكابيين ببقاع سوريا وفينيقية ( 2مك 3: 5) (26)
وقد تغيَّرت الأمور فجأة، إذ لماَّ نزل قيصر إلى شمال إفريقيا لإخضاع بقايا أتباع بومبي، قام أيضاً أتباع بومبي في سوريا وقتلوا سكستوس وتحفزوا لغزو

البلاد شمالاً وجنوباً، ولكن سارع أنتيباتر مع ابنيه واستنجدوا بمقاطعة بارثيا الموالية لليهود منذ أيام السبي (جنوب بحر قزوين والتي كانت في عداء مستمر للسلوقيين ودائمة الثورة ضد الحكم الروماني، ومناوئةً لكل امتداد له ناحية الشرق) وحاصروا أتباع بومبي سنة 45 ق.م،
وأعانهم  قيصر نفسه إذ أرسل لهم كتائب رومانية  .مجهَّزة. وظلَّت الحرب حتى سنة 44 ق.م، وفجأة اغتيل قيصر نفسه(27)

*****

المراجع
(21) Ibid., p. 28.
(22) Schürer, op. cit., vol. III, § 31.
(23) Josephus, Antiq, XIV, X, 6.
(24) Suetonius Div. Iul., 84, quoted by Schürer, op. cit., I, 275.
(25) Josephus, Antiq, XIV, IX,2.
(26) Josephus, Antiq. XIV, IX, 5.

(27) Josephus, Antiq. XIV, XI, 1, Bell. Jud. I, X, 10, Appian, Civil
Wars, III, 77, Dio Cassius, XLV ii, 27, E. Schürer, op. cit., I, p. 248.

موت كلٍّ من يوليوس قيصر ( 44 ق.م)
وأنتيباتر أبي هيرودس الكبير ( 43 ق.م):

بكى اليهود كثيراً وناحوا على قيصر في كل مكان، وأسرعوا إلى مجلس السناتو (التشريع) الروماني للحصول على تأكيدات وضمانات لاستمرار القرارات التي أصدرها قيصر بخصوص معاملة اليهود والامتيازات التي حصلوا عليها، وتقدَّموا إلى مارك أنطوني ليتوسط عنهم ويستخدم نفوذه لدى مجلس الشيوخ، إذ كانت  تربطهم به صلات ودية عن طريق صداقة أنتيباتر له(28)
وفي سوريا ظهر كاسيوس مرَّة أخرى سنة 44 ق.م وفك الحصار وساد على الموقف كله، وطالب اليهود بجزية ثقيلة حوالي 700 وزنة، ولم يجد أنتيباتر بدُاً من الإذعان، فحاول جمعها بمعاونة ابنيه فسائيل وهيرودس وهركانوس أيضاً الذي عيَّن مالخوس نائباً عنه، وهنا ازدادت مرارة اليهود جداً وارتفع سخطهم ضد أنتيباتر وكاسيوس. ومما زاد الحقد على أنتيباتر محاولة مالخوس الوقيعة بين اليهود وبين أنتيباتر نفسه رغبة منه في الاستيلاء على الحكم بدلاً منه. وتوتر الموقف علانية بين أنتيباتر ومالخوس، ولكن مالخوس اتخذ طريقاً مختصراً ودسَّ له السم في الطعام فقتله بواسطة أتباع هركانوس المقرَّبين إلى  أنتيباتر(29) سنة 43 ق.م.
ولكن هيرودس أوقع القصاص على الجاني بمنتهى السرعة، فطعن مالخوس وقتله وانتقم لأبيه.
ومن هذا العمل يتبيَّن طباع هيرودس الثائرة وسرعة إنجازه لمخطط الانتقام بدون حذر. وبعد سنة ترك كاسيوس سوريا واليهودية وهما في حالة فوضى شديدة وذهب لمقاتلة مارك أنطوني وأوكتافيوس.
وفي هذه الفوضى قام أنتيجونيس بن أرسطوبولس بمحاولة إخضاع اليهودية وحكمها بالقوة (بعد أن فشلت محاولاته السلمية لإقناع قيصر بتسليمها له).
ولم يبال هيرودس كثيرا بهذه المفاجأة، ولكنه بدأ بحكمة متقنة وخطة أخرى لكسب الموقف نهائيا  بالنسبة للتقرُّب الطقسي من اليهود والمطالبة الرسمية بالملك مستقبلاً، وذلك بأن تزوَّج مريمن ابنة اسكندر أرسطوبولس وهي في نفس الوقت
بنت ألكسندرا الابنة الكبرى لهركانوس الثاني.

