الامبراطور جوليان

Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

الامبراطور جوليان (يوليانوس) 361– 363 م

  إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس هناك تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
البابا بطرس الـ 17
البابا أرشيلاوس الـ18
الامبراطور فالنس
البابا الإكسندروس الـ19
صفحة فهرس البابا أثناسيوس20
لأمبراطور جالريوس
الإمبراطور سافيرس / ساويرس
قيسين وشهداء غريغوريوس النزينزى
الإمبراطور قسطنطين الكبير الاول
لإمبراطور ماكسينتيوس
البابا بطرس2الـ21
البابا تيموثاوس الـ22
المسيحية وسيناء
الأمبراطور ماكسيمينوس 306- 308م
الامبراطور ليسينوس 308 – 324 م
لامبراطور قنسطانس  333 – 350 م
قديسن وشهداء وعظماء
الامبراطور قسطنطين2
الإمبراطور ماجنينتيوس 350- 353م  
الامبراطور جوليان /يوليانوس 361– 363 م
لامبراطور جوفيان 363 – 364 م
الامبراطور فالنتينيان الاول 364 – 375 م
الامبراطور فالنس  364 – 378 م
الامبراطور جراتيان 367 – 383 م
الامبراطور فالنتينيان الثانى  375 – 392 م
الامبراطور يوجينيوس 392 – 394 م
لامبراطور ثاؤودسيوس الاول 379 – 395
الإمبراطور ماجنس 383- 388م
الامبراطور هونوريوس  393- 423 م
الامبراطور اركاديوس 395 – 408  م
Untitled 667
Untitled 668
Untitled 669
Untitled 670

 

Flavius Claudius Julianus Augustus   361 – 363

الأسم الذى أشتهر به  nickname: Apostata ("the apostate") يوليانوس إشتهر من خلال التاريخ المسيحى بإسم يوليان المرتد - يوليانوس الجاحد (331– 363م) (Julian)

الامبراطور جوليان ( يوليانوس)  361 – 363 م

 الامبراطور جوليان ( يوليانوس)

فى 6 نوفمبر 355م أصبح قيصر بأسم Flavius Julianus Caesar فى فبراير سنة 360 أصبح أوغسطس وأصبح إمبراطور الأمبراطورية الرومانية (361–363م) حاول يوليانوس المرتد أن يعيد احياء الوثنية في الإمبراطورية الرومانية في عام 361 لكنه فشل، ثم أصبحت  المسيحية الديانة الرسمية الوحيدة للإمبراطورية على يد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (378- 395م).

فى 26 يونيو قتل فى معركة

Germanicus maximus (360), Alamannicus maximus (360), Francicus maximus (360), Sarmaticus maximus

فيما يلى الجزء التالى من كتاب التاريخ الكنسى لسوزمينوس  THE ECCLESIASTICAL HISTORY - OF Sozomen .. ترجمه من اليونانية : Chester d. Hartranft .. ونقله الى العربية : الدكتور/ بولا سـاويرس نقلا عن : NPNF, II, 1890 A.D.
**********************************************************************************************
الكتــاب الخـامـس
الكتاب الخامس: الفصل الأول
(ارتداد يوليانوس الخائن. وموت الامبراطور قنستانتيوس)

(5/1/1) هكذا كانت المعاملات التى جرت فى الكنيسة الشرقية. ومع ذلك هاجم فى نفس الوقت يوليانوس القيصر البرابرة الذين يسكنون على ضفاف نهر الراين Rhine وهزمهم، وقتل الكثيرين وأسر آخرين.
(5/1/2) ولما صعَّد النصر صيته بشدة، وكان محبوبا من الكتائب لِلُطفه واعتداله، جعلوه أوغسطسا. ولكن لكى لا يُتِح لقنستانتيوس أى عذرٍ فى هذا العمل قام بتغيير الضباط الذين انتخبهم قنستانتيوس، ونشر بحماس خطابات دورية حث فيها قنستانتيوس البرابرة على دخول المقاطعات الرومانية ومساعدته ضد ماجننتيوس. ثم غيَّر فجأة ديانته على الرغم من أنه كان قد أعلن سابقا مسيحيته. وأعلن نفسه رئيسَ كهنة([370])، وتردد مرارا على المعابد الوثنية، وقدَّم الذبائح، ودعا تابعيه على تبنى شكل العبادة هذا.
(5/1/3) ولما كان الغزو الفارسى على المقاطعات الرومانية([371]) وشيكا، وكان قنستانتيوس قد توجه إلى سوريا لهذا السبب ؛ ففكر يوليانوس فى أن يقيم نفسه سيدا على ايلليريكوم Illyricum بدون معركة. لذلك انطلق مسافرا إلى هذه المقاطعة تحت ستار أنه ينوى تقديم اعتذار لقنستناتيوس على أنه قبل بدون موافقته شعار السلطة الرومانية.
(5/1/4) ويقال أنه عندما وصل إلى حدود ايلليريا، ظهرت الكروم ممتلئة بعناقيد عنب أخضر على الرغم من أن وقت المحصول كان قد مضى، وظهرت ثريا([372])، وسقطت على اتباعه قطرات بإندفاع من ندى الجو كانت كل قطرة منها تطبع علامة الصليب. وقد اعتبر هو وكثيرون ممن معه ظهور العنب فى غير موسمه فألا حسنا بينما عمل الندى لهذه العلامة على الثياب التى تقع عليها هى من قبيل المصادفة([373]).
(5/1/5) بينما ذهب آخرون بالنسبة للرمزين إلى أن الأول وهو العنب الأخضر يعنى أن الإمبراطور سيموت قبل أوانه، وأن عهده سيكون قصيرا جدا، وأما الرمز الثانى وهو الصلبان الناجمة عن قطرات الندى، فهو يشير إلى أن الديانة المسيحية هى من السماء، وأن على جميع الأشخاص أن ينالوا علامة الصليب.
(5/1/6) وأنا، من جانبى، مقتنعٌ أن أولئك الذين كانوا يعتبرون هاتين الظاهرتين كفأل غير مواتٍ ليوليانوس لم يكونوا مخطئين، فإن مرور الزمن برهن على دقة رأيهم.
(5/1/7) وعندما سمع قنستانتيوس أن يوليانوس زاحف ضده على رأس جيش، عدَل عن حملته المزمعة ضد الفارسيين، ورحل إلى القنسطنطينية، ولكنه مات أثناء السفر عندما كان قد وصل إلى موبسوكرانيا Mopsucrenæ التى تقع بالقرب من طورس Taurusبين كيليكية وكبادوكيا.
(5/1/8) وقد مات فى السنة الخامسة والأربعين من عمره بعد أن حكم ثلاثة عشر سنة بالاشتراك مع أبيه قنسطنطين، وخمسة وعشرين سنة عقب موت ذلك الإمبراطور.
(5/1/9) وبعد موت قنستانتيوس بقليل، دخل يوليانوس الذى كان قد جعل نفسه بالفعل سيد تيراقية، القنسطنطينية وأُعلِن امبراطورا. ويؤكد الوثنيون أن الشياطين والآلهة قد تنبأوا بموت قنستانتيوس وبالتغير فى الأمور قبل سفره إلى غلاطية، فنصحوه([374])بالقيام بحملته.
(5/1/10) وكان ذلك يمكن أن يكون نبوة صحيحة لو لم تكن حياة يوليانوس قد انتهت بعد ذلك بوقت قصير جدا، وعندما ذاق فقط السلطة الإمبراطورية كما فى حلم. ولكنه يبدو لى أنه من السخف أن نصدّق أنها قد تنبأت بعد أن سمعت بموت قنستانتيوس، وأنه قد حُذِّر من أن مصيره سيكون السقوط فى المعركة على يد الفارسيين، وأن عليه أن يركض إلى موت ظاهر لا يقدِّم له أية شهرة فى العالم أكثر من نقص المشورة، وبؤس القيادة. ومَن ذا الذى كان سيسمح، لو كان قد عاش، بسقوط الجزء الأكبر من المقاطعات الرومانية تحت النير الفارسى. ومع ذلك أدرجتُ هذه الملاحظة لئلا أُلاَم على حذفها، تاركا كلَّ أحدٍ يكوّن رأيه الخاص.

الكتاب الخامس: الفصل الثانى
(حياة وتعلّم وتدّرب يوليانوس، وإعتلائه للإمبراطورية)

(5/2/1) وفى الحال عقب موت قنستانتيوس، ثار رعب الاضطهاد فى الكنيسة، وكان فزع المسيحيين من توقع هذه المصيبة أكثر مما لو كانت قد حدثت بالفعل. وقد نبعت هذه الحالة من حقيقة أن طول الزمن المنقضى جعلتهم غير معتادين على مخاطر كهذه، ومن تذكر العذابات التى حلت على أبائهم، ومن معرفتهم بكراهية الإمبراطور([375])لعقائدهم. فيقال أنه قد جحد الايمان بالمسيح بالكلية، وأنه طهَّر نفسه من معموديتنا بالذبائح والأضاحى التى يسميها الوثنيون الجحد، وبدماء الحيوانات.
(5/2/2) ومنذ ذلك الوقت انغمس فى احتفالات الطقوس الوثنية جهرا وسرا. ويُروَى أنه بينما كان يفحص فى ذات يوم أحشاء ذبيحة، وجد فيها صليبا مزخرفا بتاج، فأرعب هذا المظهر أولئك الذين كانوا يساعدون فى الاحتفال لأنهم أدركوا أن ذلك إشارة إلى قوة الدين وإلى ديمومة العقائد المسيحية الخالدة، بقدر ما أن التاج الذى تُوِّج به هو رمز الغلبة، وبسبب استمراريته([376]) لأن الدائرة تبدأ من نقطة وتنتهى فى ذاتها وليس لها أى حد فى أى اتجاه([377]). ولذا أمر رئيس العرافين يوليانوس أن يطمئن لأن الأضاحى فى تقديره كانت مواتية لأن شعار العقيدة المسيحية مغروس فى الحقيقة فيها على نحو لا ينتشر كما يريد بل محصُور بمحيط الدائرة([378]).
(5/2/3) وقد سمعتُ أيضا أن يوليانوس قد نزل ذات يوم إلى آديتومadytum ([379]) مشهور وأكثر رعبا، إما بقصد المشاركة فى شعائر الاستهلال([380])، وإما لإستشارة الوحى، وأنه بواسطة الحيل الخداعية التى تدبَّر لهذه الغاية، أو عن طريق السحر، ظهرت أمامه بغتة اشباح مرعبة ومن ثمة نتيجة للخوف والاضطراب من أولئك الذين ظهروا أمامه سقط بلا وعى فى عادته الأقدم ورسم نفسه بعلامة الصليب( إذ أنه دخل الدين الجديد وهو رجل) مثلما يفعل المسيحيون عندما يواجهون خطرا ما، فاختفت الأشباح فى الحال وتبدد قصدهم.([381])
(5/2/4) وإندهش المعلِّم([382])initiator من ذلك فى البداية، ولكنه عندما تقصى عن سبب هروب الشياطين، أعلن أن هذا الاجراء([383]) كان دنسا([384]). وبعد أن وعظ الإمبراطور بأن يتشجع ولا يتردد فى العمل أو الفكر من أى شىء يخص الديانة المسيحية، وجههه ثانية إلى شعائر الإنضمام.
(5/2/5) وأحزن حماس الملك لمثل هذه الأمور، المسيحيين ليس قليلا وجعلهم قلقين بشدة، وبالأخص لأنه هو نفسه كان مسيحيا فيما سبق، ووُلِد من أبوين تقيين واعتمد فى طفولته حسب عادة الكنيسة([385]) وترعرع فى معرفة الأسفار المقدسة، ورضع من الاساقفة ورجال الكنيسة.
(5/2/6) وكان هو وجالوس ابناء قنستانتيوس أخو أبى قنسطنطين الإمبراطور، وأخو دالماتيوس. وكان لدالماتيوس ابنا بذات الاسم الذى أُعلِن قيصرا، وقُتِل على يد الجنود بعد موت قنسطنطين. وكان سيشاركه فى مصيره جالوس ويوليانوس اللذين كانا آنذاك يتيمان، لولا أن جالوس كان يُعانى وقتها من مرض وأُفتُرِض أنه سيموت سريعا بسببه موتا طبيعيا، فنجا. أما يوليانوس فبسبب صباه، إذ كان يبلغ وقتها من العمر ثمانى سنوات، فقد نجا هو أيضا. وبعد هذا الحفظ العجيب أقام الأخوان معا فى قصر يُدعَى ماكلوم Macellum يقع فى كبادوكيا، وكان هذا الموقع الامبراطورى بالقرب من جبل أرجوس Argeus وليس بعيدا عن قيصرية وكان يشتمل على قصر فخم مزودا بحمامات وبساتين وينابيع عامرة. وهنا تثقفا وتعلّما على نحو يليق بكرامة مولدهما، وتعلَّما العلوم والممارسات البدنية التى تناسب عمرهما بواسطة مدرسين لغة ومفسرين للأسفار المقدسة لدرجة أنهما أحصيا بين الاكليروس وقرأ الأسفار المقدسة للشعب، ولم يكن سلوكهما ولا أعمالهما تشير إلى أى تقصير أو إهمال فى التقوى. لقد احترما الاكليروس والصالحين الآخرين والأشخاص الغيورين على العقيدة. وكانوا يتوجهون بإنتظام إلى الكنيسة ويُقدِّمون الإكرام لمقابر الشهداء.
(5/2/7) ويُقال أنهما تعهدا بإيداع قبر الشهيد ماماس فى مبنى ضخم، وأن يقسِّما العمل بينهما، وأنه بينما كانا يتنافسان فى الشرف، حدثت واقعة مدهشة جدا لدرجة أنها لا تصدَّق بتاتا لولا شهادة كثيرين مازالوا بيننا قد سمعوها ممن كانوا شهود عيان لهذا العمل. كان الجزء من البناء الذى يعمل فيه جالوس يتقدم بسرعة وحسب المطلوب، لكن الجزء الذى كان يعمل فيه يوليانوس تخرب بعضه، وقُلِع آخر من الأرض، وجزء ثالث لم يثبت عند مجرد لمسه إذ كان يرجع إلى الوراء كما لو كانت قوة قوية ومقاومة تدفع الجدار من أسفل.
(5/2/8) وأُعتبر ذلك معجزة على نطاق واسع، ومع ذلك لم يستخلص الناس أية نتيحة من هذه الواقعة، إلى أن أظهرت الأحداث التالية مغزاها. وكان هناك قلة بدأوا يتشككون فى حقيقة ايمان يوليانوس، وتشككوا فى أنه يتظاهر بمظهر التقوى خوفا من عدم رضا الإمبراطور الذى كان آنذاك مسيحيا، ولذلك أخفى مفاهيمه الخاصة إذ لم يكن من الآمان أن يبوح بها. وتأكد أنه كان مُقادا إلى التنكر لأبائه بإتصاله بالعرافين، لأنه عندما خفتت ضغينة قنستانتيوس ضد الأخوين ذهب جالوس إلى أسيا وأقام فى افسس بينما ظل الجزء الأكبر من ممتلكاته قائما.
(5/2/9) وتوجه يوليانوس إلى القنسطنطينية وتردد على المدارس حيث لم تعد قدراته الطبيعية واستعداده للتحصيل بخفية. وقد ظهر للعامة بثياب الشخص العادى وكانت له صحبة كبيرة، ولكن لمَّا كان قريبا للإمبراطور، وقادرا على تسيير الأمور إذ كان من المتوقع أن يصير امبرطورا، فقد كان الكلام السائد عنه، كما هو الحال فى المدينة الامبراطورية الكثيفة السكان، أنه شخص جدير بالإعتبار. لذلك أُمِر بالإعتزال فى نيقوميديا.
(5/2/10) وهنا تعرَّف على مكسيموس الفيلسوف الأفسسى الذى علَّمه الفلسفة([386]) وشحنه بالكراهية إزاء الديانة المسيحية([387])، وأكثر من ذلك أكد له أن النبوات التى قيلت عنه صحيحة. ومن ثمة تلطف([388]) يوليانوس، مثلما يحدث فى حالات كثيرة، وهو يتوقع ظروف قاسية بهذه الأمنيات الرقيقة واتخذ مكسيموس صديقا له. وعندما بلغت هذه الوقائع إلى آذان قنستانتيوس، جبن يوليانوس، وبناء عليه حلق وتبنى خارجيا نمط الحياة الرهبانية([389])، بينما كان يتمسك سراً بالديانة الأخرى.
(5/2/11) وعندما بلغ سن الرجولة، صار مفتونا بالأكثر ومعجبا بفن(إن كان ذلك فنا) قراءة الطالع ومنشغلا بهذه الميول، وظن أن معرفته([390]) أمرا ضروريا، ومن ثمة ازداد فى مثل هذه الأمور كما لو كان ليس أمينا للمسيحيين. ومنذ هذه اللحظة اتحذ له اصدقاء ممن يتبعون هذه الحرفة. وبهذا الفكر جاء إلى اسيا من نيقوميديا، وهناك تآلف مع أناس من اصحاب هذه الممارسات وصار اكثر حماسا فى تتبع العرافين.
(5/2/12) وعندما قُتِل جالوس أخيه الذى قد أُعلِن قيصرا عقب إتهامه بثورة، شك قنستانتيوس أيضا فى تطلع يوليانوس إلى الإمبراطورية لذلك وضعه تحت الحراسة. وحصلت يوسيبيا Eusebiaزوجة قنستانتيوس([391]) على إذن من أجله بالإعتزال فى اثينا، ومن ثمة أقام هناك تحت زعم حضور المدارس والممارسات الوثنية، ولكن كما تقول الإشاعات كان يتصل بالعرافين بشأن مشروعاته المستقبلية.
(5/2/13) فإستدعاه قنستانتيوس وجعله قيصرا، ووعده بتزويجه من أخته، وأرسله إلى الغال لأن البرابرة الذين استأجرهم سابقا ضد ماجننتيوس إذ وجدوا أن خدماتهم غير مطلوبة، استولوا على ذلك البلد. ولما كان يوليانوس شابا فقد أُرسِل معه جنرالات على دراية بالأمور التحوطية. ولكن لما كان هؤلاء الجنرالات قد سلَّموا ذواتهم للملذات، وكان هو مهيأ للحرب كقيصر لذا هيأ جنوده معنويا للمعركة وحثهم على مواجهة الخطر وأمر بأن تُوهَب مكافأة معينة لكل مَن يقتل بربريا. وبعد أن ألهب هكذا عواطف الجنود، كتب إلى قنستانتيوس ليُطلعه على خفة الجنرالات. فلما أرسل إليه جنرالا آخر هاجم البربر وحقق نصرا، فأرسلوا سفارة يلتمسون السلام وأظهروا الرسالة التى يطلب فيها قنستانتيوس منهم دخول المقاطعات الرومانية.
(5/2/14) فأجَّل عن عمد عودة السفارة، وهاجم عددا من الأعداء وغلبهم. وقد قيل أن قنستانتيوس من باب العداوة له قد دبَّر هذه الحيلة، ولكن هذا لا يبدو محتملا لى لأنه لما كان قنستانتيوس قد استقر من نفسه على جعله قيصرا، فلماذا يُسبِغ عليه هذا اللقب ويعطيه أخته زوجة، ويستجيب لشكواه من عدم كفاءة الجنرالات ويرسل له جنرالا مناسبا بدلا منهم ليُكمِل الحرب إن لم يكن صديقا ليوليانوس؟.
ولكن، حسب تخمينى، أنعم عليه بلقب قيصر لأنه كان حسن النية نحو يوليانوس، ولكن لما أُعلِن امبراطورا بدون موافقته، تآمر ضده بواسطة برابرة الراين. وأظن أن هذه النتيجة ناتجة عن الخوف من أن يسعى يوليانوس إلى الانتقام من سوء المعاملة له هو وأخوه جالوس الذى عانا منها فى شبابهما، أو كما هو طبيعى من الغيرة لحصوله على شرف مماثل. ولكن آراء متعددة كثيرة ترِد بشأن هذا الموضوع.

