المتنيح الأنبا أندراوس

Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

المتنيح الأنبا أندراوس أسقف دمياط وكفر الشيخ

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
المتنيح الأنبا بيشوى 7
الأنبا ماركوس أسقف دمياط

الأنبا أندراوس أسقف دمياط وكفر الشيخ ودير القديسة دميانة

بقلم / دكتور / عاطف مقار - copticassemply of amerca نشرت فى 5/1/2009م

كنت بمحض الصدفة أحاول أن أجد كتابا لأقرأه بين صفوف الكتب في مكتبتي وإذا بي أرى هذه النبذةكنت بمحض الصدفة أحاول أن أجد كتابا لأقرأه بين صفوف الكتب في مكتبتي وإذا بي أرى هذه النبذة الصغيرة والتي أصدرها أبناء الأنبا أندراوس أسقف دمياط المتنيح، وهو أحد العلامات في كنيستنا القبطية المعاصرة، وقد كنت موفور الحظ أن نلت بركة هذا القديس العظيم أثناء حياته، وقد أثر فيَّ بروحانيته وصوته الملائكي مما دفعني لأن أشارك معرفة هذا القديس مع من لم يحظون بنوال بركته.
بركة صلواته تكون مع جميعنا آمين
******
ولد في 10 أبريل سنة 1930 – ترهبن في 10 مارس سنة 1955 - سيم أسقفاً في 21 ديسمبر 1969 – انضم إلى آبائه في 4 أغسطس 1972 .
- ليست هذه سيرة المتنيح الأنبا أندراوس أسقف دمياط وكفر الشيخ بالمعني المفهوم لكلمة "سيرة", ولكنها شهادات وذكريات من محبيه وعارفي حبه ووداعته !!
- لعل من هو أقدر وأكفأ يستطيع أن يقدم لنا بقلمه هذه السيرة الروحانية المباركة بأكثر تفسير وبأوضح تعبير.
****************************************
في ظهر يوم الجمعة 4 أغسطس 1972 (28 أبيب 1688) انطلقت نفس تقية محبة للمسيح من عالمنا الأرضي لتسترح في حضن عريسها الحبيب الذي طالما كانت تئن وتتوق وهي في الجسد أن تراه بالعيان وتملأ عينيها من رؤيته.
وفي ظهر إلىوم التإلى السبت 5 أغسطس 1972 (29 أبيب 1688 ) وهو ذات إلىوم الذي يوافق عيد نقل رفات القديس أندراوس الرسول, رن صوت قداسة البابا شنودة الثالث وهو يصلي على نفس نيافة الأنبا أندراوس أسقف دمياط وكفر الشيخ ودير القديسة دميانة, بصوت يجهش بالبكاء قائلاً لهذه النفس الطيبة الطاهرة : امض بسلام ..... ولم يكمل قداسة البابا الكلمة بل لم يتمكن من ضبط عواطفه وهو ينطقها فأجهش بالبكاء ... وأجهش ألاف الحاضرين معه في كنيسة الشهيدة دميانة ببراري بلقاس بالبكاء والنحيب حزنا وتأثرا على رحيل أسقفهم الوديع المحب للمسيح .. الذي اختطف فجأة من وسطهم وهو في أتم صحة بعد أعراض مفاجئة لم تتمهل الا ساعات فاضت بعدها روحه الطاهرة إلى موضع راحتها ومكان استقرارها الامين...
1- مرحلة الشباب
لقد ولد "نبيه لطفي" بشارع سمعان بجزيرة بدران (شبرا) في يوم 10 أبريل 1930 وكان الثالث من أشقائه.
وأخذ يتدرج في دراسته بنجاح وتفوق وفي حياته الروحية في صلوات وأصوام وقراءة الكتاب المقدس حتى قضي طفولته وصبوته في سلام.
في عام 1948 افتتحت الكنيسة الجديدة في دمنهور على اسم القديس مارجرجس . وفي يوم الافتتاح والتدشين قام نيافة الأنبا توماس ( المتنيح عام 1956 ) برسامة "نبيه لطفي" شماسا بدرجة (قارئ) أو أناغنوستيس.
وفي تلك الآونة كانت مدارس الأحد قد بدأت تحس بواجبها تجاه القرى والنجوع المنتشرة حول المدن أو بعيداً عنها, فأخذ الشباب الجامعي على عاتقه أن يفتقد القرى ويوصل لها كلمة الخلاص. وكان "نبيه لطفي" في فترات الإجازة الصيفية من المدرسة يسافر للقرى ويقدم بشارة الإنجيل لأهلها ثم يعود إلى بيته في نهاية إلىوم فرحا متهللاً بعمل الله الذي أتمه في هذا إلىوم.
وعند حصوله على شهادة التوجيهية بدأت الميول المباركة للتكريس لخدمة الله تتحرك في قلبه الوديع فأبدى لوالده رغبة للالتحاق بالكلية الإكليريكية بالقاهرة (مهمشة), ولكن والدة رأى أن يكون مع شقيقيه الأكبرين اللذين يدرسان بالجامعة ليلتحق بكلية الهندسة ليتخرج مهندسا ... فوافق بعد إلحاح شديد.
والتحق فعلا بكلية الهندسة بالإسكندرية عام 1946 وأتم دراسته بها وتخرج في يوليو سنة 1952. وفي تلك الأثناء كان قدس الأب القمص متى المسكين وكيلا لبطريركية الإسكندرية وكان قد افتتح كلية إكليريكية للدراسة المسائية, فالتحق بها في أول افتتاحها وحاز دبلومها بتقدم.
وفي مدة دراسته بالإسكندرية أي من 1946 – 1955 كان دائب الاتصال بالجمعيات ومدارس الأحد والكنائس يخدم إلهه الذي أحبه من كل قلبه والذي كان يشتاق يوما فيوما إلى أن يكرس حياته بالتمام وطول أيام حياته.

