Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

سنة سبع وستين وخمسمائة سنة ثمان وستين وخمسمائة

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
باقى سنة566
سنة567 وسنة568
سنة569
سنة570
سنة571
سنة572 وسنة573
سنة574 وسنة575

 

الجزء التالى من كتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري، عز الدين ابن الأثير (المتوفى: 630هـ) تحقيق: عمر عبد السلام تدمري الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م عدد الأجزاء:  10

**************************************************************************************************************************

ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية

في هذه السنة، في ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة، وخوطبوا بإمرة المؤمنين. (5/112)
وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له، وضعف أمر الخليفة العاضد بها، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش، وهو خصي، كان من أعيان الأمراء الأسدية، كلهم يرجعون إليه، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف من أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين.
وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم، ويريد بقاءهم خوفاً من نور الدين، فإنه كان يخافه أن يدخل الديار المصرية ويأخذها منه، فكان يريد ان يكون العاضد معه، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه؛ فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، والزمه إلزاماً لا فسحة له في مخالفته، وكان على الحقيقة نائب نور الدين، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضاً شديداً، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه، فمنهم من أشار به ولم يفكر بالمصريين، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين.
وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، رأيته أنا بالموصل، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام، وأن أحداً لا يتجاسر أن يخطب للعباسيين قال: أنا أبتدئ بالخطبة لهم؛ فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيئ، ففعلوا ذلك فلم ينتتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر، ففعل. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا: إن عوفي فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا بمثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند أحد غيرهم، فمنه الجبل الياقوت، وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً، أنا لا أشك، لأنني رأيته ووزنته؛ واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير؛ ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد، وقد احتاطوا عليه بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب به فسخروا من العاضد، فاخذه إنسان فضرب به فضرط فتضاحكوا منه، ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك.
وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه، ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبدن فباع البعض، وأعتق البعض، ووهب البعض، وخلى القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه، ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه.
ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على تخلفه عنه، وكان يصفه كثيراً بالكرم، ولين الجانب، وغلبة الخير على طبعه، وانقياده؛ وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم: الحافظ والمستنصر والظاهر والحاكم والعزيز والمعز والمنصور والقائم والمهدي؛ ومنهم من لم يخطب له بالخلافة: أبوه يوسف بن الحافظ، وجد أبيه، وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر، وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه: المستعلي ، والآمر، والظافر، والفائز، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور ، والمعز، إلى أن سار إلى مصر ، ومنهم بمصر: المعز المذكور، وهو أول من خرج إليها من إفريقية، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والأمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد، وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريباً. (5/113)
وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت، ولم تحلو إلا وتمرمرت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر وكدرها قد يخلو من الصفو. نسأل الله تعالى أن يقبل بقلوبنا إليه ويرينا الدنيا حقيقة، ويزهدنا فيها، ويرغبنا في الآخرة، إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة.
ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام، وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه. وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين، فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة، وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية، والأعلام السود، ثم إن صندلاً هذا صار أستاذ الدار للخليفة المستضيئ بأمر الله في بغداد، وكان يدري الفقه على المذهب الشافعي، وسمع الحديث ورواه، ويعرف أشياء حسنة، وفيه دين، وله معروف كثير، وهو من محاسن بغداد.
ذكر الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين
في هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين، ولم يظهر ذلك. وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك.
فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين : إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وغن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشوبك عائدأً إلى مصر، ولم يأخذه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوه أهلها على من تخلف بها وان يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها.
وظهر ذلك فسمع صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه ، واستشارهم فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقي الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنفك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأي أن تكتب كتاباً من نجاب تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك، وما هاهنا من يمنع عليك.
وأقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا به أيوب قال له: بأي عقل فعلت هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به، وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره، فكان الأمر كما ظنه أيوب، فتوفي نور الدين ولم يقصده، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها.
ذكر غزوة إلى الفرنج بالشام (5/114)
في هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام فأرسيا بمدينة لاذقية، فأخذهما الفرنج، وهما مملوءان من الأمتعة والتجار، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة، فنكثوا وغدروا، فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجار، فغالطوه، واحتجوا بأمور منها أن المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء.
وكان الشرط أن كل مركب ينكسر ويدخله الماء يأخذونه، فلم يقبل مغالطتهم، وجمع العساكر، وبث السرايا في بلادهم بعضها نحو أنطاكية، وبعضها نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة، وخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة، فأخذهما عنوة، ونهب وخرب، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إليه وهو بعرقة، فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب ويحرق ويقتل.
وأما الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل نور الدين في ولاية طرابلس، فراسله الفرنج، وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين، وتجديد الهدنة معهم، فأجابهم إلى ذلك، وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون، وقد خربت بلادهم وغنمت أموالهم.