الكتاب الخامس: الفصل الثالث
( عندما استقر يوليانوس فى الحكم بدأ يُدخِل بمكر الوثنية، ويهيج المعارضين للمسيحية)

(5/3/1) وعندما وجد يوليانوس نفسه الحائز المفرد للإمبراطورية، أمر بإعادة فتح سائر المعابد الوثنية فى سائر أرجاء الشرق، وإصلاح تلك التى أُهمِلت وإعادة بناء ما قد تخرب، واسترداد المذابح. وخصص مبلغا معقولا لهذا الغرض. وأعاد عادة الاحتفال بالسلف، وبالعاديات فى المدن وممارسة تقديم الأضاحى. وقدَّم هو نفسه سكيبا جهرا، وذبائح صراحة. وأنعم بالكرامة على المتحمسين بإنجاز مثل هذه الاحتفالات؛ وأعاد للكهنة والمعلميِّن والهيروفانتس([392]) hierophants ، وخدم الاصنام امتيازاتهم القديمة؛ وأكد شرعية الأباطرة السابقين فى سلوكهم، ومنحهم اعفاء من الواجبات والأعباء الأخرى كما كانت حقوقهم السابقة. وردَّ لحرس المعابد المؤن التى كانت قد أُلغيت، وأمرهم أن يتنقوا من اللحوم وأن يمتنعوا عن كل ما هو حسب الأقوال الوثنية ملائما لذاك الذى جعل غرضه السلوك فى حياة نقية [!!]. كما أمر بأن يُعهَد بمقياس النيل والرموز والألواح السلفية السابقة لمعبد سيرابيس بدلا من وضعها حسب التشريع الذى وضعه قنسطنطين فى الكنيسة. وكتب مرار إلى سكان تلك المدن التى عرف أن الوثنية قد تلاشت فيها، وسألهم أية هبات يريدون.
(5/3/2) أما بالنسبة للمسيحيين، فقد أظهر لهم صراحة مقته، رافضا تشريفهم بحضرته، أو السماح بإستقبال مبعوثيهم الذين كانوا مكلفين بإخطاره بأحزانهم. وعندما التمس سكان نصيبين معونته ضد الفارسيين الذين كانوا على وشك غزو المقاطعات الرومانية، رفض أن يساعدهم لأنهم كانوا جميعا مسيحيين ورفضوا إعادة فتح المعابد[الوثنية] أو العودة إلى المواضع المقدسة[الوثتية].
(5/3/3) وبالمثل اتهم سكان قنسطانطيا بفلسطين بإلتصاقهم بالمسيحية وأعطى جزية مدينتهم لمدينة غزة. وكانت قنسطانطيا تُدعى سابقا مايوما، وكانت تُستخدَم كمرفأ لبواخر غزة، ولكن عند سماع أن غالبية سكانها من المسيحيين رفعها قنسطنطين إلى مرتبة مدينة وأسبغ عليها اسم ابنه ووهبها شكلا معينا للحكم، لأنه اعتبر أنه لا ينبغى أن تعتمد على غزة المدينة المدمنة للطقوس الوثنية.
(5/3/4) وعند اعتلاء يوليانوس[للعرش] ذهب مواطنو غزة لمقاضاة مواطنى قنسطانطيا، وجلس الإمبراطور بنفسه كقاضى، وحكم لصالح غزة وأمر أن تكون قنسطانطيا ملحقة لغزة على الرغم من أنها تقع على مسافة عشرين استدايا منها، وألغى اسمها القديم، وظهرت منذ ذلك الحين كمنطقة بحرية لغزة، ولها الآن نفس ماجستريت المدينة والضباط الحربيين والتشريعات العامة.
(5/3/5) أما بخصوص الأمور الكنسية فما زالا مع ذلك تُعتبران مدينتان. فلكل منهما اسقفها الخاص بها واكليروس خاص بها وهما يحتفلان بأعياد قديسيهما الخاصين بكل منهما، وبتذكار الكهنة([393]) الذين قادوهما على التوالى. ومازالت حدود الحقول المتاخمة التى بها مذابح تخص كل من الاسقفيتيَن، محفوظة.
(5/3/6) وقد حدث على ما أذكر أن محاولة قد جرت من اسقف غزة عند وفاة رئيس كهنة مايوما، لضم اكليروس تلك المدينة إلى أولئك الذين تحت اشرافه، وكانت الحجة التى أوردها أنه ليس شرعيا أن يكون هناك اسقفان على مدينة واحدة. فإعترض سكان مايوما على هذا المخطط، ولما علِم مجمع الإقليم بهذه المنازعة رسم اسقفا آخر. وقرر المجمع أنهم جميعا على صواب لأن اولئك المستحقين لكرامة مدينة بسبب تقواهم يجب ألا يُحرَموا من الامتياز الممنوح لهم بالكهنوت ورتبة كنائسهم بسبب قرار اتخذه امبراطور وثنى على اساس مختلف.

الكتاب الخامس: الفصل الرابع
(يوليانوس يجلب الشرور على قيصرية. شجاعة ماريس اسقف خلقيدون)

(5/4/1) وفى نفس ذلك الوقت محا الإمبراطور قيصرية، متروبولية كبادوكية الكبيرة والثرية، والتى كانت تقع بالقرب من جبل أرجوس، من كتالوج المدن؛ بل وحرمها من اسم قيصرية ذلك الإسم الذى أُنعِم به عليها فى عهد كلوديوس قيصر، فقد كان اسمها مازقا Mazaca.
(5/4/2) فلقد نظر إلى سكان هذه المدينة بمقت شديد للغاية لأمد طويل لأنهم كانوا متعلقين بالمسيحية بشدة، وكانوا قد أزالوا سابقا معبدى ابوللو وجوبيتر حارسى المدينة. وكان المعبد المخصص [لإلهة] الحظ([394]) هو الوحيد الباقى فى تلك المدينة. وهذا كان قد هدمه المسيحيون عقب اعتلائه.
(5/4/3) وعندما سمع الإمبراطور بذلك كره كل المدينة بشدة وبالكاد صبر عليها. ولكنه لام الوثنيين أيضا، الذين كانوا عددا قليلا، لأنه كان عليهم أن يسرعوا إلى المعبد وإذا اقتضت الضرورة أن يتألموا بإبتهاج من أجل "فورتانا". وأمر بالاستيلاء على الممتلكات والأموال التى تخص كنائس المدينة وضواحى قيصرية. وحصل من هذا المصدر على نحو ثلاثمائة جنيه ذهب ونقلها إلى الخزانة العامة.
(5/4/4) وأمر أيضا بضم سائر الاكليروس إلى الكتائب التى تحت اشراف حاكم المقاطعة([395])، وكانت تعتبر اكثر الخدمات انحطاطا، وأكثرها شقاءَ بين الرومان. وأمر بإحصاء المسيحيين وخاصة النساء والأطفال على وجه الحصر، وفرض عليهم ضريبة شاقة كتلك التى تخضع لها القرى([396]). وهدد أيضا أنه ما لم يُعَاد بناء المعابد بسرعة فلن يكبح سخطه بل سيصبه على المدينة إلى أن لا يبقى أحدٌ من الجليليين فى الوجود، لأن هذا كان الإسم الذى يُطلقه على المسيحيين([397]).
وما من شك فى أن دنائته كانت ستتم بالتمام لو لم يحل موته سريعا.
(5/4/5) ولم يكن من قبيل أية مشاعر شفقة نحو المسيحيين أن عاملهم أولا بإنسانية كبيرة عما ظهر من مضطهديهم السابقين، ولكن لأنه اكتشف أن الوثنية لم تكسب أى شىء من تعذيبهم بينما تزايدت المسيحية بصفة خاصة، وصارت أكثر تكريما بموت أولئك الذين ماتوا دفاعا عن الايمان. لقد كان، ببساطة، الحسد من مجدهم([398])، فبدلا من استخدام النار ضدهم وتشويه أبدانهم مثل المضطهدين السابقين، وبدلا من رميهم فى البحار أو دفنهم أحياء لإجبارهم على تغيير مفاهيمهم لجأ إلى الحجة والاقناع، وظن أنه بهذ الوسيلة يردهم إلى الوثنية، وتوقع تحقيق مبتغاه بأكثر سهولة بهجر كل وسائل العنف وبإظهار الأريحية غير المتوقعة.
(5/4/6) ويُقال أنه فى إحدى المرات التى كان يُقدِّم فيها الذبائح فى معبد "فورتانا" يالقنسطنطينية، ظهر ماريس اسقف خلقيدون بنفسه أمامه ووبخه كرجل لا دينى وملحد وجاحد. ولم يجد يوليانوس ردا على توبيخه سوى [نعته] بالعمى لأن بصره كان قد كلَّ بالشيخوخة، وأنه يُقَاد كطفل ثم أضاف بعد ذلك، كعادته فى التكلم بالتجاديف، ساخرا أن الجليلى إلهك لن يشفيك. فأجاب ماريس "اشكر الله على عماى الذى يمنعنى من مشاهدة ذاك الذى سقط من ديانتنا". ولم يرد يوليانوس على هذا لأنه اعتبر الوثنية ستنمو بإظهار الصبر والرقة نحو المسيحيين.

الكتاب الخامس: الفصل الخامس
(يوليانوس يرد الحرية للمسيحيين ليُحدِث متاعبا أكثر داخل الكنائس. والمعاملة الشريرة المبتكرة للمسيحيين)

(5/5/1) وانطلاقا من هذه الدوافع([399])، استدعى يوليانوس جميع المسيحيين الذين نفيوا خلال عهد قنستانتيوس بسبب مفاهيمهم الدينية ورد لهم ممتلكاتهم التى صودرت حسب القانون. وأمر الشعب بعدم القيام بأى ظلم للمسيحيين أو أى إهانة وعدم اجبارهم على تقديم الذبائح بالإكراه. وأمر أنه إذا اقتربوا من المذابح([400]) بكامل إرادتهم فعليهم أولا أن يسترضوا الشياطين الذين يعتبرهم الوثنيون قادرين على منع الشر، وأن يتنقوا([401]) بواسطة اسلوب الفدية المعتادة.
(5/5/2) ومع ذلك حرم الكهنة من الحصانة والشرف والمؤونة التى كان قنستانتيوس قد أنعم بها عليهم. وألغى القوانين التى سنها لصالحهم وعزز التزاماتهم، بل ألزم حتى العذارى([402]) والأرامل اللواتى حُسِبن بسبب فقرهن ضمن الاكليروس على رد المؤونة التى خُصِصت لهن من المصادر العامة([403]). لأن قنسطنطين عندما نظم الشؤون الزمنية للكنيسة خصص قدرا معقولا من الضرائب المفروضة على كل مدينة لخدمة الاكليروس فى كل مكان. ولكى يضمن استقرار هذه الترتيبات سن قانونا ظل سارى المفعول منذ وفاة يوليانوس([404])Julian وإلى يومنا هذا.
(5/5/3) وقالوا أن هذه المعاملة كانت قاسية جدا وصارمة كما هو ظاهر من الايصالات التى كانت يعطيها المتلقون للأموال لأولئك المغتصبون والتى يُنَص فيها على أن الممتلكات المستلمة طبقا لقانون قنسطنطين قد تم ردها.
(5/5/4) ومع ذلك لم يستطع شىء أن يُنقِص من كراهية هذا الحاكم ضد الديانة [المسيحية]. ففى كراهيته الشديدة للإيمان، انتهز كل فرصة لتدمير الكنيسة. فقد جردها من كل مِلكية ونذور وأوانى مقدسة. وحكم على أولئك الذين دمروا المعابد خلال عهود قنسطنطين وقنستانتيوس بإعادة بناؤها أو بتزويد نفقات إعادة تشييدها. وعلى هذا الأساس إذ كانوا غير قادرين على دفع المبالغ أيضا بسبب مصادرة الأموال المقدسة، عُذِّب الكثيرون من الاكليروس والكهنة والمسيحيين الآخرين بقسوة، وطُرِحوا فى السجن.
(5/5/5) ويمكننا أن نخلص مما قيل أنه إذا كان يوليانوس قد سفك دماءً أقل من المضطِّهدين السابقين للكنيسة، وأنه إن كان قد أوقع عقوبات تعذيب أقل للبدن إلاَّ أنه كان اقساهم من جميع النواحى، إذ ألحق بهم الشر بكافة الطرق. [وحتى] إعادته للكهنة الذين حُكِم عليهم بالنفى من قِبل الإمبراطور قنستانتيوس، يُقال([405]) أنه قد أصدر هذا الأمر لصالحهم ليس من باب الرحمة ولكن لإثارة النزاع فيما بينهم([406])، ولكى ما تنغمس الكنائس فى الكراهية المتبادلة أيضا([407]) وتخفق فى حقوقها الخاصة. أو لأنه أراد أن يذم قنستانتيوس، فقد افترض أنه يقدر أن يجلب البغضة للمَلكية المائته من جميع النواحى، وذلك بإظهار العطف على الوثنيين الذين كانت لهم نفس مفاهيمه، وبإظهار الشفقة نحو أولئك الذين تألموا من أجل المسيح وعوملوا بغبن.
(5/5/6) وطرد الخصيان من القصر لأن الإمبراطور السابق كان ودودا معهم. وحكم على يوسيبيوس حاكم البلاط الامبراطورى بالموت عندما شك فى أنه بمشورته قد قُتِل جالوس أخيه. واستدعى اتيوس قائد الهرطقة الأنومية من الاقليم الذى نفاه إليه قنستانتيوس والذى كان محل شك بسبب صداقته لجالوس، وأرسل إليه يوليانوس خطابات مفعمة بالعطف وزوده بوسيلة نقل عامة. ولسبب مماثل حكم على ايليوسيوس اسقف سيزيكوس بغرامة ثقيلة لإعادة بناء كنيسة تخص النوفاتيين، كان قد دمرها فى عهد قنستانتيوس وذلك خلال شهرين وعلى نفقته الخاصة. وهناك أشياء ثقيلة فعلها من كراهيته لسلفه، سواء نفذها بنفسه أو سمح لآخرين بإنجازها.