خدمته في الإسكندرية :
أما خدمته في الإسكندرية فكانت تتميز باتجاهه نحو أقرانه الشباب الجامعي وفي المناطق المحرومة من الخدمة. وهكذا ساهم "نبيه لطفي" عام 1948 في أول اجتماع شباب جامعي أقيم بالإسكندرية, وكان ذلك بكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك.
وبعد أن نهض الاجتماع في هذه الكنيسة وجه نظره نحو أهم منطقة للخدمة في الإسكندرية – والتي مازالت تتعثر حتي الآن – وهي منطقة غيط العنب, حيث يتكدس فيها المسيحيون ومعظمهم من الفقراء والطبقات العاملة والتي تكثر فيها الطوائف الغريبة عن الكنيسة بصورة لا مثيل لها, كما تكثر بها الجمعيات ومعها كانت تكثر المشاكل بصورة تجعل الخدمة شبه مستحيلة. ولكنه بهدوئه وصمته وصبره ومحبته غزا هذا الحقل المغلق وخدم به خدمة مقدسة وصار أميناً لخدمة مدارس الأحد بهذا الحي يحمل على عاتقه هم الخدمة ويشارك المخدومين آلامهم ومشاكلهم وحاجتهم وفقرهم ...

الرغبة في التكريس:
وبعد تخرجه من كلية الهندسة التحق بالعمل ببلدته الإسكندرية وأدى أعماله فيها بإتقان ونجاح. ومازالت نافورة المياه القائمة في ميدان الرمل بالإسكندرية شاهدة على كفاءته إذ نال على تصميمها وتنفيذها مكافأة خاصة قدرها 300 جنيهاً.
وفي ذلك الوقت كان الأب وكيل البطريركية بالإسكندرية القمص متى المسكين قد شرع في إقامة ثلاث قسوس لكنائس الإسكندرية. ومن الإسكندرية أرسل "نبيه لطفي" إلى والده في دمنهور خطابا برغبته في الاندماج في سلك خدمة الرب وباشتياقه في أن يكون أحد هؤلاء الثلاثة؛ ولكن والده أشار عليه مرة أخرى بالبقاء في وظيفته إلى أن يتخرج أخوه من كلية الطب, ثم بعد ذلك يختط لنفسة الطريق الذي يرغبه ....
في بداية الخمسينات كانت هناك نهضة روحية جارفة قد بدأت تضطرم في أوساط الشباب القبطي المثقف .. وكان كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية" قد صدر عام 1952 فألهب القلوب لحياة التعبد والتأمل سيرا على نهج آباء البرية القديسين .. وبدأ الشباب يفدون الواحد تلو الآخر على دير السريان يطلبون الرهبنة طلباً للوحدة والتأمل .. وكان "نبيه لطفي" واحدا منهم ... ففي يوم 10 مارس سنة 1955 ترك العالم وانطلق إلى دير السريان ... وسافر وراءه والده لإقناعه بتأجيل الاندماج في سلك الرهبنة إلى أن يتمم أخوه دراسته في كلية الطب. ولكن "نبيه لطفي" في هذه المرة لم يتراجع .. وقرر لوالده أنه سعيد جدا بدخوله الدير وأن الأب إنما يحب سعادة أولاده ... وقال له أنه رأى حلما مباركا لا شك أنه بمثابة تأكيد وتثبيت لصدق الدعوة التي أحس بها للرهبنة.

