مسجد قايتباى

Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

مسجد قايتباى  

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس هناك تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع مختلف

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
مسجد الشافعي
مآذن القاهرة
لاجين السيفي مسجد مصلوب
سبيل السلطان مصطفى
مسجد المرزوقى الاحمدى
مساجد وسبيل بشارع المعز
مسجد أثر النبى
جامع السلطان حسن
مسجد الحبيبى بحى السيدة
مسجد قايتباى بالقرين بالشرقية
مسجد قجماس الإسحاقى
مسجد المحمودية
مسجد قايتباى
مسجد سادات قريش
جامع الأمير سليمان أغا السلحدار
New Page 6389
New Page 6390
New Page 6391
New Page 6392
New Page 6393
New Page 6394
New Page 6395
New Page 6396
New Page 6397
New Page 6398
New Page 6399
New Page 6400

Hit Counter

 

أنشودة الحياة فى صحراء العدم..عمارة الخلاء(١-٢) قايتباى.. رسالة إلى السماء
المصرى اليوم
  كتب   جمال الغيطانى    ١٥/ ٩/ ٢٠٠٩

 قايتباى هو أحد أجمل مساجد الدنيا، والآية الفنية الرائعة

تمكن اللصوص من سرقة كرسى المصحف الذى كان من التحف التى لا يخلو منها كتاب أو مرجع عن الفن الإسلامى،

مدرسة ومسجد وضريح وسبيل وكتاب السلطان الأشرف أبوالنصر قايتباى إ

فى مدرسة محمد على الإعدادية، التى أصبح اسمها فيما بعد الحسين، كان أحد زملائنا يسكن قايتباى. كان اسمه اسحق، وكنت أتطلع إليه مخفياً استفساراتى، كيف يقطن زميلنا هذا المكان الموحش؟

لنتخيل ما كان عليه المكان فى الزمن القديم، خلاء ممتد، فسيح كان بعيداً عن القاهرة المسكونة الضاجة بالحياة، ولنضع فى الاعتبار المسافات بحساب الأيام النائية، عندما كان الناس ينتقلون مشياً، أو راكبين الدواب، هنا.. قامت قرافة المماليك الشرقية، والكلمة تطلق على أماكن دفن الموتى فى مصر، كلمة لا توجد إلا فى مصر فقط، يرجع بعض المؤرخين أصلها إلى قبيلة المغافر العربية، كان يقال لهم بنوقرافة، هذا تعليل وربما كانت هناك أصول أخرى للاسم لا ندريها الآن، المهم أن السلطان قايتباى شرع بعد عامين من توليه الحكم عام ٨٧٢ هجرية، فى بناء تربته.

يقول ابن إياس فى تاريخه، بدائع الزهور فى وقائع الدهور فى أحداث ذو الحجة عام ٨٧٤ هجرية.

«وفيه ابتدأ السلطان بعمارة تربته التى أنشأها فى الصحراء، وجعل بها جامعاً بخطبة، وقرر به صوفة وحضوراً بعد العصر، وأنشأ هناك عدة خلاوى برسم الصوفة وحوضاً وصهريجاً وأشياء كثيرة من وجوه البر والمعروف».

حقا.. ما أذكى ابن إياس، لم يقل إن السلطان بنى مسجداً أو مدرسة، إنما قال إنه أنشأ تربة، أى مدفناً، وهذا عمل لم ينفرد به قايتباى، إنما كان أول ما يشرع فيه أى حاكم يتولى حكم مصر، أن يشرع فى بناء تربته، والحق أنه همُّ أى مصرى، أميراً كان أو موظفاً أو تاجراً، أو إنساناً عادياً، والحرص على اقتناء مقبرة لتكون مأوى أبدياً من الأمور الجليلة عند المصريين، إنه المضمون الفرعونى القديم، الانشغال بالخلود، ليس تولها فى الموت، ولكن حباً فى الحياة الدنيا، وشوقاً إنسانياً خالداً إلى الرغبة فى بقائها على هيئة عمل صالح، أو عمل جميل يضمن استمرار السيرة، فالذكر للإنسان عمر ثان، لم يتغير مضمون مصر القديم وانشغالها الروحى، الرموز فقط هى التى تتبدل، فمن أهرام إلى كنيسة إلى مسجد. وهذا موضوع يطول الحديث فيه.

هناك، فى الصحراء التى كانت نهاية العمار، وبداية الخلاء أقام قايتباى تربته، وللأسف لم أستدل على اسم المهندس الذى صمم وشيد هذا البناء الجميل، فى وقائع ذو القعدة عام ٨٨٣ هجرية يقول ابن إياس إن السلطان نزل من القلعة وتوجه إلى جهة القرين ـ بمحافظة الشرقية الآن. وكشف عن الجامع والسبيل اللذين أنشأهما هناك، وكان الشاد على العمارة الأمير يشبك الجمالى.

شاد العمائر هو المسؤول عن البناء، فهل هو يشبك؟ ربما، وربما سجل المهندس المصرى المجهول لنا اسمه فى زاوية قصية غير مرئية من البناء، فإلى الملوك والسلاطين تنسب هذه العمائر الجليلة، لكن عباقرة هذا الشعب العظيم البناء لا يذكرون أنفسهم.