الكتاب الخامس: الفصل السادس
(أثناسيوس بعد اختبائه لسبع([408]) سنوات فى دار عذراء حكيمة وجميلة، يعود للظهور جهرا فى ذلك الوقت، ويدخل كنيسة الأسكندرية )

(5/6/1) وفى هذه الفترة إذ سمع أثناسيوس الذى ظل مدة طويلة فى مخبأه عن موت قنستانتيوس، ظهر ليلا فى كنيسة الأسكندرية. وأثار ظهوره غير المتوقع أقصى اندهاش. فقد كان قد هرب من الوقوع فى يد حاكم مصر الذى، بناء على أمر الإمبراطور وطلب اصدقاء جورج، كان قد خطط للقبض عليه كما سبق أن دونا. فإختبأ فى منزل عذراء قديسة فى الأسكندرية. ويُقال أنها كانت موهوبة بجمال غير عادى لدرجة أن مَن كان يُشاهدها كان كمن شاهد ظاهرة طبيعية. وكان الفطنون والكابحين لأنفسهم يبتعدون عنها حتى لا يُوجَّه ضدهم أى لومٍ بسبب أى شكٍ. وكانت فى عز زهرة شبابها، وكانت فطنة للغاية ووديعة، وهى صفات كفيلة وحدها لأن تزين الجسد حتى لو لم تكن الطبيعة مُعِينة [له] بهباتها. لأنه ليس صحيحا كما يدَّعِى البعض أنه حسبما يكون الجسد هكذا تكون النفس؛ بل على العكس يتشكل سلوك الجسد تبعا لنشاط النفس. وأى شخص نشيط على نحو ما سيظهر بتلك الطبيعة طالما هو منشغل بهذا النشاط. وهذه الحقيقة كما نظن مقبولة من جميع الذين فحصوا الأمر بدقة.
(5/6/2) فيُروَى([409]) أن أثناسيوس قد لجأ إلى منزل هذه العذراء القديسة برؤيا من الله الذى قصد أن ينقذه بهذا الأسلوب.
(5/6/3) وعندما أفكر فى النتيجة التى تلت ذلك، لا أقدر أن أشك فى أن جميع الأحداث قد وُجِّهت من الله، لدرجة أن اقارب أثناسيوس ما كانوا ليحزنوا لو أن شخصا ما حاول أن يُزعجهم بسببه وأجبرهم على أن يُقسِموا. ولم يكن لدى الكهنة ما يوحى بشبهة اختفائه لدى هذه العذراء المحبوبة. ومع ذلك كان لديها الشجاعة فى أن تستقبله؛ وتحفظ بفطنتها حياته. لقد كانت حارسه الأمين، وخادمه المجتهد إذ كانت تغسل قدميه وتُحضِر له الطعام؛ وكانت تخدمه وحدها فى سائر الضرورات الأخرى التى تتطلبها الطبيعة، وكانت تُحضِر له ما يحتاج إليه من كتب بواسطة آخرين. وخلال الزمن الطويل الذى كانت تتم فيه هذه الخدمات لم يعرف أحدُ من سكان الأسكندرية أى شىء عنه.

الكتاب الخامس: الفصل السابع
(موت جورج اسقف الاسكندرية المفجع. نتائج أحداث معبد ميثرا. خطاب يوليانوس فى هذه الظروف العصيبة)

(5/7/1) وبعد أن حُفِظ أثناسيوس بهذه الطريقة الحكيمة، وظهر فجأة فى الكنيسة دون أن يعرف أحدٌ متى جاء، ابتهج مع ذلك شعب الأسكندرية بعودته واستردوا له كنائسه.
(5/7/2) وإذ طُرِد الاريوسيون هكذا من الكنائس، اضطروا إلى عقد اجتماعاتهم فى المنازل الخاصة، واقاموا لوكيوس Lucius محل جورج اسقفا لهرطقتهم. وكان جورج قد قُتِل بالفعل لأنه عندما أعلن الماجستريت للعامة موت قنستانتيوس، وأن يوليانوس هو الحاكم المفرد أثار الوثنيون الاسكندريون شغبا وهاجموا جورج وهم يصيحون ويوبخون وكأنهم سيقتلونه فى الحال. وأخذه قادة هذا الهياج وسجنوه. وبعد ذلك بقليل، اندفعوا باكرا فى الصباح إلى السجن وقتلوه ووضعوا جثته فوق جمل. وبعد أن عرَّضوها طوال النهار لكل إهانة أحرقوها عند قدوم الليل.
(5/7/3) ولست أجهل أن الهراطقة الأريوسيين قد أشاعوا أن جورج قد لقى هذه المعاملة القاسية من اتباع أثناسيوس([410]).
(5/7/4) ولكن، يبدو لى أن الأكثر إحتمالا هو أن الجناة لهذه الأعمال هم الوثنيون لأن لهم أكثر من سبب، أكثر من أى جماعة أخرى من الناس، لكراهيته وبصفة خاصة بسبب الإهانات التى ألحقها بأصنامهم ومعابدهم؛ وأكثر من ذلك حظره لهم من إقامة الذبائح أو ممارسة طقوس السلف بالإضافة إلى النفوذ الذى حازه فى القصُور والذى عمَّق الكراهية له، فاعتبروه، كمثل شعور الناس نحو مَن هم فى سلطة، [شخصا] لا يُطَاق.
(5/7/5) وأيضا وقعت مصيبة فى بقعة تُدعَى ميثريم Mithrium. وكانت أصلا صحراء وهبها قنستانتيوس لكنيسة الأسكندرية. وبينما كان جورج([411]) ينظف الارض لكى يقيم بيتا للصلاة، اكتشف آديتوم([412])، واكتشف فيه تماثيل وبعض أدوات الانضمام أو التطهر التى بدت غريبة ومضحكة للمشاهدين([413]). فطلب المسيحيون([414]) أن تُعرَض جهارا، وعملوا موكبا لأجل إغاظة الوثنيين.
(5/7/6) ولكن الوثنيين احتشدوا معا واندفعوا وهاجموا المسيحيين، بعدما سلَّحوا أنفسهم بالسيوف والحجارة وبأى سلاح تصل إليه أياديهم، وقتلوا الكثيرين من المسيحيين. وللسخرية بديانتهم صلبوا آخرين، وتركوا كثيرين جرحى. وأدى ذلك إلى هجر العمل الذى بدأه المسيحيون، بينما قتل الوثنيون جورج بمجرد أن سمعوا عن اعتلاء يوليانوس لعرش الامبراطورية.
(5/7/7) وهذ الواقعة، قد سلَّم بها الإمبراطور نفسه والذى ما كان ليعترف بها لولا أن الحقيقة قد أجبرته على ذلك. فأننى أظن أنه كان يود أن يكون المسيحيين أيا كانوا، وليس الوثنيون، هم قتلة جورج، ولكن ذلك لم يستطع أن يخفيه. وهذا ظاهر فى الخطاب([415]) الذى كتبه فى هذا الصدد إلى سكان الاسكندرية، والذى يعرض فيه آراء قاسية. ففى هذا الخطاب يوبخ فقط، ويعبر على العقاب، لأنه يقول أنه يخشى سيرابيس معبودهم الحارس[للمدينة] والاسكندر مؤسسها، ويوليانوس عمه الذى كان سابقا حاكما لمصر والاسكندرية. وهذا الأخير كان محبوبا جدا من الوثنيين، ويكره المسيحيين للغاية حتى أنه وضدا لرغبة الإمبراطور اضطهدهم إلى الموت.

الكتاب الخامس: الفصل الثامن
(بشأن ثيودور حارس الأوانى المقدسة فى انطاكية، وكيف سقط يوليانوس عم هذا الطاغية بسبب هذه الأوانى فريسة للدود)

(5/8/1) ويُقال أنه عندما عزم يوليانوس عم الإمبراطور على نقل هبات نذور كنيسة انطاكية التى كانت كثيرة وباهظة القيمة إلى الخزانة الإمبراطوية، وعلى غلق أماكن الصلاة أيضا، فر جميع الإكليروس.
(5/8/2) ولكن كاهنا اسمه ثيودوريتس Theodoritus وحده، لم يغادر المدينة. فقبض عليه يوليانوس بوصفه حارس الكنوز وقادر على إعطائه معلومات عنها وشوهه بدرجة مرعبة، وأخيرا أمر بقتله بالسيف بعد أن أجاب بشجاعة تحت كل عذاب وشهد جيدا لإعترافه العقيدى.
(5/8/3) وعندما حصل يوليانوس على غنيمة الأوانى المقدسة طرحها على الأرض وبدأ يسخر ويُجدِّف على المسيح بقدر ما شاء، ثم جلس عليها وتمادى بأعمال مشينة. وفى الحال تلفَت أعضاءه التناسلية والمستقيم، وتعفن لحمها وتحول إلى دود. وكان المرض يجاوز مهارة الأطباء، ومع ذلك من باب الاحترام للإمبراطور والخوف منه، لجأوا إلى تجربة كل أنواع الأدوية وذُبِِحت أغلى الطيور ليدهن بشحمها الأجزاء التالفة على أمل أن يخرج الدود إلى السطح، ولكن جميعها كان بلا أثر إذ كان [الدود] غائرا بعمق ويزحف إلى الأعضاء الحية، ولم يكف عن إلتهامها إلى أن وضع نهاية لحياته.
(5/8/4) ويبدو أن هذه المصيبة كانت بلاء من الغضب الإلهى لأن حارس الخزانة الإمبراطورية ورئيس ضباط البلاط اللذان سطيا على الكنيسة قد ماتا بأسلوب غير عادى ومرعب كحُكم من السخط الإلهى.

الكتاب الخامس: الفصل التاسع
(استشهاد القديسين يوسيبيوس ونستابوس وزينو فى مدينة غزة)

(5/9/1) وإذ تقدمتُ هكذا فى تاريخى إلى هذا الحد ورويتُ موت جورج وثيودريتوس، فإننى احسب من الصواب أن أروى بعض الأمور الخاصة بشأن وفاة الإخوة الثلاث يوسيبيوس ونستابوس وزينو سكان غزة الذين اندفعوا إليهم وهم ملتهبون بالغضب عليهم وجرّوهم من منزلهم الذى اختفوا فيه وطرحوهم فى السجن، وضربوهم. ثم اجتمعوا فى المسرح وصاحوا ضدهم بصوتٍ عالى معلنين أنهم قد دنسوا مقدسات معابدهم وأنهم انتهزوا الفرصة الماضية لإلحاق الضرر وإهانة الوثنية. وبهذا الصياح وتحريض بعضهم بعضا على قتل الإخوة امتلأوا حنقا وتحريضا متبادلا، وكما يفعل الجمهور عادة فى ثورة اندفعوا إلى السجن وعاملوا الرجال بقسوة شديدة [وطرحوهم] أرضا على ظهورهم تارة وعلى وجوههم تارة أخرى وجروا الضحايا وسحقوهم إربا على حجارة الطريق.
(5/9/2) وقد قيل لى أنه حتى النساء قد تركن فلكات مغازلهن، وثقبوهم بمثاقب الغزل، وأن الطهاة فى الأسواق قد انتشلوا من قدورهم الرغاوى مع ماء ساخن وسكبوه على الضحايا، وأشبعوهم بصاقا. وعندما مزقوا لحومهم وسحقوا جماجمهم حتى سالت مخاخهم على الأرض جرَّوا أجسادهم خارج المدينة، وألقوها فى موضع يُستخدَم بصفة عامة كبِركة لجثث الحيوانات وأشعلوا فيها نارا كبيرة وأحرقوها، وخلطوا العظام الباقية بدون إحتراق بعظام الجمال والحمير حتى لا توجد بسهولة.
(5/9/3) ولكنها لم تختف طويلا ذلك أن إمرأة مسيحية كانت ساكنة هناك رغم أنها لم تكن من مواطنى غزة قد جمعت العظام ليلا بتوجيه من الله، ووضعتها فى إناء من الفخار وأعطتها لزينو ابن عمهم ليحفظها، لأن الله أعلمها بذلك فى حلم وارشدها إلى أين يعيش الرجل، وأظهره لها قبل أن تراه لأنها لم تكن تعرف قبلا زينو، لأنه لما ثار الاضطهاد حديثا ظل مختفيا، فقد كان على وشك القبض عليه من شعب غزة وإماتته، ولكنه استطاع الهرب فى وسط انشغال الناس بقتل أبناء عمه وهرب إلى أنثيدون Anthedonالمدينة البحرية على مسافة عشرين استناديا من غزة، وكانت بالمثل مشايعة للوثنية ومخصصة لعبادة الاصنام. وعندما اكتشف سكان هذه المدينة أنه مسيحى ضربوه بشدة بالعصى على ظهره وطردوه من المدينة. فهرب عندئذ إلى ميناء غزة وأخفى نفسه. وهنا وجدته المرأة وأعطته البقايا، فإحتفظ بها بعناية إلى زمن ثيودوسيوس عندما رُسِم اسقفا وأقام بيتا للصلاة فى خارج أسوار المدينة ووضع مذبحا هناك، وأودع العظام بالقرب من تلك التى لنستور المعترف.
(5/9/4) وكان نستور هذا على علاقة وثيقة بأبناء عمه وقُبِض عليه معهم من شعب غزة وسُجِن وأُهِين. ولكن هؤلاء الذين جرّوه فى المدينة تأثروا بجماله الشخصى فأشفقوا عليه، وألقوه قبل أن يموت بالفعل خارج المدينة. فوجده بعض الأشخاص وحملوه إلى منزل زينو حيث لفظ أنفاسه أثناء تضميد جروحه وقطوعه. وعندما بدأ سكان غزة يفكرون فى عدد الجرائم التى ارتكبوها ارتعدوا لئلا ينتقم منهم الإمبراطور.
(5/9/5) وقد أُفِيد أن الإمبراطور قد استشاط غضبا وصمَّم على معاقبة الديكوريا decuria([416])، ولكن هذا الخبر زائف وليس له أى أساس خلاف الخوف والإتهام الذاتى بالجرائم. فلقد كان يوليانوس أبعد ما يكون عن الغضب ضدهم، فكما ظهر ضد الاسكندريين عند مقتل جورج، لم يكتب حتى خطاب تأنيب ضد شعب غزة. بل على العكس، عزل حاكم المقاطعة واعتبره محل شبهات، وتظاهر بأن الرأفة وحدها تمنعه من إماتته. وكانت الجريمة المنسوبة إليه هى أنه قبض على بعض سكان غزة الذين أفادت التقارير أنهم قد بدأوا الشغب والقتل، وسجنهم إلى أن تتم محاكمتهم طبقا للقانون.
(5/9/6) فقد تساءل الإمبراطور بأى حق قد فعل ذلك أن يقبض على المواطنين لمجرد الثأر لحفنة من الجليليين تعرضوا للأذى هم وآلهتهم؟. هذه هى حقيقة الأمر كما يُقال.