حلم العصفور الجميل:
لقد رأى حلماً بأن والده يمسك بيده عصفوراً صغيراً جميل المنظر وكان هو ووالده واقفين معا بجوار المذبح داخل الكنيسة ثم وضع والده العصفور على المذبح وتركه وانصرف.
وفكر والده في هذا الحلم وقرر أن ابنه هو هذا العصفور وأنه لابد أن يخدم المذبح. وأمام إصرار ابنه أيضا وافق, وكتب ما يفيد ذلك في دفتر الزيارات بالدير.

2- الراهب موسى

ورسم "نبيه لطفي" بدير السريان راهبا على برية القديس مكاريوس الكبير باسم "موسى", في فجر سبت النور عام 1955 وفي سبتمبر من نفس العام رسم قسا رغما عنه وبحيلة فلم يكن مقتنعا بدخول الرتب الكهنوتية في صفوف الرهبان.
ويقول قداسة البابا شنودة الثالث في خطابه الذي القاه يوم الاحتفال بتشييع رفات الأنبا أندراوس أنه كان راهبا وديعا محبا طاهر القلب حتى أن رفقاءه الرهبان اتفقوا على تسميته آنذاك "موسى البسيط" !

في دير الأنبا صموئيل :
وفي صباح الإثنين 30 يوليو عام 1956 انتقل القس موسى مع رفقاءه الرهبان إلى دير الأنبا صموئيل بصحراء الفيوم طلبا للهدوء والخلوة الكاملة وعاشوا هناك زهاء الثلاث سنوات حيث جددوا الدير وعمروه وبنوا فيه مجموعة متراصة من القلالي الحديثة المناسبة لسكن الرهبان, مازالت قائمة إلى الآن.
وقد كتب الكثيرون ( حتى من الذين هم من خارج ) عن تلك العيشة التي عاشها الراهب موسى القس في هذا الدير.
وقد أفرد عالم مستشرق اسمه دكتور "أوتوميناردوس" في كتابه عن الرهبان والأديرة بالصحاري المصرية فصلا كبيرا عن رهبان هذا الدير قال فيه (بعد أن سرد تاريخ وحياه أب هؤلاء الرهبان القمص متى المسكين ):
"إن الحركة النسكية في دير أنبا صموئيل تمثل تطورا هاما داخل الكنيسة القبطية, وتأثيرها كان وسيظل بعيد المدى, فإن رهبان عديدين في دير الأنبا صموئيل تدربوا واختبروا الحياة التوحدية في مغائر الأنبا صرابامون وغيرها .. والخدمات الكنسية في دير أنبا صموئيل تجري في الكنيسة الجديدة التي على اسم الأنبا صموئيل. ويقرع جرس الكنيسة الساعة الرابعة صباحا داعيا الرهبان لصلوات الساعات القانونية ورفع بخور باكر. وتبدأ الليتورجية المقدسة حوالي الساعة السابعة. أما صلوات الغروب والمساء ورفع بخور عشية فهي تمارس أيضاً في الكنيسة الجديدة حوالي الساعة الخامسة.
" لقد كان لي الشرف أن أحضر الليتورجية المقدسة في دير أنبا صموئيل وكان يقوم بها "أبونا موسى", وهو راهب شاب يبلغ من العمر 28 عاما. وأن المستمع, حتى ولو كان غير مكترث, إلا أنه يختبر إحساسا بالوجود في عالم آخر بينما راهب البرية الشاب هذا يحتفل بالأسرار الإلهية الليتوجية بهذا الأسلوب الملائكي".
" إن شركة الحياة في دير الأنبا صموئيل تتميز بالحياة المشتركة إلى أقصى حد .. فبالرغم من أن الرهبان يأكلون عادة في قلاليهم إلا أنهم يتقابلون كل سبت في أكلة مشتركة تعد في غرفة الطعام بالقصر إلى أن يكتمل بناء غرفة الطعام الجديدة ... ويعيش الرهبان في اتضاع شديد مع احساسا كبير بالروحانية ..." .