إنهم يجيئون من أعماق القرى، ومن على ضفاف النيل، يحملون الحجارة، والأتربة، وينقشون الجص، ويلونون الجدران، ثم يمضون فى صمت، يجيئون من المجهول ويمضون إلى المجهول، كلنا نقول هرم خوفو، أو معبد رمسيس، أو مسجد السلطان حسن، أو قلعة محمد على، لكن من يعرف منا آلاف الذين حركوا هذه الأحجار، وهذبوها، ورصوها، وارتفعوا بها إلى الفراغات العلى، من مات تحت الردم، ومن سقط من فوق البناء.

يذكر ابن إياس حادثاً عجيباً، غريباً، وقع أثناء حكم الأشرف قايتباى، ذلك أن عاملاً فقيرا، نجاراً، سقط من فوق سقالة أثناء عمله بطباق المماليك بالقلعة فأمر السلطان بكفن له من ثلاث طبقات، وصرف لعائلته الفقيرة مبلغاً من المال، ونزل وصلى على العامل الفقير!

يقول ابن إياس بالنص فى حوادث شوال سنة ٨٧٦ هجرية.

«وفيه وقعت حادثة غريبة وهو أن نجاراً كان عمَّالاً فى القلعة فى بعض الطباق فسقط من مكان عال فمات لوقته، كان له أولاد وعيال وهو فقير. فوقفوا أولاده وعياله بقصة للسلطان، بقصة يلتمسون منه شيئاً من الصدقة، فلما وقفوا إليه أمر لهم بمائة دينار، وأمر للميت بثوب بعلبكى وثلاثة أشرفية يجهزونه بها فعد ذلك من محاسن الأشرف قايتباى»!

من حق ابن إياس أن يعتبر ذلك غريباً، فلم تسجل لنا وقائع التاريخ أى اهتمام بأولئك الذين شيدوا هذه المبانى، أو الذين نقشوا الزخارف، أو كتبوا الخط، أو الذين صقلوا الأحجار عند زيارتى إلى المبانى العظيمة أذكر أولئك المجهولين وأترحم عليهم، وأقرأ الفاتحة على أرواحهم، أولئك الذين لا يعرفهم أحد ولا يذكرهم أحد.

لابد أن السلطان اطلع على نموذج للمسجد قبل بنائه، يذكر المقريزى أن ابن طولون تفحص طويلاً نموذجاً مصنوعاً من الجلد لمسجده، كذا بقية السلاطين والأمراء، ولابد أن مصمم هذا المسجد كان شاعراً فى أعماقه، لا أعرف أى مبنى فى العالم رأيت فيه هذا التناسق الفريد بين النسب، كما تتجسد فى مسجد قايتباى، بين القبة والمئذنة بين المسجد والسبيل.

هذا التناسق يبدو من بعيد كما يلوح من قريب، وفى كل ساعات النهار والليل، يبدو هذا الجمال الفريد، والذى جعل مصممى النقود فى النصف الأول من هذا القرن يضعون صورة المسجد على أثمن ورقة مالية وقتئذ، من فئة المائة جنيه، كان الناس يقولون «الورقة أم مئذنة»، إنها مئذنة مسجد قايتباى، هذه المئذنة الرشيقة،

لكى نلج المسجد، لابد أن نرتقى.. أن نصعد إليه.. أربع عشرة درجة عريضة، تؤدى بنا إلى المدخل.

وللمداخل فى البنيان الإسلامى شأن عظيم، فالمدخل هو الذى يفصل بين عالمين، بين العام والخاص، بين الوضوح والسر، بين العلانية والخصوصية، والمدخل طبقاً للتقاليد الإسلامية لابد أن يكون جميلاً، رائعاً ولهذا تفنن الصناع فى تجميل الأبواب القديمة، ولأن المدخل أول ما تقع عليه عينا الضيف فلابد أن يتضمن بحضوره دعوة، وإشهاداً بالأمان، لذلك تكتب الآيات القرآنية أو الجمل المطمئنة المرحبة.

«ادخلوها بسلام آمنين..»

«يا مفتح الأبواب، افتح لنا خير باب..»

فوق الباب دائرتان محفورتان فى الحجر، إنهما رنك السلطان أى شارته، أو شعاره، أو خاتمه، أو بمعنى آخر «الخرطوش» الفرعونى القديم. أما كلمة «رنك» فأصلها فارسى وتعنى لون، كان الرنك أو الختم أو الخرطوش يطبع على سائر ما يمت للسلطان، أو يصدر عنه، نراه محفوراً على واجهات الأبنية أو منقوشاً على الأبواب، محفوراً فى الأوانى المعدنية، على الملابس، إنه نوع من التواجد المستمر للسلطان على الأشياء والموجودات وربما كان البديل له الآن الصور التى تعلق فى كل مكان أو الظهور المستمر فى وسائل الإعلام المرئية. لكن هذا كله لا يلغى القيمة التاريخية المستمرة للرنك.

كان فى العصر الفرعونى خرطوشة مستطيلة الشكل يكتب داخلها اسم الفرعون وشعاره، وفى العصر المملوكى أصبح دائرة داخلها اسم السلطان وشعاره. إنه الختم على الأوامر، والرسائل، والمبانى، والملابس، سوف نرى رنك قايتباى على جدران المسجد، أعلى المدخل، وعلى الجدران الداخلية، وعلى قاعدة القبة، وفوق الأخشاب المحفورة.

