Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

م

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
من الذبيح اسماعيل ام اسحاق؟

 

 

 

كان رجلٌ اسمُهُ آزر، منجماً لملك جبَّارٍ يُسمَّى (نمرود) وكان (نمرود) كافراً باللهِ تعالى.
فقال آزر للملك يوماً: إني أرى في حسابٍ للنجوم: أنّهُ سينشأُ رجلٌ ينسخُ دينَكَ أيُّها الملكُ، ويدعو إلى دينٍ جديد‍
فسأل الملك آزر: وهل وُلِدَ هذا المولود؟
قالَ آزر: لا..
قالَ الملك: ينبغي أن يفرّق بين الرجالِ والنساءِ، حتى لا يحصلَ تزاوج، ليكونَ بينهما نسلٌ.
ثمّ أمَرَ الملكُ بمفارقة الرجالِ للنساء، ولكن شاء اللهُ أن تحمل أمُّ (إبراهيم) بهذا المولود. فحملت.. وأخفَتْ حملها عن الناس، حتى عن أبيه. فلمّا أخذ أمّ (إبراهيم) الطلق، ذهبتْ إلى مكانٍ مستترٍ ووضعتْ بإبراهيم، خوفاً على ولدها، ثم قمطته، ورجعت إلى دارها. وكانت الأمّ تختلف إلى ولدها وكان ينمو إبراهيم نمواً سريعاً حتى بلغَ مبلغَ الفتيان.

واشتدّ حكمُ نمرود على الأولاد، فكان يقتل كلَّ ولد ذَكر. ولكن شاءَ الله أن يبقى إبراهيم في أمنٍ من الملك السفَّاك.

* * *

خرج ذات يوم إبراهيمُ من مخبئهِ، وعمرُه إذ ذاك ثلاثَ عشرة سنةً. فنظر إلى آثار قدرة الله تعالى في السماوات والأرض، وشاء الله أن يلفت نظر إبراهيم إلى آيات الكون
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماواتِ والأرض وليكونَ من الموقنين) وهكذا، كان ينظرُ إلى آياتِ الله تعالى، حتى قربت الشمس للأفول.
(فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً) في السماء وكان الكوكبُ (زهرة)، ورأى إنّ جماعة من الناس يعبدونه، ويخضعون له فتعجّب من فعلهم هذا.
و(قال) مستنكراً عبادتهم للكوكب: (هذا ربي)؟ ونظر إليهم في صمت! لكن كان يتحيّن الفرصةَ، للردّ عليهم..
فلمّا (أفل) غربَ الكوكبُ.. واختفى عن الأبصار توجّهَ إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدون الكوكب و(قال) لهم: (لا أحبُّ الآفلين).
* * *

ثم مرّ بجماعة أخرى، فرآهم يخضعون للقمر ويعبدونه.

(فلما رأى القمر بازغاً) طالعاً من الأفق.. ورأى أن أولئك النفر يعبدونه (قال هذا ربي)؟! مستنكراً فعلهم، متعجباً من عبادتهم!!

لكنّه صبر، وانتظر، حتى يرد عليهم، وتحيّن الفرصة! (فلما أفل) اختفى تحت الأفق! توجّه إلى القوم، و(قال): (لئن لم يهدني ربي لأكوننَّ من القوم الضّالّين).

* * *

وبعد ذلك.. بقي إبراهيم، إلى أن طلعَ الصبحُ، وخرجت الشمس وإذا به يمرّ بجماعة، يسجدون للشمس، ويعبدونها!

(فلما رأى الشمس بازغةً) ورأى أنّ القوم يخضعون أمامها (قال هذا ربّي هذا أكبر)؟! مستنكراً فعلهم، متعجّباً منهم، كيف يتخذون الشمس إلهاً؟!

لكنه صبر، حتى يردّ عليهم.. وإذا بالشمس تميل نحو الغروب.

(فلما أفلت) وغابت عن الأبصار.. توجه إلى أولئك النفر الذين كانوا يعبدونها و(قال يا قوم إني بريء مما تُشركون) وكيف تجعلون لله شريكاً؟ إن (الزهرة) و(القمر) و(الشمس) ليست بإله.