سمات شخصية الراهب موسى:
يتحدث أحد رفاق "الراهب موسى القس" من الرهبان عن سمات شخصيته الرهبانية في ثلاث نقط :
1- كان بسيطا في شخصيته, ليس بالمعنى الذي يظنه عامة الناس عن البساطة أنها "سذاجة", لكنها بساطة القلب المحب الوديع الذي لا يحزن أحدا ولا يحزن من أحد. لذلك لم يكن يتحرج "القس" موسى أن يقوم بأدنى الأعمال وأحقرها في المجمع. فلم يكن يحسب أن درجة القسوسية تعني ألا يخدم الجميع.
2- لم يستطع العالم بشروره ورذائله أن يترك بصماته على شخصية أبونا موسى. فكثيرا ما يتعقد الإنسان من مواقف متعبة قابلها سابقا في العالم فيتصرف في المواقف الجديدة بما تركته المواقف السابقة فيه.
أما أبونا موسى فلم يكن هكذا كانت نفسيته كمثل انسياب رمال الصحراء وصفاء مياه الينابيع المتدفقة.
3- لم يكن يجازي أحدا عن شر بشر مهما كان المسئ إليه علمانيا أم غير علماني صغيرا أم كبيرا. كان يقبل في نفسه كل إساءة ولم يكن يظهر أي تضجر ولا حتى على سيماء وجهه .....
وقد تكلم قداسة البابا شنودة الثالث في كلمته يوم تشييع الجنازة كثيرا عن فضائل المتنيح, عن لطفه ووداعته وحنانه وكيف أنه في دير الأنبا صموئيل حيث لم يكن مكان يكفي لمبيت الرهبان أشرك غبطته معه في القلاية فعاشا سويا فترة من الزمن.

متوحد في مغائر وادي الريان:
وفي 11 أغسطس سنة 1960 غادر "الراهب موسى" مع رفقائه الرهبان دير الأنبا صموئيل, حيث عاشوا في مغائر وادي الريان في صحراء الفيوم التي احتفروها بأيديهم وسكنوا داخلها حياة انفرادية توحدية على درجة كبيرة من النسك أعادوا بها رهبنة القرون الأولى التوحدية العالية مرة أخرى.
ومرة أخرى يصف لنا العالم المستشرق دكتور أوتوميناردوس كيف عاش الراهب موسى في هذه القفار البعيدة, وقد طار في يوم 26 يناير سنة 1966 بطائرة خاصة ونزل أمام هذه المغائر وعاش معهم طول هذا اليوم وسمع ورأى بعينيه كل شئ وكتب بحثا طويلا نشر في مجلة علمية ثم في كتاب خاص ... ومن بين ما قاله:
" إن الحياة التوحدية في القرن العشرين ظاهرة نادرة الحدوث, سواء في الشرق أو في الغرب " أما في مصر فقد أحييت هذه الحياة التوحدية في الخمسينات حينما غادر عدة رهبان من دير السريان في وادي النطرون ديرهم تابعين مثال أبونا عبد المسيح الحبشي, واستقروا حول تل صرابامون ووادي الفرج. وفيما عدا ذلك فإن الحياة التوحدية اختفت من مصر, باستثناء نساك وادي الريان.
" وجميع الرهبان (في وادي الريان) يشعرون بروح الفرح الأصيل والرضا بكونهم نساكا ...
" ويتبع الرهبان في وادي الريان, بصرامة, النمط التوحدي للحياة النسكية كما ظهرت لدى آباء البرية المصريين في القرن الرابع إلى القرن السادس. وكما قال أبونا متي المسكين, فان القديس مقاريوس الإسقيطي معتبرا أنه نموذجهم. وعادة يبقى النساك في مغائرهم أثناء الأسبوع إلا في مساء السبت ويوم الأحد حيث يلتئمون معا للاجتماع الأسبوعي في مغارة الكنيسة التي على اسم الملاك
ميخائيل. وفي الحقيقة فإن الاجتماع الأسبوعي الذي كان في القرن الخامس والقرن السادس جانبا أساسيا للحياة الرهبانية في نتريا والقلالي والإسقيط : هو معتبر أيضاً جانبا أساسيا في وادي الريان. وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم السبت يجتمع الرهبان في مغارة الكنيسة لأداء صلوات الساعات الذي يتبع برفع بخور عشية . وبعد ذلك يعودون مباشرة إلى مغائرهم . وفي صباح الأحد . وفي تمام الساعة الخامسة صباحا (في الصيف) والساعة السادسة (في الشتاء) يجتمعون ثانية في مغارة الكنيسة لأداء صلوات الساعات ورفع بخور باكر واحتفال الليتوجية الإلهية. وعادة فإن الذي يحتفل بالليتوجية الإلهيه أبونا موسى.
وبعد احتفال الليتوجية الإلهية يشترك النساك في وجبة مشتركة يأكلونها في صحن (صالة ) مغارة الكنيسة ... والحقيقة أنه كمثل أيا القديم فإن الاجتماع الأسبوعي الذي يلتئم في صحن مغارة الكنيسة يوحي بالسمة الروحية للاجتماع والطبيعة شبه السرائرية للوجبة, والتي كانت معروفة في وقت ما باسم "وليمة الأغابي" .
وقد وصل نساك وادي الريان إلى درجة عالية من التقوى الشخصية, وكذلك العبادة الإنفرادية. وفي الحقيقة, فإنه من الواضح أن النساك يبقون, في مغائرهم لئلا تشتتهم مناظر العالم وأصواته العادية عن تتبعهم الدائم "للحياة الملائكية" ...
إن نساك وادي الريان جادون في محاولتهم التمثل بالحياة التوحدية في القرنين الرابع والخامس بالصحاري المصرية, التي يعتبرونها بؤرة "العصر الذهبي" للكنيسة المسيحية.
"وفي وادي الريان, كل النساك كانوا من أصحاب المهن, وهذا يعني أن ذبيحتهم كانت تتضمن تسليم شهادتهم الجامعية لله " .....
اللافتة الخالدة :
هذه لمحات عن الحياة التي عاشها "الراهب موسى" .. وما هو أروع من ذلك ما رأيناه في المغارة الخاصة به اذ نقش بخطة فوق مرقده الصخري داخل المغارة لافته مكتوب عليها :
هنا يرقد الحقير الراهب موسى القس
ترهبن في 10 مارس سنة 1955 م
ورقد في الرب ........................
وترك تاريخ رقاده في الرب إلى أن يتم. لقد وضع في قلبه أن يعيش متوحدا ناسكا في هذه المغارة حتي الممات!..
وقد عاش أبونا موسى في هذه المغارة زهاء عشر سنوات لم يقطعها سوى فترة قصيرة قضاها سكرتيراً لقداسة البابا الراحل الأنبا كيرلس السادس في عام 1960 أبدى فيها أمانة نادرة وإخلاصا عميقا, وسافر مع قداسة البابا في رحلته إلى أثيوبيا وفي افتقاده للوجهين البحري والقبلي كسب فيها محبة الجميع في كل مكان. ثم استأذن بعد شهور قليلة من قداسة البابا أن يغادر القصر البطريركي مفضلا أن يبقى مع أخوته الرهبان في مغائرهم وشقوق الأرض التي احتفروها لأنفسهم حبا في ملكهم المسيح.