ذكر وفاة ابن مردنيش وملك يعقوب بن عبد المؤمن بلاده
في هذه السنة توي الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، صاحب البلاد بشرق الأندلس، وهي: مرسية وبلنسية وغيرهما، ووصى أولاده ان يقصدوا بعد موته الأمير أبا يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، وتسلموا البلاد وتدخلوا في طاعته، فلما مات قصدوا يعقوب، وكان قد اجتاز إلى الأندلس في مائة ألف مقاتل قبل موت ابن مردنيش، فحين رآهم يوسف فرح بهم، وسره قدومهم عليه، وتسلم بلادهم وتزوج أختهم، وأكرمهم، وعظم أمرهم، ووصلهم بالأمال الجزيلة، وأقاموا معه.
ذكر عبور الخطا جيحون والحرب بينهم وبين خوارزمشاه
في هذه السنة عبر الخطا نهرجيحون يريدون خوارزم، فسمع صاحبها خوارزمشاه أرسلان بن أتسز، فجمع عساكره وسار إلى آموية ليقاتلهم ويصدهم، فمرض، وأقام بها، وسير بعض جيشه مع أمير كبير إليهم، فلقيهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الخوارزميون، وأسر مقدمهم، ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضاً.
في هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وهي التي يقال لها المناسيب، وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، وجعلها في جميع بلاده.
وسبب ذلك أنه لما اتسعت بلاده، وطالت مملكته وعرضت أكنافها، وتباعدت أوائلها عن أواخرها، ثم إنها جاورت بلاد الفرنج، وكانوا ربما نازلوا حصناً من ثغوره، فإلى أن يصل الخبر، ويسير إليهم يكونون قد بلغوا غرضهم منه، فأمر بالحمام ليصل الخبر إليه في يومه،وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها وإقامتها، فحصل منها الراحة العظيمة، والنفع الكبير للمسلمين.
وفيها عزل الخليفة المستضيئ بأمر الله وزيره عضد الدين أبا الفرج بن رئيس الرؤساء مكرهاً لأن قطب الدين قايماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته.
وفيها مات أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب اللغوي، وكان قيماً بالعربية وسمع الحديث الكثير إلى أن مات.
وفيها مات البوري الفقيه الشافعي، تفقه على محمد بن يحيى، وقدم بغداد ووعظ، وكان يذم الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال، فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إن الحنابلة أهدوا إليه حلوى فمات هو وكل من أكل منها.
وفيها مات القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، زاهداً عابداً، انتفع به الناس بالموصل، وفيها كانت وفاته.


ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة
ذكر وفاة خوارزم شاه أرسلان

وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وقتل المؤيد وملك ابنه
في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين، قد عاد من قتال الخطا مريضاً، فتوفي، وملك بعده سلطان شاه مسعود، ودبرت والدته المملكة والعساكر. (5/115)
وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيماً في الجند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه وتولية أخيه الصغير انف من ذلك، وقصد ملك الخطا، واستمده على أخيه واستمده على أخيه، وأطمعه في الأموال وذخائر خوارزم، فسير معه جيشاً كثيفاً مقدمهم قوماً، فساروا حتى قاربوا خوارزم، فخرج سلطان شاه وأمه إلى المؤيد، فأهدى له هدية جليلة المقدار، ووعده أموال خوارزم وذخائرها،فاغتر بقوله، وجمع جيوشه وسار معه حتى بلغ سوبرني، بليدة على عشرين فرسخاً من خوارزم، وكان تكش قد عسكر بالقرب منها، فتقدم إليهم، فلما تراءى الجمعان انهزم عسكر المؤيد، وكسر المؤيد وأخذ أسيراً، وجيء به إلى خوارزم شاه تكش، فأمر بقتله، فقتل بين يديه صبراً.
وهرب سلطان شاه، وأخذ إلى دهستان، فقصده خوارزم شاه تكش، فافتتح المدينة عنوة، فهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش، وعاد خوارزم.
ولما عاد المنهزمون من عسكر المؤيد إلى نيسابور ملكوا ابنه طغان شاه أبا بكر بن المؤيد، واتصل به سلطان شاه، ثم سار من هناك إلى غياث الدين ملك الغورية، فأكرمه وعظمه وأحسن ضيافته.
وأما علاء الدين تكش، فإنه لما ثبت قدمه بخوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم، فأخذته حمية الملك والدين، وقتل أحد أقارب الملك، وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسلهم ملكهم في مطالبة خوارزم شاه بالمال، فأمر خوارزم شاه أعيان خوارزم،فقتل كل واحد منهم رجلاً من الخطا، فلم يسلم منهم أحد، ونبذوا إلى ملك الخطا عهده.
