Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

اكتتاب الوالى كيرينيوس

 إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
اكتتاب الوالى كيرينيوس
هيرودس الكبير

 

هل اخطأ لوقا في موضوع اكتتاب كيرينيوس ؟ لوقا 2: 1 و متي 2: 2
المصدر العلامة : Holy_bible_1
الشبهة
يتعارض مع ما جاء في لوقا 2 :1 و2 مع ما جاء في متى 2:2 » 3فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. «..
فقد ورد في لوقا 2:2 »1وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. 2وَهذَا الاكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. 3فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. «. وهذا خطأ، لأن المراد بكل المسكونة إما أن يكون جميع ممالك سلطنة روما، وهو الظاهر، أو جميع مملكة يهوذا.
ولم يصرح أحد من قدماء المؤرخين اليونانيين الذين كانوا معاصرين للوقا أو متقدمين عليه قليلاً في تاريخه هذا الاكتتاب الذي سبق ولادة المسيح، وإذا ذكره أحد الذين كانوا بعد لوقا بمدة مديدة فلا سند لقوله، لأنه ناقل عنه. وبصرف النظر عن ذلك، كان كِيرِينِيُوسُ والي سورية بعد ولادة المسيح بخمس عشرة سنة.
الرد
لم يخطئ لوقا في موضوع الاكتتاب بل كلامه يثبت صحة بشارته وانه كان معاصر للاحداث وهذا لان بالفعل حصل هذا الاكتتاب وتكلم عنه الاباء وايضا اكتشف اثاره بعض العلماء حديثا واثبتوه
كيرينيوس والي سوريا
Κυρήνιος
Publius Sulpicius Quirinius
هو قائد روماني واحد مشيري اغسطس قيصر واصبح سيناتور حكم سوريا اولا كقائد عسكري قبل الميلاد تقريبا سنة 3 ق م ثم عاد وحكمها مرة ثانية وعين واليا علي سوريا من سنة 6 الي 11 م
وهو ولد سنة 51 ق م ومات سنة 21 م
وهو من الامراء واظهر براعه في الحرب فكافؤه اغسطس قيصر الي رتبة مشير سنة 12 ق م
وكان معروف انه حكم كوالي بعد الميلاد ولكن قبل الميلاد كان مشكوك في الي ان ثبت تماما
من اللوحة اللاتينية التي وجدت مشوهة في تيفولي قرب رومة والتي أصلحها علماء آثار من الطبقة الأولى منهم مومسن ورامساي وروس فأظهرت كتابتها أن كيرينيوس كان والياً على سوريا في التاريخ المذكور.
Ostracon, recording a part of Quirinius' census. Nationalbibliothek, Vienna.
وهو بالفعل جاء اثناء هيرودس الكبير الي سوريا اثناء حملته العسكرية التي قام بها ضد هومونادينيس التي استمرت منذ سنة 6 الي 3 ق م وكان مكانها في غلاطيه فهو غالبا استمر في سوريا من 6 الي 1 ق م
ورتبته في سوريه
Duumvir
وفي مدة هذه الولاية الأولى جرى الاكتتاب الأول (لو 2: 2). الذي ألزم يوسف ومريم بالحضور إلى بيت لحم.
وفي فترة هيرودس ارخيلاوس جاء وحكم اليهودية سنة 6 م باوامر من روما ثم صار اكتتاب ثانٍ سنة 6 م. يُذكر في (اع 5: 37) وفي يوسيفوس في كتاب الانتيك الفصل 18 وهذا الاكتتاب الثاني لم يشمل الجليل ولكن اليهودية
وهي الفتره التي نزع فيها القضاء من اليهود ومنعهم من تنفيز العقوبات حسب شريعتهم
اكتشاف هذه اللوحه تم سنة 1912 م كما قلت بواسطة رامسي
W M Ramsey
وهو كان بالاكثر حاكم عسكري
وايضا وثيقه اخري اكتشفت سنة 1764 بالقرب من تيبور ويعود زمنها الي 14 م وتتكلم عن كيرينيوس الذي حكم سورية مرتين ووصفته بانه محارب قوي ومشير
كما أثبت السير رمزى ايضاً من البرديات أن الدورة بين كل اكتتاب فى الدولة الرومانية، والاكتتاب الذى يليه، كانت أربعة عشر عاماً (وهناك الكثير من السجلات عن هذه التعدادات منذ عام 20 م وما بعدها)، ويقول أن الاكتتاب الأول جرى بأمر أوغسطس فى السنة الثامنة قبل الميلاد ، وكان مأذوناً لهيرودس – كملك تابع للقيصر- أن يجريه حسب العوائد اليهودية ، وليس حسب العوائد الرومانية ، والأرجح أن الاكتتاب تأخر بضع سنوات فى الولايات، وهكذا ثبتت دقة لوقا وأمأنته بصورة رائعة
وقد أشار اليه ترتليان Tertullian ان هذا الاحصاء تم في 3-2 قبل الميلاد.
وايضا اشار اليه يوسابيوس القيصري في كتاب تاريخ الكنيسه
أكليمنضس الإسكندرى الذى قال : " بأن المسيح ولد بعد غزو مصر بثمانية وعشرين سنة (وتم عزو فى السنة 28 وإخضاعها وموت أنطونيوس وكليوباترا وبموتهما أنتهى حكم البطالمة على مصر) "
ويتفق أيضاً مع رأى ابيفانيوس
إيريناوس وترتليانوس قالا ان السيد المسيح ولد فى سنة 751 لبناء روما أى فى سنة 2 ق . م .
وأكد إيرنست مارتن بأنَّ كيرينيوس والي سوريا إستلمَ أوامر رومانية خاصّة للقيام يهذا الإحصاءِ في كافة أنحاء منطقة سيادته. إحصاء السكان هذا كان أحد أهم إحصاء في التاريخ.
هذا إلإحصاء السكاني الذي تم في 3-2 قبل الميلاد، كان في الحقيقة قسم ولاء بطلب مِن أوغسطس قيصرِ وأعلن أثناء صيف سنة 3 قبل الميلاد. ونظراً لأن يوسف ومريم كانا من نسل داود، وكلاهما يعتبران قانونياًَ تابعين لمدينة بيت لحم مدينة داود. لذا ترتب عليهم القيام بالرحلةَ إلى بيت لحم. هذا يتوافق تماماُ مع الأحداث المذكورة في لوقا 2: 1- 7
في 5 فبراير/شباط سنة 2 ق.م، حصل أوغسطس على لقب " Pater Patriae (Father of the Country) " (أبّ البلادِ) بمرسوم من مجلس الشيوخ وشعب روما وتزامن هذا باليوبيل ال 25 سنة لأوغسطس كإمبراطورِ لروما
ونص كلام لوقا البشير
انجيل لوقا 2
2: 1 و في تلك الايام صدر امر من اوغسطس قيصر بان يكتتب كل المسكونة
وهو حكم روما من سنة 27 ق م الي 14 م وكان لقبه اغسطس اي المبجل وهذا لقب شبه تاليه له وهو اكتافيوس كايبياس
وتعبير كل المسكونة
G3625
οἰκουμένη
oikoumenē
oy-kou-men'-ay
Feminine participle present passive of G3611 (as noun, by implication of G1093); land, that is, the (terrene part of the) globe; specifically the Roman empire: - earth, world.
ارض ( قطعه من او منطقه من ) المسكونة وبخاصه الامبراطورية الرومانية , الارض , العالم
فهو تعبير يصلح ان يلقب به منطقة او امبراطوريه فقط او الارض كلها وهنا يقصد به جميع الدول الخاضعة للدولة الرومانية التي كانت تسيطر على العالم المتمدن في ذلك الحين. وكان التعداد لإشباع شهوة عظمة الإمبراطور ليبرز امتداد نفوذه وسلطته وأيضاً ليستفيد من التعداد في موضوع الضرائب والجزية والتجنيد وبخاصه ان هذه الفتره كان هناك حروب وهو يريد تجندي الكثيرين
2: 2 و هذا الاكتتاب الاول جرى اذ كان كيرينيوس والي سورية
كلمة اكتتاب هي
G582
ἀπογραφή
apographē
ap-og-raf-ay'
From G583; an enrollment; by implication an assessment: - taxing.
اي تسجيل واحصاء وادخال وللضرائب فغرض هذا هو ان الذين اعمارهم مناسبه يجبروا علي الجيش وايضا يحصي الكل لكي لا يتهرب احد من الضرائب وبخاصه ان الامبراطورية في حالة حرب ولكي يعرف الامبراطور حجم شعبه
ولهذا كان هذا الاكتتاب اجباري
وبالفعل كيرينيوس كان والي في هذه الفتره الاولي من 6 ق م الي 1 ق م قبل ولايته فتره ثانية من 6 م الي 11 م وهو يشرف جزئيا علي هيرودس لتنفيز هذا الامر
ولهذا لوقا البشير استخدم تعبير يوناني دقيق وليس المعتاد لمعني والي
G2230