*********************

المراجع
(28) H. Willrich op. cit., p. 31.

(29) Josephus, Antiq, XIV, XI, 4.

حكم أنتيجونيس كملك ورئيس كهنة ( 40 - 37 ق.م): -
تغيَّر الوضع في اليهودية بعد أن انتصر مارك أنطوني وأوكتافيوس في موقعة فيلبي على كاسيوس وبروتوس سنة 42 ق.م. فقد وقع هركانوس كما وقع   هير ودس في موقف حرج لأنهما كانا صديقين لكاسيوس، هذا بالإضافة إلى أن
اليهود وخاصة الصدوقيين يبغضون كاسيوس ويبغضون هيرودس الأدومي ويبغضون هركانوس لأنه كان موالياً لكاسيوس وهيرودس أيضاً. وقد عزم اليهود على التخلُّص من الأدوميين.
ولكن بالرغم من أن الأنظار كلها كانت متطلعة إلى مارك أنطوني، إلاَّ أنه لم يكن عند حسن ظن أحد، فقد اعتكف في الإسكندرية مع معشوقته كليوباترا وأهمل مسئولية الحكم والتبعة التي عليه، فساءت الأحوال في سوريا وانتهز هذه الفرصة الفرثيون الموجودون هناك منذ وقت الحصار
الذي شنَّه أنتيباتر على أتباع بومبي، وهم سكَّان منطقة جنوب بحر قزوين (إيران الآن) التي سُبي إليها اليهود (فرتيون أع 9:2 )، وصاروا في تعاون وأُلفة كاملة مع اليهود، وشنوا هجوماً على سوريا،
وقد استقبلهم اليهود في اليهودية بفرح كمنقذين، وتقدَّم إليهم أنتيجونيس “ووعدهم بإعطائهم ألف وزنة وخمسمائة امرأة إذا خلعوا هركانوس وقتلوا هيرودس وأعطوه الملك ” (30)
وسارع أنتيجونيس وجمع جيشاً وتقدَّم إلى أُورشليم ( 40 ق.م) فاستقبله الشعب بفرح على أمل أن يعتقهم من حكم الرومان والأدوميين. وقبض أنتيجونيس على فاسائيل الذي انتحر وعلى هركانوس. ولكي يتخلَّص أنتيجونيس من هركانوس كرئيس كهنة وقع على أذنه وقطعها بأسنانه وأخذ الفرثيون هركانوس المقطوع الأذن واستودعوه ليهود بابل.
وبذلك نال أنتيجونيس كل أطماعه، فاستولى على الحكم وعلى رئاسة الكهنوت وصك نقوداً باسمه على وجهها اليوناني كتب “أنتيجونيس الملك”
وعلى الوجه اليهودي “مَتَّتْياس” رئيس الكهنة، لأن اسمه العبري كان مَتَّتْياس(32)
كل هذا وهيرودس رابض من بعيد يرصد الحوادث وكل أمله في أنطوني الراقد في الإسكندرية ... وفجأة استيقظ أنطوني من مواته على أثر مشادة بينه وبين أوكتافيوس، توجه على أثرها إلى روما، فأسرع هيرودس إلى هناك حيث استقبله استقبالاً ودياً حاراً وكان كل أمله أن يظل يعمل من وراء أرسطوبولس (الثالث) أخي زوجته مريمن، فكان مطلبه أن تقيم روما أرسطوبولس هذا ملكاً على اليهودية مستخدماً بذلك حِذْقَهُ السياسي في قبول مطلبه لعلمه أن روما تزكِّي دائماً أصحاب الدم الملكي لتبوُّؤ الملوكية(33)
ولكن لدهشته وسروره المفرط رأى أن روما تزكيه بمفرده ملكاً على اليهودية كلها.
ولم يكن ذلك اعتباطاً، لأن روما كانت تزن شخصية هيرودس جداً وتعلم مدى كفاءته، كما أنها كانت قد أسقطت من اعتبارها أنتيجونيس لأنه استعان بأعداء  روما، كما أسقطت أرسطوبولس الصغير (أخا مريمن وابن ألكسندرا) لضعفه وصغره وعدم اتزانه. ومُنح لهيرودس إقليم السامرة كله تقديراً له.
ولم يكن هيِّناً على هيرودس أن يفرض سلطانه الملكي على اليهودية، خصوصاً وأن أنتيجونيس نفسه كان قائماً بأعماله كملك ورئيس كهنة وكان محبوباً لليهود بسبب عدائه للرومان ولكل ما هو غير يهودي. ولكن في ظرف سنتين وباستعانة هيرودس بسوسيوس والي سوريا استطاع سنة 38 ق.م أن يفرض سلطانه الكامل على كافة البلاد إلاَّ أُورشليم. وظلت أُورشليم وحدها تكافح ضدَّه بقيادة أنتيجونيس، فحاصرها هيرودس وسوسيوس فسلمت بعد ثلاثة أشهر سنة 37 ق.م، وأُخذ أنتيجونيس إلى أنطاكية وحوكم وعوقب بالموت(34)
وبموت أنتيجونيس انتهى عصر رئاسة الكهنوت وحكومة المكابيين (الحشمونيين).
وصار هيرودس (سنة 37 ق.م) ملكاً بكل معنى الكلمة على كل اليهودية والسامرة.