وأخيرا في دير القديس أنبا مقار:
وفي أوائل مايو 1969 دعا قداسة البابا كيرلس السادس هؤلاء النساك ومن بينهم "الراهب موسى القس" لينضموا إلى مجمع دير القديس العظيم أنبا مقار. وفي فجر الخميس 10 مايو 1969 , وصل "الراهب موسى القس " مع إخوته الرهبان وأبيهم الروحي من مغائرهم في وادي الريان, حيث توجهوا إلى الكنيسة المرقسية الكبرى وهناك تقابلوا مع قداسة البابا كيرلس فرحب بهم وتحادث معهم . ثم احتفلوا بعيد ميلاد القديسة العذراء مريم بارك فيه قداسة البابا الرهبان الذين حضروا ليقدموا لقداسته محبتهم وخضوعهم. وقد ثبت للرهبان المرسومين بدير السريان سابقا الشكل الرهباني على طقس القديس أنبا مقار. ثم توجهوا جميعهم إلى الدير الذي يرأسه نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ناظر ورئيس هذا الدير.
وهناك في رحاب القديس أنبا مقار شفيع هذه الجماعة الرهبانية منذ القديم عاش أبونا موسى ... وبدأ مع رفقائه الرهبان وببركة صاحب النيافة رئيس الدير في تعمير الدير وبناء قلالي جديدة به.