(إنّي وجهتُ وجهي للذي فَطَرَ السماواتِ والأرض) خلقها، وأبدع صُنعها.. (حنيفاً) مائلاً عن الشرك إلى الإيمان بالله (وما أنا من المشركين).

* * *

كان (آزر) منجّم الملك (نمرود) عم إبراهيم، وكان عارفاً بنحت الأصنام، فكان ينحتها ويعطيها لأولاده، حتى يبيعوها للناس. وكان إبراهيم يحترم عمّه (آزر)، حتى أنه كان يناديه: (يا أبه)! وقد أحبّ آزرُ ولد أخيه حباً شديداً.

ولما كبر إبراهيم ورشد، دفع إليه (آزر) بعض الأصنام التي كان قد نحتها، وأمره أن يبيعها، كما يبيع أُخوته. لكن إبراهيم، كان نبياً عظيماً، يعلم إنّ هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما هي أشياء منحوتة. فكان يعلّق في أعناقها الخيوط.. ويجرّها على الأرض ويقول:

من يشتري ما لا يضرُّه ولا ينفعُه؟

وكان يستهزئ بالأصنام.. فيُغرّقها في الماء والوحل.. ويقول لها:

اشربي.. وتكلمي.

* * *

وفي ذات يوم، وشى أُخوتُه خبر ما يفعلُ إبراهيمُ بالأصنام إلى (آزر) فنهاهُ آزرُ عن هذا العمل.. فلم ينته إبراهيم، عند ذلك، اغتاظ آزر فحبس إبراهيمَ في منزله ولم يدَعْهُ يخرج.

ولما انكشف أمرُ إبراهيمَ عند (آزر) وأنه يعبد الله تعالى ولا يعبد الأصنام، التي كان (آزر) يعبدها، ذهب إبراهيم إليه، ليدعُوه إلى الله، وأخذ يدعوه بكلّ أدبٍ ولطفٍ، قال: (يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئاً)؟

(يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِك) وقد علمت أن هذه الأصنام ليست بآلهة، وإنما الإلهُ هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما (فاتبعني أهدِكَ صراطاً سوياً).

(يا أبتِ لا تعبدْ الشيطان) فانك إذا عبدتَ الأصنامَ، كنت عبدتَ الشيطان لأنك قبلت قوله، وخالفت أوامر الله (إن الشيطان كان للرحمن عصيّاً). (يا أبتِ إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن).

وهكذا أخذ إبراهيم، ينصح عمّه (آزر) بكلّ أدب ولطف، لكن عمّه اغتاظ من مقالة إبراهيم، و(قال أراغِب أنت عن آلهتي يا إبراهيم)؟! وتعبدُ إلهاً آخر؟! (لئنْ لم تنتَهِ) عن مقالك هذا، (لأرجمنَّكَ) بالحجارة، حتى تموتَ.

ثم طرد إبراهيم من عنده، (و) قال له: (اهجرني ملياً): تغيّب عني مدة مديدة، حتى لا أراك.

ولما رأى إبراهيم هذه الخشونة والتهديد من آزر، ودّعه وداع متأدب، (قال سلام عليك) سلامُ وداع.

(سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً) وأطلب منه أن يغفر لك (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربّي شقياً) وانصرف إبراهيم من عنده كئيباً.

* * *

وشرع إبراهيم يدعو إلى الله تعالى، ويأمر قومه بنبذ الأصنام، ولكن.. القوم لم يستجيبوا لإبراهيم دعوته وأصرّوا على الشرك (وحاجّة قومه) في ألوهيّة الأصنام.. قالوا: إن الأصنام هي الآلهة، واللازم علينا أن نعبدها.