*********************

المراجع 

(30) Josephus, Antiq, XIV, XIII, 3, Bell. Jud. I, XIII, 1.
(31) Josephus, Antiq, XIV, XIII, 10, Bell. Jud. I, XIII, 9.
(32) Madden, F. W. Coins of the Jews, (1881) p. 99 ff.
(33) Josephus, Antiq, XIV, XIV, 5.
(34) Josephus, Antiq, XIV, XVI, 4, XV, I, 2, Bell. Jud. I, 18, 3.

ثانياً: حكم هيرودس الكبير (37 - 4 ق.م)
الفترة من بدء حكم هيرودس ( 37 ق.م) حتى تولية أغسطس قيصر ( 29 ق.م):

(هنا يعتمد يوسيفوس المؤرِّخ على تسجيلات سترابو ونيقولاوس الدمشقي المؤرِّخَين).
ورث هيرودس عداوة اليهود له من أبيه كونه أدومياً فوق كل شيء، وبالرغم من كل معونة وإصلاح قدَّمها لليهود. وكان أول عمل احتياطي يقوم به هو قتل الرؤوس المعادين له، فذبح خمسة وأربعين من أتباع أنتيجونيس المتزعمين حركة (1)، وكان هذا العمل الوحشي سبباً في ازدياد العداوة ضده. ولكي قوِّي مركزه لدى الرومان سلب المملكة كثيراً من غناها الموفور من ذهب وفضة، المقاومة ضده كما سلب الأغنياء، وثقَّل المطالب المالية على الشعب، وقدَّم كل شيء إلى  أنطونيوس ومَنْ معه(2)
ولكن بقدر ما كان يزداد قوة واعتماداً على الرومان، بقدر ما كان يزداد الحقد عليه من اليهود. كذلك كان حكم هيرودس يُذكِّرهم باستمرار بضياع عصر المكابيين على أيدي أنتيباتر وابنه هيرودس مما كان يزيد الضغينة جداً خصوصاً فيا لحرية الدينية الكاملة واتحادها بالحرية المدنية والسياسية في شخص واحد، الأمر الذي انكسر وتصدَّع على أيدي هيرودس.
ولكن لم يفتأ هيرودس من أن يقرِّب نفسه إلى اليهود ويقرِّب اليهود إلى نفسه بشتى الطرق حتى يزيل حدة هذا الجفاء، فقرَّب إليه كبار الفريسيين العلماء مثل ، وهذان كانا من أعظم متقدمي الفريسيين  بوليو (أبتاليون) وتليمذه شماي(3) وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الشعب في هذه الفترة. ثم قام بعمل آخر ليجتذب إليه أنظار وقلوب اليهود، إذ استحضر هركانوس الملك المخلوع والمقطوع الأُذُن من منفاه لدى الفرثيين من بابل وقرَّبه إليه وأشركه في الحكم بعد مدة سبع سنوات، وقد نال هيرودس بسبب هذا الصنيع الحسن في هذا الشيخ العجوز - الذي يمثل أكبر وآخر رأس في عائلة المكابيين - رضا اليهود فعلاً.