ἡγεμονεύω
hēgemoneuō
Thayer Definition:
1) to be leader, to lead the way
2) to rule, command
2a) of a province, to be governor of a province
2b) said of a proconsul, of a procurator
Part of Speech: verb
A Related Word by Thayer’s/Strong’s Number: from G2232
اي حاكم عسكري وهي مستمده من لقب حاكم عام
وهذه الكلمه استخدمت ثلاث مرات في العهد الجديد فقط بواسطة لوقا البشير ليقصد بها حاكم عسكري وليس والي
G2232
ἡγεμών
hēgemōn
hayg-em-ohn'
From G2233; a leader, that is, chief person (or figuratively place) of a province: - governor, prince, ruler.
فهو كان ينفز اوامر اغسطس قيصر في الاحصاء وجمع الضرائب
ولهذا لوقا البشير كان دقيق جدا اولا في تحديد من هو المشرف علي الاكتتاب وتحديد سبب رحلة العائله من الجليل الي بيت لحم وتحديد ايضا فترة ميلاد الرب يسوع المسيح
2: 3 فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد الى مدينته
و كان الاكتتاب بحسب النظام الروماني يمكن أن يتم في أي موضع دون حاجة لانتقال إنسان إلى مدينته التي نشأ فيها. لكن الرومان وقد أرادوا مجاملة اليهود أمروا بإجرائه حسب النظام اليهودي، حيث يسجل كل إنسان اسمه في موطنه الأصلي، فالاكتتاب عند اليهود يكون بحسب الأسباط فالعشائر فالبيوت فالأفراد، وذلك لإهتمام اليهود بالأنساب.
وهكذا التزم يوسف ومريم أن يذهبا إلى بيت لحم في اليهودية لتسجيل اسميهما لكونهما من بيت داود وعشيرته. وكان تنفيذ الأمر شاقاً على يوسف الشيخ ومريم الحامل، خاصة وأن المدينة قد اكتظت بالقادمين فلم يجدوا موضعاً في فندق واضطرا أن تلد القديسة مريم في المذود هناك. وهنا نجد أن الله يستخدم الأمر الإمبراطوري بالتعداد والتقاليد اليهودية بان التعداد يكون كل حسب سبطه ومدينته ومجاملة الرومان لليهود في هذه النقطة ليظهر أن المولود يسوع هو نسل داود الذي تنبأ عنه الأنبياء. وبولادته في بيت لحم تتحقق نبوة ميخا (2:5)
2: 4 فصعد يوسف ايضا من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود و عشيرته
كما رأينا من دراستنا في سلاسل الأنساب أن يوسف ومريم كانا كلاهما من سبط يهوذا ومن بيت داود، وكانت العادة اليهودية أن يتزوج الرجل امرأة من سبطه وبهذا نثق في أن المسيح طلع من سبط يهوذا (عب14:7) صعد فأورشليم أعلى وجغرافياً
2: 5 ليكتتب مع مريم امراته المخطوبة و هي حبلى
وبالطبع هذا الاكتتاب يختلف عن الاكتتاب الثاني الذي اشار اليه ايضا معلمنا لوقا البشير في
سفر اعمال الرسل 5
5: 37 بعد هذا قام يهوذا الجليلي في ايام الاكتتاب و ازاغ وراءه شعبا غفيرا فذاك ايضا هلك و جميع الذين انقادوا اليه تشتتوا
وهذا اكد لنا دقة معلمنا لوقا البشير وايضا بالطبع دقة الكتاب المقدس وحتي الامور التي اختفيت من التاريخ ومحيت ظلت دقيقه في الانجيل حتي اعيد اكتشاف معظمها مره اخري
المعني الروحي
من تفسير ابونا تادرس يعقوب واقوال الاباء
القدِّيس كيرلس الكبير
v ماذا يفيدني هذا الأمر الذي يرويه بخصوص " الاكتتاب الأول" للمسكونة كلها في عهد أوغسطس قيصر، حيث أخذ يوسف مريم زوجته الحامل وذهبا وسط كل العالم ليُسجِّلا في هذا السجل الخاص بالاكتتاب عن مجيء يسوع إلى العالم؟
كان مجيئه يدل على سرٍّ، إذ كان يجب أن يُسجِّل اسم يسوع في هذا الاكتتاب، يسجل مع الكل لكي يخلِّص كل البشريّة ويقدِّسها واهبًا إيَّاهم أن يعيشوا معه في حياة واحدة! كان يريد بهذا السجل أن تُسجَّل أسماء الكل معه في سفر الحياة (في 4: 3)؛ كل الذين يؤمنون به يكتب أسماءهم في السماوات (لو 10: 20) مع القدِّيسين[88].
العلامة أوريجينوس
v ما هي العلاقة بين صدور أمر من سلطة بشريّة وميلاد المسيح إلا الإعلان عن التدبير الإلهي، فقد كان الأمر البشري مصدره المشيئة الإلهيّة، وكان يجب أن ينفذ باسم الملك السماوي لا الأرضي.
هنا يكمن عمل الإيمان باكتتاب النفس... إذ يليق بكل إنسان أن يُكتتب كل أيام حياته في المسيح... هذا الأمر بالاكتتاب لا يصدر عن أوغسطس بل عن المسيح للمسكونة كلها... إذ " للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها" (مز 23: 1). أوغسطس لم يحكم قبائل الغوط ولا الشعب الأرمني، أما المسيح فيملك على الجميع.
القدِّيس أمبروسيوس
انتقل القدِّيس يوسف مع القدِّيس مريم إلى " بيت لحم" الذي يعني " بيت الخبز" ، ليُولد هناك " خبز الحياة" . وقد سُجل اسمه مع البشر في الاكتتاب ليشاركنا كل شيء حتى في التعداد يُحسب كواحدٍ منا، إذ قيل: " وأُحصيَ مع آثمة" (إش 53: 12)، فنُحصَى نحن في كتابِه الإلهي، ونُحسب أصدقاؤه.
قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية
شرح كلمة / عدد الأنفس | إحصاء السكان
أي احصاء السكان- وهو تعدادهم وتسجيل مجموعهم، أما حسب العائلات أو المهن أو الاعمار. وقد ورد في الكتاب ذكر اثني عشر احصاء لبني اسرائيل (أحد عشر احصاءً منها في العهد اللقديم والاحصاء الاخير في العهد الجديد). وكانت اربعة من هذه الاحصائيات شاملة لبني إسرائيل كلهم:
(1) احصاء الشهر الثاني من السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر (عد ص 1). وقد بلغ عدد الجميع (عدا اللاويين) من القادرين على حمل السلاح (فوق العشرين من العمر) من الذكور 6033550 شخص (عد 1: 45-47 و11: 21). أما اللاويون فقد بلغ عددهم (من عمر فوق شهر). 2200 (عد 3: 39). (2) احصاء قبيل الدخول إلى ارض الكنعانيين أي بعد الاحصاء السابق بثمان وثلاثين سنة (عد 26: 51 و62) وقد جرى الاحصاء في شطيم في ارض موآب، ولم يكن عدد الرجال قد ازداد كثيرًا. فقد بلغ عدد اللاويين 23000 وغير اللاويين 601730 (عد 26: 1-51 و62).
(3) الاحصاء الذي أمر به داود بلغ عدد اليهود، من فوق العشرين 800000 من الإسرائيليين و500000 من بني يهوذا (2 صم 24: 9). وكان عدد اللاويين في ذلك الوقت، من فوق الثلاثين سنة 38000 (1 اخبار 23: 3).
وهذا العرض الاحصاءات الاخرى، وهي جزئية:
(1) احصاء بعد الخروج من مصر، في الشهر الثالث (أو الرابع) من بعد الخروج، لتنظيم أمور جمع المال لبناء خيمة للرب وكان على كل رجل أن يدفع نصف شاقل. وقد بلغ عدد البالغين من الرجال 603550 (خر 38: 26).
(2) احصاء عن عدد الجنود في القدس أيام رحبعام (1 مل 12: 21).
(3) احصاء عن عدد الجنود في يهوذا وإسرائيل أيام ابيا (2 اخبار 13: 3 و17).
(4) احصاء عن عدد المحاربين أيام آسا (2 اخبار 14: 8 و9).
(5) احصاء عن عدد المحاربين أيام يهوشافاط (2 اخبار 17: 14-19).
(6) احصاء عن عدد المحاربين أيام امصيا (2 اخبار 25: 5 و6).
(7) احصاء عن عدد المحاربين أيام عزيا (2 اخبار 26: 13).
(8) آخر احصاء في العهد القديم، بعد العودة من السبي من بابل، أيام زربابل (عز ص 2 ونح ص 7).
(9) أما الاحصاء الاخير في الكتاب المقدس (وهو الوحيد في العهد الجديد) فكان في الاكتتاب المقدس الذي جرى في عهد ولاية كيرينيوس على سورية بأمر من الامبراطور اغسطس قيصر قبيل ولادة المسيح (لو 2: 1).
 