(قال أتحاجّوني في الله) وتدعوني إلى أن اترك الله (وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به) فإني لا أخاف من آلهتكم، وأي ضرر يمكن أن يضرّني به الصنم أو الكوكب والقمر والشمس؟ كلاّ! إنها لا تضر ولا تنفع (إلا أن يشاء ربي شيئاً) فانّ ربي هو الذي يضر وينفع، وأن أصنامكم لا تعلم شيئاً (وسع ربي كلّ شيءٍ علماً) يعلم كل شيء (أفلا تتذكرون)؟

ثم خوفهم إبراهيم من عذاب الله، قال: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) وجعلتم له شريكاً كذباً، لكنّ القوم أصرّوا في العناد.. ولم ينفعهم كلام إبراهيم. ثم أخذ ينصحهم مرّة ثانيةً.

(إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون)؟

(قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين).

(قال هل يسمعونكم إذ تدعون)؟

قالوا: لا.. إنها أصنام من جماد لا تسمع دعوتنا.

قال: هل (ينفعونكم أو يضرّون)؟

قالوا: لا.. إنها لا تتمكّن من جلب نفع أو دفع ضرر.

قال: فكيف تعبدون ما لا يسمع.. ولا ينفع.. ولا يدفع؟

(قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وإنا نتبع آباءنا تقليداً لهم.

(قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين) إن الأصنام أعداء الإنسان، إنها توجب للإنسان شرّ الدنيا وشرّ الآخرة. أمّا الله تعالى فهو الذي يدبّر أمور الإنسان: (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين). ولكنّ القوم لم يقبلوا كلام إبراهيم، وركبوا رؤوسهم، ولم يؤثر فيهم نصحه ومنطقه.

* * *

حضر عيدٌ للقوم.. وخرج الملك الجبّار (نمرود) وأهل المدينة إلى الصحراء، لأداء مراسيم العيد هناك ولم يخرج معهم إبراهيم. فلما ذهبوا، أخذ إبراهيم شيئاً من الطعام، وذهب إلى بيت الأصنام.

(فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)؟ (ما لكم لا تنطقون)؟‍

فكان يدنو من كل صنم فيقول له: كل.. تكلم. فإذا لم يجبه، أخذ القدّوم، فكسر يده ورجله. ثم علّق القدوم في عنق الصنم الكبير، الذي كان في صدر البيت. وخرج لشأنه..

* * *

ورجع الملك والقوم من العيد.. ولما دخلوا دار الأصنام، رأوا الأصنام محطّمة. فكثر فيهم اللغو والصياح. من فعل هذا بآلهتهم؟ ومن تجرّأ على مسّ كرامة مقدساتهم. وأخذوا يستفسرون الناس:

(قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنّه لمن الضالمين)؟

(قالوا سمعنا فتى يذكرهم) يذكر الأصنام بسوء (يقال له إبراهيم).

(قالوا فأتوا به على أعين الناس) وإذا بالقوم يطلبون إبراهيم.. هنا.. وهنا حتى وجدوه وجاءوا به إلى مجمع الناس. وهناك نظر القوم إليه في غضب واستنكار، (وقالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم)؟

ورأى إبراهيم الموقع مهيئاً، لنشر الدعوة فأشار إلى كبير الأصنام، الذي كان القدوم في عنقه، وقال: كسّر الأصنام هذا الصنم الكبير إن نطق.. ومعناه: وإن لم ينطق فلم يفعل كبير الأصنام ذلك.

وأراد بهذا الكلام أن يرشدهم إلى أنّ الصنم لا يتكلم فكيف تتخذونه رباً؟ ووقع كلام إبراهيم في قلوبهم: كيف يُعبد صنم لا يكلم؟ (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون) وليس إبراهيم ظالماً.. إنه أراد هدايتكم، وأنتم الذين تزيدون عناداً وإصراراً. (ثم نكسوا على رؤوسهم) فلم يرفعوها خجلاً. وأخذوا يتمتمون في أنفسهم: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فكيف نتخذهم رباً؟

واغتنم إبراهيم هذه الفرصة، فأخذ يعاتبهم على عبادة الأصنام و(قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)؟!