وهنا تبرز حركة نسائية تزيد في تعقيد الموقف وتفضح أخلاق هيرودس الوحشية وسرعة نقمته وبطشه. فقد قامت ألكسندرا أم أرسطوبولس (الثالث) مع مريمن أخت أرسطوبولس وزوجة هيرودس بالاتصال سراً بكليوباترا ملكة مصر(4) وعشيقة مارك أنطوني للتدخُّل في إقامة أرسطوبولس رئيس كهنة، على الأقل لأن هيرودس كان قد أقام حنانائيل رئيساً للكهنة وهو من أسرة يهودية بابلية سليلة
لأسرة صدُّوقية عريقة تنم بصلة إلى آخر رئيس كهنة قبل المكابيين. وكان عمل هيرودس هذا بقصد التخلُّص من نفوذ أسرة المكابيين نهائيا . أمَّا عمل ألكسندرا  ومريمن في تنصيب أرسطوبولس رئيس كهنة فكان على أساس إرجاع رئاسة الكهنوت إلىى أسرتهم 
صدور الصدوقيين والفريسيين، لأن حكم المكابيين كان يمثل

وقد نجحت هذه المساعي السرية وضغطت كليوباترا على أنطوني لكي يأمر هيرودس بإقامة أرسطوبولس الصغير رئيس كهنة بعد أن عُزل حنانائيل، وكان عمر أرسطوبولس 16 سنة فقط!!
كان هذا الإجراء كسراً للناموس بسبب صغر سن أرسطوبولس، كما كان سابقة خطيرة تعطي الملك حق سلطة عزل رئيس كهنة بدون أسباب. هذا زاد من اتساع النفور اليهودي ضد أعمال هيرودس.
ومع أن هيرودس بريء من هذا الإجراء لأنه لم يكن عن أي رغبة شخصية بل بتدخُّل بيت المكابيين نفسه ممثلاً في ألكسندرا ومريمن، إلاَّ أن لعنة هذا الإجراء حملها هيرودس.
ولكن سرعان ما كشف هيرودس العلاقة السرية التي قامت بين ألكسندرا ومريمن بكليوباترا عدوة هيرودس الطامحة في اغتصاب الأجزاء القديمة التي كانت تابعة لمملكة البطالسة في اليهودية، وخصوصاً مدن الساحل(5)، كما أحسَّ هيرودس أن هناك أطماعاً لألكسندرا لاستعادة الملك لأرسطوبولس(6)
، فأسرع   هيرودس بأخذ الحيطة ضد ألكسندرا وحدَّد إقامتها في القصر. ولكن اتصلت
ألكسندرا بكيلوباترا ووضعتا خطة معا لهربها مع أرسطوبولس إلى مصر، غير أن  هيرودس اكتشف الخطة في آخر لحظة، فتخلَّص من أرسطوبولس سنة 35 ق.م  وأبقى على ألكسندرا خوفاً من انتقام كليوباترا(7)