 
 
 

***********

جاء في الكتاب المقدس في العهذ القديم نبوة عن هذا الاجراء، عن زمان مولد وظهور المسيح عند بدء خدمته وموعد صلبه:
"سبعون أسبوعاً قٌضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم وليؤتي بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين فأعلم وأفهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع وإثنان وستون أسبوعاً يعود ويبُنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعاً يٌقطع المسيح .. ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد، وفي وسط الأسبوع يُبطل الذبيحة والتقدمة، وعلى جناح الأرجاس مُخرّب حتى يتم ويُصَّب المقضي على المُخرِب" (دانيال24:9-27).
إتمام هذه النبوة: "وفي تلك الأيام صدر أمر أوغسطس قيصر بأن يُكتب كل المسكونة, وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس وإلى سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تُدعى بيت لحم بكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم أمرأته المخطوبة وهي حبلى وفيما هما هناك تمت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لها موضع في المنزل" (لوقا1:2-7).
عندما كانت مريم متقدمة في أيامها الأخيرة من حبلها المقدس، كانت تسكن مع يوسف البار في الناصرة (قرية جبلية تبعد عن بيت لحم مئة وعشرة كيلومترات).
في تلك الأيام صدر أمرا من أغسطس قيصر (31 ق.م – 14م)، بأن يكتتب كل المسكونة. وبالأخص كل المملكة الرومانية، ليعرف الإمبراطور عدد الخاضعين لسلطانه.
هذا الاكتتاب الأولى جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية. لأن السلطات الرومانية أمرت بإحصاء السكان، على أن يتم إحصاء كل فرد في البلد الأصلي الذي ينتمي إليه. وكان الرومان شأنهم شأن كل القوى العسكرية الكبرى يهتمون كثيرا بكفاءة التنظيم. فأمر الإمبراطور أغسطس قيصر أن يتم إحصاء كل الإمبراطورية.
وقد استغرق الإحصاء سنوات حتى اكتمل. وقد عارض كثيرون ذلك الإحصاء لأنه عطل مصالحهم اليومية، ولأن الأهالي لم يكونوا يريدون أن يعرفوا الرومان عنهم كثيرا. ولكن كان على كل عائلة أن ترجع لبلدها الأصلي للإحصاء. فمض كلهم ليكتتب كل واحد إلى مدينته. وتم ذلك بأن ذهب كل واحد إلى مكان ولاته وكيف اسمه في سجلات الحكومة.
هكذا ذهب الروماني إلى بلاد الرومان، واليوناني إلى بلاد اليونان والسرياني إلى بلاد السريان. وبما أن يوسف كان من نسل الملك داود، فقد اضطر هو ومريم للسفر إلى بيت لحم، مدينة الملك داود الأصلية.
يقول لوقا البشير في إنجيله: (فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم). تقع بيت لحم على بعد 6 أميال من جنوب القدس (بيت لحم: كلمة سريانية تعني بيت الخبز). لأن يوسف كان من بيت داود وعشيرته ومن قبيلته. ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى. ذهبت مريم مع يوسف إلى بيت لحم وبالرغم من حالتها الصعبة. نقرأ ذلك في إنجيل لوقا 2: 1-7 .
د. جبرائيل شيعا

******************

إن إنجيل لوقا، يذكر أن يوحنا المعمدان بدأ دعوته في السنة الخامسة عشر من حكم طيباريوس قيصر، وأن يسوع اعتمد بعد فترة وجيزة وكان له من العمر ثلاثين عامًا. ملك طيباريوس قيصر شراكة مع أخيه عام 11 ومتفردًا عام 14، وبالاعتماد على التقويم الأول يكون يوحنا قد بدأ دعوته عام 26-27 وبالتالي يحدد تاريخ ميلاد المسيح بالعام 4 قبل الميلاد؛[11][12] وهو يتفق بذلك مع إنجيل لوقا وإنجيل متى اللذان يذكران بأن المسيح قد ولد في عهد الملك هيرودس، والذي حدد معظم الباحثين تاريخ وفاته عام 4-3 قبل الميلاد، استنادًا إلى يوسيفوس فلافيوس. هناك دليل فلكي يعتدّ به عدد من الباحثين، فإن إنجيل متى، يذكر نجمًا عظيمًا ظهر تزامنًا مع ميلاد المسيح ولعلّه هو اقتران كواكب المشتري والزهرة والمريخ الذي تم نحو 6-4 قبل الميلاد. هناك نظرية أخرى، وهي الأقرب للتقليد، باعتبار المسيح، ولد نحو العام 2-0 قبل الميلاد، وتقوم على احتساب السنوات الخمس عشر لحكم طيباريوس قيصر من حكمه منفردًا عام 14، هذا يجعل العماد نحو 28-30 أي الميلاد نحو 2-0 قبل الميلاد/الميلاد، داعموا هذه النظرية يؤخرون تاريخ وفاة هيرودس الكبير لنحو العام 4 للميلاد.