* * *

استشار (نمرود) قومه، في أمر إبراهيم (قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين). فحبس إبراهيم، وأمر بجمع الحطب ـ ولقد كان في قليل من الحطب كفاية لحرق إنسان ـ لكن القوم من كثرة غضبهم على محطّم آلهتهم. أخذوا يجمعون الحطب من كل مكان، حتى صار الحطب كجبل عظيم.. ثم أشعلوا الحطب ناراً.. فانتشرت حرارتها في الفضاء بحيث لم يكن يحلّق طائر في تلك الأجواء، إلا سقط محترقاً.. ولم يتمكن ذو روح من الدنو.

وحينذاك صعب عليهم الأمر، يا ترى كيف يلقون إبراهيم في تلك النار التي لا يتمكن من اقترابها بشر؟ وإذ هم في حيرة من أمرهم. أشار شخص أن يصنعوا المنجنيق، وهي آلةٌ حربية، تقذف بما يوضع فيها من إنسان أو حجر أو غيرهما. فاستصوبوا رأيه، وأمر الملك الطاغي، بصنع الآلة..

فصنعت ثم وضعوا فيها إبراهيم. وهناك جاء (آزر) عمّه، فلطم إبراهيم، وقال له: ارجع عما أنت عليه.. إشفاقاً على إبراهيم من الحرق.

لكن (إبراهيم) كان أربط جأشاً، من أن يضعضع إيمانه خوف أو تهديد.. فلزم جانب الحق، ولم يرجع، بل أصرّ على مبدئه، وإن حرق بالنار.

* * *

وحينذاك أمر (نمرود) الرّماة، أن يقذفوا إبراهيم في النار! فحركوا عجلة (المنجنيق) فرمت بإبراهيم في الفضاء نحو النار.. وعند إطلاق إبراهيم، أمر الله تعالى النار: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)، فانقلبت النيران بإذن الله تعالى روضةً غناءً، يغلب عليها البرد، فاصطكت أسنان إبراهيم من البرد (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين).

فنظر نمرود وأصحابه، من بعيد إلى هذه المعجزة متحيرين!! وفلتت من لسان نمرود كلمةٌ، ما أراد أن يقولها.. ولكنها في غمرة التعجب، أخذت مكانها في الفضاء، قال: من اتخّذ إلهاً، فليتخذ مثل إله إبراهيم! لكن أحد المتملقين أراد تدارك الأمر، ليقربه إلى نمرود زلفى.. فقال: إني عزمت على النار أن لا تحرقه. فتطاير شررٌ من النار إلى ذلك المتزلّف.. حتى أبان كذبه: فإن من لا يقدر على أن يرد الشرر عن نفسه، كيف يتمكن أن يعزم على النار أن لا تحرق أحداً؟

ونظر نمرود إلى آزر، عم إبراهيم.. وقال: يا آزر، ما أكرم ابنك على ربه؟ ثم خرج إبراهيم من النار، وجاء إلى نمرود، ليدعوه إلى الله من جديد.

* * *

قال نمرود: يا إبراهيم، من ربك؟

(قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت).

(قال أنا أحيي وأميت).

قال إبراهيم: كيف تُحيي وتُميت؟

قال نمرود: اطلب رجلين ممن وجب عليهم القتل، فأطلق واحداً، وأقتل واحداً، فأكون قد أمتّ وأحييت.

وكان هذا الكلام من (نمرود) خطأً، إذ معنى كلام إبراهيم (عليه السلام) أن الله يعطي الحياة، ويقبض الأرواح. أما كلام نمرود أنه يطلق سراح الجاني، فليس هذا إحياءً..

فقال له إبراهيم: إن كنت صادقاً، فأحْي الذي قتلته.. لكن نمرود لم يحر جواباً.

ثم أن إبراهيم أعرض عن مقالة نمرود وأراد أن يلزمه بحجةٍ أخرى.. فقال: دع عن هذا (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب).. فإن كلّ يوم صباحاً، تطلع الشمس من المشرق، وذلك من صنع الله تعالى.. فإن كنت أنت إلهاً، فاعكس الأمر، وائتِ بالشمس من طرف المغرب. (فبهت الذي كفر) وانقطع نمرود عن الحجة، فلم يتمكن أن يجيب إبراهيم. وظهر على الكل أن نمرود كاذبٌ في دعواه الألوهية.