وكان تخلُّصه من أرسطوبولس بطريقة إغراقه في بركة للسباحة ادَّعى بعدها أمام . الشعب أن أرسطوبولس مات في حادثة غرق مؤسفة وبكاه أمام الناس(8)
ولم يصدِّق أحد هذه القصة وبالأخص ألكسندرا التي اتصلت بكليوباترا تطلب القصاص من هيرودس، وفعلاً أقنعت كليوباترا مارك أنطوني بضرورة محاكمة هيرودس. فطلب مارك أنطوني من هيرودس أن يقابله أثناء مروره شمالاً بإقليم لاودكية في طريقه لأرمينيا.
هنا يأخذ هيرودس الحذر ويعيِّن يوسف عمه  حاكما أثناء غيابه زيأمرة سرا ً بأنه في حالة وصول خبر إدانته بالموت، أي موت هيرودس، عليه أن يقتل زوجته مريمن، لأنه  اكتشف أن ألكسندرا تود تقديمها هدية لأنطوني ثمناً لرأسه(9)
وقد شاع كذباً إشاعة موت هيرودس، فبدأت المرأتان في التحرُّك بسرعة، وتواطأ معهما يوسف عم هيرودس وأخبرهما بالوصية السرية التي سلَّمها له هيرودس   مما أعطى فرصة لأم هيرودس وأخته (10)
 خلقية مع يوسف عم هيرودس، ويصدقها هيرودس عند عودته بدون تردد(11) فما كان من هيرودس إلاَّ أن قتل عمه يوسف بدون استجواب واعتقل ألكسندرا في السجن، وبالرغم من أنه كان ينوي قتل زوجته مريمن، إلاَّ أنه لإخلاصه لها
عدل عن قراره.ولكن لم تكُف مناوأة كليوباترا ضد هيرودس، فأثارت العرب (دولة النباطيين جنوب وجنوب شرق اليهودية) لمحاربة هيرودس، وقد استطاع هيرودس بصعوبة وحرب مريرة أن ينتصر على العرب. وعند عودته ووصوله أُورشليم منتصراً جاءه خبر هزيمة مارك أنطوني أمام أوكتافيوس (الذي تسمَّى فيما بعد باسم أغسطس قيصر) في موقعة أكتيوم سنة 31 ق.م، ودَعا أوكتافيوس بصفته إمبراطور العالم كله هيرودس لكي يمثل أمامه. ومرَّة أخرى يضطر هيرودس أن يأخذ الحذر من ألكسندرا ومريمن فحبسهما في قلعة تحت حراسة مشدَّدة 12 ) وذهب لمقابلة  أوكتافيوس فى روما  اتصلت بأبيها هركانوس وتعاهدت مع ملك العرب مالخوس للقيام بدور ضد هيرودس، ولكن هيرودس اكتشف المؤامرة قبل ذهابه لمقابلة أوكتافيوس فتخلَّص  من هركانوس وقتله(13
استطاع هيرودس بشجاعته وصراحته ومهارته السياسية أن يجتذب أنظار  أوكتافيوس ويكسب ودَّه وتأييده، فثبَّته على مملكة يهوذا ورجع منتصراً(14
ونزل أوكتافيوس خلف أنطوني وكليوباترا، واقتحم الإسكندرية سنة 30 ق.م، وحينئذ انتحر مارك أنطوني حالما سمع بخبر انتحار كليوباترا، وكان هذا خداعاً منها لكي تتخلَّص من مارك أنطوني وتلتفت لأوكتافيوس لتضمَّه إليها. ولكن لم يقابلها أوكتافيوس إلاَّ كعدو مهزوم، وجعلها تسير خلف موكبه مما دعاها إلى  الانتحار هي الأخرى(15

وعاد موت كليوباترا بالخير على هيرودس، فقد ضمَّ إليه كل أملاكها في الأراضى المقدسة ، فاستولى على كل مدن الساحل: غزة ويافا والقلاع المحيطة ومنطقة جدارا والسامرة( 16). وقد ضمها أوكتافيوس يرودس عند مقابلته له في مصر بمناسبة تهنئته  بالنصرة على مصر.
وبلغت حدود مملكة يهوذا في عصر هيرودس في تلك الآونة نفس الاتساع الذي بلغته أيام اسكندر حنَّاؤس، وهو أقصى اتساعها.
وبرجوع هيرودس إلى أُورشليم وجد المؤامرات محاكة ضدَّه بواسطة مريمن وألكسندرا، فاضطر لمحاكمتهما بتهمة الخيانة وقتلهما(17)سنة 25 ق.م.