الأشرف أبد النصر قايتباى

عز نصره

إنه الختم الرسمى، الذى بدونه تفقد أى ورقة مصداقيتها وبدونه لا تنتمى هذه المنشأة إلى صاحبها ومؤسسها، إنه الختم الذى يؤكد صحة التوقيع، مهما كانت شخصية الموقع، ولنا عودة إلى تقاليد الدواوين المصرية.

نجتاز المدخل.

ومدخل هذا المسجد متواضع، هامس، مرحب، ليس شاهقاً مثل مدخل مدرسة السلطان حسن، وليس غامضاً مثل مدخل قبة المنصور قلاوون، إنه مدخل صريح لا يوحى بما سنراه فى الداخل من ثراء روحى ومادى. نجد أنفسنا فى مساحة توازى غرفة متوسطة، إلى اليمين وفى المواجهة باب خشبى جميل يؤدى إلى السلم الصاعد إلى الكتاب الذى يعلو السبيل الموجود خلفنا إلى اليسار، وإلى السطح حيث بداية ارتقاء المئذنة.

لنتطلع إلى سقف المدخل الخشبى، هذه الألوان المعتقة، المتناغمة، الكامنة فى الظلال العلوية، عليك اكتشافها بإطالة النظر إلى أعلى، مرة توحى بالنجوم، والليل، ومرة توحى بزرقة السماء فى النهار، على الجدران لوحات من الرخام، مستطيلات ومربعات منقوشة، الأرضية تتداخل فوقها الأشكال مدخل هادئ، لكن كل جزء فيه أعد بعناية، منمنم، وتلك سمة المكان كله.

لنمض!

إلى اليمين دهليز ضيق، هذا الدهليز قد يطول كما هو الحال فى مسجد السلطان حسن أو مسجد الظاهر برقوق، أو يصبح قصيراً كما هوالحال هنا، لكن فى كلا الوضعين يؤدى إلى الغرض نفسه، وهو عدم الدخول إلى الصحن الرئيسى، إلى القلب، إلى المركز مباشرة، إنه مرحلة الانتقال من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل إلى الخارج، من عالم إلى عالم، ومن حضور إلى حضور، تلك سمة تميز المساجد المصرية الصميمة، بعكس المساجد القاهرية ذات الأصول الوافدة، ومنها مساجد القاهرة الأولى الفاطمية، الحاكم، والأقمر، والأزهر، والصالح طلائع، حيث تدخل إلى الصحن مباشرة، وعند وقوفك فى الطريق الخارجى يمكنك رؤية الداخل أو جانب منه، فى المساجد المصرية لابد من مرحلة فاصلة، لابد من عملية تحضير غير مباشرة يقوم بها المدخل والدهليز.

بعد عبور هذا الدهليز تفصل الإنسان وتهيئه للدخول إلى عالم مختلف، هل لهذا السبب تبدو أصوات الشارع القريب بعيدة جداً عند الإصغاء إليها من داخل صحن المسجد، عند دخولى إلى قبة قلاوون، أتطلع إلى شارع المعز عبر النوافذ الضخمة، الطريق فى متناول اليد لكنه بعيد جداً فى الوقت نفسه، .. يبدأ الصحن الداخلى فى الظهور، الألوان، الحضور،.

لنصغ قليلاً إلى وصف معمارى متخصص. يقول الدكتور كمال الدين سامح:

«تعتبر مجموعة قايتباى بالقرافة الشرقية من أبدع وأجمل المجموعات المعمارية فى مصر الإسلامية، ويتكون المسقط الأفقى من صحن مربع محاط بأربعة إيوانات أكبرها إيوان القبلة، الجانبيان منهما صغيران وإيوان القبلة يشرف على الصحن بواسطة عقد مدبب من طراز نعل الفرس كما هو الحال فى إيوان القبلة بمدرسة الظاهر برقوق بالنحاسين، ويكتنف المحراب من جهتيه نافذتان شكلهما من الخارج داخل تجويف مستطيل الشكل ومن الداخل يظهران معقودين وتعلوهما نوافذ مدببة تملؤها أجزاء من الزجاج الملون، وأسقف الإيوان الرئيسى من الخشب المزخرف والمحلى بنقوش مذهبة، وقد كان الصحن فى بادئ الأمر بسقف من الخشب يعلوه منور مثمن، وبجواره إيوان الصلاة الضريح الذى يبرز قليلاً عن الواجهة الجانبية ومغطى من أعلاه بقبة حجرية محمولة على مقرنصات مزخرفة من الخارج بزخارف نباتية داخل مناطق هندسية محفورة على الحجر».

هذا ما كتبه الدكتور كمال الدين سامح فى كتابه «العمارة الإسلامية فى مصر»، ولن يخرج الأمر عن ذلك الوصف المختصر فى الدراسات الأخرى الحديثة. وإن كان الدكتور عفيف بهنسى قد توقف مطولاً أمام المسجد فى كتابه الضخم الفن الإسلامى الذى طبع فى دمشق.