* * *

وذات يوم مر إبراهيم على ساحل البحر، فرأى جيفةً على الساحل: بعضها في الماء، وقد اجتمع عليه بعض الأسماك تأكله.. وبعضها في البر، وقد اجتمع عليه بعض السباع تأكله. عند ذاك تفكّر إبراهيم في كيفية إعادة الأموات، يوم القيامة. فطلب من الله، أن يريه إحياء الأموات، حتى يصير علمه عياناً.

فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى)؟

(قال) الله تعالى: (أو لم تؤمن)؟

(قال) إبراهيم: (بلى) إني مؤمن (ولكن ليطمئن قلبي).

(قال) الله تعالى: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم).

فأخذ إبراهيم الديك.. والحمامة.. والطاووس.. والغراب.. فذبحهن، وقطّعهن، وخلطهنّ، ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت الجبال عشرة ـ جزءاً من تلك الأجزاء المخلوطة، وجعل مناقير هذه الطيور الأربعة بين أصابعه. ثم دعا الطيور بأسمائهن ـ ووضع عنده ماءاً وحبّاً ـ فتطايرت تلك الأجزاء، وانضمّت بعضها إلى بعض، حتى كملت الأبدان وجاء كل بدنٍ حتى لحق برأسه ومنقاره، فخلّى إبراهيم (عليه السلام) سبيلهنّ، فطرن، ثم وقعن، فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب، وشكَرن إبراهيم..

****************************

قال هذا ربي هذا أكبر
يقول الله تعالى:
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80)
قد يظن البعض ظنوناً عن غير قصد أن ابراهيم عليه السلام قد مرّ عليه عهد لم يكن فيه على معرفة بالله تعالى. وهذا لا شك خارج عن إطار الفهم الصحيح ناهيك عن الاتهام بحق نبي من الانبياء . فسياق الآية وظاهرها قد يدل على ذلك ولكن لو رجعنا الى أهل التفسير لوجدنا عندهم ما يوضح المسألة بكل سلاسة ووضوح
قال القرطبي :غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا : وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل ، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين ، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة ، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج : هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال ؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم : 35] وقال جل وعز : {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات : 84] أي لم يشرك به قط. قال : والجواب عندي أنه قال {هَذَا رَبِّي} على قولكم ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر ؛ ونظير هذا قوله تعالى : {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [النحل : 27] وهو جل وعلا واحد لا شريك له. والمعنى : ابن شركائي على قولكم. وقيل : لما خرج إبراهيم من السرب رأى ضوء الكوكب وهو طالب لربه ؛ فظن أنه ضوءه قال : "هذا ربي" أي بأنه يتراءى لي نوره. {فَلَمَّا أَفَلَ} علم أنه ليس بربه. {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً} [الأنعام : 77] ونظر إلى ضوئه {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام : 77] {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام : 78] وليس هذا شركا. إنما نسب ذلك الضوء إلى ربه فلما رآه زائلا دله العلم على أنه غير مستحق لذلك ؛ فنفاه بقلبه وعلم أنه مربوب وليس برب. وقيل : إنما قال {هَذَا رَبِّي} لتقرير الحجة على قومه فأظهر موافقتهم ؛ فلما أفل النجم قرر الحجة وقال : ما تغير لا يجوز أن يكون ربا. وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمون بها. وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا ما صح عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز وجل : {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور : 35] قال : كذلك قلب المؤمن يعرف الله عز وجل ويستدل عليه بقلبه ، فإذا عرفه أزداد نورا على نور ؛ وكذا إبراهيم عليه السلام عرف الله عز وجل بقلبه واستدل عليه بدلائله ، فعلم أن له ربا وخالقا. فلما عرفه الله عز وجل بنفسه ازداد معرفة فقال : {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام : 80]. وقيل : هو على معنى الاستفهام والتوبيخ ، منكرا لفعلهم. والمعنى : أهذا ربي ، أو مثل هذا يكون ربا ؟ فحذف الهمزة. وفي التنزيل {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء : 34] أي أفهم الخالدون.