3- الأسقف الأنبا أندراوس

وفي يوم 21 ديسمبر سنة 1969 دعاه قداسة البابا كيرلس السادس لرسامته أسقفاً على إيبارشية دمياط ودير الشهيدة دميانة. فوافق بعد إلحاح ... وتقدم إلى المذبح محنيا رأسه متقبلا من أساقفة الكرازة المرقسية ومن الكنيسة الجامعة الملتئمة معا موهبة الأسقفية المباركة, باسم " الأنبا أندراوس ".
وحينما وصل إلى مقر إبروشيته قال من بين ما قاله في أول خطاب له كلمة لها معنى, وشكرا لله الذي أعانه على تحقيقها:
"لقد كنت راهبا. وسأظل راهبا. وسأموت راهبا"
وحال رسامته أسقفا بدأ يخدم ويفتقد ويعلم ويواسي ويرعى... وكل ما صنعه كان يسجله عاما وراء العام في تقرير سنوي كان يعده ويرفعه إلى شعبه ... كان شغله الشاغل أن يحصر عائلات إيبارشيته ويفتقدها بيتا بيتا, وقد أشار قداسة البابا شنودة الثالث في كلمته أن نيافة الأنبا أندراوس زار بيوت مدينة بلقاس بيتا بيتا, وأنه سلمه كشفا بأسمائهم وعناوينهم جميعهم.
ويقول تقريره الأولي أنه:
- تفقد جميع كنائس الإيبارشية (27 كنيسة) مرتين خلال عام واحد. والزيارة الثانية كانت في ذكرى عيد قديس كل كنيسةا.
- زار عائلات مدينة بلقاس(172 عائلة) , وغالبية المنازل في كل من المحلة الكبري وزفتي ورأس البر (3000 عائلة) .
- ناشد العائلات المسيحية ان تحرص على أن تكون الزيارة ذات صبغة روحية وعلى مستوى الرعاية وليس على مستوى المآدب والموائد, وإلا ترتبط الزيارة مثلا بأكل وشرب .... الآن رب المجد لما لاحظ ارتباك مرثا في الخدمة المنزلية وبخها قائلا: ( مرثا مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد) فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها.
- اجتماعات شهرية دورية للآباء الكهنة بالإيبارشية. ويلاحظ أن نيافة الأنبا أندراوس وضع مبدأ اشتراك الكهنة – في هذا اليوم- في شركة جسد الرب ودمه, وكأن مركز الوحدة في الكنيسة هو شخص الرب يسوع متمثلا في اتحاد الأسقف مع شعبه في جسد الرب ودمه ....
- مؤتمرات لخدام التربية الكنسية ( على مستوى الإيبارشية). وغير ذلك من البيانات والإحصاءات وشرح أوجه النشاط في كل ركن من أركان الإيبارشية, كل ذلك بروح أبوية حنونة تنعكس على كل كلمة من كلمات التقرير.

خدمة مفعمة بالحب:
على أن أروع ما يمكن أن نسجله عن خدمة الأنبا أندراوس في إيبارشيته إنها كانت مفعمة بالحب والحنان, بالبذل والتضحية, باهتمامه بالروحيات فوق أي اهتمام آخر وبأسلوب محسوس.
إن كل هذا ينطق به عارفوه من أبنائه والكهنة الذين خدموا معه وكمثلين من كثير نقدم فقط هاتين الشهادتين:

+ يقول الأب القس بولس الحديدي:
- ... قضيت مع أبي الأنبا أندراوس سنة وشهرين, كل يوم فيها, كنت أتعلم منه دروساً من محبته واحتماله وتواضعه وثقته في إلهه وتسليمه الكامل لمشيئته وخضوعه التام للوصية المقدسة. أثناء تأدية الخدمة في القداس الإلهي, وككاهن مبتدئ, كثيرا ما كانت تصدر عني أخطاء, صدقوني لم يكن يوبخني قط وعندما أتدارك خطئي وأذهب لأطلب منه حلا كان يقول عما يجب أن افعله بروح الوداعة والمحبة. لم يشعرني في يوم من الأيام أنه يسود على الأنصبة, بل كان يظهر لي في كل مرة معنى الأبوة الصادقة والرعاية الصحيحة. وفي شتاء دمياط القارس وبعد أداء خدمة القداس الإلهي أسر في أذني بهذه الكلمات: يا أبونا الدنيا برد وأنا شايف إنه ليس معك شال, وأثناء هذه الكلمات كان يطوق عنقي بشاله وهو يقول: أنا عندي واحد تاني, والمسيح أمرنا من له ثوبان فليعط من ليس له " وغادر الكنيسة بدون شال ! .. حقا يا أبي لقد عشت الوصية كما هي . وقد تبينت بعد ذلك ان شاله الثاني كان قد تقادم عليه العهد وأن الذي أعطانيه كان الجديد !".
" لقد جمع أبي كل ايبارشيته في حضنه مثل أسماء الأسباط على صدرة هرون الكاهن".