للأسف.. لا توجد صور دقيقة للمسجد يمكن أن يشتريها الزائر، لا ملونة ولا غير ملونة، وفى بلاد العالم المختلفة بعد أو قبل الزيارة يمكن للزائز أن يجد ركنا صغيراً فى المتحف أو الكنيسة، يبيع نماذج للمكان أو ما يضمه من تماثيل ولوحات، وسلايدات، شرائح ملونة، وبطاقات بريد، وكتب عن تاريخ المكان، لماذا لا تقوم هيئة الآثار بعمل منظم يستهدف بيع النماذج واللوحات والكتيبات باللغات المختلفة فى المواقع الأثرية الفرعونية والقبطية والإسلامية، إلى جانب دلالة ذلك الثقافية فإنه عمل تجارى مربح، ولكن.. من يسمع ومن يرى؟

فى القرن التاسع عشر جاء إلى مصر معمارى ومهندس وفنان كبير، إنه «بريس دافن»، أمضى عدة سنوات ليرسم زخارف ونقوش الفنون الإسلامية من عمارة، وأخشاب، ورخام، وجص، ونحاس، وجلود، وخط.

فرنسيان جاءا إلى مصر ورسما ودرسا العمارة الإسلامية، باسكال كوست، وبريس دافن، وكتاباهما يعتبران الآن من النفائس، وقد طبع كتاب بريس دافن فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر، ومنذ سنوات أعادت دار نشر لبنانية خاصة إصداره فى نسخة تشبه تماماً النسخة الأصلية، تتكون من نص مكتوب وثلاثة مجلدات ضخمة، يصل حجمها إلى حوالى متر طولاً وسبعين سنتيمتراً عرضاً، ويبلغ ثمن هذا الكتاب بضعة آلاف من الجنيهات الآن، ولكم كنت أتمنى أن يعاد إصدار مثل هذه الكتب عن دور نشر مصرية، خاصة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولكن.. لم يحدث هذا،

ومنذ عامين أقدم المهندس عهدى فضلى مدير عام مطابع أخبار اليوم على خطوة ذات بعد ثقافى فى مدلولها، وتدل على حس وطنى سليم، عندما قام بإصدار نتيجتين، الأولى تضم ست لوحات من بريس دافن، والثانية تضم اثنتى عشرة لوحة من الكتاب نفسه، وتباع كل منهما بقروش زهيدة، وعند سفرى أحمل عدداً منها كهدايا إلى الأصدقاء الأجانب، ولكم يكون سرورى بالغاً إذ ألمح انبهارهم. أولاً بجمال الآثار الإسلامية وثانياً بروعة الطباعة. إننى أفضل لوحات بريس دافن وأديم النظر فيها، كتابه فى متناول يدى باستمرار، أتوقف عند مسجد قايتباى، لأرى كيف كان يبدو فى النصف الأول من القرن التاسع عشر

*******************

الحجر همسة.. والخشب نسمة.. والزجاج مناجاة.. عمارة الخلاء (٢ - ٢) مسجد قايتباى.. كوكب من الضوء

المصرى اليوم   كتب   جمال الغيطانى    ١٦/ ٩/ ٢٠٠٩ تصوير -تحسين بكر

نوافذ قايتباى نموذج لإبداع الشمسيات والقمريات مازلنا مع موسوعة بريس دافن أو إدريس أفندى الفرنسى.. خمس لوحات ضمها المجلد.. الأول، المخصص لفنون العمارة فى معظمه، ثلاث منها تصور المسجد من الخارج والداخل، ولوحة تفصيلية لنقوش المئذنة وأجزائها، وأخرى لواجهة السبيل اللوحة الأولى تمثل منظراً عاماً للمسجد، أتصور أن بريس دافن كان يقف فى نقطة تقع إلى الشرق باتجاه الشمال قليلاً عندما كان يرسم المسجد، تبدو الواجهة والمدخل والسبيل والضريح والمئذنة، الملامح الرئيسية كما هى الآن تقريباً، ولكن المبنى الأمامى المخصص للحوض والساقية يبدو فى اللوحة متصلاً بالمسجد، يصلهما جدار عريض، أزيل، وشق طريق ضيق يمر الآن بين المسجد والحوض.. فى اللوحة بعض أحجار المدخل محطمة.. ودرجات السلم أيضاً، والركن الغربى متهدم، هذا كله تم ترميمه خلال حقبتين مختلفتين فى القرن العشرين، الأولى، قامت بها لجنة حفظ الآثار العربية فى بداية القرن، والثانية فى المرحلة التى تولى خلالها الشهيد الدكتور أحمد قدرى هيئة الآثار المصرية.. نلاحظ فى لوحة دافن أن البيوت لم تكن ملاصقة للمسجد، والأرض رملية، الآن البيوت قبيحة المظهر تطبق على المسجد من الشرق والأرض مرصوفة بالأسفلت!!.. وأظن أن الرصف بالحجر أنسب لحوارى وشوارع القاهرة القديمة، وقد كانت كلها كذلك ولكن عباقرة المحافظة أزالوا الأحجار ورصفوا الحوارى بالأسفلت الذى سرعان ما تدب إليه البثور والحفر، وللعلم.. فإن أهم أجزاء العواصم الأوروبية مرصوف بالحجر، تماماً كما كان الوضع فى القرون السابقة. تظهر المئذنة فى اللوحة سامقة شامخة إنها واحدة من أجمل المآذن المصرية على الإطلاق، ولن أتعجل الحديث عنها.. فلى عندها وقفة ستطول. اللوحة الثانية تبين الإيوان المواجه للداخل من الدهليز، أما الثالثة فللإيوان الشرقى، حيث القبلة والمحراب، الملامح الأساسية باقية حتى الآن، وبرغم جمال لوحات دافن، فإنها مجرد إشارة إلى صرح عظيم، فللألوان فى مسجد قايتباى منزلة عظمى. وأعود إلى رؤيتى الخاصة للمسجد وإلى علاقتى به. جئت إليه مراراً، فى الأغلب الأعم بمفردى، ومرات قليلة مع من أحب، وأدرك اهتمامه بما سيرى، وإذ ألمح انفعالاً لا أبخل بوصف كل ما أرى، وما اعتقده من دلالات، بعد عشر سنوات مع مسجد قايتباى والمساجد الأخرى، أزعم أننى توحدت بها وبقدر ما تحقق لى هذه المعايشة من ثراء وجدانى وروحى.. بقدر ما أشعر بانعكاس هذا على عالمى الأدبى، بدءاً من الأسلوب اللغوى، وحتى المعمار الفنى للروايات، فالفنون متصلة. جئت إلى المسجد فى أوقات مختلفة، صباحاً وظهراً وعصراً وغروباً وليلاً وما من مرة أبلغه فيها إلا أقول لنفسى عند دخولى الصحن:

هذا كوكب من الضوء، منظومة من الألوان والزجاج والحجارة والخشب والعاج تحولت إلى كون صغير، مجرة من الجمال المهموس، هذه ليست أحجاراً صلدة ولكنها إشارات إلى الأصل الذى جلبت منه، وإلى البناء الذى تكونه الآن. الزجاج الملون يرشح ويحول ويلون الضوء القادم من الخارج، الحروف العربية متداخلة متشابكة تطوق المكان من خلال السقفة والجدران، وحول المحراب، العقود من حجارة أحدها منقوش والتالى بدون نقش، يحدث هذا التبادل نوعاً من التجسيد ويضفى الحركة. فى جدار الإيوان الرئيسى ثلاث نوافذ من الزجاج الملون المعشق بالجبس، النافذة الوسطى على هيئة دائرة، الزجاج أصفر، ربما رمز إلى الشمس. المكان كله قائم على الجدران فقط، على الفراغ، ما من أعمدة، ما من جزء مكشوف، الصحن كله مغطى ومع ذلك فالإحساس بالسماء يستمر قوياً من خلال المساقط الأفقية التى تتخلل الدهليز المؤدى، وهذا الصفاء المدهش الذى يضفيه المكان. مكانى المفضل للجلوس الإيوان الغربى.. المواجه للإيوان الرئيسى أولى ظهرى الأبواب الخشبية الثلاثة المؤدية إلى الخارج.. أرفع البصر محاولاً تثبيت النقوش والخطوط والألوان فى ذاكرتى. أما أفضل أوقاتى، فلحظات الأصيل، حيث يقف الموضع كله على مشارف الغروب،