وبلغ ذلك سلطان شاه، فسار إلى ملك الخطا واغتنم الفرصة بهذه الحال واستنجده على أخيه علاء الدين تكش، وزعم له أن أهل خوارزم معه يريدونه، ويختارون ملكه عليهم، ولو رأوه لسلموا البلد إليه، فسير معه جيشاً كثيراً من الخطا مع قوما أيضاً، فوصلوا إلى خوارزم، فحصروها، فأمر خوارزم شاه علاء الدين بإجراء ماء جيحون عليهم فكادوا يغرقون، فرحلوا ولم يبلغوا منها غرضاً، ولحقهم الندم حيث لم ينفعهم، ولاموا سلطان شاه وعنفوه، فقال لقوما: لو أرسلت معي جيشاً إلى مرو لاستخلصتها من يد دينار الغزي؛ وكان قد استولى عليها من حين كانت فتنة الغز إلى الآن، فسير معه جيشاً، فنزل على سرخس على غرة من أهلها، وهجموا على الغز فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فلم يتركوا بها أحداً منهم، وألقى دينار ملكهم نفسه في خندق القلعة، فأخرج منه ودخل القلعة وتحصن بها.
وسار سلطان شاه إلى مور فملكها، وعاد الخطا إلى ما وراء النهر، وجعل سلطان شاه دأبه قتال الغز وقصدهم، والقتل فيهم، والنهب منهم، فلما عجز دينار عن مقاومته أرسل إلى نيسابور إلى طغان شاه ابن المؤيد يقول له ليرسل إليه من يسلم إليه قلعة سرخس، فأرسل إليه جيشاً مع أمير اسمه قراقوش، فسلم إليه دينار القلعة ولحق بطغان شاه، فقصد سلطان شاه سرخس وحصر قلعتها، وبلغ ذلك طغان شاه، فجمع جيوشه وقصد سرخس فلما التقى هو وسلطان شاه فر طغان شاه إلى نيسابور، وذلك سنة ست وسبعين وخمسمائة، فأخلى قراقوش قلعة سرخس ولحق بصاحبه، وملكها سلطان شاه، ثم أخذ طوس، وإلزام، وضيق الأمر على طغان شاه بعلو همته، وقلة قراره، وحرصه على طلب الملك.
وكان طغان شاه يحب الدعة ومعاقرة الخمر، فلم يزل الحال كذلك إلى أن مات طغان شاه سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في المحرم، وملك ابنه سنجر شاه، فغلب عليه مملوك جده المؤيد، اسمه منكلي تكين، فتفرق الأمراء أنفة من تحكمه ، واتصل أكثرهم بسلطان شاه، وسار الملك دينار إلى كرمان، ومعه الغز، فملكها.
وأما منكلي تكين فإنه أساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقتل بعض الأمراء، فسمع خوارزم شاه بذلك، فسار إليه فحصره في نيسابور في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فحصرها شهرين فلم يظفر بها وعاد إلى خوارزم، ثم رجع سنة ثلاث وثمانين إلى نيسابور فحصرها، وطلبوا منه الأمان، فأمنهم، فسلموا البلد إليه، فقتل منكلي تكين وأخذ سنجر شاه وأكرمه، وأنزله بخوارزم، وأحسن إليه، فأرسل إلى نيسابور يستميل أهلها ليعود إليهم، فسمع به خوارزم شاه، فأخذ سنجر شاه فسلمه، وكان قد تزوج بأمه وزوجه انته، فماتت، فزوجه بأخته، وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين وخمسمائة.(5/116)
ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مشارب التجارب، وقد ذكر غيره من العلماء بالتواريخ هذه الحوادث مخالفة لهذا في بعض الأمور مع تقديم وتأخير، ونحن نوردها، فقال إن تكش خوارزم شاه ايل أرسلان أخرج اخاه سلطان شاه من خوارزم، وكان قد ملكها بعد موت أبيه، فجاء إلى مرو فأزاح الغز عنها، فخرجوا أياماً، ثم عادوا عليه فأخرجوه منها، وانتهبوا خزانته، وقتلوا أكثر رجاله، فعبر إلى الخطا فاستنجدهم، وضمن لهم مالاً ، وجاء بجيش عظيم، فاخرج الغز عن مرو وسرخس ونسا وأبيورد وملكها ورد الخطا.