الكتاب الخامس: الفصل العاشر
(بشأن القديس هيلاريون، وعذارى هليوبوليس اللواتى هلكن بالخنازير، والاستشهاد الغريب لأسقف أرثوسا)

(5/10/1) وفى نفس الوقت بحث سكان غزة عن الراهب هيلاريون، ولكنه كان قد فر إلى صقلية. وهناك اشتغل بجمع الخشب من الصحارى ومن على الجبال، وكان يحملها على كتفيه ليبيعها فى المدن. وبهذه الوسيلة يحصل على الطعام الكافى للجسد. وأخيرا، تعرف عليه رجل ذو جودة كان قد طرد منه شيطانا، فإعتزل فى دلماطيا Dalmatiaوهناك بقوة الله انجز العديد من المعجزات، وبواسطة الصلاة حجز فيضان البحر، وحجز الأمواج فى حدودها ثم رحل ثانية، إذ لم تكن مسرته أن يعيش بين مَن يمدحوه، ولذا كان يُغيِّر محل اقامته لأنه كان يرغب فى أن يعيش بلا ملاحظة، وبإنتقاله المتكرر كان يتخلص من الشهرة التى تسود عليه. وأخيرا أبحر إلى جزيرة قبرص، وأقام فى بافوس Paphos. وبمناشدة اسقف قبرص، أحب الحياة هناك ومارس الفلسفة([417]) فى مكان يُدعى كاربوريس Charburis.
(5/10/2) لقد هرب من الاستشهاد بالفرار عملا بالوصية الإلهية ألاَّ نعرِّض أنفسنا للإضطهاد ولكن إن وقعنا فى يد مضطهدينا نتغلب على ظلم المقاومين بجلَدنا([418]).
(5/10/3) ولم يكن سكان غزة والأسكندرية هم فقط الذين يمارسون هذه الأعمال الوحشية ضد المسيحيين كما وصفتها. فإن سكان هليوبوليس([419]) بالقرب من جبل ليبانوس Libanus وجبل ارثوسا Arethusa([420]) بسوريا، يبدو أنهم قد فاقوهم فى القسوة، إذ كانوا مذنبين بعمل بربرى يمكن بالكاد أن يُصدَّق لولا أنه قد ثبت بشهادات أولئك الذين عاينوه.
(5/10/4) فقد جرَّدوا العذارى من ثيابهن، أولئك اللواتى لم يُشاهِدهُن أحدُ من الجمهور، وعرضوهن عراة كمشهد عام، وموضوع إهانة. وبعد إهانات أخرى عديدة حلقوهن أخيرا، ومزقوهن وحشوا أمعائهن بطعام الخنازير المعتاد. ولما كانت الخنازير لا تقدر أن تميز([421])، وإنما تندفع بحاجتها إلى الطعام المعتاد فقد مزقت بالتالى اللحم البشرى.
(5/10/5) وأنا مقتنع أن مواطنى هليوبوليس قد ارتكبوا هذه البربرية ضد العذارى القديسات بسبب حظر العادة القديمة لتسليم العذارى للدعارة مع أى وافدٍ يتصادف [مروره] قبل أن تتزوج من عريسها. فقد حُظِرَت هذه العادة بقانون سنه قنسطنطين بعد أن دمَّر معبد فينوس بهليوبوليس وشيَّد كنيسة على خرائبه([422]).
(5/10/6) وقد خضع مرقس اسقف أرثوسا، وهو رجل مسن ومكرَّم لشيبته وحياته، لموت شنيع جدا على يد سكان تلك المدينة الذين كانوا يحملون ضغينة ضده لأمد طويل، لأنه فى خلال عهد قنسطنطين كان يشجع الوثنيين بروحانياته أكثر من الاقناع، على الارتفاع إلى المسيحية([423]). وأبطل العديد من عجائب ومقدسات المعبد.
(5/10/7) وعند اعتلاء يوليانوس[للعرش] رأى الشعب([424]) هائجا ضد الاسقف، فأصدر مرسوما يأمر فيه الاسقف إما أن يدفع نفقات إعادة بناء المعبد، أو أن يعيد بناؤه. وإذ فكرَّ [الاسقف] أن الأول مستحيل، والثانى غير شرعى للمسيحى وبالأكثر للكاهن، فقد فرَّ أولا من المدينة.
(5/10/8) ولكن لمَّا سمع أن كثيرين قد تضرروا بسببه، وأن البعض قد أُقتيد إلى المحاكم، وعُذِّب آخرون، عاد وتقدَّم للآلام التى اختار الجمهور أن يفرضوها عليه أيا كانت. وبدلا من أن يُعجَب الشعب كله بأعماله الحسنة التى اظهرها لهم كفيلسوف، تصُوروا أنه كان مدفوعا بدافع الاحتقار لهم، فإندفعوا نحوه وجرّوه خلال الشوارع وهم يركلونه ويضربونه فى أى موضع كان. وانضم إليهم الناس من كل جنس ومن كل عمر بكل خفة وحنق فى هذه الاعمال الوحشية، ورُبِطت آذانه بحبال رفيعة، وتبارى أطفال المدارس عليه ودحرجوه أمامهم أكثر وأكثر، وأمسكوه ومزقوه بأدواتهم. وعندما تغطى جسده. بالجروح ولم يعد يتنفس، دهنوه بعسل ومخلوط معين ووضعوه فى سلة سمك مصنوعة من البوص ورفعوه على ربوة.
(5/10/9) ويُقال أنه بينما كان فى هذا الوضع وكانت الهوام والنحل، تلتهم لحمه قال لسكان ارثوسا أنه قد رُفِع أمامهم وأنه يقدر أن ينظر إليهم وهم أسفل، وهذا يذّكِره بالفارق الذى سيكون بينهم فى الحياة الآتية.
(5/10/10) ويُروى أيضا أن البريفكت([425]) الذى كان، رغم أنه وثنى، ذا أسلوب نبيل حتى أن ذكراه ما زالت مكرَّمة فى ذلك البلد، قد أُعجِب بضبط نفس مرقس، فنطق بشجاعة بتوبيخ ضد الإمبراطور لقبوله أن يُهزَم من رجل مسن عرَّضه لعذابات بلا حصر. وأضاف أن مثل هذه الاجراءات ستجلب للإمبراطور السخرية، بينما فى نفس الوقت ستُشتَهر أسماء المضطَّهدين.
(5/10/11) وهكذا تحمَّل المبارك كل العذابات التى لحقت به بجَلَدٍ لا يهتز حتى أن الوثنيين قد مدحوه.
الكتاب الخامس: الفصل الحادى عشر
(بخصوص استشهاد مقدونيوس وثيودولوس وجراتيان وبوسيريس وباسيليوس ويوبسكوس)
(5/11/1) وفى حوالى نفس الفترة، نال مقدونيوس وثيودلوس Theodulus وتاتيان الذين كانوا فريجيين بالمولد، الشهادة بشجاعة. فقد أعيد فتح معبد ميسوس Misos بمدينة فريجيا بواسطة حاكم المقاطعة بعد أن أُغلِق لسنوات كثيرة. فدخل هؤلاء الشهداء ليلا وحطَّموا التماثيل. ولما قُبِض على أفراد آخرين وكانوا على وشك المعاقبة على هذا العمل. قدَّموا أنفسهم كفاعلين للأمر. فعُرِض عليهم الهرب من القصاص بتقديم الذبائح للأصنام([426])، ولكن الحاكم لم يستطع إغوائهم بقبول الإعفاء بهذه الشروط. ولمَّا باءت إغراءاته بالإخفاق أساء معاملتهم بطرق شتى. وأخيرا مدّدهم على مشواة أسفلها نار مشتعلة.
(5/11/2) وبينما كانوا يهلكون، قالوا للحاكم آماخوس(فهذا كان اسمه) إذا أردت أن تطهى لحما، فإصدر أوامرك لكى ما يقلبوا أجسادنا من جنب إلى جنب على النار حتى لا نبدو غير ناضجين لمذاقك. وهكذا تحمل هؤلاء الرجال بنبل ووضعوا حياتهم للعقوبات.
(5/11/3) ويقال أن بوصيرس Busiris أيضا قد نال شهرة فى انقيرا، مدينة بغلاطية، بإعترافه الباهر والأكثر قوة بالدين. لقد كان ينتمى إلى هرطقة يوقراتيس Eucratites، فعزم حاكم المقاطعة على اساءة معاملته لسخريته بالوثنيين. فقاده جهرا لغرفة التعذيب وأمر برفعه، فرفع بوصيرس يديه إلى رأسه لكى يعرض جنبيه، وقال للحاكم لا لزوم لرفع المنفذين له ثم إنزاله بعد ذلك فهو جاهز لأداة التعذيب حسبما يُريد. فإندهش الحاكم من هذا العرض. ولكن دهشته إزدادت بالآتى: إذ ظلَّ بوصيرس رافعا يديه بثبات، وهو يتلقى الضربات ويُمزَّق جنبيه بالخطافات حسب توجيهات الحاكم. وفى الحال أُودِع بوصيرس السجن بعد ذلك، ولكنه أُطلِق سراحه بعد ذلك ليس بوقت طويل.
(5/11/4) ويقال أنه فى ذات الفترة استشهد باسيليوس كاهن كنيسة انقيرا ويوبسكيوس([427]) Eupsychius أحد نبلاء قيصرية كبادوكية الذى كان مازال عريسا. وأعتقدُ أن يوبسكيوس قد أُدِين بناء على تدمير معبد [إلهة] الحظ الذى قد سجلته، والذى أثار غضب الإمبراطور ضد كل سكان قيصرية. وفى الواقع أُدِين بعض الفاعلين بالموت وآخرين بالنفى. وقد أظهر باسيليوس غيرة شديدة فى الدفاع عن الايمان وعارض الاريوسيين خلال عهد قنستانتيوس، ومن ثم منعه حزب يودكسيوس من إقامة الإجتماعات العامة. ومع ذلك عند اعتلاء يوليانوس للعرش سافر هنا وهناك جهارا وعلنا يحض المسيحيين على الالتصاق بعقائدهم، وتجنب تدنيس أنفسهم بذبائح الوثنيين وسكائبهم. وحثهم على الازدراء بالشرف الذى يُنعِم به الإمبراطور عليهم، فمثل هذا الشرف يدوم لوقت قصير لكنه يقود إلى خزى أبدى. فعرَّضته غيرته لشك وكراهية الوثنيين. وعندما مرَّ ذات يوم ورآهم يقدمون ذبيحة، تنهد بعمق وصلى لأجل ألاَّ يسقط أى مسيحى فى خداع مماثل. فقُبِض عليه فى فى الموقع، وأُرسِل إلى حاكم المقاطعة. ووُقِّعت عليه عذابات كثيرة، فتحمل برجولة هذا الكرب ونال إكليل الشهادة.
(5/11/5) وحتى إن كانت هذه الاعمال الوحشية قد أُرتُكِبت ضد إرادة الإمبراطور، إلاَّ أنها تُقدِّم دليلا على أن عهده قد اتسم بشهداء ليسوا مجهولين، ولا هم قليلون. ولقد رويتُ هذه الوقائع على وجه الإجمال، من أجل التوضيح على الرغم من أن الاستشهاد كان، فى الحقيقة، فى فترات مختلفة.

الكتاب الخامس: الفصل الثانى عشر
(بشأن لوسيفر ويوسيبيوس الأسقفيَن الغربييَن. وعقد يوسيبيوس مع اثناسيوس واساقفة آخرون لمجمع فى الأسكندرية لتأكيد ايمان نيقية وتعريف المساواة للروح مع الآب والإبن. ومرسومهم بشأن الجوهر والأقنوم).

(5/12/1) وبعد عودة أثناسيوس، عاد لوسيفر([428]) Luciferاسقف كاجليارى([429]) Cagliari بساردينيا، ويوسيبيوس اسقف فيرسللى Vercelli مدينة بليجوريا Liguriaبإيطاليا، من طيبة العليا([430]). فقد كان قنستانتيوس قد حكم عليهما بالنفى المؤبد فى ذلك البلد.
(5/12/1) وكان يوسيبيوس قد جاء إلى الأسكندرية من أجل تنظيم وتصنيف الأمور الكنسية العامة. وهناك بالإتفاق مع أثناسيوس عُقِد مجمع من أجل تثبيت العقائد النقياوية. وأرسل لوسيفر شماسا مع يوسيبيوس ليحل محله فى المجمع، وذهب هو بنفسه إلى انطاكية ليفتقد الكنيسة هناك فى متاعبها. وكان قد حدث شقاق بين الاريوسيين بقيادة يوزويوس Euzoïus وأتباع مليتيوس الذين كما سجلتُ عاليه كانوا مختلفين مع مَن يتبنى ذات آرائهم. وإذ كان مليتيوس لم يعد آنذاك من المنفى فقد سام لوسيفر بولينوس Paulinus اسقفا.
(5/12/2) وفى نفس الوقت اجتمع([431]) اساقفة مدن كثيرة فى الأسكندرية مع أثناسيوس ويوسيبيوس وأكدوا عقائد نيقية، واعترفوا بأن الروح القدس هو من نفس جوهر substance الآب والإبن واستخدموا مصطلح الثالوث Trinity. وأعلنوا أن الطبيعة nature البشرية التى اتخذها "الله الكلمة" يجب أن تُعتَبر على أنها ليست جسدا كاملا فقط، ولكن أيضا نفسا كاملة. كما علَّم فلاسفة الكنيسة القدماء.
(5/12/3) ولما كانت الكنيسة قد تطوحت بالمسائل الخاصة بمصطلحات جوهر substance وهيبوستاسيس hypostasis([432]) وتكررت المنازعات والمجادلات بشأن هاتين الكلمتين، فقد نصا بحكمة، على ما أظن، على عدم استعمالهما من الآن فصاعدا، للإشارة إلى الله فيما عدا دحض مفهوم السابليين، لئلا ينتج عن ندرة استعمالهما أن يُسمّى نفس الشىء الواحد بثلاثة أسماء، ولكن يجب أن يُفهَم ذاك الواحد بإصطلاحه الخاص بطريقة ثلاثية.
(5/12/4) هذه كانت المراسيم التى أصدرها الاساقفة المجتمعون فى الأسكندرية. وقرأ أثناسيوس فى المجمع المستند الخاص بهروبه والذى دافع فيه عن نفسه([433]).

الكتاب الخامس: الفصل الثالث عشر
( بشأن بولينوس ومليتيوس رؤساء كهنة انطاكية؛ وكيف عادى كل من لوسيفر ويوسيبيوس بعضهما بعضا. ودفاع يوسيبيوس وهيلاريوس عن الإيمان النيقاوى)

(5/13/1) وعقب انتهاء المجمع توجه يوسيبيوس إلى انطاكية([434])، فوجد اختلافا فى الرأى يسود على الشعب. فأولئك المرتبطون بمليتيوس لم يرغبوا فى الانضمام إلى بولينوس، وعقدوا اجتماعهم منفردين. فحزن يوسيبيوس كثيرا من حالة الأمور هذه لأن السيامة ما كان يجب أن تتم بدون الموافقة الجماعية للشعب. ولكن من باب احترامه للوسيفر لم يشأ أن يعبّر عن عدم رضائه جهرا. ورفض الاشتراك مع أىٍ من الطرفين، ولكنه وعد بتدارك أحزانهم الخاصة بواسطة مجمع.
(5/13/2) وبينما كان يجاهد هكذا فى استرداد الوفاق والإجماع عاد مليتيوس من المنفى ووجد أن أولئك الذين يشايعون مفاهيمه قد انشقوا عن الحزب الآخر، فعقد اجتماعا معهم خارج أسوار المدينة. وجمع بولينوس حزبه فى نفس الوقت داخل المدينة، وبسبب لطفه وحياته الفاضلة وشيخوخته كسب احترام يوزيوس Euzoïusالرئيس الأريوسى الذى بدلا من أن يطرده من المدينة أعطاه كنيسة لإستعماله الخاص.
(5/13/3) وعندما اخفقت كل مساعى يوسيبيوس فى إعادة الوفاق غادر انطاكية. وتخيّل لوسيفر أنه قد جرحه لأنه لم يصدّق على سيامة بولينوس، فامتنع فى غضبه عن الشركة معه. وكما لو كان من باب حب النزاع، بدأ لوسيفر فى الطعن على مراسيم مجمع الأسكندرية. وبهذه الطريقة بدا أنه مؤسس الهرطقة" اللوسيفرية" التى نُسِبت إليه، وانفصل مَن تبنَّى علته عن الكنيسة. ولكن على الرغم من أنه قد اغتم بشدة من الأمورالتى حدثت، لكن لأنه كان قد أرسل شماسا بصحبة ثيودوسيوس ليحل محله، فقد خضع لمراسيم مجمع الأسكندرية، وصدَّق على عقائد الكنيسة الجامعة. وفى هذه الفترة توجه إلى ساردينيا.
وفى نفس الوقت توجه يوسيبيوس إلى المقاطعات الشرقية وردَّ أولئك الذين حادوا عن الإيمان وعلَّمهم ما يجب أن يؤمنوا به. وبعد أن مرَّ بإيلليريا ذهب إلى ايطاليا، وهناك قابل هيلاريوس([435]) Hilarius، اسقف بواتيه Poictiersفى أكويتانيا Aquitania. وكان هيلاريوس قد عاد من المنفى قبل يوسيبيوس، وعلَّم الايطاليين والغاليين العقائد التى يتعين عليهم قبولها وتلك التى يتعين عليهم رذلها، وعبَّر عن نفسه ببلاغة عظيمة باللسان اللاتينى وكتب أعمالا باهرة كثيرة، ويُقال أنه دحض المفاهيم الاريوسية.
وهكذا حافظ هيلاريوس ويوسيبيوس على عقائد المجمع النيقاوى فى أقاليم الغرب.