 للدخول إلى أقصى وأبعد نقطة فى المكان إلى الجزء الثالث من المسجد، والذى يذكرنى بقدس الأقداس فى معابدنا الفرعونية، لنولى ظهرنا للصحن ولنمض إلى الضريح، إلى القبة التى يرقد تحتها السلطان الأشرف قايتباى. لا شىء يوحى بالمكان الذى سنمضى إليه، مجرد باب من الخشب المنقوش، المطعم، لا تميزه أى خصوصية، فحول الصحن عدد آخر من الأبواب، وكثيرا ما أدخل الصحن بعد الظهر، بعد انصراف الحارس المكلف من هيئة الآثار، إنه يغلق هذه البوابة الصغيرة بقفل، فيصبح اجتيازها صعباً، لو أن شخصاً يدخل لأول مرة، ويجهل المكان لما خطر له أن خلف هذه البوابة الصغيرة ممراً صغيراً يؤدى بنا إلى كون بأكمله. نجتازه إذن، ممر صغير بين جدران الصحن والقبة، متصل بالسماء، لا سقف، سلالم تؤدى إلى الفناء الخلفى، نجتاز باب العتبة، وسرعان ما يغمر الروح مزيج من أحاسيس مختلفة، منها السكينة والخشوع والرهبة والرضا والتسليم وخوف ناءٍ. نحن تحت القبة الشاهقة التى تبدو من بعيد متناسقة متكاملة مع المئذنة، محفورة عليها زخارف نباتية من الحجر نفسه، رؤيتها من بعيد شىء، والوقوف تحتها شىء آخر. القبة تحتها الضريح دائماً، القبة رمز ومعنى، أما الرمز فلقبة الكون الكبرى، لقبة السماء الزرقاء التى يحدها الأفق ويجعلها أيضاً تبدو لا نهائية، وهى معنى لأن الراقد تحت الضريح، ولى من أولياء الله الصالحين كان، أو ملكاً، أو أميراً، أو شيخاً فقيهاً محدثاً، مضى عن هذه الدنيا إلى العالم الآخر، وهذه القبة التى هى رمز للكون تعنى الأبدية أيضاً. وللقباب فى المعمار الإسلامى شأن عظيم لنا معه وقفة أخرى، لكن الذى يعنينى من قبة قايتباى أنها نهاية مطاف فى تطور طويل، فى قبة قلاوون يقوم البناء على أربعة مداميك، وأربعة أعمدة جرانيتية لابد أنها كانت جزءاً من معبد فرعونى ذات يوم، ولكن فى قبتى خانقاه فرج بن برقوق، وقايتباى، يقوم البناء هنا على فراغ، على الهو، نعم.. على اللا مادة، تبدأ جدران القبة من الأرض مربعة وترتفع بما يوازى ارتفاع أربعة طوابق من بناء حديث، وعند نقطة معينة تبدأ المقرنصات، إنه الحل الهندسى العبقرى الذى توصل إليه المهندس المصرى المسلم للانتقال من الشكل الرباعى إلى الشكل الدائرى للقبة. والمقرنص كلمة لم يحسم العلماء أصلها حتى الآن، وإن كنت أميل إلى رأى الدكتور عبدالعزيز مرزوق فى كتابه «الفنون الزخرفية الإسلامية»، حيث يقول إن أصلها لفظة «مقرفص» للتشابه الغريب بين حنية المقرنص وبين الجالس القرفصاء، أما فى قاموس لسان العرب، فالمقرص صفة للبازى المعد للصيد أو المربوط ليسقط ريشه، وما من صلة بين معنى الكلمة فى لسان العرب، وشكل المقرنص المعمارى، أما ما يقوله دياز DIAZ فى دائرة المعارف الإسلامية إن الكلمة مأخوذة عن كورنيس اليونانية أى كورنيش، فهذا تحليل واه وكلام فارغ. المقرنص حل معمارى إسلامى خالص، لا تراه فى أى معمار آخر فى العالم، يتكون من وحدات متصلة، منفصلة، نفس القانون الذى يحكم فن الزخرفة العربية، كل وحدة مستقلة بنفسها، ومتصلة بما بعدها، يمكن أن يستمر التكرار بلا نهاية تماماً كاستمرار الزمنى الأزلى، ويمكن أن تتوقف الوحدة أو الوحدات عند أى نقطة فيكتمل الشكل الزخرفى أو الهندسى، تماماً كالزمن الفردى المحدود ببداية ونهاية. ما من شىء يعكس المفهوم الإسلامى للزمن وللحياة كالفن العربى الذى اصطلح على تسميته بالأرابيسك. المقرنص الواحد يشبه محراباً صغيراً، أو جزءاً طولياً منه، تتعدد أشكاله، يذكرنا فى العموم ببيوت النحل، فى الأركان الأربعة لقبة قايتباى تطل علينا المقرنصات الرقيقة المتراكمة فى حركة صاعدة إلى أعلى، وفى الوقت نفسه إذا وصلنا بالبصر إلى نهايتها يخيل إلينا أنها هابطة من أعلى إلى أسفل، المهم أنها نقطة محورية فى البناء ومرحلة تتدرج فيها الجدران من المربع إلى الدائرى، حيث تبدأ القبة التى تميل جدرانها حتى تلتقى كل جهاتها عند المركز الشاهق الذى يعلوه الجوسق النحاسى من الخارج، وأحياناً يطل العنصر الفرعونى بشدة وإلا فماذا يعنى هذا القارب الموجود فوق قبة مولانا الإمام الشافعى، أو قبتى فرج بن برقوق؟!. ما من مرة أقف تحتها إلا وينتابنى فى البداية إعجاب ودهشة، كيف واتت الجرأة المعمارى المصرى العبقرى بلوغ الارتفاع الشاهق بدون أعمدة، صعد بالجدران والقبة مستنداً إلى الهواء، إن الأمر يحتاج إلى دقة هائلة وإلى قوة خيال أيضاً، وهذا كله وراءه طاقة من الإيمان ورؤية يريد المعمارى هنا أن يشعرك باللانهائية إذا تطلعت إلى أعلى صوب الخالق الأعظم.. وحقاً قد نجح، فرغم أن القبة مصنوعة من المادة ومن الحجر فإن الواقف تحت المركز مهما حاول فلن يدرك نهاية القبة، هذا الفراغ الشاهق، المنطلق من الأرض إلى العلو، وكالسهم لا يحد منه شىء حتى القبة نفسها، لا أقدر على إطالة النظر إلى لحيظات معدودات بعدها يرتد بصرى إلى الأرض متعباً مرهقاً. لا فائدة، فالكينونة المادية لن تبلغ أبداً المركز والسمة. وقد شاء المعمارى أن يشعرك أيضاً بمحدودية الحياة الدنيا وقصرها، هذا هو ضريح سلطان عظيم حكم تسعة وعشرين عاماً كاملة، وكان عصره مزدهراً، قوياً ها هو تحت الأرض، مجهول للكثيرين، وحقاً. لكم عجبت لشعبنا المصرى العظيم، البناء هنا رائع والقبة هائلة، ومع ذلك لا يقف أحد الزوار البسطاء ليقرأ الفاتحة خصيصاً على روح أى سلطان مدفون، وإن فعل يقول «لأرواح موتى المسلمين عامة»، ومع ذلك فإن الجموع تتزاحم حول أضرحة الأولياء والمشايخ الذين يجلهم الناس، إذا أردنا أن نعرف الفرق، فلنزُر القباب التى دفن تحتها السلاطين والأمراء، مثل قايتباى وقلاوون، وبرقوق، والمؤيد، والقباب المدفون تحتها الأولياء والمشايخ، مثل الحسين، والسيدة زينب، يوم الجمعة الماضى مضيت إلى زيارة أمى وأبى - رحمهما الله - المدفونين على مقربة من سيدى الليثى، وسيدى عقبة، وسيدى ذى النون، والإمام الأعظم الشافعى، انتهيت إليه، جلست أمام ضريحه، تحت قبة هائلة الجمال، عظيمة البنيان، مجمع للفنون الإسلامية كافة، رحت أرقب الطائفين بالضريح، وتطلع الرجال والنساء والأطفال، وتمسحهم بأعتابه، على بعد متر واحد يقوم ضريح الملك الكامل، والملكة شمس، ولكن عبور الجمع أمامهما سريع، أدركت إلى أى حد يجهل المثقفون منا شعبهم، وأدركت إلى أى حد أفسدت النظريات علينا حياتنا إلى واقعنا الحقيقى، إلى علاقة الشعب المصرى الخاصة جداً، والطويلة جداً بقديسيه، فراعنة كانوا، أو مسيحيين، أو مسلمين.