" كثيرا ما جمع الآباء الكهنة في الإيبارشية وكان يضع أمامنا دائما هذه المبادئ:
1- فيكم ترى الرعية المسيح.
2- منكم تتعلم الرعية التسامح والمصالحة والمحبة.
3- منكم تتعلم الرعية قيمة الخدمة في الكنيسة.
4- اعملوا بكل ما تعلمون به.
5- ألقوا همكم على الرب واجعلوا مخدعكم هو المكان الذي يعطيكم فيه الرب ما يريد أن يبلغه للرعية.
6- عندما تنالون الكرامة من الخارج, ارجعوا لمخادعكم وهناك تذللوا أمام الله بمراجعة ذواتكم. وضرب لنا مثلا بالأسقف الجليل الأنبا صرابامون. الذي كان عندما يسمع تكريمه يصرخ في أعماقه: يا صليب يا بياع الزيت.
هل كانت هذه تعليمات تلقى أم هي حياة مارسها أبي الأسقف ومن اختباراته يحدثنا.
مرة وجه لي هذه الكلمات بحروفها بعد رسامتي كاهنا:
- "احرص جدا ألا تغضب أحدا أرح كل أحد ولو على حساب نفسك, والمسيح يساعدك ".
- "وفي كل مرة يقابلني كان يسألني عن أحبائه جميعا, عن كل فرد كبير وصغير. ومن هم أحباؤه إلا كل نفس في الإيبارشية, كان يسأل بروح الأبوة الحقيقية. عندما أسمع يا أبي أنك وصلت دمياط كنت أفرح وأستريح وأصرح لمن هم حولي أن عبئا كبيرا قد أزيح , لأن وصول أبي الأسقف معناه أن قوة عظيمة قد دخلت دمياط وأن شياطين كثيرة قد هربت وفرت منها .. حقا يا أبي لقد كنت مركبة (دمياط) وفرسانها !
- "أذكرنا يا ابي أمام المسيح,. كما كنت دائما. اطلب من الرب عنا لكي يعيننا كما أعانك ويجعلنا ساهرين ومستعدين كما كنت يا أبي".

+ أما الدكتور ماهر جورجي الطبيب بدمياط فيقول:
- " لا ننسى هذه الكلمات التي قالها نيافتة في يوم الاحتفال بتسليمه كرسي الايبارشية : " ان الاسقفية ليست تيجانا توضع على الرؤوس, ولكنها مسئولية وأمانة فوق الرقاب " . وكان هذا شعاره دائما : مسئوليه نحو نفس من شعبه ... الفقير قبل الغني والصغير قبل الكبير. وكانت المشاكل تعالج بروح واحدة جامعة فالكنيسة التي تفيض نعمة الرب فيها تعطي وتعين الكنيسة المحتاجة .... وهكذا كانت الكنائس تعمل معا بروح واحد وقلب واحد امتلأ بمحبة الرب المحب الذي أحبنا حتي بذل ذاته من أجلنا. ولن ننسي هذه اللمسات الخالدة لأبينا القديس من نحو الآباء المحتاجين والمرضى, حتى أنه استضاف مرة أحد الآباء المرضى بالشلل, استضافه في مبني المطرانية برأس البر ووفر له الاحتياجات المادية والعلاجية .
" وفي مؤتمر خدام التربية الكنسية كان الخدام يستمعون إلى توجيهات أبيهم القديس يثقل عليهم مسئولية الخدمة. ولن ننسي هذه الكلمات النارية :
- " أنه لابد أن نفتش عن كل نفس لنجعلها تتقابل مع المسيح وتبدأ معه حياة التجديد والخلاص .. الرب قريب ولنسرع لنعد له مكانا في كل مكان: في كل نفس وفي كل قلب وفي كل منزل وقرية ومدينة ".