الكتاب الخامس: الفصل الرابع عشر
( نزاع حزب مقدونيوس مع الأريوسيين بشأن اكاكيوس)

(5/14/1) فى هذه الفترة اتخذ انصار مقدونيوس ومن بينهم اليسيوس ويوستاثيوس وصفرونيوس الذين بدأوا الآن يُدعَون صراحة بالمقدونيين حيث شكلوا شيعة متميزة، اجراءات جريئة عقب موت قنستانتيوس، فجمعوا مَن يتفقون مع آرائهم فى اجتماع بسلوقية وعقدوا عدة مجامع. وأدانوا حزب اكاكيوس والايمان الذى أسسه فى ارمينيّم وصدقوا على عقائد انطاكية والذى صودق عليها بعد ذلك فى سلوقية.
(5/14/2) وعندما سُئِلوا عن علة نزاعهم مع حزب اكاكيوس الذى كان له نفس المفاهيم وكانوا يشتركون معه سابقا، أجابوا، على لسان صفرونيوس اسقف بافلاجونيا، أنه بينما كان المسيحيون فى الغرب يحافظون على مصطلح مساوى فى الجوهر consubstantial فإن اتباع اتيوس فى الشرق تمسكوا بعقيدة "عدم المماثلة" dissimilarity فى الجوهر. وأن الحزب الأول ضم فى الوحدة الأقانيم المميزة للآب والإبن بإستعمالهم مصطلح (مساوى فى الجوهر)، وأن الفريق الثانى شكل اختلافا كبيرا فى العلاقة القائمة بين طبيعة الآب وطبيعة الإبن. أما هم أنفسهم فقد حافظوا على الوسطية بين الطرفين، وتجنبوا أخطاء كل منهما بالمحافظة بتقوى على أن الإبن مثل الآب فى الهيبوستاسيسhypostasis. وهكذا بهذه الأمثلة أظهر المقدونيون أنفسهم بلا لوم([436]).
الكتاب الخامس: الفصل الخامس عشر
( نفى أثناسيوس ثانية. ما يخص ايلسيوس اسقف سيزيكوس وتيطس اسقف بوسطرا. ذكرى اسلاف المؤلف.)
(5/15/1) وعندما علم الإمبراطور أن أثناسيوس يعقد الاجتماعات بكنيسة الأسكندرية ويُعلِّم الشعب بشجاعة ويحوِّل وثنيين كثيرين إلى المسيحية، أمره بالرحيل فورا من الأسكندرية مهددا إياه بأقسى العقوبات. وكانت الذريعة التى استخدمت لهذا المرسوم هو أن أثناسيوس بعد أن نُفِى من قِبل قنستانتيوس قد استرد كرسى اسقفيته بدون موافقة الإمبراطور الحاكم، إذ أن يوليانوس، قد صرَّح أنه لم يفكر قط فى إعادة الاساقفة الذين نفاهم قنستانتيوس إلى مهامهم الكنسية، ولكن فقط إلى أوطانهم.
(5/15/2) وعندما أذيع هذا الأمر بالرحيل الفورى، قال لجمهور المسيحيين الذين وقفوا حوله باكين، تشجعوا إنها ليست سوى غمامة سرعان ما ستنقضى. وبعد هذا الكلام ودعَّهم، وعهد بالكنيسة إلى أكثر أصدقائه غيرة، وغادر الاسكندرية.
(5/15/3) وفى حوالى نفس الفترة، أرسل سكان سيزيكوس سفارة إلى الإمبراطور ليعرضوا عليه بعض الأمور الخاصة بهم، وبصفة خاصة استرداد المعابد الوثنية. فإستحسن تفكيرهم ووعد بتلبية كل مطالبهم.
(5/15/4) فطرد ايليسيوس اسقف مدينتهم لأنه دمر بعض المعابد ودنس المناطق المقدسة([437]) بإزدراء، وأنشأ منازل للأرامل ومبانى للعذارى القديسات([438])، وحث الوثنيين على هجر طقوس اسلافهم.
(5/15/5) وحظر الإمبراطور دخول بعض المسيحيين الاجانب من الذين رافقوه، مدينة سيزيكوس خشية أن يثيروا شغبا بسبب الدين. ويظهر من هذا الحظر أنهم كانوا مرتبطين بالمسيحيين الذين كانوا داخل المدينة.
(5/15/6) وكان هناك اشخاص عديدون اجتمعوا معهم، كان لهم أيضا نفس المفاهيم الدينية التى للمسيحيين داخل المدينة، وكانوا يعملون فى مصانع النسيج لأجل الدولة، وفى سك النقود. وكانوا عديدين وينقسمون إلى فئتين، وكانوا قد نالوا تصريحا من الآباطرة السابقين بالسكن مع زوجاتهم وممتلكاتهم فى سيزيكوس شريطة أن يوردوا سنويا للخزانة العامة قدرا من القماش للجنود وعملات مسكوكة جديدة.
(5/15/7) وعلى الرغم من أن يوليانوس كان مهتما بنمو الوثنية بكل الطرق إلا أنه اعتبر أنه من عدم الفطنة استخدام القوة أو الانتقام ضد الذين يرفضون تقريب الأضاحى. إلى جانب أنه كان هناك عدد كبير من المسيحين فى كل مدينة ليس من السهل للحكام حتى احصائهم. ولم يمنعهم من الاجتماع معا للعبادة إذ كان يعى أنه متى تعلق الأمر بحرية الإرادة فإن الإكراه عندئذ يكون بلا فائدة على الإطلاق.
(5/15/8) فطرد الإكليروس ورؤساء الكنائس من كل المدن ليضع نهاية لهذه الاجتماعات، قائلا بحق أنه فى غيابهم ستبطل الاجتماعات بالفعل، إذ لا يكون هناك مَن يقود الاجتماع فى الكنائس، ولا مَن يقيم السرائر، وتتوارى الديانة ذاتها بمرور الزمن. وكانت الذريعة التى استخدمها لهذه الاجراءات هى أن الاكليروس كانوا قادة الشغب([439]) بين الشعب. وفى ظل هذه الذريعة طرد ايليسيوس واصدقائه من سيزيكوس، على الرغم من أنه لم يكن هناك أى مظهر أو توقع للشغب بالمدينة. ودعا أيضا سكان بوسطرا Bostraعلنا إلى طرد اسقفهم تيطس.
(5/15/9) ويبدو أن الإمبراطور قد هدد تيطس والاكليروس الآخرين كمثيرين للفتن التى قد تثور بين الشعب، وأن تيطس كتب لذلك مؤكدا له أنه على الرغم من أن المسيحيين كانوا تقريبا فى العدد مثل الوثنيين، إلا أنهم مع ذلك وبناء على توصياته قد لزموا الهدوء وليس فى نيتهم إحداث أى شغب.
(5/15/10) ولأن وجهة نظر يوليانوس عدم إثارة عداوة سكان بوسطرا([440]) ضد تيطس، فقد قدَّم فى رسالته التى أرسلها لهم([441])، أن اسقفهم قد افترى عليهم عندما سجل أنه بناء على توصياته وليس بناء على ميولكم الخاصة أنكم قد أحجمتم عن الشقاق، ولذلك حثهم على طرده من مدينتهم كعدو مشترك([442]).
(5/15/11) ويبدو أن المسيحيين قد خضعوا لظلم مماثل فى مناطق أخرى، أحيانا بأمر الإمبراطور وأحيانا بسخط وعدم تقوى العامة. واللوم فى هذه المعاملات يُوجَّه بعدل إلى الحاكم لأنه لم يُخضِع لقوة القانون الخارجين على القانون([443]). ولكن من كراهيته للمسيحيين كان يفتقد المرتكبون لمثل هذه الأعمال بتوبيخ شفاهى بينما بأفعاله يحثهم على نفس المنهج.
(5/15/12) ومن ثم، إزاء شدة الاضطهاد من الإمبراطور فرَّ المسيحيون من مدينة إلى اخرى ومن قرية إلى اخرى. واضطر جدى وكثيرون من اسلافى إلى الفرار على هذا النحو. وكان جدى من أبويين وثنيين، وكان هو وأسرته وأيضا أسرة الفيون أول من اعتنقوا المسيحية فى بيثليا وهى مدينة عامرة بالقرب من غزة وكان بها معابد مكرَّمة من سكان الاقليم لسبب قِدمها وفخامة بنيانها. وكان أكثر هذه المبانى شهرة هو البانثيون وقد شُيِّد على ربوة شاهقة تطل على المدينة كلها. وإننى أخمن أن المكان قد أخذ اسمه من المعبد حيث كان الاسم الاصلى الذى أُعطِى للمعبد باللغة السريانية، ثم تحول بعد ذلك إلى اليونانية بكلمة تعنى أن المعبد محل اقامة جميع الآلهة.
(5/15/13) ويقال أن هذه العائلات المذكورة عاليه، قد اهتدت بواسطة الراهب هيلاريون ([444]). فقد كان الفيون، على ما يبدو، ممسوسا بشيطان ولم يستطع لا اليهود ولا الوثنيون أن ينقذوه من هذا الداء بأية طريقة، سواء بالتعزيم([445])، أو بالسحر. ولكن هيلاريون بمجرد أن دعا بإسم المسيح طُرِد الشيطان، فآمن الفيون وكل عائلته فى الحال بالمسيحية. وكان جدى يتمتع بقدرة طبيعية كبيرة مكنته من شرح الاسفار المقدسة بنجاح، وحصل على بعض المعارف العامة ولم يكن يجهل الحساب، وكان محبوبا جدا من المسيحيين بعسقلان بغزة والريف المجاور، وكان يُعتبََر ضروريا للديانة بسبب موهبته فى شرح النقاط الغامضة فى الكتاب المقدس. ولا يقدر أحد أن يتكلم عن الجوانب الفاضلة فى العائلة الأخرى. فإن الكنائس والأديرة الأولى التى شُيِّدت فى هذا البلد قد تأسست بواسطة أعضاء هذه العائلة، ودُعِّمت بقوتهم وأريحيتهم نحو الغرباء والمحتاجين. وبعض الأعضاء الجيدين من هذه العائلة قد ازهروا حتى فى أيامنا هذه. وفى شبابى رأيتُ بعضهم لكنهم كانوا آنذاك متقدمين فى العمر جدا. وستكون لى فرصة للحديث عنهم خلال تاريخى هذا.

الكتاب الخامس: الفصل السادس عشر
(جهود يوليانوس فى ترسيخ الوثنية والقضاء على أعرافنا. الرسالة التى ارسلها إلى كبير سدنة الوثنيين)

(5/16/1) وكان الإمبراطور حزيتا للغاية، لأن كل جهوده لسيادة الوثنية كانت بلا فعالية بتاتا، ووجد أن المسيحية تتفوق فى الشهرة. فعلى الرغم من أن أبواب المعابد قد ظلت مفتوحة، والذبائح تُقدَّم، والاحتفالات القديمة تُراعَى فى كل المدن، إلاَّ أنه كان بعيدا عن الرضاء. فلقد استطاع أن يرى مقدَّما بوضوح، أنه بزوال تأثيره سرعان ما ستتغير كل الأمور. وكان مغموما بالأخص لإكتشافه أن زوجات وأطفال وخدم العديدين من الكهنة الوثنيين قد تحولوا إلى المسيحية.
(5/16/2) وعندما فكر فى أن إحدى دعائم الديانة المسيحية الاساسية هى حياة وسلوك معلميها، صمم على إدخال نظام التلمذة المسيحية وتأسيس النظم المتعددة ورتب الخدمة([446])، وفى تعيين معلمين، وقرّاء لتعليم العقائد والعظات الوثنية. وأمر أن تُقدَّم الصلوات فى أيام معينة وساعات معينة. وأكثر من ذلك، عزم على إقامة أديرة تضم الرجال والنساء الذين يودون أن يعيشوا فى اعتزال فلسفى. وبالمثل إقامة دار ضيافة لراحة الغرباء والفقراء وللأغراض الانسانية الأخرى. وأراد أن يُدخِل بين الوثنيين النظام المسيحى للتوبة عن الخطايا الإرادية واللاإرادية. ولكن بالنسبة لنقطة التهذب الكنسى التى أُعجِب بها بصفة رئيسية ورغب فى تطبيقها على الوثنيين كانت تلك العادة التى كانت سارية بين الاساقفة وهى إعطاء خطابات توصية لأولئك المسافرين إلى أراضى أجنبية يوصون فيها بتعطف وكرم ضيافة الاساقفة الآخرين فى كل الأماكن وفى كل الأحوال. إلى هذا الحد جاهد يوليانوس لنقش عادات المسيحية فى الوثنية.
(5/16/3) فإذا بدا ما قد سجلته لا يُصدَّق، فلستُ محتاجا للتفتيش عن براهين تدعم تسجيلاتى، لأننى أستطيع أن أقدِّم رسالة مكتوبة من الإمبراطور نفسه عن هذا الموضوع، فهو يكتب ما يلى:
"إلى ارساكيوس كبير كهنة غلاطية. إن الوثنية لم تصل بعد إلى درجة الازدهار المرغوبة بسبب سلوك أتباعها، رغم أن عبادة الآلهة سارية على نطاق كبير ورائع، على نحو يفوق ما نترجاه ونأمله. فلتَسعَد ([447])Adrastea بكلامنا هذا، لأنه ما كان لأحدٍ أن يجرأ ويتطلع لمثل هذا التغيّر المدهش والشديد كالذى شاهدناه فى فترة قصيرة من الزمن، ولكن هل نكتفى بما تحقق بالفعل؟. آلا ينبغى بالأحرى أن نفكر فى أن تقدم الإلحاد([448]) راجع بصفة أساسية إلى الانسانية التى تتجلى فى المسيحيين نحو الغرباء، وإلى التكريم الذى يقدمونه للموتى([449]) وإلى الجاذبية الخدَّاعة التى يتدثرون بها فى حياتهم؟. ألاَ يتطلب ذلك من كل فردٍ منا أن يجتهد فى أداء الواجب. إننى لا أشير إليك وحدك. فهذا لا يكفى، ولكن إلى كل كهنة غلاطية. يجب عليك أن تُخجِلهم أو أن تقنعهم أو حتى تحرمهم من ممارسة خدماتهم المقدسة إذا لم ينضموا هم وزوجاتهم وأبناؤهم وخدمهم إلى خدمة الآلهة. أو أيدوا عبيدهم، وأبناءهم، أو زوجات الغلاطيين فى معاملة الآلهة بلا تقوى بتفضيل الإلحاد([450]) عن التقوى. وعليك أن تحض الكهنة إذن على عدم ارتياد المسارح، وألا يشربوا فى الحانات ([451]) أو ينهمكوا فى أى تجارة، أو يمارسوا أية حرفة مشينة. أكرم أولئك الذين يخضعون لتنبيهاتك، واطرد أولئك الذين لا يكترثون بها. وأنشأ دار ضيافة فى كل مدينة حتى ما يجنى الغرباء من البلاد الاجنبية والمجاورة منافع احساناتنا حسب احتياجاتهم. لقد وفرتُ الوسائل اللازمة لتغطية النفقات الضرورية، وأصدرت التوجيهات فى سائر أنحاء غلاطية لكى ما تُزوَّد سنويا بثلاثين ألف باشل([452]) من الحنطة، وستين ألف معيار من النبيذ، يُخصَّص خمسها لدعم الفقراء الذين يُصغُون للكهنة. والباقى يوزع على الغرباء وعلى فقرائنا. لأنه أمر مشين أنه بينما ليس هناك محتاجين بين اليهود؛ وبينما هؤلاء الجليليون الكفرة ليس فقط يعولون المحتاجين من حزبهم بل أيضا الذين منّا، فإنه سيكون حقا أمراً مخزياً إن سمحنا لشعبنا بالمعاناة من الفقر.
علِّم الوثنيين التعاون فى عمل الخير هذا، ودع باكورات المدن الوثنية تُقدَّم للآلهة. وعوِّد الوثنيين على ممارسة هذا الجود، وذلك بأن تُظهِر لهم كيف ينبغى أن يسلكوا بقداسة بممارسة العادات القديمة، لأن هومر يقدِّم ايمويس Eumæus قائلا "يا ضيفى، أخشى أن أعامل الغريب بإحتقار، على الرغم من أن الأفقر يجب أن يصل حتى قبلك، لأن جميع الفقراء والغرباء هم فى عناية جوفا Jove". فلا ندع الآخرين يتفوقون علينا فى الأعمال الصالحة، ودعنا لا نُحِط أنفسنا بالظلم، بل بالأحرى دعنا نكون فى المقام الأول اتقياء للآلهة. إن سمعتُ أنك تسلك تبعا لتوجيهاتى، سأكون فى ملء الفرح. لا تزرالحكّام فى منازلهم غالبا، بل أكتب لهم مرارا. وعندما يدخلون المدينة لا تدع أى كاهن يذهب لإستقبالهم ولا تدع كاهنا يرافقهم أكثر من الردهة عندما يتوجهون إلى معبد الآلهة. ولا تدع أى جندى يسير أمامهم فى مثل هذه المناسبات، ولكن دع مَن يريد، يسير خلفهم، لأنه بمجرد أن يدخلون داخل الحدود المقدسة هم أفراد عاديون. وهناك واجبك كما تعرف جيدا أن ترأس بحسب المرسوم المقدس. أولئك الذين يوافقون بإتضاع على هذه السُّنة يُظهِرون أنهم اصحاب الدين الحق، بينما أولئك الذين يزدرون بها هم متكبرون ومختالون.
إننى مستعد لتقديم المساعدة لسكان بيسينوس Pessinusشريطة أن يسترضوا أم الآلهة ([453]) ولكن إن اهملوا هذا الواجب، فيسجلبون لأنفسهم أقصى استتيائى. فأنا نفسى سأتعدى هنا على مثل أولئك الممقوتين من الآلهة، ومعطيا التوجبهات هناك. لذلك اقنعهم إن كانوا يرغبون فى مساعدتى، أنه يجب عليهم أن يرفعوا توسلات إلى أم الآلهة".