تحت قبة الإمام الشافعى لاتزال الحياة تتدفق، ومجراها يسيل، تحت قبة قايتباى يزداد الإحساس بالفناء والعدم، ويبدو أن الملوك أدركوا ذلك، فتوسلوا بالأولياء ليذكرهم الناس، حتى إن بعضهم كان يدفن عند قدمى شيخ فقير صالح اعتقد الناس فيه. على الطرف الآخر من القبة يوجد مربع داخله حجر أسود عليه أثر قدم، يقال إنه، أثر قدم سيدنا وشفيعنا محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى هذا الأثر يسعى العشرات من البسطاء يومياً، يقبلونه، ويتبركون به، وقد يلتفتون إلى السلطان الراقد تحت تربة من الرخام البارد. كل ما فى القبة أصداء ورموز، فالمكان رمز للأول وللآخر، للبداية والنهاية، للحياة وللموت، والكلمات المكتوبة بخط عربى رائع متشابكة حول القبة، آيات بينات، النوافذ الملونة الموزعة على الارتفاع الشاهق، هنا أجمل وأرق مجموعة من النوافذ ذات الزجاج المعشق بالجبس، إحداها مستديرة ناحية الشرق، زجاجها أصفر، رمز للشمس ربما بعضها داخله أشجار خضراء، ربما رمز لشجر الجنة، فى الأعالى ست عشرة نافذة علوية شاهقة تنتظم حول القبة الدائرية، هناك فى أقصى الارتفاع أربع، كل منها تواجه جهة أصلية من جهات العالم. على امتداد النهار ينفذ الضوء، ولكنه لا يصلنا فى صورته الأصلية، إنما يلامس الجدران ملوناً، أتأمل البقع المتداخلة التى لا يمكن تصنيفها، فلا هى حمراء ولا صفراء ولا خضراء إنما هى ألوان لا وجود لمثلها فى العالم الحسى، إنما هى شفرات يستعصى فكها لأنها باختصار.. ليست من عالمنا. هكذا يتحول الحجر إلى همسة، والخشب إلى صدى، والكلمة إلى رمز، والوجود كله إلى حلم. يعلو على الضريح كرسى المصحف، من الخشب المطعم بالعاج، أما المصحف نفسه فيستقر الآن فى مبنى دار الكتب المصرية المطل على النيل والمعروف بالهيئة المصرية العامة للكتاب. أخطو تجاه الضريح، أقرأ له الفاتحة، فلم يكن قايتباى ظالماً، ولا غشوماً، هكذا عرفته من خلال تاريخه، ومن أصدق من ابن إياس المعاصر له، حتى نقف على بعض من ملامحه لنستعيد بعضاً منه، خاصة البداية والنهاية.