^ متى ولد المسيح؟، الأنبا تكلا، 9 ديسمبر 2012.
^ حساب ميلاد المسيح استنادًا إلى التأريخ القبطي، الكنيسة القبطية الكاثوليكية، 9 ديسمبر 2012.

**************


الفصل الخامس الميلاد بين التقليد والحقائق التاريخيّة والجغرافيّة
تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 18 أيلول/سبتمبر 2012 17:23 | طباعة | البريد الإلكتروني | الزيارات: 585

الفصل الخامس

الميلاد بين التقليد والحقائق التاريخيّة والجغرافيّة



-الميلاد في الأناجيل المقدّسة

رواية متّى


يجدر بنا أولاً ان نعرض رواية الميلاد وما رافقها من أحداث، كما جاءَت في الأناجيل القانونية، وبالتحديد في إنجيلي متى ولوقا، لان مرقس ويوحنا لم يتحدثا عن ولادة المسيح


جاء في إنجيل متى، بعد جدول نسَب يسوع الذي يفتح الكتاب، ما يلي


"أما ميلاد يسوع المسيح، فهكذا كان: لمّا كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف، وُجدت قبل أن يتسَاكنا حاملاً من الروح القدس. وكان يوسف زوجها بارّاً، فلم يرد أن يشهر أمرها، فعزم على أن يتركها سرّاً. وما نوى ذلك حتى تراءى له ملاك الربّ في الحلم وقال له: يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأتي بامرأتك مريم الى بيتك، فإن الذي كوّن فيها هو من الروح القدس، وسَتلد ابناً فسَمّه يسوع، لانه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم. وكان هذا كلّه ليتمّ ما قال الربّ على لسَان النبيّ: "ها إن العذراء تحمل فتلد ابناً يسَمّونه "عمّانوئيل" أي "الله معنا". فلمّا قام يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ، فأتى بامرأته الى بيته، على أنه لم يعرفها حتى ولدت ابناً فسمّاه يسوع


"ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهوديّة، في أيام الملك هيرودس، إذا مجوس قدموا أورشليم من المشرق وقالوا: أين ملك اليهود الذي ولد؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنسجد له. فلما بلغ الخبر الملك هيرودس، اضطرب واضطربت معه أورشليم كلّها. فجمع عظماء الكهنة وكتبة الشعب كلهم، واستخبرهم أين يولد المسيح. فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، فقد أوحي الى النبيّ فكتب: "وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل


"فدعى هيرودس المجوس سرّاً وتحقّق منهم في أي وقت ظهر النجم. ثم أرسلهم الى بيت لحم وقال: إذهبوا فابحثوا عن الطفل بحثاً دقيقاً، فإذا وجدتموه فأخبروني لأذهب أنا أيضاً وأسجد له. فلما سَمعوا كلام الملك ذهبوا. وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. فلما أبصروا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً. ودخلوا البيت فرأوا الطفل مع أمه مريم. فَجَثَوْا له سَاجدين، ثم فتحوا حقائبهم وأهدوا اليه ذهباً وبخوراً ومرّاً. ثم أوحي إليهم في الحلم الاّ يرجعوا الى هيرودس، فانصرفوا في طريق آخر الى بلادهم


"وكان بعد انصرافهم أن تراءى ملاك الربّ ليوسف في الحلم وقال له: قم فخذ الطفل وأمه واهرب الى مصر وأقم هناك حتى أعلمك، لان هيرودسَ سيبحث عن الطفل ليهلكه. فقام فأخذ الطفل وأمه ليلاً ولجأ الى مصر. فأقام هناك الى وفاة هيرودس، ليتم ما قال الربّ عن لسَان النبيّ: "من مصر دعوت ابني


"فلما رأى هيرودسَ أن المجوس سخروا منه، استشاط غضباً وأرسل فقتل كلّ طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سَنتين فما دون ذلك، بحسَب الوقت الذي تحقّقه من المجوس. فتمّ ما قال الربّ على لسَان النبي إرميا: "صوت سُمِعَ في الرامة، بكاء ونحيب شديد. راحيل تبكي على بنيها، وقد أبت أن تتعزّى لانهم زالوا عن الوجود


"وما إن توفي هيرودس حتى تراءى ملاك الربّ في الحلم ليوسف في مصر، وقال له: قم فخذ الطفل وأمّه واذهب الى أرض اسرائيل، فقد مات من كان يريد إهلاك الطفل. فقام فأخذ الطفل وأمّه ودخل أرض إسرائيل. لكنه سَمع أن أرخلاّوس خلف أباه هيرودس على اليهوديّة، فخاف أن يذهب اليها. فأوحي اليه في الحلم، فلجأ الى ناحية الجليل. وجاء مدينة يقال لها الناصرة فسَكن فيها، ليتمّ ما قيل على لسَان الأنبياء: إنه يدعى ناصريّاً…". (إنجيل متى 1: 18-25؛ والفصل الثاني بكامله، مع الحواشي والشروحات


النسخة الجديدة، في تعليقها على أحداث الميلاد هذه، في رواية متى، توضح بعض الأمور على الشكل التالي. في تعليقها على 1: 18 "أمّا ميلاد يسوع المسيح"… تقول: "… إن أمر الميلاد الشرعي يشير الى أن يوسف قبل يسوع في سلالته. لا شك أن هذه الرواية هي نتيجة تأمل لاهوتي طويل. ومن الراجح أن متى استند الى أحلام يوسف (راجع متى 2: 13 و 19) يشير الله فيها، من خلال اعترافات يوسف، الى الافتراءَات المتعلّقة بالميلاد من بتول. واستشهد متى بنبؤة اشعيا (اشعيا 7: 14) المعبّرة عن ميلاد المسيح من عذراء (راجع أيضاً لوقا 1: 26-38). وبذلك أجاب متى عن السؤال الذي يطرحه النسَب: فيسوع هو من سلالة يوسف مع كونه مولوداً من عذراء". (النسخة الجديدة ص 37، حاشية رقم 5


وفي تعليقها على الآية 19 "وكان يوسف زوجها"، توضح النسخة الجديدة فتقول: "كان الشاب والشابة المتواعدان بالزواج يُعدّان زوجين حتى قبل المسَاكنة، وكان الطلاق الشرعي وحده يفسَخ الوثاق الذي يربطهما". (النسخة الجديدة، ص 37، حاشية رقم 6


وفي تعليقها على الآية 20 "وما نوى (يوسف) ذلك حتى تراءى له ملاك الرب في الحلم"، تقول: تدلّ هذه التسمية "ملاك الرب"، كما في العهد القديم، على تدخّل الله نفسَه (التكوين 16: 7 و 13 والخروج 3: 2). لا بدّ من التمييز بين "ملاك الرب" "والملائكة". (النسخة الجديدة ص 38، حاشية رقم 8