الكتاب الخامس: الفصل السابع عشر
(لكى لا يُُظَن أنه طاغية، سلك يوليانوس بحيلة ضد المسيحيين، فألغى شارة الصليب ، وأمر الجنود بالذبائح، بدون إرادتهم)

(5/17/1) وعندما سلك يوليانوس وكتب بالاسلوب المذكور عاليه، ظن أنه بهذه الوسيلة سيُخضِع رعاياه بسهولة لأن يغيّروا مفاهيمهم الدينية. وعلى الرغم من أنه رغب بشدة فى محو الديانة المسيحية، إلاَّ أنه كان يستحى من استعمال وسائل العنف بوضوح لئلا يُعتبَر طاغية. فإستخدم، مع ذلك، كل وسيلة يكون من الممكن أن تؤدى إلى عودة رعاياه إلى الوثنية. وكان لحوحا على الأخص مع جنوده الذين خاطبهم أحيانا على انفراد وأحيانا من خلال الضباط.
(5/17/2) ولكى يعوِّدهم على عبادة الآلهة فى كل شىء، استرجع الشكل القديم للجنود الرومان، الذى كما قلنا، كان قنسطنطين قد غيَّره، بأمر من الله، إلى شارة الصليب. فأمر يوليانوس برسم إما صُورة جوبيتر، على الصُور العامة، خارجا من السماء ومقدِّما له شعار السلطة الرومانية وهو التاج أو الثوب الأرجوانى. وإما صُورة مارس Marsأو ميركورى Mercury بعيونها المثبتة عليه كما لو كانت تعبّر عن إعجابها ببلاغته ومهارته الحربية، وذلك جنبا إلى جنب مع صُورته. ووضع صُورة الآلهة جنبا إلى جنب مع صُورته حتى ينقاد الشعب سرا إلى عبادتهم بذريعة أنهم يقدمون الاكرام له.
(5/17/3) وانتهك الاعراف القديمة وسعى إلى اخفاء قصده عن رعاياه واعتبر أنه إذا كسب طاعتهم فى هذه النقطة سيكونون أكثر استعداد لطاعته فى أى مناسبة أخرى، ولكن إن تجرأوا ورفضوا الطاعة فسيكون لديه سبب لمعاقبتهم بوصفهم متعدين على العادات الرومانية، ومذنبين ضد الإمبراطور والدولة. وكان هناك قليلون جدا( وقد أخذ القانون مجراه ضدهم) الذين عندما رأوا مقاصده، رفضوا تقديم الإكرام المعتاد لصُوره، ولكن الجماهير عن جهل أو بساطة مارسوا كالعادة النظم القديمة، وقدَّموا بلا تفكير الإكرام لصُوره. ولكن الإمبراطور لم يجنِ من هذه الحيلة إلاَّ منفعة قليلة. ومع ذلك لم يكف عن بذل الجهد لتغيير الدين.
(5/17/4) وكانت المكيدة التالية التى لجأ إليها أقل رقة وأكثر عنفا من السابقة، فبها كان يتحدد مصير جنود كثيرين يعملون فى البلاط. فعندما حل اليوم المحدد لصرف النقود للكتائب وكان هذا اليوم يحل عادة فى يوم التذكار السنوى لإحتفال ما بين الرومان مثل يوم ميلاد الإمبراطور، أو تأسيس المدينة الملكية، فكَّر يوليانوس فى أن الجنود من الطبيعى بسطاء ويطمعون، بلا تفكير، فى النقود. ولذلك خلص إلى أنه سيكون من المناسب أن يخدعهم بعبادة الآلهة. وبناء عليه، أمر كل جندى يتقدم لإستلام النقود، أن يُقدِّم ذبيحة [وهى] حرق بخور كان قد أُعدِّ سلفا لهذا الغرض بالقرب من الإمبراطور، تبعا لعادة رومانية قديمة. بعض الجنود كانت لديهم الشجاعة لرفض تقديم الذبائح وتلقى الذهب؛ وآخرون كانوا معتادين على مراعاة هذه السُنّة والعادة فأدوها بدون أن يتصُوروا أنهم يرتكبون خطية. وامتثل آخرون إما تحت إغراء الذهب، وإما تحت ضغط الخوف واعتبار اللحظة الراهنة وعرَّضوا أنفسهم للسقوط فى التجربة التى كان عليهم أن يهربوا منها.
(5/17/5) ويُروَى أن بعضا ممن سقطوا بجهل فى هذه الخطية، كانوا جالسين حول مائدة ويشربون معا. فتصادف أن ذكر أحدهم اسم المسيح على الكأس. فتعجب فى الحال أحد الضيوف الآخرين و[قال] أنه غير عادى أن تدعو اسم المسيح بينما من وقت قصير مضى قد أنكرته من أجل هبة الإمبراطور عندما ألقيتَ بخورا فى النار. وعند سماع هذه الملاحظة ادركوا جميعا الخطية التى قد ارتكبوها، فنهضوا من على المائدة واندفعوا فى الشوارع العامة وهم يصيحون ويبكون ويدعون الناس ليشهدوا أنهم كانوا وسيظلون مسيحيين، وأنهم قدَّموا البخور بدون وعى وباليد فقط وليس بالموافقة على الأمر. ثم قدَّموا أنفسهم، للإمبراطور وردوا له الذهب بشجاعة، وطلبوا منه أن يسترد هبته والتمسوا منه إعدامهم، محتجين أنهم لن ينكروا قط مفاهيمهم مهما لاقوا من عذاب نتيجة للخطية التى ارتكبوها بأياديهم من أجل المسيح. وأيا كان الاستياء الذى شعر به الإمبراطور ضدهم، فقد أحجم عن قتلهم حتى لا يتمتعوا بكرامة الشهداء. ولذلك جرَّدهم فقط من مهمة الجندية وطردهم من القصر.

الكتاب الخامس: الفصل الثامن عشر
( حظر المسيحيين من الاسواق ومن المقاعد القضائية، ومن الاشتراك فى التعليم اليونانى. مقاومة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتى وابوليناريوس لهذا المرسوم. وترجمتهم بسرعة للكتاب المقدس بحسب الانماط اليونانية)