فلما ابعدوا كاتب غياث الدين الغوري يطلب منه أن ينزل عن هراة وبوشنج وباذغيس وما والاها، ويتوعده إن هو لم ينزل عن ذلك، فأجابه غياث الدين يطلب منه إقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان، فلما سمع الرسالة سار عن مرو وشن الغارات على باذغيس وبيوار وما والاها، وحصر بوشنج ونهب الرساتيق، وصادر الرعايا، فلما سمع غياث الدين ذلك لم يرض لنفسه أن يسير هو بل سير ملك سجستان، وكاتب ابن أخته بهاء الدين سام، صاحب باميان، باللحاق به، لأن أخاه شهاب الدين كان بالهند، والزمان شتاء، فجاء بهاء الدين ابن أخت غياث الدين وملك سجستان ومن معهما من العساكر، ووافق ذلك وصول سلطان شاه إلى هراة، فلما علم بوصولهم عاد إلى مرو من غير أن يقاتلها، وأحرق كل ما مر به من البلاد ونهبه، وأقام بمرو إلى الربيع، وأعاد مراسلة غياث الدين في المعنى، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يعرفه الحال، فنادى في عساكره الرحيل لساعته، وعاد إلى خراسان، واجتمع هو وأخوه غياث الدين وملك سجستان وغيرهم من العساكر، وقصدوا سلطان شاه، فلما علم ذلك جمع عساكره واجتمع عليه، من الغز المفسدين، وقطاع الطرق، ومن عنده طمع، خلق كثير، فنزل غياث الدين ومن معه من الطالقان، ونزل سلطان شاه بمرو الروذ، وتقدم عسكر الغورية إليه، وتواعدوا للمصاف.
وبقوا كذلك شهرين والرسل تتردد بين غياث الدين وبين سلطان شاه، وشهاب الدين يطلب من أخيه غياث الدين الإذن في الحرب، فلا يتركه، وتقرر الأمر على أن يسلم غياث الدين إلى سلطان شاه بوشنج وباذغيس وقلاع بيوار، وكره ذلك شهاب الدين وبهاء الدين سام صاحب باميان، إلا أنهما لم يخالفا غياث الدين؛ وفي آخر الأمر حضر رسول سلطان شاه يطلب أن يحضر شهاب الدين وبهاء الدين هذا الأمر؛ فأرسل غياث الدين إليهما، فأعادا الجواب: إننا مماليك ومهما تفعل لا يمكننا مخالفتك.
فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلوي الهروي، وكان خصيصاً بغياث الدين بحيث يفعل في ملكه ما لا يخالف، فجاء العلوي ويده في يد ألب غازي ابن أخت غياث الدين، قد كتبوا الكتاب، وقد أحضر غياث الدين أخاه شهاب الدين وبهاء الدين سام ملك الباميان، فجاء العلوي كأنه يسار غياث الدين، ووقف في وسط الحلقة، وقال للرسول: يا فلان! تقول لسلطان شاه: قد تم لك الصلح من جانب السلطان الأعظم، ومن شهاب الدين، وبهاء الدين، ويقول لك العلوي خصمك: أنا ومولانا ألب غازي بيننا وبينك السيف؛ ثم صرخ صرخة ومزق ثيابه، وحثا التراب على رأسه وأقبل على غياث الدين، وقال له: هذا واحد طرده أخوك، وأخرجه فريداً وحيداً، لم تترك له ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك السنجرية؟ فإذا سمع هذا عنا يجيئ أخوه يطلب منازعته الهند وجميع ما بيدك؛ فحرك غياث الدين رأسه ولم يتفوه بكلمة، فقال الملك سجستان للعلوي: اترك الأمر ينصلح.
فلما لم يتكلم غياث الدين مع العلوي قال شهاب الدين لجاووشيته: نادوا في العسكر بالتجهز للحرب، والتقدم إلى مرو الروذ؛ وقام، وأنشد العلوي بيتاً من الشعر عجمياً معناه: إن الموت تحت السيوف أسهل من الرضى بالدنية؛ فرجع الرسول إلى سلطان شاه وأعلمه الحال، فرتب عساكره للمصاف، والتقى الفريقان واقتتلوا، فصبروا للحرب، فانهزم سلطان شاه وعساكره، وأخذ أكثر أصحابه أسرى، فأطلقهم غياث الدين ، ودخل سلطان شاه مرو في عشرين فارساً، ولحق به من أصحابه نحو ألف خمسمائة فارس.(5/117)
ولما سمع خوارزم شاه تكش بما جرى لأخيه سار من خوارزم في ألفي فارس وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه عن أراد الخطا، وجد في السير ليقبض على أخيه قبل أن يقوى، فأتت الأخبار سلطان شاه بذلك، فلم يقدر على عبور جيحون إلى الخطا، فسار إلى غياث الدين وكتب إليه يعلمه قصده إليه، فكتب إلى هراة و غيرها من بلاده بإكرامه واحترامه وحمل الإقامات إليه ،ففعل به ذلك ،وقدم على غياث الدين ،والتقاه ،وأكرمه وأنزله معه في داره، وأنزل أصحاب سلطان شاه كل إنسان منهم عند من هو في طبقته، فأنزل الوزير عند وزيره، والعارض عند عارضه، وكذلك غيرهم، وأقام عنده حتى انسلخ الشتاء فأرسل علاء الدين بن خوارزم شاه إلى غياث الدين يذكره ما صنعه أخوه سلطان شاه معه من تخريب بلاده، وجمع العساكر عليه، ويشير بالقبض عليه ورده إليه، فأنزل الرسول، وإذ قد أتاه كتاب نائبه بهراة يخبره أن كتاب خوارزم شاه جاءه يتهدده، فأجابه انه لا يظهر لخوارزمشاه أنه اعلمه بالحال، واحضر الرسول، وقال له: تقول لعلاء الدين: أما قولك إن سلطان شاه اخرب البلاد وأراد ملكها، فلعمري أنه ملك وابن ملك، وله همة عالية، وإذا أراد الملك، فمثله أراده، وللأمور مدبر يوصلها إلى مستحقها، وقد التجأ إلي، وينبغي أن تنزاح عن بلاده، وتعطيه نصيبه مما خلف أبوه، ومن الأملاك التي خلف، والأموال، وأحلف لكما يميناً على المودة والمصافاة، وتخطب لي بخوارزم، وتزوج أخي شهاب الدين بأختك.