وفي تعليقها على الآية الاولى من الفصل الثاني: "ولمّا ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام الملك هيرودس" تقول: ولد هيرودس الكبير حوالى السَنة 73 قبل المسيح. كان ابن انتيباتر، خازن يوحنا هرقانس الثاني (63-40 ق.م). فعيّنه الرومانيون في السَنة 47 قائد حرس الجليل، ثم قائد حرس البقاع، وفي السَنة 41 أمير الربع على اليهوديّة، وفي السَنة 40 عيّنه مجلس الشيوخ الروماني ملكاً على اليهوديّة. استولى هيرودس الكبير على أورشليم في السَنة 37 وأباد الحشمونيّين، وحصل من القيصر على طراخونيطس وباشان وحوران في شمال فلسطين. عرف بمهارته السياسيّة وبكثرة المدن الهلّينسَتية التي بناها واعتمد على حزب الفرّيسيّين. توفي في السّنة 4 ق.م.، علماً بأن يسوع المسيح ولد قبل وفاة هيرودسَ بسنتين!… ومتّى يجعل صلة بين هيرودس الملك ويسوع، مشيراً بذلك الى النزاع الذي سيقوم بين السلطات الرسميّة والملك الحقيقي الذي سَيخلّص شعبه (متى 1: 21 و 2: 2). وهناك موضوع آخر ينفرد به متى، هو أن الذي تنبذه سلطات الشعب تسجد له الأمم الوثنية المتمثّلة بالمجوس…" (النسخة الجديدة، ص 38، الحاشية رقم 1). وفيما يخصّ كلمة "مجوس"، تعلّق النسخة الجديدة فتقول: كان لكلمة "مجوس" اليونانية معانٍٍ مختلفة: كهنة فرس وسَحرة ودعاة دينيّون ومشعوذون… ولم ترد في الترجمة اليونانية للكتاب المقدّس الاّ في سَفر دانيال (2: 2 و 10). وقد تدل هنا (في إنجيل متى) على منجّمين من بابل، لربّما كانوا على صلة بالمشيحيَّة اليهودية…! (صفحة 38، الحاشية رقم 2). وهذا يوافق ما ذهبنا اليه سابقاً من أن الاسينيّين كانوا على اتصال متواتر مع جمعيات دينية شبيهة بهم في بلاد المشرق، وأن هذه الجمعيات الدينيّة المتطورة كانت تنضوي جميعها تحت لواء هرمس الكبير، هرمس الهرامسَة… (المنظمة الهرمسية الكونيّة…). ويسوع المسيح نفسه، ألم يكن، كانسان، على "رتبة ملكيصادق"، كاهن الإله الكنعاني إيل؟ كما يقول الكتاب المقدس نفسه وخاصة المزمور 110: 4، والرسالة الى العبرانيين الفصلان 6 و 7؟ والمعروف أن هرمس الاكبر هو أول مبشّر بديانة إيل، وان المنظمة الهرمسية الكونية تشكل الاستمرارية السرّانية لديانة الإله الواحد الكنعاني: إيل. والمسيح، للمرة الألف، هو "عمّانوئيل"، أي: إيل معنا، أو الله معنا، كما تنبأ اشعيا الكبير (7: 14) وكما جاء في الإنجيل المقدّس (متى 1: 23


وتعترف النسخة الجديدة نفسَها، في تعليقها على الآية 6 من الفصل الثاني من متى، والتي تقول: "وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل…"، تعترف فتقول: هذا النصّ مأخوذ من النبي ميخا (5: 1) بتصرّف…"! (ص 39، الحاشية رقم 5). وفي الواقع، نكرّر هنا ما فصَّلناهُ سَابقاً، نظراً لأهمية الموضوع: لقد تصرّف ناسخ متى وبالغ في التصرّف حتى وقع في التحريف مرتكباً ثلاثة اخطاء دفعة واحدة (؟!!) في القسم الاول من الآية: الخطأ الأول: ميخا يقول بالحرف الواحد: "وأنتِ يا بيت لحم أفراتة" – وناسخ متى يقول: "وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا"! لقد حذف الناسخ كلمة "أفراتة" (الهامّة جداً) واستبدلها بعبارة "أرض يهوذا"، مع انه لا وجود على الاطلاق "لارض يهوذا" في نصّ ميخا كلّه. الخطأ الثاني: ميخا يقول: "إنك أصغر عشائر يهوذا" – ومتى يقول: "لستِ أصغر ولايات يهوذا". وبين عبارة "إنكِ أصغر" وعبارة: "لستِ أصغر" فرق هائل! والخطأ الثالث: ميخا يقول: "عشائر يهوذا" أي قبائل يهوذا – وناسخ متى يلغي عبارة "عشائر يهوذا" ويستبدلها – هكذا وبكل بساطة – "بولايات يهوذا! في الحقيقة، هذا لم يعد تصرّفاً ولا حتى تحريفاً، بل هو تبديل وتغيير اساسي جوهري في النصّ! "فالعشائر" شيء، و"الولايات" شيء آخر تماماً. ومعروف أن ناسخ متى فعل كل ذلك ليبرهن أن يسوع هو المسيح المخلّص الذي كان ينتظره اليهود، وانه بالتالي ولد في بيت لحم أرض يهوذا. مع أن المسيح الذي كان ينتظره اليهود هو مسيح زمني دنيوي محارب يجعلهم ينتصرون على أعدائهم بقوة السلاح. أما يسوع المسيح فهو ابن الله الوحيد، رجاء الخلائق كلّها وانتظار الشعوب أجمعين، المخلص الوحيد للبشر وللكون الكبير بكامله… ويطيب لنا هنا أن نذكر بعض الصلوات المعبّرة وذات الطابع الشمولي والكونيّ التي ترددها أمنا الكنيسة المارونية خلال تسَاعية الميلاد فتقول: "يا رجاء الآباء وانتظار الشعوب، الذي بميلادك منحت الرجاء لبني البشر… يا كلمة الله الخارجة من فم الله لتكون حياة لكل انسان، الذي صرت خبزاً حيّاً وولدت في قرية الخبز (معنى اسم: بيت لحم) لتشبع جوعنا… أرسل الله ابنه الوحيد نوراً للأمم، واحتجب في حشى مريم ومنها تجسّم… تسعة اشهر حملت مريم بحامل الأكوان، ولم تحسّ منه بثقل لانه إله وانسان… قدّوس قدّوس قدّوس ربنا، وحيد اللاهوت ونور العالم، قدّوس قدّوس قدّوس الابن الذي اشرق بأمه مريم… أشرق بالجسد على بني آدم… وتقبّل السجود من كلّ الأمم…". إذاً، يسوع المسيح هو "انتظار الشعوب كلها"، "منح الرجاء لبني البشر أجمعين"، "إنه الحياة لكلّ إنسان"، "إنه النور للأمم"، "إنه نور العالم"، "أشرق بالجسد على بني آدم"، "وتقبل السجود من كل الأمم". فهل أبلغ وأصدق وأوضح من هذا الكلام الطقسي الماروني في وصف المسيح الحقيقي


وفي تعليقها على الآية 18 من الفصل الثاني من متى: "صوت سمع في الرامة، بكاء ونحيب شديد، راحيل تبكي على بنيها وقد أبت أن تتعزّى لأنهم زالوا من الوجود"، تقول النسخة الجديدة: "ترجمة بتصرّف لنصّ إرميا 31: 15 العبري، مع بعض الاقتباسات من النصّ اليوناني. راحيل، أم بني اسرائيل الشمال، تبكي على بنيها المجلوّين. وبيت لحم هي الموقع التقليدي لقبر راحيل… والرامة هي مكان تجمّع المنفيين المسوقين الى الجلأ (إرميا 40: 1)". (النسخة الجديدة، ص 40، الحاشية رقم 11). وهكذا تعترف النسخة الجديدة بأمور ثلاث غاية في الأهمية: الأمر الأول أن هناك تصرفاً من قبل ناسخ متى في ترجمة نص إرميا (31: 15) العبري، مع بعض الاقتباسات من النصّ اليوناني! الامر الثاني، وهو الأهم، إنها تعترف ان بيت لحم هي الموقع التقليدي لقبر راحيل كما جاء في سَفر التكوين (35: 19-20 و 48: 7). والأمر الثالث، وهو نتيجة للأمر السَابق، أن بكاء راحيل على بنيها قد حصل في الشمال حيث بيت لحم الحقيقية، وليسَ في الجنوب حيث بيت لحم اليهودية المعروفة اليوم، والتي بنيت بعد وقوع هذه الأحداث بمئات من السنين! والغريب، كما رأينا آنفاً، ان نسّاخ التوراة المتأخرين قد جعلوا قبر راحيل في جنوب أورشليم قرب بيت لحم المعروفة اليوم، مع ان سَفر التكوين ومن بعده سَفر يشوع يحدّدان موقع قبر راحيل في شمال فلسطين، قرب بيت لحم أفراته، أي في الجليل، في أرض زبولون! (تكوين 35: 19؛ 48: 7؛ يشوع 19: 15