(5/18/1) واستمتع يوليانوس بهذه المشاعر نحو المسيحية وأظهرها فى كل فرصة تتاح له. وهؤلاء الذين رفضوا تقديم الذبائح للآلهة على الرغم من أنهم كانوا بلا لوم فى النواحى الأخرى، قد جُرِّدوا من حقوق المواطنة وامتيازات المشاركة فى الاجتماعات، وفى المنتديات العامة ولم يكن مسموحا لهم أن يكونوا قضاة أو ماجستريت، أو يشتركوا فى الخدمات. ومنع الأطفال المسيحيين من ارتياد المدارس العامة، ومن تعلّم كتابات الشعراء والمؤلفين اليونان.
(5/18/2) وشعر بضغينة كبيرة نحو ابوليناريوس Apolinariusالسريانى. وهو رجل متعدد الجوانب فى المعرفة. وفى التحصيل الفيلولوجى([454]) وضد باسيليوس([455]) وغريغوريوس ([456])، المواطنيَن الكبادوكيّين، خطباء ذلك الزمان الأكثر شهرة وضد الرجال البلغاء والمتعلمين الآخرين الذين التصق بعضهم بالعقائد النيقاوية وآخرون بمفاهيم اريوس.
(5/18/3) وكان هدفه الوحيد من إبعاد الاولاد عن آبائهم المسيحيين، ومن التعلم من اليونانيين، هو أنه اعتبر أن مثل هذه الدراسات تؤدى إلى الإلمام بقوة المجادلة والإقناع. ولذلك وظف ابوليناريوس علمه الكبير وبراعته فى إنتاج ملاحم بطولية عن العاديات العبرية لعهد شاول([457])، لتحل محل قصائد هومر. وقسَّم عمله هذا إلى أربعة وعشرين جزءً، وأعطى لكل جزء منه أحد حروف الابجدية اليونانية. وكتب أيضا كوميديات تحاكى التى لميناندر، وتراجيديات على غرار تلك التى ليوربيدس، وأناشيد على غرار التى لبندار([458]). وبإختصار انطلاقا من مواضيع فى كل مجالات المعرفة للأسفار المقدسة، أنتج فى مدى قصير جدا من الزمن مجموعة من الاعمال تماثل بالضبط، فى الأسلوب والشخصيات والتعبير والترتيب تلك التى فى الآداب اليونانية وتعادلها فى القوة والعدد. ولولا أن ذلك سيُعتبَر تحيزا شديدا للعاديات القديمة لما ترددتُ فى القول أن كتابات ابوليناريوس لها ذات القيمة التى لأولئك القدماء. إن شمولية فطنته بصفة خاصة محل إعجاب، لأنها شملت كل فروع الأدب، بينما كان الكتَّاب القدامى يتخصصون فى واحد فقط. وقد كتب عملا رائعا جدا، بعنوان "الحقيقة ضد الإمبراطور والفلاسفة الوثنيين"، برهن فيه بجلاء، وبدون الاستناد إلى سلطة الأسفار المقدسة، أنهم بعيدين عن اقتناء الآراء السديدة عن الله.
(5/18/4) ولكى ما يسخر الإمبراطور بعمل من هذا النوع، كتب إلى الاساقفة الكلام التالى "لقد قرأتُ وفهمتُ وأدنتُ". فأجابوه على هذا الكلام "لقد قرأتَ ولكنك لم تفهم، لأنك لو فهمتَ لما كنتَ قد أدنتَ". وقد عزا البعض هذه الرسالة إلى باسيليوس رئيس كهنة كنيسة كبادوكيا. وبالطبع ليس بلا سبب. ولكن سواء أكانت قد أُملِيََت منه أو من غيره، فإنها تُظهِر تماما عظَمة وعِلم الكاتب.
الكتاب الخامس: الفصل التاسع عشر
(العمل الذى كتبه يوليانوس بعنوان "النفور من اللحية". الوصف التام لها. نقل بقايا بابيلاس الشهيد)
(5/19/1) وإذ عزم يوليانوس على شن الحرب ضد فارس، فقد توجه إلى انطاكية بسوريا. فاشتكى الناس بصوت عالى من غلاء الاسعار الشديد على الرغم من الوفرة الكبيرة للمؤون، ومن ثمة خفَّض الإمبراطور، من باب خيريته على ما أظن، من الاسعار إلى الدرجة التى جعلت التجار يهربون من المدينة، فترتب على ذلك ظهور ندرة لام عليها الشعبُ الإمبراطور([459]). ولكى ينفثوا عن استيائهم سخروا من طول لحيته([460])، ومن الثور الذى سكه على عملته، ولاحظوا بشكل هجائى أنه قد قلب العالم، بنفس الطريقة التى يطرح بها كهنته الأضاحى عندما يقدمون الذبائح.
(5/19/2) وفى البداية استشاط غضبا وهدد بمعاقبتهم، وأعدَّ للرحيل إلى طرسوس. ومع ذلك كبت مشاعره بعد ذلك ورد على سخريتهم بالكلام فقط وألَّف عملا بليغا جدا([461]) بعنوان "النفور من اللحية" وأرسله إليهم. وعامل المسيحيين بوجه خاص بنفس الطريقة التى فى الأماكن الأخرى، وسعى بأقصى ما يمكن إلى امتداد الوثنية.
(5/19/3) وسأروى بعض التفاصيل الخاصة بمقبرة الشهيد بابيلاس Babylasوالأحداث الخاصة التى حدثت فى حوالى نفس الفترة، فى معبد أبوللو بدفنة.
دفنة Daphne هى أحد أحياء انطاكية وهى مزروعة بأشجار السرو والأشجار الأخرى، وتزدهر تحتها كل أنواع الزهور فى مواسمها. وفروع هذه الاشجار سميكة جدا ومتشابكة. حتى أنه يمكن القول أنها تشكل سقفا أكثر من مجرد توفير ظل، ولا يمكن أن تتخللها أشعة الشمس لتصل إلى التربة. ومما يجعلها رائعة للغاية، ثراؤها وصفاء مياهها وإعتدال جوها وأنفاس ريحها اللطيفة.
(5/19/4) وقد ابتكر اليونان اسطورة أن دافنة ابنة نهر لادون قد تحولت إلى شجرة تحمل اسمها عندما كانت تهرب من اركاديا لتتجنب حب ابوللو، ويقولون أن هوى ابوللو لم يقّل بهذا التحول بل صنع تاجا من أوراق الشجر وتوج به الشجرة. وجعل إقامته فى هذا المكان بإعتباره أعز عنده عن أى مكان آخر.
(5/19/5) ومع ذلك اعتبر الرجال ذوى المزاج الخطر، الاقتراب من هذه الضاحية أمرا مشينا إذ أن موقع وطبيعة المكان يثير المشاعر الشهوانية، ومادة للخرافة التى هى فى ذاتها مثيرة، وتمنح دافعا بقدر ما وتضاعف من الأهواء بين الشباب الفاسد. وهؤلاء الذين قدَّموا هذه الاسطورة كذريعة، كانوا متلهبين بدرجة كبيرة، وغير قادرين على ضبط نفوسهم أو على احتمال حضور أولئك المنضبطين، فأفسحوا الطريق بلا ضابط لأعمال الفسق ([462]). وكان أى شخص يقيم فى دافنة بدون سيدة، يعتبر قاسيا وجافا، وكان يُبتَعَد عنه كشىء ممقوت وبغيض.
(5/19/6) وقد أظهر الوثنيون بالمثل توقيرا كبيرا لهذا المكان، بسبب تمثال ابوللو الجميل الذى يوجد هنا، وكذلك المعبد الضخم والنفيس. وهم يفترضون أنه قد شُيِّد بواسطة سلوقس ابو انتيوكس الذى أعطى، اسمه لمدينة انطاكية. وأولئك الذين يصدقون خرافات من هذا النوع، يعتقدون أن مجرى ينبع من عين كاستاليا تهِب قوة التكهن بالمستقبل، وهى تماثل فى اسمها وقوتها تلك التى لينبوع دلفى.
(5/19/7) ويُروَى أن هادريان قد تلقى هنا التوقع بمستقبله العظيم عندما كان مجرد فرد عادى، وأنه غرس ورقة شجر فى المياه فوجد مكتوبا عليها مصيره. وعندما صار امبراطورا يُقال أنه أغلق الينبوع لكى لا يتطلع أحدٌ إلى معرفة المستقبل. ولكننى أترك هذا الموضوع لمن يُلّم بدقة أكثر منى بعلم الأساطير.
(5/19/8) وعندما أُعلِن جالوس أخو يوليانوس قيصرا بواسطة قنستانتيوس وجعل إقامته فى انطاكية، جعلته غيرته للديانة المسيحية، وتكريم ذكرى الشهداء أن يصمم على تطهير المكان من الخرافات الوثنية، ومن أعمال الفجور. ورأى أن أسرع وسيلة لتحقيق هذا الغرض هو إقامة بيت للصلاة فى المعبد، ونقل مقبرة بابيلاس الشهيد الذى كان له شهرة عظيمة، وكان رئيسا لكنيسة انطاكية ونال الشهادة.
(5/19/9) ويُقال أنه منذ وقت نقله كف الشيطان عن النطق بالوحى. وقد عُزِىَّ هذا الصمت أولا إلى إهمال سدنته وترك العبادة القديمة تزوى. ولكن النتائج أثبتت أن ذلك قد حدث فقط بسبب حضور الشهيد. واستمر الصمت بلا انقطاع حتى عندما صار يوليانوس الحاكم الوحيد للامبراطورية الرومانية، على الرغم من السكائب والبخور والأضاحى التى كانت تقدَّم بوفرة للشياطين. ففى الواقع، نطق الوحى ذاته وأشار إلى علة صمته السابق، عندما دخل الإمبراطور نفسه إلى المعبد ليستشير الوحى ويُقدّم الهبات والذبائح على أمل أن يتلقى إجابة.
(5/19/10) إن الشيطان لم يُسلّم جهرا بأن العقبة كانت ناجمة عن قبر بابيلاس الشهيد، ولكنه قرر أن المكان ملىء بأجساد الموتى وهذا يمنع الوحى من الكلام. وعلى الرغم من أن عمليات دفن كثيرة قد حدثت فى دافنة، إلا أن الإمبراطور قد أدرك أن حضور بابيلاس الشهيد وحده هو الذى أسكت الوحى، فأمر بإزالة مقبرته.
(5/19/11) ولذلك اجتمع المسيحيون معا ونقلوا النعش إلى المدينة، مسافة حوالى أربعين استاديا, وأودعوه فى المكان الذى مازال محفوظا فيه والذى أُعطِى له إسم الشهيد. ويقال أن الرجال والنساء والشباب والبتولات وكبار السن من الرجال، والأطفال كانوا يجرّون النعش وهم يشجعون بعضهم بعضا بترنيم المزامير وهم سائرون عبر الطريق من أجل تخفيف كدهم ظاهريا، ولكن فى الحقيقة لأنهم كانوا ينقلون بالروح وبالحماس الايمان الدينى، الذى كان يعارضه الإمبراطور، إلى أقربائهم.
(5/19/12) وأنشد أولا أفضل المنشدين، وردد الجمهور [ القرار] فى خورس([463]). وكان ما يلى هو قرار أنشودتهم "فليخزى جميع عبدة المنحوتات المفتخرين بأصنامهم"([464]).
الكتاب الخامس: الفصل العشرون
(عواقب النقل. اساءة معاملة الكثيرين من المسيحيين. تيودور المعترف. سقوط نار من السماء تدمر معبد ابوللو بدافنة)
(5/20/1) وأثار الإجراء المروى عاليه حنق الإمبراطور بشدة كما لو كانت قد لحقت به هو إهانة، فصمم على معاقبة المسيحيين. وحاول سالوست Sallustالبريتوريان برفكت([465]) أن يثنيه عن عزمه، على الرغم من أنه كان وثنيا. ومع ذلك لم يستطع الإمبراطور أن يتسامح، واضطر سالوست إلى تنفيذ أوامره الرسمية وقبض على مسيحيين كثيرين وسجنهم.
(5/20/2) وكان أول مَن قبض عليهم شاب يدعى ثيودور، الذى مُدِّد فى الحال على المخلعة([466])، ولكنه على الرغم من تهرأ لحمه من جراء وخز المسامير، لم يقدِّم أى توسل لسالوست ولا تضرع من أجل تخفيض عذاباته، بل على النقيض بدا كأنه بلا حس بالألم، وكما لو كان يشاهد فقط آلام آخر، واحتمل بشجاعة الجروح، ورنم المزمور الذى كان يشارك فى ترنيمه بالأمس ليُظهِر أنه لم يندم على العمل الذى أُدِين لأجله.
(5/20/3) وإذ ذُهِل البريفكت من جلَد الشاب، ذهب إلى الإمبراطور وقال له أنه إن لم يتخل بسرعة عن هذه المعاملة التى اتبعها فإنه سيتعرض هو وحزبه للسخرية، بينما سيكتسب المسيحون مجدا أعظم. وقد أحدث هذا التصوير أثره، فأُطلِق سراح المسيحيين الذين قُبِض عليهم.
(5/20/4) ويقال أن ثيودور قد سُئِل فيما بعد([467])، ما إذا كان قد شعر بأى ألم خلال المخلعة، فأجاب: أنه لم يكن معصوما من الألم بالكلية، ولكن آلامه قد خففها اهتمام شاب [به] كان واقفا إلى جواره، ويجفف العرق بقطعة من الكتان، ويزوده بماء بارد كان يليّن من اللهيب ويُجدد جهده. وأنا مقتنع بأن أى انسان مهما كانت شهامته لا يمكن أن يمتلك القدرة على إظهار مثل هذه اللامبالاة بشأن الجسد، بدون مساعدة القدرة الإلهية.
(5/20/5) ولهذه الاسباب السابق ذكرها، نُقِل جسد بابيلاس الشهيد من دافنى إلى مكان آخر. وسرعان ما سقطت فجأة، بعد نقله، نار من السماء على معبد ابوللو بدافنى واحترق السقف وتمثال الإله ذاته، وتُرِكت الجدران عارية من الأعمدة التى عليها الرواق، وبقى فقط من الحريق الجزء الخلفى من المبنى.
(5/20/6) واعتقد المسيحيون أن صلوات الشهيد قد جلبت النار من السماء على الشيطان. أما الوثنيون فقد أذاعوا أن المسيحيين هم الذين أضرموا النار. ووجدت هذه الشبهة أرضية لها. وأُحضِر كاهن أبوللو أمام المحكمة ليُدلى بأسماء أولئك الذين تجرأوا على هذا الفعل المتعمد. ولكنه على الرغم من خضوعه لأقسى انواع التعذيب، فإنه لم يذكر إسم أحدٍ. ومن ثمة اقتنع المسيحيون تماما أكثر من ذى قبل أنه ليس بعمل انسان، ولكن بغضب من الله أن انسكبت النار من السماء على المعبد.
(5/20/7) هكذا كانت الأحداث التى وقعت آنذاك. وحسب تخمينى فإن الإمبراطور عندما سمع بالكارثة التى حلت بدافنى بسبب الشهيد بابيلاس وأُعلِم أكثر من ذلك بأن بقايا الشهيد المكرَّمة قد حُفِظت فى بيوت صلاة عديدة بالقرب من معبد ابوللو بديديموس التى تقع بالقرب من مدينة ميليتوس Miletus، كتب إلى حاكم كاريا([468]) Cariaآمرا إياه بإحراق كل هذه المبانى المزودة بسقف ومذبح، وتدمير بيوت الصلاة من اساساتها الغير كاملة من هذه النواحى.
الكتاب الخامس: الفصل الواحد والعشرون
(تمثال المسيح الذى دمره يوليانوس، وتمثاله الذى أقامه فدمرته صاعقة وجعلته بلا فائدة. نبع عمواس الذى غسل فيه المسيح أقدامه. شجرة برسيس التى سجدت للمسيح فى مصر. العجائب التى جرت بواسطتها).
(5/21/1) ومن بين الأحداث المشهورة التى جرت فى عهد يوليانوس يجب ألا أغفل ذكر إحداها التى تزودنا بآية على قوة المسيح، وتبرهن على السخط الإلهى ضد الإمبراطور.
فإذ سمع يوليانوس أن هناك تمثال مشهور، فى مدينة قيصرية فيليبى التى تُدعَى أيضا بانياس بفينيقية([469])، للمسيح قد نُصِب بواسطة المرأة التى شفاها الرب من نزيف الدم، حتى أمر بنزع التمثال وتنصيب تمثاله محله.
(5/21/2) ولكن نارا شديدة سقطت من السماء عليه فهشمته إلى أجزاء متجاورة إلى الصدر وألقت بالرأس والرقبة على الأرض مُثبَّتاً على وجهه عند الموضع المكسور من التمثال. وظل على هذا النحو منذ ذلك اليوم إلى الآن ممتلئا من صدأ البرق.
(5/21/3) وجرّ الوثنيون تمثال المسيح خلال المدينة وشوهوه ولكن المسيحيين جمعوا الشظايا وأقاموا التمثال فى الكنيسة التى مازالت محفوظة.
(5/21/4) ويروى يوسيبيوس([470]) أنه عند قاعدة هذا التمثال نما عشب غير معروف للأطباء والمُجبِّرين، كان فعالا فى علاج سائر الاضطرابات. ولا يبدو ذلك لى مدعاة للإستغراب، أن يتنازل الله بعدما تعطف بالسكن بين البشر ويهب المنافع لهم.
(5/21/5) ويظهر أن معجزات لا حصر لها قد جرت فى مدن وقرى مختلفة وقد حُفِظت الروايات بدقة بواسطة سكان تلك الأماكن فقط، لأنهم عرفوها من أسلافهم بالتقليد. أما عن مدى صدقها فسأظهره توا.
(5/21/6) هناك مدينة بفلسطين تدعى الآن نيكوبوليس Nicopolis كانت قبلا قرية، وقد ذُكِرت فى الكتاب الالهى للإنجيل([471]) باسم عمواس. وقد أُعطِى اسم نيكوبوليس لهذا المكان بواسطة الرومان الذين غزوا اورشليم، وانتصروا على اليهود([472]). وفى خارج هذه المدينة حيث تلتقى ثلاثة طرق، توجد البقعة التى شيَّع فيها المسيح، عقب قيامته، كليوباس ورفيقه، كأنه منطلق إلى قرية أخرى. وهنا يوجد نبع يغتسل فيه الرجال، والمخلوقات الأخرى ممن يعانون من أمراض مختلفة، فيُشفَون. لأنه يُقال أن المسيح مع تلاميذه عندما جاء من سفر إلى هذا الينبوع، غسلوا أقدامهم فيه. ومنذ ذلك الوقت صارت المياه شافية للإضطرابات.
(5/21/7) وفى هرموبوليس([473]) Hermopolis بطيبة هناك شجرة تُدعى برسيس Persis يقال أن أغصانها وأوراقها وأقل جزء من لحائها يشفى الأمراض عندما تلمس المرضى. لأنه يُروَى من المصريين أنه عندما فر يوسف مع المسيح ومريم والدة الإله من غضب هيرودوس ، مالت إلى الأرض وسجدت له.
(5/21/8) إننى رويتُ بدقة ما قد سمعته من مصادر كثيرة عن هذه الشجرة، وأظن أن هذه الظاهرة كانت علامة على حضور الله إلى المدينة، أو كما يبدو لى أكثر احتمالا أن الشجرة التى عبدها السكان حسب العادة الوثنية قد اهتزت لأن الشيطان الذى فيها الذى كان موضع العبادة قد وثب عند رؤيته لذاك الذى جاء للتطهير من هذه القوات. لقد تحرك من ذاته ، لأنه فى حضور المسيح ارتجت أوثان مصر، كما تنبأ اشعياء النبى. وعند خروج الشيطان تُرِكَت الشجرة كأثر لما حدث، ووُهِبَت خاصية الشفاء لمن يؤمن.
إن سكان مصر وفلسطين يشهدون بصدق هذه الاحداث التى حدثت بينهم.

الكتاب الخامس: الفصل الثانى والعشرون
(يوليانوس يسمح لليهود بإعادة بناء هيكل أورشليم، نكاية بالمسيحيين. إندلاع نار تقتل الكثيرين من العاملين فيه. وظهور علامة الصليب على ثيابهم)

(5/22/1) وعلى الرغم من أن الإمبراطور قد مقت المسيحيين وظلَمهم، بيد أنه أظهر أريحية وإنسانية نحو اليهود([474]) فكتب لبطاركة وقادة اليهود وأيضا للشعب([475]) طالبا منهم الصلاة لأجله ومن أجل رخاء الامبراطورية. وإننى لمقتنع بأنه قد اتخذ هذه الخطوة ليس لأى احترام لديانتهم لأنه يعلم جيدا أنها، يمكن القول، أم الديانة المسيحية، ويعرف أن كلتا الديانتان ترتكزان على سلطة البطاركة والأنبياء. ولكنه ظن أنه سيُحزِن المسيحيين بتفضيله لليهود، الذين هم أكثر أعدائهم المزمنين. ولكن ربما حسب أيضا أن ذلك سيغريهم([476]) على اتباع الوثنية، وتقديم الذبائح لأنهم يُلّمُون فقط بحرفية الكتاب المقدس، ولا يقدرون مثل المسيحيين وبعض الحكماء من العبرانيين على تمييز المعانى المستترة. بيد أن الأحداث قد أثبتت أن ذلك كان هو الدافع الحقيقى له، لأنه أرسل إلى بعض رؤساء [هذا] الجنس، ودعاهم للعودة إلى شرائع موسى وعادات آبائهم. وعندما أجابوا أنه ليس شرعا ولا هو من السلف إقامة ذلك فى مكان آخر خلاف المتروبوليت التى طُرِدوا منها، ولأن هيكل أورشليم قد هُدِم، أمر بإعطائهم مالا من [الخزانة] العامة لإعادة بناء الهيكل وممارسة العبادة المماثلة لأسلافهم وتقديم الذبائح حسب العادة القديمة.
(5/22/2) فشرع اليهود فى العمل دون أن يُفكِّروا فى أنه طبقا لنبوة الأنبياء القديسين لا يمكن أن يتم. وفتشوا عن أمهر الحرفيين، ونظفوا الأرض. وبدأوا بكل همة فى المهمة لدرجة أن النساء كانت تجمع أكوام التراب، وتُحضِر عقود أعناقهن وأدوات زينتهن للمساهمة فى النفقات. واعتبر الإمبراطور والوثنيون وكل اليهود كل عملٍ آخر يلى فى الأهمية هذا العمل.
(5/22/3) وعلى الرغم من أن الوثنيين لم يكونوا ودودين مع اليهود، إلاَّ أنهم ساعدوهم فى هذا المشروع، لأنهم رأوا فى نجاحه النهائى، تكذيبا لنبوات المسيح. وإلى جانب هذه الدافع كان اليهود أنفسهم مدفوعين بإعتبار أن وقت إعادة بناء الهيكل قد حل.
(5/22/4) وعندما أزالوا بقايا المبنى القديم، وحفروا الأرض وقلعوا الاساسات، يُقال أنه فى اليوم التالى، عندما كانوا على وشك وضع الأساس الأول حدثت زلزلة كبيرة وبواسطة الارتجاج الشديد للأرض، أُقتُلِعت الأحجار من أساساتها حتى أن اليهود الذين كانوا يعملون قد جُرِحوا. وبالمثل أولئك الذين كانوا فقط يشاهدون. وإنهارت فجأة المنازل والأروقة القريبة من الموقع والتى كانوا قد انتقلوا إليها، وهلك كثيرون فيها فى الحال. ووُجِد بعضهم بين حى وميت، ومبتورين الأيادى أو الأقدام. وآخرين جُُرِحوا فى أجزاء أخرى من أبدانهم. وعندما أمر الله الزلزال أن يكف، عاد العمال الأحياء ثانية إلى مهمتهم لأن ذلك كان مرسوم الإمبراطور من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم كانوا متشوقين لهذا العمل([477]). فالناس غالبا ما يبحثون، فى سعيهم لمعالجة أوجاعهم الخاصة، عما يضرهم ويرفضون ما يهبهم المزايا الحقيقية، وينخدعون بفكرة أن لا شىء نافع فى الحقيقة سوى ما هو مقبول لهم. وعندما يضلون بهذا [الفكر] الخاطىء لا يكونون قادرين بعد على السلوك على النحو المفيد لهم، أو على الإحتراس من المصائب التى ستفتقدهم.
(5/22/5) واعتقد أن اليهود كانوا فى هذه الحالة، لأنهم بدلا من التمعن فى هذا الزلزال غير المتوقع كمؤشر جلى على أن الله معترض على تشييد هيكلهم شرعوا فى استئناف العمل. ولكن جميع الأطراف تروى أنهم ما أن عادوا إلى العمل حتى اندلعت نار فجأة من اساسات الهيكل والتهمت العديد من الفعلة.
(5/22/6) وقد سُجِلَّت هذه الحقيقة على نحو مرعب، وصدَّقها الجميع. وكان الخلاف الوحيد هو أن البعض قال أن اللهب قد اندلع من داخل الهيكل عندما كان العمال يحاولون شق مدخل؛ بينما قال آخرون أن النار اندلعت مباشرة من الأرض. وفى أىٍ من الحالتين، الظاهرة قد حدثت وهى جديرة بالإعجاب.
(5/22/7) غير أن هناك معجزة ملموسة وغير عادية بالأكثر، قد حدثت أيضا. فقد ظهرت تلقائيا علامة الصليب فجأة على ثياب الأشخاص المنهمكين فى المهمة. وكانت هذه الصلبان تظهر مثل نجوم وتعكس عملا فنيا. ومن ثمة اعترف كثيرون أن المسيح هو الله وأن إعادة بناء الهيكل لا يرضيه. وتقدم آخرون إلى الكنيسة ونالوا المعمدية والتمسوا من المسيح المغفرة لخطاياهم، بالتوسلات والتسابيح.
(5/22/8) وإذا لم يرض أحدٌ أن يُصدّق روايتى، فليذهب ويستمع إلى مَن سمعوا الحقائق التى أرويها من شهود عيان لأنهم مازالوا أحياء، ليقتنع. وليستعلم أيضا من اليهود والوثنيين الذين تركوا العمل فى حالة غير كاملة، أو الذين، فلنقل بكل دقة، كانوا قادرين على الشروع فيه.