فلما سمع خوارزم شاه الرسالة امتعض لذلك وكتب إلى غياث الدين كتاباً يتهدده بقصد بلاده، فجهز غياث الدين العساكر مع ابن أخت ألب غازي وصاحب سجستان، وسيرهما مع سلطان شاه إلى خواروم، وكتب إلى المؤيد صاحب نيسابور يستنجده، وكان قد صار بينهما مصاهرة: زوج المؤيد ابنة طغان شاه بابنة غياث الدين، فجمع المؤيد عساكره، وأقام بظاهر نيسابور على طريق خواروم.
وكان خوارزم شاه قد سار عن خوارزم إلى لقاء عسكر الغورية الذين مع أخيه سلطان شاه، وقد نزلوا بطرف الرمل، فبينما هو في مسيره أتاه خبر المؤيد انه قد جمع عساكره، وانه على قصد خوارزم إذا فارقها، فسقط في يديه وعاد فوقع في قلبه، وعاد إلى خوارزم، فأخذ أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا، وأخلى خوارزم فوقع بها خبط عظيم، فحضر جماعة من أعيانها عند ألب غازي وسألوه إرسال أمير معهم يضبط البلد، فخاف أن تكون مكيدة، فلم يفعل. فبينما هم في ذلك توفي سلطان شاه، سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فكتب ألب غازي إلى غياث الدين يعلمه الخبر، فكتب إليه يأمره بالعود إليه، فرجع ومعه أصحاب سلطان شاه، فأمر غياث الدين بأن يستخدموا، وأقطع الأجناد الإقطاعات الجيدة، وكلهم قابل إحسانه بكفران، وسنذكر باقي أخبارهم.
ولما سمع خوارزم شاه تكش بوفاة أخيه عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى سرخس ومرو شحناء، فجهز إليهم أمير هراة عمر المرغني جيشاً فأخبرهم، وقال: حتى نستأذن السلطان غياث الدين؛ وأرسل خوارزم شاه رسولاً إلى غياث الدين يطلب الصلح والمصاهرة، وسير مع رسوله جماعة من الفقهاء خراسان والعلويين، ومعهم وجيه الدين محمد بن محمود، وهو الذي جعل غياث الدين شافعياً، وكان له عنده منزلة كبيرة، فوعظوه، وخوفوه الله تعالى، وأعلموه أن خوارزم شاه يراسلهم ويتهددهم بأنه يجيئ بالأتراك والخطا ويستبيح حريمهم وأموالهم، وقالوا له: إما أن تحضر أنت بنفسك، وتجعل مرو دار ملكك، حتى ينقطع طمع الكافرين عن البلاد ويأمن أهلها، وإما أن تصالح خوارزم شاه؛ فأجاب إلى الصلح وترك معارضة البلاد.
فلما سمع من بخراسان من الغز بذاك طمعوا في البلاد، فعادوا إلى النهب والإحراق والتخريب، فسمع خوارزم شاه فجمع عساكره وحضر بخراسان، ودخل مرو وسرخس ونسا وأبيورد وغيرها، وأصلح البلاد، وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد صاحب نيسابور،فجمع المؤيد جيوشه وسار إليه، فلما سمع خوارزم شاه بمسيره إليه عاد إلى خوارزم، فلما وصل إلى الرمل أقام بطرفه، فلما سمع المؤيد بعود خوارزم شاه طمع فيه وتبعه، فلما سمع خوارزم شاه بذلك أرسل إلى المناهل التي في البرية فألقى فيها الجيف والتراب بحيث لم يمكن الانتفاع بها.(5/118)
فلما توسط المؤيد البرية طلب الماء فلم يجده، فجاء خوارزم شاه إليه وهو على تلك الحال،ومعه الماء على الجمال، فأحاط به، فأما عسكره فاستسلموا بأسرهم، وجيئ بالمؤيد أسيراً إلى خوارزم شاه، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا مخنث هذا فعال الناس؟ فلم يلتفت إليه، وقتله وحمل رأسه إلى خوارزم.
فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه. فلما كان من قابل جمع خوارزم شاه عساكره وسار إلى نيسابور، فحاصرها وقاتلها، فمنعه طغان شاه فعاد عنه ثم رجع إليه، فخرج إليه طغان شاه فقاتله، فأسر طغان شاه وأخذه فزوجه أخته، وحمله معه إلى خوارزم، وملك نيسابور وجميع ما كان لطغان شاه من الملك وعظم شأنه وقوي أمره.
هذا الذي ذكره في هذه الرواية مخالف لما تقدم، ولو أمكن الجمع بين الروايتين لفعلت، فإن أحدهما قد قدم ما أخره الآخر، فلهذا أوردنا جميع ما قالاه، ولبعد البلاد عنا لم نعلم أي القولين أصح أن نذكره ونترك الآخر، وإنما أوردتها في موضع واحد لأن أيام سلطان شاه لم تطل له ولأعقابه حتى تتفرق على السنين، فلهذا أوردتها متتابعة.
ذكر غاره الفرنج على بلد حوران وغارة المسلمين على بلد الفرنج
في هذه السنة، في ربيع الأول، اجتوعت الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه، وبلغ الخبر إلى نور الدين وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة، فسار إليهم مجداً، وقدم بجموعه عليهم، فلما علموا بقربه منهم دخلوا إلى السواد، وهو من أعمال دمشق أيضاً، ولحقهم المسلمون وتخطفوا من في ساقتهم ونالوا منهم، وسار نور الدين فنزل في عشترا، وسير منها سرية إلى أعمال طبرية، فشنوا الغارات عليها، فنهبوا وسبوا، وأحرقوا وخربوا،فسمع الفرنج ذلك، فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم، فلما وصلوا كان المسلمون قد فرغوا من نهبهم وغنيمتهم، وعادوا وعبروا النهر.
وأدركهم الفرنج، فوقف مقابلهم شجعان المسلمين وحماتهم يقاتلونهم، فاشتد القتال وصبر الفريقان، الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردوها، والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها، فلما طال القتال بينهم وأبعدت الغنيمة وسلمت مع المسلمين عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردوا منها شيئاً.
ذكر مسير شمس الدولة إلى بلد النوبة
في هذه السنة، في جمادى الأولى، سار شمس الدولة توارنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى بلد النوبة، فوصل إلى أول بلادهم ليتغلب عليه ويتملكه.
وكان سبب
ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر وأخذها منهم، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن، حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر، وإن عجزوا عن ذلك ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها؛ فجهز شمس الدولة وسار إلى أسوان؛ ومنها إلى بلد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم، فحصرها، وقاتله أهلها، فلم يكن لهم بقتال العسكر الإسلامي قوة، لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب، فسلموها، فملكها وأقام فيها، ولم ير للبلاد دخلاً يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله، وقوتهم الذرة، فلما رأى عدم الحاصل، وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة، وتركها وعاد إلى مصر بما غنم، وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري.
ذكر ظفر لمليح بن ليون بالروم في هذه السنة، في جمادى الأولى، هزم مليح بن ليون الأرمني، صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب، عسكر الروم من القسطنطينية.
وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحاً المذكور، وأقطعه إقطاعاً سنياً وكان ملازم الخدمة لنور الدين، ومشاهداً لحروبه مع الفرنج، ومباشراً لها؛ وكان هذا من جيد الرأي وصائبه، فغن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع من بلاد الإسلام قال: استعين به على قتال أهل ملته، وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الإغارة على البلاد المجاورة له. (5/119)
وكان مليح أيضاً يتقوى بنور الدين على ما يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدينة أدنة والمصيصة وطرسوس بيد ملك الروم، صاحب القسطنطينية، فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشاً كثيفاً ، وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال، وصابرهم، فانهزمت الروم، وكثر فيهم القتل والأسر، وقويت شوكة مليح، وانقطع أمل الروم من تلك البلاد.
وأرسل مليح إلى نور الدين كثيراً من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلاً من مشهوريهم وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إللى الخليفة المستضيئ بأمر الله، وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه.