وفي تعليقها على الآية 21 من الفصل الثاني من متى: "فقام (يوسف) فأخذ الطفل وأمّه ودخل أرض اسرائيل…"، تقول النسخة الجديدة موضحة: "لا شك أن متى استند، في هذه الرواية، الى رواية هرب موسَى الى مدين (راجع سَفر الخروج 4: 19-23)". (ص 40، الحاشية رقم 12). وهذا يوافق تماماً ما قلناه سَابقاً مستندين الى المفسِّر الكاثوليكي المعاصر الكبير شارل بيرّو (أحداث طفولة يسوع – متى 1-2 لوقا 1-2، ص 11-16 مع الحواشي) من أن الانجيلي متى كتب انجيله وخاصة أحداث طفولة يسوع بصيغة "المدراش اليهوديّ"، وبالتحديد بصيغة "مدراش موسَى الصغير"، ولم يكتب تاريخاً دقيقاً ومتسَلسلاً بحسب مفهومنا المعاصر للتاريخ… كان قصده أن يبرهن أن يسوع خلّص شعبه في العهد الجديد كما أن موسَى خلص شعبه في العهد لقديم. (راجع أيضاً فيما يخص الشبه بين احداث طفولة موسَى واحداث طفولة يسوع، على سَبيل المثال: سَفر الخروج 2: 15 = متى 2: 14؛ خروج 3: 2 = متى 1: 20؛ خروج 4: 19-23 = متى 2: 12 الخ


وتعلّق النسخة الجديدة على الآية الاخيرة من آيات طفولة يسوع بحسَب متى، والقائلة: "وجاء (يوسف) مدينة يقال لها الناصرة فسَكن فيها، ليتمّ ما قيل على لسَان الانبياء: إنه يدعى ناصريّاً"، تعلّق موضحة فتقول: "ناصريّاً: يصعب علينا أن نعرف بدقة ما هو النصّ الذي يستند اليه متى !؟ فاللفظ المستعمل لا يدلّ على أحد سكان الناصرة (!!!) ولا على أحد أعضاء شيعة الناصريّين، بل يرى متى فيه لفظاً يعادل لفظ "الجليلي" 26: 69. ويجوز أن نفهم هنا: "الذي في الناصرة" (21: 11، وراجع يوحنا 1: 45 أعمال الرسل 10: 38. ولربما أراد متى أن يشير به الى "قدّوس الله" المثالي، الى "النذير" (سَفر القضاة 13: 5، وراجع متى 16: 17 ومرقس 1: 24). ونحن نكرّر هنا قضية تفسير الآية "إنه يدعى ناصريّاً"، نظراً لاهميتها على الصعيدين التاريخيّ والجغرافيّ، موضوعي دراستنا هذه حول بيت لحم الحقيقية… فاذا كانت عبارة "ناصريّاً" لا تدل، بحسّب النسخة الكاثوليكية الجديدة، على أحد سكان الناصرة، أي ليسَت نسبة الى مدينة الناصرة، فهذا يعني، على الأقل، ان الباب قد اصبح مفتوحاً، بشكل واسع، لتصحيح بعض الأمور التاريخية والجغرافية الواردة في رواية الميلاد، على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة والحقائق الموضوعية. علماً ان هذه الامور هي محض دنيوية زمنية –تاريخية وجغرافية- ولا تمت بصلة على الاطلاق الى صحة الوحي وحقيقة الاحداث وجوهر العقيدة والدين. ومعروف تماماً حتى هذه السَاعة، ان عبارة: "إنه يدعى ناصرياً"، تعني أن يسوع هو من الناصرة، هو أحد سكّان مدينة الناصرة، أي إن "ناصريّاً" هي نسبة الى الناصرة، تاريخياً وجغرافياً. وقد رأينا، في الفقرة السابقة، ان هذا التفسير التقليدي –منذ حوالي ألفَي سَنة!- هو غير صحيح. الا يدعو هذا الأمر الى العجب والغرابة؟ وهكذا، وعلى هذا المثال، فنحن ندعو في هذه الدراسَة –التي هي دراسة محض تاريخية وجغرافية، مرة أخرى- ندعو الى تصحيح تحديد الموقع والمنطقة التي ولد فيها حقاً السيِّد المسيح. فمنذ حوالي الفَي سَنة يظن الجميع ان السيّد المسيح ولد في مدينة بيت لحم، في جنوب فلسطين، في أرض يهوذا أو اليهودية، على بعد حوالي 12 كلم الى الجنوب من اورشليم (أي بيت لحم المعروفة اليوم). أما نحن فنحاول ان نثبت، بالبراهين والحجج التاريخية والجغرافية ومن خلال الخرائط، ان السيّد المسيح قد ولد، في الحقيقة، في مغارة بالقرب من مدينة بيت لحم المدينة الكنعانية العريقة المشهورة، الكائنة في شمال فلسطين، في الجليل – "جليل الأمم"، وان هذه المغارة تقع في السّفح الشمالي الشرقي لجبل الكرمل بالتحديد، وأن جبل الكرمل مع سفوحه ومغاوره الكثيرة كان داخل أراضي فينيقيا – لبنان منذ بدء التاريخ، وفي أيام السيّد المسيح، وبعد المسيح بحوالي 70 سَنة! (راجع جميع الخرائط المخطوطة والمطبوعة، القديمة وبجميع اللغات الشرقية والغربية…). أجل! إن يسوع المسيح قد ولد في لبنان! "ومن له أذنان سَامعتان فليسمع…"! (وسَوف نفصّل ذلك في الفصول اللاحقة). لقد ولد في لبنان، لا في اليهودية



رواية لوقا


أما رواية الميلاد وما رافقها من أحداث في إنجيل لوقا، فقد جاءَت على الشكل التالي


"… وفي الشهر السَادس أرسَل الله الملاك جبرائيل الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. فدخل اليها فقال: إفرحي أيتها الممتلئة نعمة، الربّ معك. فداخلها لهذا الكلام اضطراب شديد، وسَألت نفسها ما معنى هذا السَلام. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، فقد نلت حظوة عند الله. فسَتحملين وتلدين ابناً فسَمّيه يسوع. سَيكون عظيماً وابن العلي يدعى، ويوليه الرب الإله عرش أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولن يكون لملكه نهاية. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً؟ فأجابها الملاك: إن الروح القدس سَينزل عليك، وقدرة العلي تظلّلك، لذلك يكون المولود قدّوساً وابن الله يدعى. وها إن نسيبتك اليصابات قد حبلت هي أيضاً بابن في شيخوختها، وهذا الشهر السَادس لتلك التي كانت تدعى عاقراً. فما من شيء يعجز الله. فقالت مريم: أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك. وانصرف الملاك من عندها