**************

المراجع

(1) Josephus, Antiq. XV, 6 I, 2.
(2) Josephus, Antiq. XV, I, 2.
(3) Josephus, Antiq. XV, I, 1, Schlatter, op. cit., 432.
(4) Josephus, Antiq. XV, II, 5.
(5) Josephus, Antiq. XV, IV, 1, L. R. Bevan, The Ptolemaic Dynasty, p.
375.
(6) Josephus, Antiq. XV, II, 7.
(7) Josephus, Antiq. XV, III, 3.
(8) Josephus, Antiq. XV, III, 4, Bell. Jud. I, XXII, 2.
(9) Josephus, Antiq. XV, III, 5.
10 ) أُمه كيبروس وأخته سالومي. )
(11) Josephus, Antiq. XV, III, 9.
(12) Josephus, Antiq. XV, VI, 5.
(13) Josephus, Antiq. XV, VI, 2-3.
(14) Josephus, Antiq. XV, VI, 7, Bell. Jud. I, XX, 2-3.
(15) E. R. Bevan, The Ptolemaic Dynasty, p. 380 f

الصداقة بين هيرودس وأغسطس قيصر:
توطَّدت أواصر الصداقة بين أُغسطس قيصر (أوكتافيوس بعد أن صار إمبراطوراً سنة 29 ق.م) وبين هيرودس، وازدادت بالأكثر لمَّا قدَّم هيرودس معونة عسكرية للجيش الروماني في حربه ضد النباطيين المستوطنين على ضفة البحر الأحمر الشرقية(18 )، وكانت مكافأة أغسطس يرودس كبيرة في الواقع، إذ أضاف إلى مملكة اليهودية إقليم تراخونيتس وإقليم باتانيا، بالإضافة إلى بلاد أورانتس (المسمَّاه قديماً أرض باشان). ومن مظاهر الود الكثيرة أن سمح قيصر لولدي هيرودس أن يتعلَّما في روما ويقيما في قصر قيصر.
كل ذلك لم يعفِ هيرودس من بغضة اليهود والحقد عليه، وقد حاول بالقوة أن يأخذ من اليهود عهد الولاء لنفسه ولقيصر ولكنه فشل في ذلك، ويذكر يوسيفوس أنه لم يحاول أن يجبر الأسينيين على هذا العهد لأنه كان يوقِّرهم .(19)
وكان أغسطس قيصر شديد الإعحاب بهيرودس ، وقام فعلاً بزيارته في سوريا سنة 20 ق.م، وقد منح هيرودس في هذه الأثناء مدناً كثيرة وأقامه والياً على سوريا نفسها مع المسئولين الرومان فيها، وعيَّن أخا هيرودس فيروراس  Pheroras  رئيس ربع على إقليم بيريه باليهودية (20)   كما توطَّدت أواصر الودّ أيضاً بين هيرودس وأغريباس مساعد قيصر الأول في إدارة شئون الامبراطورية كلها، وقام بزيارة هيرودس في اليهودية سنة 15 ق.م، وقد استقبله هيرودس استقبالاً ملوكياً حافلاً، وقد رحب به الشعب عندما أبدى إحرتاما لعبادتهم وقدم لهم ذبائح للهيكل 
وقد أعطى هيرودس حفيده لقب “أغريباس” تيمناً وتكريماً للوالي الروماني أغريباس.