 فى كتاب «الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع»، يذكر السخاوى أن قايتباى ولد تقريباً سنة ثمانمائة وعشرين، أحضره إلى مصر تاجر الرقيق محمود بن رستم لذلك لقب بالمحمودى، اشتراه الأشرف برسباى سلطان مصر، ثم انتقلت ملكيته إلى السلطان الظاهر جقمق الذى أعتقه، وهكذا بدأ ارتقاء السلم المملوكى، يذكر السخاوى أن بعض الشيوخ الكرام تنبأوا له بأنه سوف يصير ملكاً، هكذا قال له المحب الطوخى، ومحمد العراقى شيخ خانقاه سرياقوس الذى قالها صريحة فى وجهه: استفق فإنك الملك وكن من الله على حذر وإيقان. وتلك نبوءة تعرض للقتل، فقد كان سلاطين المماليك يخشون الأمراء الأقوياء الذين يمكن أن يخلفوهم ويحاولوا سلطنتهم. تقول مصادر التاريخ إن المنجمين قالوا للسلطان الغورى إن من سيخلفه على عرش مصر يبدأ اسمهم بحرف السين وسرعان ما بدأ الغورى يتعقب الأمراء الأقوياء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف السين ويعمل على تصفيتهم خاصة سيباى نائب الشام، لكن الغورى لم يفكر قط فى سليم العثمانى الذى غزا مصر وحوّلها إلى ولاية تابعة للأستانة وقتل الغورى نفسه! أحد الصالحين رأى حلماً أخبر عنه، إذ شاهد شجرة رمان عليها ثمرة واحدة فقط وقايتباى يمد يده ليقطفها، لكن قايتباى أمره بكتمان ما رأى.. طبعاً تحوطاً وحذراً. يقول ابن إياس إنه فى رجب سنة ٨٧٢هـ، قرر الأمراء خلع السلطان تمربغا، ومبايعة الأتابكى قايتباى وتلقب بالملك الأشرف، وعندما تقدموا إليه بشعار الملك، العمامة السوداء، والجبة السوداء المطرزة بالذهب والسيف البداوى، تمنع وبكى، وألبسوه الشعار غصباً، وهو يتمنع غاية الامتناع. لا نعرف هل كان تمنعه هذا ناتجاً عن رهبة حقيقية من المسؤولية الجديدة، أو أنه كان يتظاهر، أى يمثل، المهم أننى لاحظت أن الذين تمنعوا وبكوا من سلاطين المماليك هم الذين قضوا أطول الفترات فى الحكم، أمضى قايتباى حوالى تسع وعشرين سنة، ومات على فراشه وهذا أمر نادر فى العصر المملوكى، لم تقطع رأسه ولم يخوزق ولم يدس أحدهم السم له. بلاشك كان عصره أزهى الأزمنة المملوكية وكان بداية النهاية أيضاً التى اكتملت عام ٩٢٢هـ على يدى سليم العثمانى. كان قايتباى سلطاناً عظيماً، يذكرنا بملوك مصر الأقدمين رمسيس الثانى، وتحتمس، وأحمس، الحقيقة أن سلاطين المماليك كانوا فراعنة مسلمين، وأنا أقصد المضمون الثقافى والسياسى الذى استمر على امتداد التاريخ المصرى، ولهذا تفصيل طويل!  أتطلع إلى القبر، إلى الضريح الرخامى المهمل، أستيعد صوت ابن إياس وهو يصف موكب توليه السلطنة: «فلما ركب سار ومشت قدامه الأمراء بالشاش والقماش، وركب الخليفة عن يمينه، وسار حتى طلع من باب سر القصر الكبير، فلما طلع جلس على سرير الملك، وقبل له الأمراء الأرض، وذلك يوم الاثنين سادس رجب من السنة المذكورة، قيل ولى الملك وله من العمر أربع وخمسون سنة..». يبدأ إذن عصر قايتباى، وتصل الفنون فيه إلى مستويات رفيعة، هذه القبة شاهد عليها، هذا التناسق، هذه الدقة التى تعتبر طابعاً للمكان كله، خلال سنوات حكمه بدا قايتباى كبناء عظيم، انتشرت منشآته فى مصر والشام والحجاز، ويضيق المجال عن حصرها، لكن أهمها بلا شك هذا المسجد، وقلعته الشهيرة فى الإسكندرية القائمة حتى يومنا هذا التى قامت على أنقاض منارة الإسكندرية وإعادة بناء المسجد النبوى الشريف فى المدينة المنورة بعد الحريق الذى شب فيه، ومازال البناء الذى شيده قايتباى يشكل النواة الأساسية للمسجد ولشخصيته المعمارية، عديدة ومهمة منشآت قايتباى المعمارية، كثيرة تفاصيل الأحداث التى تخللتها مدته، ونصل إلى النهاية مع ابن إياس إذ يقول: «فلما كان يوم الأحد سابع وعشرين ذى القعدة من سنة إحدى وتسعمائة، فيه كانت وفاة الملك الأشرف أبوالنصر قايتباى المحمودى الظاهرى، توفى إلى رحمة الله تعالى فى ذلك اليوم بعد العصر وبات بالقلعة، وأخرج صبيحة يوم الاثنين ثامن عشرين فتوفى وله من العمر نحو من أربع وثمانين سنة ومات بعلة الدبلة، واعتراه علة البطن أيضاً، وامتنع عن الأكل مدة انقطاعه حتى مات». وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر وواحدًا وعشرين يوماً، بما فيه من مدة انقطاعه عند تودعك جسده. يقول ابن إياس إنه عاش عمره كله وهو فى عز وشهامة، من حين كان خاصكياً إلى أن بقى سلطاناً ولا نُفِىَ قط، ولا تقيد ولا سُجن، وكان عليه سكينة ووقار، مهاب الشكل فى العيون، جميل الهيئة، مبجلاً فى موكبه، كفوا للسلطنة، وافر العقل، سديد الرأى، عارفاً بأحوال المملكة، يضع الأشياء فى محلها. حسناً يا شيخنا العظيم ابن إياس.. فلتستمر فى سردك، ولأقرأ أنا الفاتحة على روح السلطان الذى دونت هذا عنه، فقد أصبح تحت تراب هذه القبة، وأنت أيضاً فى مكان ما من هذه الأرض، مازلت أجهله ولم أستدل عليه،

This site was last updated 09/17/09