"… وفي تلك الأيام قامت مريم فمضت مسرعة الى الجبل الى مدينة في يهوذا، ودخلت بيت زكريَّا، فسَلّمت على اليصابات. فلمّا سَمعت اليصابات سَلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت من الروح القدس، فهتفت بأعلى صوتها: مباركة أنت في النساء! ومباركة ثمرة بطنك! من أين لي أن تأتي أم ربي؟ فما إن وقع صوت سَلامك في أذنيّ حتى ارتكض الجنين في بطني. فطوبى لمن آمنت: فسَيتمّ ما بلغها من عند الرب… وأقامت مريم عند اليصابات نحو ثلاثة أشهر، ثم عادت الى بيتها


"وفي تلك الايام، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هذا الاحصاء الأول إذ كان قيرينيوس حاكم سوريّة. فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحد في مدينته. وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم، فقد كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً. وبينا هما فيها حان وقت ولادتها، فولدت ابنها البكر، فقمّطته وأضجعته في مزود لانه لم يكن لهما موضع في المضافة


"وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البريّة، يتناوبون السَهر في الليل على رعيتهم. فحضرهم ملاك الربّ وأشرق مجد الربّ حولهم، فخافوا خوفاً شديداً. فقال لهم الملاك: لا تخافوا، ها إني أبشّركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كلّه: ولد لكم اليوم مخلّص في مدينة داود، وهو المسيح الربّ. واليكم هذه العلامة: سَتجدون طفلاً مقمّطاً مضجعاً في مزود. وانضمّ الى الملاك بغتة جمهور الجند السَماويين يسَبّحون الله فيقولون: المجد لله في العلى! والسَلام في الأرض للناس أهل رضاه


"فلما انصرف الملائكة عنهم الى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: هلمّ بنا الى بيت لحم، فنرى ما حدث، ذاك الذي أخبرنا به الربّ. وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المزود. ولمّا رأوا ذلك جعلوا يخبرون بما قيل لهم في ذلك الطفل. فجميع الذين سَمعوا الرعاة تعجّبوا مما قالوا لهم. وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأمّلها في قلبها. ورجع الرعاة وهم يمجّدون الله ويسَبّحونه على كلّ ما سَمعوا ورأوا كما قيل لهم


"ولمّا انقضت ثمانية أيام فحان للطفل أن يختن، سمّي يسوع، كما سَمّاه الملاك قبل أن يحبل به


"ولمّا حان يوم طهورهما بحسَب شريعة موسَى، صعدا به الى أورشليم ليقدّماه للربّ، كما كتب في شريعة الربّ من أن كلّ بكر ذكر يُنْذِرُ للرب، وليقرّبا كما ورد في شريعة الربّ: زوجي يمام أو فرخي حمام


"وكان في أورشليم رجل بارّ تقيّ اسمه سمعان، ينتظر الفرج لاسرائيل، والروح القدس نازل عليه. وكان الروح القدس قد أوحى اليه أنه لا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الربّ. فأتى الهيكل بدافع من الروح. ولمّا دخل بالطفل يسوع أبواه، ليؤدّيا عنه ما تفرضه الشريعة، حمله على ذراعيه وبارك الله فقال: الآن تطلق، يا سيّد، عبدك بسَلام، وفقاً لقولك. فقد رأت عيناي خلاصك الذي أعددته في سَبيل الشعوب كلّها. نوراً يتجلّى للأمم ومجداً لشعبك اسرائيل. وكان أبوه وأمّه يعجبان ممّا يقال فيه. وباركهم سمعان، ثم قال لمريم أمّه: ها إنه جعل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثير منهم في اسرائيل، وآية معرّضة للرفض، وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة


"وكانت هناك نبيّة هي حنّة ابنة فنوئيل من سَبط أشير، طاعنة في السنّ، عاشت مع زوجها سَبع سَنوات ثم بقيت أرملة فبلغت الرابعة والثمانين من عمرها، لا تفارق الهيكل، متعبّدة بالصوم والصلاة ليل نهار. فحضرت في تلك السَاعة، وأخذت تحمد الله، وتحدّث بأمر الطفل كلّ من كان ينتظر افتداء أورشليم


"ولمَّا أتمّا جميع ما تفرضه شريعة الربّ، رجعا الى الجليل الى مدينتهما الناصرة. وكان الطفل يترعرع ويشتدّ ممتلئاّ حكمة، وكانت نعمة الله عليه…". (إنجيل لوقا 1: 26-45؛ 2: 1-40 مع الحواشي والشروحات


تعلّق النسخة الجديدة على مقدمة انجيل لوقا (1: 1-4)، فتقول: "يستهلّ لوقا إنجيله بمقدمة على طريقة الكتاّب اليونانيّين المعاصرين له. فيذكر من سَبقه ويلفت النظر الى تقصّيه الأمور وترتيبه المعلومات، ويهدي كتابه أخيراً الى شخص وجيه. ويظهر من خلال خطواته هذه قصده أن يكون "مؤرّخاً دينيّاً"!: إنه يريد أن يكتب إنجيلاً معتمداً "التقليد"… وسَنرى في كتاب لوقا أن المقصود ليسَ ترتيباً زمنياً في الدرجة الأولى، بل ترتيباً أدبيّاً وتعليمياً…"! (ص 186، الحاشيتان رقم 1 ورقم 5


وتعلّق على الآية 5 من الفصل الأول: "كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا…"، شارحة وموضّحة فتقول: "إنه هيرودس الكبير، المتوفي في السَنة 4 ق.م. (علماً بأن يسوع المسيح ولد قبل وفاة هيرودس بسَنتين…!؟) –راجع متى 2: 1 والحاشية رقم 1… وتدلّ كلمة "يهوديّة"، هنا وفي لغة اليونانيّين، على أرض اليهود كلّها. وسَيستعمل لوقا هذا اللفظ بالمعنى نفسَه في 4: 44 و 6: 17 و 23: 5 وأعمال الرسل 10: 37. وسَيطلقه، كما يفعل اليهود، على جنوب فلسطين، المميّز عن الجليل، في 3: 1 و 5: 17 وأعمال الرسل 9: 31" (ص 186 والحاشيتان رقم 9 ورقم 10


أمّا بخصوص بشارة الملاك للعذراء مريم، بشكل عام، فالنسخة الجديدة توضح: "إن هذه الرواية تتم فصولها في الناصرة… وهي تصوّر رسَالة يسوع أولاً بصورة المشيح التقليديّ كما وردت في أقوال أشعيا 7: 14 و 9: 6 وصموئيل الثاني 7: 14-16 (الآيات: 31-33)، ثم بصورة ابن الله المثالي (الآية 35 وراجع أيضاً رومة 1: 4). والحبل البتولي بيسوع هو علامة هذه البنوّة الفريدة والعجيبة… وفي لوقا 2: 32 هناك أيضاً تخطٍ واضح لحدود هذه المشيحية القومية اليهوديّة…؟‍! (ص 188-189، والحاشيتان رقم 42 ورقم 54