************************************

المراجع

(1) تفسير إبن كثير

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ * فَلَمّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـَذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لّمْ يَهْدِنِي رَبّي لأكُونَنّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالّينَ * فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـَذَا رَبّي هَـَذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ * إِنّي وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال الضحاك عن ابن عباس: إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر, وإنما كان اسمه تارح, رواه ابن أبي حاتم وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل, حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب, حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} يعني بآزر الصنم, وأبو إبراهيم اسمه تارح, وأمه اسمها مثاني, وامرأته اسمها سارة, وأم إسماعيل اسمها هاجر, وهي سرية إبراهيم, وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارح, وقال مجاهد والسدي: آزر اسم صنم, قلت: كأنه غلب عليه آزر, لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم, وقال ابن جرير وقال آخرون: هو سب وعيب بكلامهم, ومعناه معوج, ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان, سمعت أبي يقرأ {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} قال: بلغني أنها أعوج, وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام, ثم قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر, ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح, ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان, كما لكثير من الناس, أو يكون أحدهما لقباً, وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم, واختلف القراء في أداء قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} فحكى ابن جرير عن الحسن البصري, وأبي يزيد المدني, أنهما كانا يقرآن {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة} معناه يا آزر أتتخذ أصناماً آلهة, وقرأ الجمهور بالفتح, إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف أيضاً, كأحمر وأسود, فأما من زعم أنه منصوب, لكونه معمولاً لقوله {أتتخذ أصناماً} تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناماً آلهة, فإنه قول بعيد في اللغة, فإن ما بعد حرف الاستفهام, لا يعمل فيما قبله لأن له صدر الكلام, كذا قرره ابن جرير وغيره, وهو مشهور في قواعد العربية, والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام, وزجره عنها ونهاه فلم ينته, كما قال {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ؟} أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله {إني أراك وقومك} أي السالكين مسلكك {في ضلال مبين} أي تائهين لا يهتدون أين يسلكون, بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا * وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً} فكان إبراهيم عليه السلام, يستغفر لأبيه مدة حياته, فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك, رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه, كما قال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأوّاه حليم} وثبت في الصحيح أن إبراهيم, يلقى أباه آزر يوم القيامة, فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تخزني يوم يبعثون, وأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقال يا إبراهيم, انظر ما وراءك فإذا هو بذِيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار, قوله {وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما, على وحدانية الله عز وجل, في ملكه وخلقه, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, كقوله {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} وقال {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء إن في ذلك لاَية لكل عبد منيب} وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم, قالوا: واللفظ لمجاهد: فرجت له السموات, فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش, وفرجت له الأرضون السبع, فنظر إلى ما فيهن, وزاد غيره فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي, ويدعو عليهم, فقال الله له إني أرحم بعبادي منك, لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا. وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين, عن معاذ وعلي, ولكن لا يصح إسنادهما, والله أعلم, وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي, عن ابن عباس, في قوله {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} فإنه تعالى جلا له الأمر سره وعلانيته, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق, فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله إنك لا تستطيعهذا فرده كما كان قبل ذلك, فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عياناً, ويحتمل أن يكون عن بصيرته, حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه, وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة, والدلالات القاطعة كما رواه الإمام أحمد والترمذي, وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام «أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت لا أدري يا رب, فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك» وذكر الحديث. قوله {وليكون من الموقنين} قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض, ليكون من الموقنين, كقوله {وكذلك نفصل الاَيات ولتستبين سبيل المجرمين} وقيل بل هي على بابها, أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً, وقوله تعالى: {فلما جن عليه الليل} أي تغشاه وستره {رأى كوكباً} أي نجماً {قال هذا ربي فلما أفل} أي غاب, قال محمد بن إسحاق بن يسار: الأفول الذهاب, وقال ابن جرير: يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولاً وأفلا, إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودهادياج ولا بالاَفلات الزوائل
ويقال: أين أفلت عنا ؟ بمعنى أين غبت عنا, قال {لا أحبّ الاَفلين} قال قتادة: علم أن ربه دائم لا يزول, {فلما رأى القمر بازغاً} أي طالعاً {قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي} أي هذا المنير الطالع ربي {هذا أكبر} أي جرماً من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة {فلما أفلت} أي غابت {قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} أي أخلصت ديني, وأفردت عبادتي {للذي فطر السموات والأرض} أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق {حنيفاً} أي في حال كوني حنيفاً, أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال {وما أنا من المشركين} وقد اختلف المفسرون في هذا المقام: هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير: من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس, ما يقتضي أنه مقام نظر, واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله {لئن لم يهدني ربي} الاَية, وقال محمد بن إسحاق: قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه, حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان, لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه, فأمر بقتل الغلمان عامئذ, فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم, وتركته هناك, وذكر أشياء من خوارق العادات, كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف, والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام, كان في هذا المقام مناظراً لقومه, مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام, فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية, التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم, الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه, وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته, ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر, وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل, وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة, وهي: القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل, وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس, ثم القمر ثم الزهرة, فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية, فإنها مسخرة مقدرة بسير معين, لا تزيغ عنه يميناً ولا شمالاً, ولا تملك لنفسها تصرفاً, بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة, لما له في ذلك من الحكم العظيمة, وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه, ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال, ومثل هذه لا تصلح للإلهية, ثم انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم, ثم انتقل إلى الشمس كذلك, فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار, وتحقق ذلك بالدليل القاطع, {قال يا قوم إني بريء مما تشركون} أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن, فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين} أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها, الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء, وربه ومليكه وإلهه, كما قال تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره, ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام. وهو الذي قال الله في حقه {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} الاَيات, وقال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين * شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الاَخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وقال تعالى : {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي صحيح مسلم, عن عياض بن حمار, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله إني خلقت عبادي حنفاء» وقال الله في كتابه العزيز {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} وقال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى} ومعناه على أحد القولين كقوله {فطرت الله التي فطر الناس عليها} كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة, فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً, ولم يك من المشركين, ناظراً في هذا المقام, بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة, بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب,وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى.

** وَحَآجّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجّوَنّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئاً وَسِعَ رَبّي كُلّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقّ بِالأمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىَ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم, حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد وناظروه بشبه من القول, أنه قال {أتحاجوني في الله وقد هدان} أي تجادلونني في أمر الله, وأنه لا إله إلا هو, وقد بصرني وهداني إلى الحق, وأنا على بينة منه, فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة, وقوله {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه, أن هذه الاَلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً, وأنا لا أخافها ولا أباليها, فإن كان لها كيد فكيدوني بها, ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك. وقوله تعالى: {إلا أن يشاء ربي شيئاً} استثناء منقطع, أي لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل {وسع ربي كل شيء علماً} أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية {أفلا تتذكرون} أي فيما بينته لكم أفلا تعتبرون أن هذه الاَلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها, وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد, فيما قص عنهم في كتابه, حيث يقول {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} الاَية. وقوله {وكيف أخاف ما أشركتم} أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله, {ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً} قال ابن عباس وغير واحد من السلف: أي حجة وهذا كقوله تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} وقوله {فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} أي فأي طائفتين أصوب, الذي عبد من بيده الضر والنفع, أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع, بلا دليل أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة, قال الله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له, ولم يشركوا به شيئاً, هم الاَمنون يوم القيامة, المهتدون في الدنيا والاَخرة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة عن سليمان, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت {إن الشرك لظلم عظيم} وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت هذه الاَية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على الناس, فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه ؟ قال «إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع وابن إدريس, عن الأعمش, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس كما تظنون, إنما قال لابنه {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} وحدثنا عمر بن تغلب النمري, حدثنا أبو أحمد, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله بن مسعود, قال: لما نزلت هذه الاَية, شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {إن الشرك لظلم عظيم} رواه البخاري, وفي لفظ قالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس بالذي تعنون, ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح {إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك» ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً, قال {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال «بشرك» قال وروي عن أبي بكر الصديق, وعمر, وأبي بن كعب, وسلمان, وحذيفة, وابن عباس, وابن عمر, وعمرو بن شرحبيل, وأبي عبد الرحمن السلمي, ومجاهد, وعكرمة, والنخعي, والضحاك, وقتادة, والسدي, وغير واحد نحو ذلك, وقال ابن مردويه: حدثنا الشافعي, حدثنا محمد بن شداد المسمعي, حدثنا أبو عاصم, حدثنا سفيان الثوري, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله, قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قيل لي أنت منهم» وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف, حدثنا أبو جناب, عن زاذان, عن جرير بن عبد الله, قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما برزنا من المدينة, إذا راكب يوضع نحونا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كأن هذا الراكب إياكم يريد» فانتهى إلينا الرجل, فسلم فرددنا عليه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «من أين أقبلت ؟» قال من أهلي وولدي وعشيرتي, قال: «فأين تريد ؟» قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فقد أصبته» قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان ؟ قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان وتحج البيت» قال: قد أقررت, قال ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان, فهوى بعيره وهوى الرجل, فوقع على هامته فمات, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «علي بالرجل» فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه فقالا: يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما رأيتما إعراضي عن الرجل, فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة, فعلمت أنه مات جائعاً» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا من الذين قال الله عز وجل فيهم {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الاَية, ثم قال «دونكم أخاكم» فاحتملناه إلى الماء, فغسلناه وحنطناه وكفناه, وحملناه إلى القبر, فجاء رسول اللهصلى الله عليه وسلم حتى جلس على شفير القبر, فقال «ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر, عن عبد الحميد بن جعفر الفراء, عن ثابت, عن زاذان, عن جرير بن عبد الله, فذكر نحوه وقال فيه: هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يوسف بن موسى القطان, حدثنا مهران بن أبي عمر, حدثنا علي بن عبد الله, عن أبيه عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره, إذ عرض له أعرابي فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق, لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك, وآخذ من قولك, وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خضر الأرض, فاعرض علي, فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل, فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في بيت جرذان, فتردى الأعرابي فانكسرت عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده وماله, ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي وما بلغني حتى ماله طعام إلا من خضر الأرض, أسمعتم بالذي عمل قليلاً وأجر كثيراً ؟ هذا منهم. أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم, أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم» وفي لفظ قال «هذا عمل قليلاً وأجر كثيراً» وروى ابن مردويه من حديث محمد بن يعلى الكوفي, وكان نزل الري, حدثنا زياد بن خيثمة, عن أبي داود, عن عبد الله بن سخبرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعطي فشكر, ومنع فصبر, وظلم فاستغفر, وظلم فغفر» وسكت, قال: فقالوا يا رسول الله ما له ؟ قال {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} وقوله {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} أي وجهنا حجته عليهم, قال مجاهد وغيره: يعني بذلك قوله {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن} الاَية, وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} ثم قال بعد ذلك كله {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء} قرىء بالإضافة وبلا إضافة, كما في سورة يوسف, وكلاهما قريب في المعنى, وقوله {إن ربك حكيم عليم} أي حكيم في أقواله وأفعاله, عليم أي بمن يهديه ومن يضله, وإن قامت عليه الحجج والبراهين, كما قال {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ولهذا قال ههنا {إن ربك حكيم عليم}.

This site was last updated 02/24/13