ذكر وفاة إيلدكز
في هذه السنة، توفي أتابك إيلدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان إيلدكز هذا مملوكاً للكمال السميرمي، وزير السلطان محمود، فلما قتل الكمال، كما ذكرناه، صار إيلدكز إلى السلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود السلطنة ولاه أرانية، فمضى إليها، ولم يعد يحضر عند السلطان مسعود ولا غيره، ثم ملك أكثر أذربيجان وبلاد الجبل وهمذان وغيرها، واصفهان والري وما والاهما من البلاد، وخطب بالسلطنة لابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل؛ وكان عسكره خمسين ألف فارس سوى الأتباع، واتسع ملكه من باب تفليس إلى كرمان، ولم يكن السلطان أرسلان شاه معه حكم إنما كان له جراية تصل إليه.
وبلغ من تحكمه عليه أنه شرب ذات ليلة، فوهب ما في خزانته، وكان كثيراً، فلما سمع إيلدكز بذلك استعاده جميعه، وقال له: متى أخرجت المال في غير وجههن أخذته أيضاً من غير وجهه، وظلمت الرعية.
وكان إيلدكز عاقلاً، حسن السيرة، يجلس بنفسه للرعية، ويسمع شكاويهم، وينصف بعضهم من بعض
ذكر وصول الترك إلى إفريقية وملكهم طرابلس وغيرها
في هذه السنة سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى جبال نفوسة، واجتمع مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان العرب هناك، وكان خارجاً عن طاعة عبد المؤمن وأولاده، فاتفقا، وكثر جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضيقا على أهلها، ثم فتحت فاستولى قراقوش، وأسكن اهله قصرها، وملك كثيراً من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع.
وصار مع قراقوش عسكر كثير، فحكم على تلك البلاد بمساعدة الععرب بما جبلت عليه من التخريب والنهب، والإساد بقطع الأشجار والثمار، وغير ذلك، فجمع بها أموالاً عظيمة وجعلها بمدينة قابس، وقويت نفسه وحدثته بالاستيلاء على جميع لإفريقية لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحبها عنها، وكان ما سنذكره إن شاء الله.
ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس
في هذه السنة جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكره وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقاً منها، وحصرها، واجتمعت الفرنج على ابن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يقدروا على لقاء المسلمين.
فاتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين، وعدمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وهو في ذلك يجهز العساكر ويسيرها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يوصف، وصار الفارس من العرب يبرز بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.
ذكر نهب نهاوند (5/120)
في هذه السنة نهب عسكر شملة نهاوند. وسبب ذلك أن شملة كان أيام إيلدكز لا يزال يطلب منه نهاوند لكونها مجاورة بلاده، ويبذل فيها الأموال، فلا يجيبه إلى ذلك، فلما مات إيلدكز، وملك بعده محمد البهلوان، وسار إلى أذربيجان لإصلاحها أنفذ شملة ابن أخيه ابن سنكا لأخذ نهاوند، وبلغ أهل البلد الخبر، فتحصنوا، وحصرهم، وقاتلهم وقاتلوهن وأفحشوا في سبه، فلما علم أنه لا طاقة له بهم رجع إلى تستر، وهي قريبة منها، وأرسل أهل نهاوند إلى البهلوان يطلبون منه نجدة، فتأخرت عنهم، فلما اطمأنوا خرج ابن سنكا من تستر في خمس مائة فارس جريدة، وسار يوماً وليلة فقطع أربعين فرسخاً حتى وصل إلى نهاوند، وضرب البوق وأظهر أنه من أصحاب البهلوان، لأنه جاءهم من ناحيته، ففتح أهل البلد له الأبواب فدخله، فلما توسط قبض على القاضي والرؤساء وصلبهم، ونهب البلد وأحرقه، وقطع أنف الوالي وأطلقه، وتوجه نحو ماسبذان قاصداً العراق.
ذكر قصد نور الدين بلاد قلج أرسلان
في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى مملكة عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وأقصرا وغيرها، عازماً على حربه وأخذ بلاده منه.
وكان سبب ذلك أن ذي النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس قصده قلج أرسلان وأخذ بلاده، وأخرجه عنها طريداً فريداً، فسار إلى نور الدين مستجيراً به وملتجئاً إليه، فأكرم نزله، وأحسن إليه، وحمل له ما يليق أن يحمل إلى الملوك ووعده النصرة والسعي في رد ملكه إليه.
ثم أنه أرسل إلى قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاد ذي النون إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين إليه فابتدئ بكيسون وبهنسى ومرعش ومرزبان، فملكها وما بينها؛ وكان ملكه لمرعش أوائل ذي القعدة، والباقي بعدها، فلما ملكها سير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها.