خريطة توضِّح الولايات المختلفة في أرض فلسطين في أيام المسيح

****************************

المراجغ
(16) Josephus, Antiq. XV, VII, 3, Bell. Jud. I, XX, 3.
(17) Josephus, Antiq. XV, VII, 4-8.
(18) Josephus, Antiq. XV, IX, 2, Dio Cassius, L iii, 29.
(19) Josephus, Antiq. XV, VIII, 3, & XIV, IX, 2.
(20) Josephus, Antiq. XV, X, 3.

اهتمام هيرودس بفن العمارة:
وقد اهتم هيرودس بفن العمارة، وأول عنايته كانت في إقليم السامرة الذي دعاه سبسطية  (21) وكلمة سيباستوس  Sebastos هي الترجمة اليونانية للكلمة اللاتينية أوغسطس Augustus  وتعني “العظيم” وهو لقب أوكتافيوس، وبنى مدينة السامرة. 
وبنى مرفأً ذا قلعة محصَّنة على البحر الأبيض وأسماه “قيصرية” وهى المعروفة الآن بإسم "قيصرية قلسطينيا" وإنجيليا " قيصرية التى على البحر " للتفرقة بينها وبين مدينة أخرى تسمى "قيصرية فيلبى أو قيلبس" على اسم أوكتافيوس أيضاً، وبنى قلعة “أنطونيا” في الشمال الغربي للهيكل لتطل عليه، على اسم مارك أنطوني، وبنى لنفسه قصراً كبيراً على السور الغربي للهيكل.
الصورة الجانبية : نموذج لأُورشليم القديمة يظهر فيه هيكل هيرودس الكبير
الذي بناه في القرن الأول قبل الميلاد ودمَّره الرومان سنة 70 م
وقد بدأ بعمارة الهيكل نفسه سنة 19 ق.م وأفرغ فيه كثير اً من اهتمامه وجهده.
وبنى أيضاً مدن أنتيباتريس شمال شرق يافا (وهي مذكورة في سفر الأعمال 31:23 ) وفازيليس في وادي الأُردن شمال أريحا تكريماً لاسم أبيه وأخيه، وأصلح بناء مدينة أنثيدون على الساحل شمال غزة ودعاها أغريبون تكريماً لصديقه أغريبا الروماني، وبنى حصون وقلاع هيرودس وألكسندريون وهيركانيا واختص قلعتي  ماكيروس وماسادا بقصور ملكية فيهما(22)
والذي يهمنا من جهة النبوات أنه اهتم جداً ببناء سوق كبير للمدينة
(أُورشليم) وأسوار ضخمة  وشوارع خارجها وداخلها وحمَّامات، وهذا يذكره
دانيال النبي في نبواته في الأصحاح التاسع بوضوح:
"فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أُورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، ويعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة ( دا 25:9 ) ولعل أهم أعماله بالنسبة لليهود والتمهيد لمجئ ابرب بغته إلى هيكله هو إعادة بناء الهيكل ضعف حجمه الأول  ، وتزيينه بالرخام الكورنثي والحجارة الثمينة. وقد بدأه سنة 19 ق.م وتمت العمليات الكبرى سنة 9 ق.م، ولكن عمليات البناء الصغرى والتجميل ظلت مستمرة حتى أيام المسيح. لذلك نسمع اليهود يقولون للمسيح « في ستٍّ وأربعين سنة بنُيَ هذا لهيكل »  (يو 20:2 ).  :
لذلك نستطيع أن نقول إن هذا الحديث دار حوالي سنة 27 م. وهذا يلقي ضوءاً أمام تعيين ميلاد المسيح تقريباً بين سنة 4و 6 ق.م، إذ لا يمكن أن يكون الميلاد قبل سنة 6 ق.م، وإلاَّ يكون عمر المسيح وقت هذا الحديث أكثر من 33 سنة، وكذلك لا يمكن أن يكون بعد 4 ق.م، لأن في هذه السنة مات هيرودس، ومعروف أن المسيح وُلِدَ في أثناء حياة هيرودس.