الكتـــاب السادس
الكتاب السادس: الفصل الأول

( حملة يوليانوس على فارس. إنكساره وفقدانه للحياة على نحو بائس. خطاب ليبانيوس عن موته)
(6/1/1) لقد رويتُ فى خطابى السابق الأحداث التى وقعت فى الكنيسة خلال عهد يوليانوس. وعندما صمم هذا الإمبراطور على شن الحرب ضد فارس، عبر بسرعة الفرات فى بداية الربيع، ومرَّ بإديسا التى التى كان يمقت سكانها لأنهم يؤمنون بالمسيحية منذ أمد طويل، وتوجه إلى كاريا Carræ حيث معبد جوبيتر، فقدَّم فيه الذبائح والصلوات. ثم اختار عندئذ عشرين ألف رجلا مسلحا من كتائبه، وأرسلهم صوب تيجرى Tigrisلكى ما يحرسوا تلك المناطق، ولكى ما يكونوا أيضا جاهزين للإنضمام اليه فى حالة ما إذا طلب مساعدتهم.
(6/1/2) ثم كتب إلى ارساكيوس Arsaciusملك ارمينيا، أحد المتحالفين مع الرومان ليوصيه بالمساعدة فى الحرب. وفى هذا الخطاب يُظهِر يوليانوس أقصى رعونة، فيفتخر بالصفات العالية التى يمتلكها والتى جعلته يحوز على الإمبراطورية ويكون محل قبول من الآلهة التى اهتم بها، ويلعن قنستانتيوس سلفه كإمبراطور كافر مخنث([478]). وهدد ارساكيوس بإهانات مكثقة فادحة. وإذ يعرف أنه مسيحى، جدف بشدة وإفراط ضد المسيح لأنه كان متعودا على التجاسر بذلك فى كل مناسبة. وقال لأرساكيوس أنه ما لم يسلك حسب توجيهاته فإن الله الذى يؤمن به لن يقدر أن يحميه من نقمته.
(6/1/3) وعندما ظن أن كل الترتيبات قد تمت على نحو وافٍ قاد جيشه خلال أشور([479])، فإستولى على عدد كبير من المدن والحصون إما بمعركة وإما بخيانة. ونهب كل مكان إقترب منه، وقلب الشون والمخازن أو حرقها، دون ادنى تفكير فى أنه سيتعين عليه العودة من ذات الطريق. وبينما كان مسافرا عبر الفرات وصل إلى ستيسيفون Ctesiphon، مدينة كبيرة جدا كانت المَلكية الفارسية قد نقلت إقامتها من بابيلون إليها أنذاك, وكان [نهر] تيجرى يتدفق بالقرب من هذه البقعة. وعندما لم يتمكن من الوصول إلى هذه المدينة بسفنه بسبب الارض التى تفصلها عن النهر، فكر فى إما أن يتابع سفره بالمياه، وإما أن يترك سفنه ويتوجه إلى ستيسيفون برا. وفاوض الأسرى فى الأمر، وإذ تأكد منهم أن هناك قناة قد رُدِمَت خلال الزمن، أمر بتطهيرها، ووصَّل بذلك الفرات بتيجرى، وواصل سيره صوب المدينة، وكانت سفنه تطفوا بجوار جيشه.
(6/1/3) ولكن الفارسيين ظهروا على ضفتى تيجرى بعرض هائل للجياد والكتائب المسلحة والأفيال([480]). وأدرك يوليانوس أن جيشه قد حوصر بين نهرين كبيرين، وكان فى خطر الهلاك سواء أبقى فى مكانه الحالى، أو تقهقر خلال المدن والقرى التى خرَّبها تماما ولم يعد فيها مؤون. ومن ثم دعا جنوده لمشاهدة سباق خيل، ووعد بمكافآت لأسرع المتسابقين. وفى نفس الوقت أعطى تعليمات لضباط السفن بإلقاء مؤون وأمتعة الجيش، حتى إذا ما رأى الجنود أنفسهم فى خطر الحاجة إلى الضروريات، يُقدِمُون ببسالة على قتال أعدائهم بلا يأس. وبعد العشاء أمر الجنرالات والتربيونات والقواد بإقلاع القوات، فأبحروا على طول تيجرى خلال الليل، وجاءوا فى الحال إلى الضفة الأخرى ونزلوا.
(6/1/4) ولكن بعض الفارسيين كانوا قد عرفوا بمغادرتهم، فحثوا بعضهم بعضا على مواجهتهم، ولكن الذين كانوا مازالوا نائمين تغلَّب عليهم الرومان. وعند طلوع النهار اشتبك الجيشان فى معركة. وبعد سفك دماء كثيرة من الطرفين عاد الرومان نهرا، وعسكروا بالقرب من ستيسيفون.
(6/1/5) وإذ لم يكن الإمبراطور راغبا فى التقدم إلى أبعد، أحرق سفنه إذ رأى أنها تحتاج إلى جنود كثيرين لحراستها، ثم تابع انسحابه عبر تيجرى الذى كان على يساره, وقاده الأسرى الذى عملوا كمرشدين له إلى ريف خصيب وجدوا فيه وفرة من المؤن. وبعد ذلك إذ عزم رجل مسن أن يموت من أجل حرية فارس سمح لنفسه لأن يؤخذ أسيرا، وأُحضِر إلى الإمبراطور. وعندما سُئِل عن الطريق أقنعهم وهو يبدو أنه يتكلم بالصدق على أن يتبعوه إذ أنه قادر على نقل الجنود بسرعة إلى الحدود الرومانية. وأشار إلى أن هذا الطريق سيكون شاقا للسفر ثلاثة أيام أو أربعة، وأنه سيكون من الضرورى عليهم حمل المؤون خلال هذه الفترة، إذ أن البلاد المحيطة غير خصبة. وخُدِع الإمبراطور بكلام هذا العجوز الحكيم، وصادق على السير فى هذا الطريق. وبعد أن تقدَّموا لمسافة ثلاثة أيام، وجدوا أنفسهم فى إقليم قفر. فعُذِّب السجين العجوز، واعترف أنه إختار الموت طواعية من أجل بلده، وأنه مستعد لذلك أن يتحمل أى آلامات توقع عليه.
(6/1/6) وكانت الكتائب الرومانية منهكة الآن بسبب طول السفر، وندرة المؤن واختار الفارسيون هذه اللحظة للهجوم عليهم. وفى وسط حرارة المعركة التى اندلعت هبت ريح عاصفة وغطت السحب الشمس والسماء تقريبا بالكامل، بينما كان الهواء فى نفس الوقت مخلوطا بالتراب. وفى خلال الظلام الذى نجم عن ذلك، وجَّه فارس وهو ممتطى لفرسه حربته نحو الامبرطور وجرحه جرحا مميتا. وبعد أن سقط يوليانوس عن فرسه اختفى المُغِير المجهول.
(6/1/7) وقد خمن البعض أن يكون فارسيا، وآخرون أنه كان ساراسينيا. وهناك مَن يُصِّر على أن مَن قتله كان أحد الجنود الرومان الذى كان ساخطا لحماقة وتهور الإمبراطور التى ظهرت فى تعريضه للجيش لمثل هذا الخطر.
(6/1/5) وقد عبَّر ليبانيوس Libaniusالسوفسطائى الشهير، والمواطن السورى، وألصق صديق ليوليانوس عن نفسه بخصوص الشخص الذى ارتكب هذا العمل بالكلام التالى:
أنت تريد أن تعرف مَن الذى قتل الإمبراطور. أنا لا أعرف اسمه، ومع ذلك لدى دليل على أن القاتل لم يكن أحد الأعداء، لأنه لم يأتِ أحدٌ ليطلب المكافأة على الرغم من أن ملك الفرس قد صرَّح بإسباغ شرف البطولة على مَن يقوم بهذا العمل، ونحن بكل تأكيد مدينين بالفضل للأعداء، بعدم نسبة الفخر لأنفسهم بصلف عن هذا العمل، ولكن تركوه لنا لنفتش عن القاتل بيننا. إن أولئك الذين سعوا إلى موته، هم أولئك الذين عاشوا فى ظل انتهاك معتاد للشرائع، والذين تآمروا سابقا ضده، والذين ارتكبوا من ثمة الفعل عندما واتتهم الفرصة. لقد كانوا محصُورين بالرغبة فى الحصول على درجة حرية أكبر من كل قدرِ يمكن أن يتمتعوا به فى ظل حكمه وبالطبع كانوا مثارين أساسا بالسخط من إلتصاق الإمبراطور بخدمة المعبودات التى يمقتونها([481]).
الكتاب السادس: الفصل الثانى
(هلاكه بالسخط الإلهى. رؤيا أفراد كثيرين بشأن موت الإمبراطور. رد إبن النجار. يوليانوس يقذف بدمه إلى المسيح. الافتراءات التى لصقها ليبانيوس بالرومان)
(6/2/1) إن ليبانيوس يقرر بوضوح فى الوثيقة المقتبسة عاليه أن يوليانوس سقط على يد مسيحى. وربما كان ذلك صحيحا، فليس من غير المحتمل أن يكون بعض الجنود الذين كانوا يخدمون آنذاك فى الجيش الرومانى، قد فكَّروا فى ذلك. إذ أن اليونانيين وكل الرجال إلى هذا اليوم قد مدحوا أولئك الذين عرَّضوا أنفسهم للموت من أجل الحرية، ووقفوا إلى جانب بلدهم وعائلاتهم وأصدقائهم بشجاعة، وقتلوا المستبد. ولاموا بدرجة أقل ذاك الذى أنجز هذا العمل الجرىء من أجل الله والدين. وخلاف هذا الذى أعرفه ليس لدى شىء دقيق خاص بأولئك الذين ارتكبوا هذا القتل سوى الذى رويته([482]).
(6/2/2) ومع ذلك خمن جميع الناس عندما تلقوا الخبر، الرواية التى سُلِّمت لنا، والتى تُرجِع موته إلى السخط الإلهى. والدليل على ذلك الرؤية التى رآها أحد أصدقائه والتى سأصفها الآن.
فيُروَى، أنه قد سافر إلى فارس بقصد اللحاق بالامبراطور. وبينما هو فى الطريق وجد نفسه بعيدا عن أى عمران لدرجة أنه اضطر فى إحدى الليالى إلى أن ينام فى كنيسة. وفى خلال الليل رأى، فى حلم أو فى رؤيا، كل الرسل والأنبياء مجتمعين معا ويشتكون من الاضرار التى لحقت بالكنيسة من الإمبراطور ويتشاورون فى أفضل السبل التى تُتخّذ. وبعد مداولات كثيرة واجتهادات، وقف شخصان فى وسط الاجتماع وطلبا من الآخرين أن يطمئنوا. وتركا الصحبة بسرعة، كما لو كانا سيُجرِّدان يوليانوس من السلطة الإمبراطورية. ولم يحاول ذاك الذى عاين هذه الاعجوبة أن يُتابع رحلته، ولكنه انتظر وهو فى شك مرعب نتيجة هذه الرؤية. وخلد إلى النوم ثانية فى نفس المكان فرأى ثانية نفس الاجتماع والشخصان اللذان ظهرا أنهما قد غادرا فى الليلة السابقة ليتمما قصدهما ضد يوليانوس، قد عادا فجأة وأعلنا خبر موته للآخرين.
(6/2/3) وفى نفس اليوم أُرسِلت رؤيا أخرى لديديموس الفيلسوف الكنسى المقيم بالاسكندرية والذى من حزنه الشديد على ضلال يوليانوس واضطهاده للكنائس صام وتضرع إلى الله بإستمرار لهذا الخصوص. ونتيجة لقلقه وحاجته إلى الطعام خلال الليلة السابقة، نام وهو جالس على كرسيه. فإذا به يعاين كما بدهش جيادا بيضاء تركض فى الهواء، وسمع صوتا يقول للراكبين عليها إذهبوا وقولوا لديديموس أن يوليانوس قد قُتِل فى هذه الساعة، واجعلوه يبلغ هذا لأثناسيوس الاسقف، وأن ينهض ويأكل([483]). وقد علمتُ بثقة أن صديق يوليانوس وهذا الفيلسوف قد عاينا هذه الأمور. وقد أثبتت النتائج أن أحدا منهم لم يكن بعيدا عن الشهادة للحق.
(6/2/4) ولكن إن كانت هذه الأمثلة ليست كافية للبرهنة على أن موت يوليانوس كان نتيجة للسخط الإلهى، بسبب اضطهاده للكنيسة فلنتذكر ما تنبأ به أحد القديسين. فعندما كان يوليانوس يستعد لشن الحرب ضد الفرس، هدد بأنه عند انتهاء الحرب سيُعامِل المسيحيين بقسوة وتباهى، وأن ابن النجار لن يكون قادرا على مساعدتهم. فرَّد عليه عندئذ الكنسى المذكور عاليه أن ابن النجار سيكون قد أعد له تابوتا خشبيا لموته([484]).
(6/2/5) وكان يوليانوس نفسه واعيا بالضربة المميته وعلتها. فيُقال أنه أخذ، وهو جريح، بعضا من الدم المتدفق من الجرح وقذف به لأعلى فى الهواء، كما ولو كان قد رأى يسوع المسيح ظاهرا، وأراد أن يقذفه عليه، ليوبخه على مقتله.
(6/2/6) ويقول آخرون أنه كان غاضبا من الشمس لأنها صنعت معروفا للفارسيين ولم تنقذه على الرغم من أنه حسب عادة المنجمين كانت قد تصدرت فى مولده, فأراد أن يعبّر عن سخطه ضد هذا الجرم السمائى فأخذ دما بيده وقذفه إلى أعلى فى الهواء.
(6/2/7) ولا أعرف ما إذا كان يوليانوس قد شاهد المسيح أم لا، عند اقتراب موته وانفصال النفس عن البدن، كما هى العادة فى هذه الحالة عندما تكون[ النفس] قادرة على معاينة المناظر الأسمى عن تلك المسموح بها للبشر. فإن تلميحات قليلة قد ذُكِرت فى هذا الصدد. ولكننى لا استطيع أن أرفض هذه الفرضية واعتبرها باطلة على الاطلاق، لأن الله يهتم غالبا بحدوث الأمور غير المحتملة والمذهلة لكى تبرهن على أن الديانة المسماة بإسم المسيح ليس قائمة بالقوة البشرية.
(6/2/8) وأنه من الجلى جدا، أن الله خلال عهد هذا الإمبراطور قد أظهر علامات واضحة على إستيائه منه، وسمح بكوارث كثيرة أن تحل على مقاطعات عديدة من الإمبراطورية الرومانية. فقد افتقد الأرض بالزلازل المرعبة هذه، حتى أن المبانى ارتجت، ولم يكن هناك أى آمان داخل المنازل، عن الهواء المطلق.
(6/2/9) ومما قد سمعته يمكننى أن أخمن أنه خلال حكم هذا الإمبراطور أو على الأقل عندما كان يشغل الموضع الثانى فى الحكومة أن كارثة كبرى قد حدثت بالقرب من الأسكندرية فى مصر، عندما فاض البحر وجاوز حدوده من الأمواج العاتية وأغرق العديد من البلاد لدرجة أنه عندما انحسرت المياه وُجِدَت محارات ملتصقة بأسطح المنازل. وما زال التذكار السنوى لهذا الغمر الذى يدعونه عيد ميلاد الزلزال([485])، يُحتفَل به فى الأسكندرية بإحتفال سنوى حيث تقاد الأنوار العامة فى سائر أرجاء المدينة ويقدمون صلاة شكر لله، ويحتفلون بهذا اليوم بكل توقير وتقوى. كذلك حدث جفاف مفرط خلال هذا العهد، فجفت النباتات، وفسد الهواء، ونظرا للعوز إلى الضروريات اضطر الناس إلى اقتيات الاطعمة الخاصة عادة بالحيوانات. وأحدثت المجاعة أمراضا خاصة، وهلك بسببها الكثيرون من الأحياء.
هذه كانت حال الإمبراطورية خلال إدارة يوليانوس

 

 

 

 

 

This site was last updated 12/04/17