وكان قلج أرسلان لما سار نور الدين إلى بلاده قد سار من طرفها الذي يلي الشام إلى وسطها، وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح، فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه عن الفرنج ما أزعجه، فأجابه إلى الصلح، وشرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة، وقال له: أنت مجاور الروم ولا تغزوهم، وبلادك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام، ولا بد من الغزاة معي. فأجابه إلى ذلك، وتبقى سيواس على حالها بيد نواب نور الدين وهي لذي النون، فبقي العسكر فيها في خدمة ذي النون إلى أن مات نور الدين، فلما مات رحل عسكره عنها، وعاد قلج أرسلان وملكها، وهي بيد أولاده إلى الآن سنة عشرين وستمائة.
ولما كان نور الدين في هذه السفرة جاءه رسول كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن الشهرزوري من بغداد ومعه منشور من الخليفة بالموصل والجزيرة وبإربل وخلاط الشام بلاد قلج أرسلان وديار مصر.
ذكر رحيل صلاح الدين عن مصر إلى الكرك وعوده عنها
في هذه السنة، في شوال، رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكره جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليهن والإتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره.
وسبب ذلك ان نور الدين لما أكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين، فاستقرت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ونور الدين يسير من دمشق، فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون فيه وصولهما؛ فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره.
وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال، وحصل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله، واتفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين، لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلاً. (5/121)
فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف؛ فجاء الرسول إلى نور الدين واعلمه ذلك فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يظهر للرسول تأثراً بل قال له: حفظ مصر أهم عندنا من غيرنا.
وسار صلاح الدين إلى مصر فوجد أباه قد قضى نحبه ولحق بربه، ورب كلمة تقول لقائلها دعني. وكان سبب موت نجم الدين انه ركب يوماً فرساً بمصر، فنفر به الفرس نفرة شديدة، فسقط عن ظهره فحمل إلى قصره وقيذاً، وبقي أياماً ، ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة، وكان خيراً، عاقلاً، حسن السيرة كريماً جواداً كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية. والمجالسة لهم. وقد تقدم من ذكره وابتداء أمره وأمر أخيه شيركوه ما لا حاجة إلى إعادته.
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة زادت دجلة زيادة كثيرة أشرفت بها بغداد على الغرق في شعبان، وسدوا أبواب الدروب، ووصل الماء إلى قبة احمد بن حنبل ووصل إلى النظامية ورباط شيخ الشيوخ، واشتغل العالم بالعمل في القورج، ثم نقص وكفى الناس شره.
وفيها وقعت النار ببغداد من درب بهروز إلى باب جامع القصر، ومن الجانب الآخر من حجر النحاس إلى دار أم الخليفة.
وفيها أغار بنو حزن من خفاجة على سواد العراق، وسبب ذلك أن الحماية كانت لهم لسواد العراق، فلما تمكن يزدن من البلاد وتسلم الحلة أخذها منهم، وجعلها لبني كعب من خفاجة.
وأغار بنو حزن على السواد، فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي، وهو من بني كعب، لقتال بني حزن، فبينما هم سائرون ليلاً رمى بعض الجند الغضبان بسهم فقتله لفساده، وكان في السواد فلما قتل عاد العسكر إلى بغداد وأعيدت خفارة السواد إلى بني حزن.
وفيها خرج برجم الإيوائي في جمع من التركمان، في حياة إيلدكز، وتطرق أعمال همذان، ونهب الدينور، واستباح الحريم.
وسمع إيلدكز الخبر وهو بنقجوان، فسار مجداً فيمن خف معه من عسكره، فقصده، فهرب برجم إلى أن قارب بغداد، وتبعه إيلدكز فظن الخليفة أنها حيلة ليصل إلى بغداد فجأة، فشرع في جمع العساكر وعمل السور، فأرسل إلى إيلدكز الخلع والألقاب الكبيرة، فاعتذر أنه لم يقصد إلا كف فساد هؤلاء، ولم يتعد قنطرة خانقين وعاد؛ وفيها توفي الأمير يزدن، وهو من أكابر أمراء بغداد، وكان يتشيع، فوقع بسببه فتنة بين السنة والشيعة بواسط لأن الشيعة جلسوا له للعزاء وأظهر السنة الشماتة به فآل إلى القتال فقتل بينهم جماعة.
ولما مات أقطع أخوه تنامش ما كان لأخيه وهو مدينة واسط، ولقب علاء الدين.
وفيها أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى الخليفة وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري، قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان، وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان، وما هو عليه من جهاد الكفار، وفتح بلادهم، ويطلب تقليداً بما بيده من البلاد، مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان، وأن يعطى من الأقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو: صريفين ودرب هارون، والتمس أرضاً على شاطئ دجلة يبنيها مدرسة للشافعية، ويوقف عليها صريفين ودرب هارون، فأكرم كمال الدين إكراماً لم يكرم به رسول قبله، وأجيب إلى ما التمسه، فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة، رحمه الله.
 

This site was last updated 07/28/11