********************

المراجع
(21 ) هذا الاسم غير إقليم سبسطية الذي يُنسب إليه الأربعون شهيد اً، وهم جنود من فرقة الرعد في جيش ليسينيوس  Licinius 
سنة 320 م، والذين ماتوا غرقاً في بحيرة ماء مثلَّج. فالأخير  موجود ببلاد أرمينيا الصغرى .(Oxf. Dict)

(22) Josephus, Antiq. XVI, V, 2, Bell. Jud. vii, VIII, 4.

السنين الأخيرة لهيرودس:
بدأت المؤامرات بين أبناء هيرودس للنزاع على الميراث والسلطان مبكِّراً في حياة هيرودس وقد كانت عائلة هيرودس منقسمة على ذاتها
بين المكابيين (فرع زوجته مريمن) والأدوميين (فرع زوجته دوريس). وقد وشى الاثنان في حق بعضهما  بتهمة القيام بمؤامرات عنيفة لقتل هيرودس نفسه، مما اضطر هيرودس لرفع شأنه إلى قيصر بصفتهم جميعاً رعايا روما، فأمر حاكمتهم. فحوكم اسكندر
وأرسطوبولس ولدا مريمن في بيروت سنة 7 ق.م وأُعدما في سبسطية (إقليم السامرة) (23 ). أمَّا أنتيباتر المتزعِّم حركة الوشاية ضد اسكندر وأرسطوبولس، فلم يكف هو الآخر مدَّة ثلاث سنين عن مؤامراته ضد أبيه، الذي اكتشف محاولة وضع السم له في الطعام، فأمر والي سوريا كينتيلوس فاروس بمحاكمته، فحوكم في سوريا  Quintillius Varus  وأُعدم هناك.
وقد بدأ الإعياء والمرض العصبي يهد كيان هيرودس، وكان يشكو في أيامه الأخيرة من الفزع والرعب وظهور مناظر وحوش مفترسة تفزعه في الأحلام، وكان قد بلغ حوالي السبعين من عمره، وأخيراً مات سنة 4 ق.م.
 

جماعة الغيوريين
وفي هذه الأثناء قامت جماعة دُعيت بجماعة الغيورين، وموطنهم الجليل، بزعامة يهوذا الجليلي ابن حزقياس (24)  وقد اتفقوا في اتجاههم الديني ناحية عدم  الاعتراف بقيصر كملك لهم إذ اعتبروا ذلك خيانة لله وخطية، منادين بأن الله هو وحده ملك لإسرائيل. وقد اتفقوا في ذلك تقريباً مع شيعة الفريسيين في البدء،ولكن انشقوا نهائيا عن الفريسيين لمَّا عدَّل الفريسيون مذهبهم معتبرين أن سيادة  روما أمرٌ واقع بسبب خطاياهم كتأديب من الله عليهم أن يحتملوه، إلى أن يرفعه الله نفسه. أمَّا الغيورون فقد اعتبروا أنفسهم يمثلون إرادة الله الخيرة، وعليهم أن يكونوا أصحاب المبادرة لتنفيذ مشيئة الله التى يؤمنون بها عندما يقتنعون بصحتها   وظهر هذا الخلاف في البدء واضحاً عند التطبيق، إذ رفض الغيورون دفع الجزية لقيصر، في حين أن الفريسيين أذعنوا وخضعوا وبادروا بدفع الجزية.
وقد تفاقمت الأمور جداً فيما بعد عندما انحاز جزء كبير من الشعب للغيورين، وانتهت بالقبض عليهم ومحاكمتهم وتشتيتهم. ولكن بقي يهوذا الجليلي ينفث روح المقاومة في الشعب ويستعد لفرصة أخرى ليقوم بثورة مسلَّحة علنية.
**********
المراجع
(23) Josephus, Antiq. XVI, XI, 2-7, Bell. Jud. I, XXVII, 2-6.
(24) Josephus, Antiq. XV, VIII, 2, & XIV, IX, 2, & XIV, 9,2, Bell. Jud.
II, IV, 1, & I, X, 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 






 



 

This site was last updated 08/26/17