" وأذكر أنه عندما ابتدأ يزور منازل دمياط ابتدأ بأفقر الفئات ... ابتدأ بزيارة مجموعة عاملي النظافة وجمع القمامة ( الزبالين) وجلس معهم في أكواخهم وعلى الأرض مثلهم يهبهم كلمات المنفعة والحياة يبين لهم قداسة هذه الحياة البسيطة لتشابهها مع حياة رب المجد في فقره وعوزه.
" كان يزور فصول التربية الكنسية ثم يعقب على كلمات الخدام قائلا: لابد أن نتقابل مع المسيح .. لابد أن نحول روتينية التدين وعبادة الحرف إلى توبة وحياة.
" وكان نيافته يصر على أن يجعل من عيد القديسة دميانة , الذي يقام كل عام , خدمة روحية , وكما قال : أنها فرصة ان نتلاقي بهذه الالوف نحدثها عن خلاص المسيح وحياة التوبة . وهكذا منح كل مظاهر الموالد القبيحة من مسكرات ورقص وأغاني ونظم الخدمة في الدير . فكانت تقام 3 قداسات يومياً يرأس نيافته أحدها ثم صلاة عشية مساء يتبعها عظة يومية من أحد الأباء أو الخدام .
" كان من الصور الحية معاملته وتعاملة مع المشاكل التي تقابلة ... كان لا ينسي ابدا أنه أب للجميع وفي حضنه الحنون يجب ان يستريح الجميع ... لا يهمه ما يقوله هذا أو ذاك .. المهم ان يضم الكل في أحشاء رأفة ومحبة الهنا المتسعة للجميع . كان يحب السلام فكان وديعا متواضع القلب كسيده ... يجول يصنع خيرا وعلى صدرة استرحنا جميعا واستدفأنا .
" كان طويل الروح حتي على من يعارضوه . ولا يهم ان يسمع نقدا أو حتي سبا . وأذكر موقفا هاجمة فيه أحدهم الا انه في بساطة قلب قال : الرب يسامحهم , لا تحزنوا على انه أهانني بل على انه أهان ذات المسيح وأخذ لنفسة دينونة أبدية " .
وهكذا نحس أن أنبا اندراوس الذي فرط من قبل في كل شئ لم يستطع ان يفرط في المحبة والحنان على الجميع . وقد سمعنا أنه قبل نياحته بأيام توجه إلى أخية نيافة أسقف الدقهلية الانبا فيلبس وأنهي كل المنازعات التي كانت قائمة حول الاموال والعقارات وقال ما معناه : ان هذه اموال وأوقاف المسيح ولا يهم من الذي يديرها .... وحسب ما سمعنا انه ابدي استعداده للتنازل .....
ألعله كان يحس بقرب لقائة مع المسيح , أو لعله كان مستعدا في كل وقت لهذا اللقاء , فلم يرض أن يوجد مثقلا بأي هموم حتي ولو كانت هموم غني الخدمة وأوقافها وأموالها ! ...
وليست هناك شهادة نختم بها هذا المقال أكثر تأثيرا من شهادة كهنة وشعب أيبارشيته حينما كتبوا في جريدة الاهرام بعد انتقاله يقولون :

أسقفية دمياط وكفر الشيخ والقديسة دميانة
تتضرع إلى الله أن يتغمده برحمته أياها القديس مثلث الرحمات
الأنبا أندراوس
الذي قادها بحكمة وخدمها باخلاص على قصر الفترة التي نعمت فيها برياسته الرشيدة وأبوته الحانية الرحيمة وتذكر بالعرفان مواساة السيد الرئيس انور السادات الذي تفضل بايفاد مندوب لحضور صلاة الانتقال, والسادة نائبي الرئيس ورئيس الوزراء ونوابه والوزراء وتقدم الشكر والولاء لقداسة الحبر الأعظم أنبا شنودة الثالث الذي تعطف فرأس الصلاة على روح حبيبها الاسقف الراحل , ولأصحاب النيافة المطارنة والاساقفة ورجال الدين الإسلامي والمسيحي والمحافظين وأعضاء مجلس الشعب وقيادات الاتحاد الاشتراكي بدمياط وكفر الشيخ والدقهلية وكل من تفضل من أبناء الشعب المصري العظيم بكافة طوائفه وهيآته بتقديم العزاء بالحضور أو بالرسائل أو النشر داعية المولى أن يحفظ الجميع من عاديات الزمن.
أما قداسة البابا فقد نعاه قائلا :
البابا شنودة الثالث وأعضاء المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية يودعون للسماء نفس أخيهم الطاهر البار صاحب النيافة الحبر الجزيل الاحترام
الأنبا أندراوس
أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري رقد فجأة صباح أمس الجمعة مستعدا بعد صلاة القداس الإلهي وقد قضى حياة مقدسة طاهرة في نسك وعفة ووداعة ومحبة لشعبه وخدمة هادئة متضعة وسيزف جثمانه الطاهر بكنيسة دير القديسة دميانة بالبراراي ظهر يوم السبت.

مراجع المقال:
1- خطاب قداسة البابا شنودة الذي ألقاه يوم تشييع الجثمان.
2- رسالة من والد المتنيح، السيد المهندس عزيز موسى.
3- رسالة من قدس الأب القمص بيشوي كامل زميل المتنيح ورفيقه في الخدمة بالإسكندرية.
4- بعض البيانات والأحاديث من بعض رفقاء المتنيح من الرهبان.
5- مؤلفات الدكتور أوتو ميناردوس عن الرهبنة القبطية وأهمها:
- Monks and Monasteries of Egyptian Deserts, by OTTO F.A. MEINARDUS, American University at Cairo, 1961.
- HERMITS of WADI EL RAYAN, by OTTO F.A. MEINARDUS, Collectania.

 

This site was last updated 10/30/18