أما بخصوص مكان البشارة –الناصرة- وقضية زمن اقامة العذراء في هذه القرية، فهناك عدم توافق واضح، إن لم نقل تناقضاً، من الناحيتين التاريخيّة والجغرافية، كما رأينا سَابقاً، بين رواية متى ورواية لوقا. ونكرر هنا هذا القول نظراً لاهميته وعلاقته المباشرة بطبيعة دراستنا هذه التي هي محض تاريخية وجغرافية. فمتى يقول، عند عودة يوسف ومريم ويسوع من مصر: "… فقام يوسف فأخذ الطفل وأمه ودخل أرض اسرائيل. لكنه سَمع أن أرخلاّوس خلف أباه هيرودس على اليهودية. فخاف أن يذهب اليها. فاوحي اليه في الحلم، فَلَجَأَ الى ناحية الجليل. وجاء مدينة يقال لها الناصرة فسَكن فيها، ليتم ما قيل على لسَان الانبياء: إنه يدعى ناصريّاً…" متى 2: 21-23 والحواشي رقم 12، 13، 14). اما لوقا من جهته فانه يقول: "وفي الشهر السَادس (بعد حبل اليصابات بيوحنا)، أرسَل الله الملاك جبرائيل الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم…" (لوقا 1: 26-27). إن عدم التوافق واضح جداً بين النصّين من الناحيتين التاريخية والجغرافية. فبحسَب متى، أقامت مريم في الناصرة، مع يوسف ويسوع، بعد رجوع الثلاثة من مصر. اما بحسَب لوقا، فقد كانت مقيمة في الناصرة عندما بشرّها الملاك جبرائيل بابنها يسوع!؟ في هذه القضية بالذات، يقول كبار مفسِّري الأناجيل اليوم، ومنهم بنوا وبوامار وبيرّو وغيرهم، إن هناك في الواقع تبايناً ظاهراً بين النصين ومن الأفضل أن نقرّ ونعترف بضعفنا وجهلنا في إعطاء الجواب الشافي على ذلك، لان كتب الأناجيل ليسَت كتباً تاريخية بحصر المعنى وبحسَب مفهومنا اليوم للتاريخ


وعلى كلام الملاك لمريم: "لذلك يكون المولود قدُّوسَاً" تعلّق النسخة الجديدة: "قدوس": يدل هذا اللفظ على الانتماء الى الله وحده، وهو من أقدم التعابير عن ألوهية يسوع (أعمال الرسل 3: 14 و 4: 27 و 30 راجع أيضاً لوقا 4: 34)". إذاً عبارة "قدّوس" تدل على الانتماء الى الله وحده! وليسَ على الانتماء الى داود… والعبارة التالية تؤكد على ذلك: "وابن الله يدعى". فليسَ هناك لا ابن داود… ولا من يحزنون. بل هناك "قدّوس وابن الله يُدعى". كما أن عبارة "وابن العليّ يُدعى" في لوقا 1: 32، تعني في الحقيقة وبحسَب النصّ الأصلي الاول "وابن عليّان يدعى"، أي "ابن إيل يدعى"، لان صفة "عليّان" الكنعانية، برأي الجميع اليوم، تعني: العالي جداً او المتعالي، وهي من أهم صفات الإله الكنعاني "إيل"! (راجع ملحمة البعل وعناة في "ملاحم وأساطير من أوغاريت (راس شمرا)" لأنيس فريحه، ص 373، 409، 414، 434، 438 الخ


وتعلّق النسخة الجديدة على لوقا 2: 2 "وجرى هذا الإحصاء الأول إذ كان قيرينيوس حاكم سوريا…"، فتقول: "ببليوس سَلبيسيوس قيرينيوس معروف في التاريخ بأنه حاكم على سورية، أجرى إحصاء فلسطين في السَنة 6 ب.م.، أي بعد وفاة هيرودس الكبير بعشر سَنوات (وقعت هذه الوفاة بعد ميلاد يسوع، بحسَب ما ورد في متى 2: 19 وراجع لوقا 1: 5). كان مسؤولاً عن السياسَة الرومانية في الشرق الأدنى منذ السَنة 12 ق.م. أفتراه باشر عمليات الإحصاء في فلسطين قبل وفاة هيرودس الكبير؟ أم هل استبق لوقا الإحصاء اللاحق؟ لا تمكّننا المعلومات التي لدينا من البتّ في هذا الأمر…"!! (ص 193-194 والحاشية رقم 4


لقد بيّنا سَابقاً بالتفصيل أن مدينة داود، في العهد القديم، هي أورشليم –وليسَ بيت لحم، وبالتالي ان ربط يسوع بذرّية داود عن طريق بيت لحم يهوذا، أي كون داود ويسوع هما اصلاً من مدينة بيت لحم هذه، هذا الربط هو غير صحيح من الناحيتين التاريخية والجغرافية. وفي التعليق على نصّ لوقا هذا، الذي نحن بصدده، الآية 4: "وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم…"، تؤكّد النسخة الجديدة على ذلك، فتقول بالحرف الواحد: "في العهد القديم، تدلّ "مدينة داود" دائماً على أورشليم (لا على بيت لحم). (صموئيل الثاني 5: 7-9 و 6: 10-12 وسَفر اشعيا 22: 9)". (النسخة الجديدة ص 194، والحاشية رقم 6


وجاء في نص لوقا الذي نحن بصدده في الآية 22 من الفصل الثاني: "ولما حان يوم طُهورهما…". فعلى هذه الآية الغامضة جداً، تعلّق النسخة الجديدة فتقول: "في بعض المخطوطات: "طُهورِه"، وفي بعض المخطوطات الاخرى "طُهورِها"؟. إن الشريعة الواردة في سَفر الاحبار 12: 1-8 تتناول الأم (ولذلك القراءة الثانية) (ص 195 الحاشية رقم 24). يبقى السؤال: طهور من، في النص الأصلي الأول؟ هل المقصود طهور يوسف؟ وما دخل يوسف في موضوع الطهور، وهو لم يقم علاقة جسَديّة مع مريم؟ أو هل المقصود طهور مريم، وهي التي جاء عنها في النص نفسَه أنها: "عذراء"، "ممتلئة نعمة"، نالت "حظوة عند الله"، الروح القدس سَينزل عليها"، وقدرة العلي تظلّلها والمولود منها قدوس وابن الله يُدعى"؟ فبعد كل ما قيل فيها، هل هي بحاجة الى طهور؟ جوابنا هو كلا! معاذ الله ان تكون العذراء مريم، أم الله، بحاجة الى أي نوع من الطهور. إنها ممتلئة نعمة" وكلّية الطهارة. وإذا قيل حصل الطهور إتماماً لشريعة موسَى ولإعطاء المثل الصالح الخ… فالجواب هو أن المخطوطات القديمة غير واضحة ومحدّدة، فمنها ما يقول: "طهوره"، ومنها "طهورها"، ومنها أيضاً "طهورهما"! هذا من جهة. ومن جهة أخرى، راينا سَابقاً أن أجداد يسوع هم من أصل غير يهودي وانهم أجبروا على اعتناق اليهودية قسراً والالتزام ظاهرياً باتّباع شريعة موسَى، وذلك قبل قرن من الميلاد على الأقل، على أيام أرسطوبولس الاول (104-103 ق.م.) ابن سمعان المكابي، الذي لقّب نفسَه ملكاً (سلالة الحشمونيين). وهكذا، فمن الممكن ان يكون اتمام شريعة الطهور قد حصل على هذا الشكل. مع العلم أن عملية الطهور لم تحصل أصلاً في أورشليم، بشكل تاريخي ثابت، كما سَنرى في الفقرات التالية. ومن المرجَّح جداً انها حصلت في الجليل وليسَ في اليهوديّة


وإذا عدنا الى نشيد سمعان الشيخ في لوقا (2: 29-33)، والذي جاء فيه: "فقد رأت عيناي خلاصك الذي أعددته في سبيل الشعوب كلها، نوراً يتجلّى للأمم…"، نتبين بوضوح الطابع الروحي الشمولي لرسالة المسيح الحقيقي المنتظر، مما يتناقض مع الطابع العنصري القومي الضيّق الذي كان يسبغه اليهود على مسيحهم المنتظر. والنسخة الجديدة، من جهتها، تعلّق على ذلك موضحة: "هذه أول مرّة يبشر فيها بخلاص الوثنيّين في انجيل لوقا… ولن يعلن صراحة الاّ ابتداءً من وحي الفصح… (لوقا 24: 47)" (ص 196 الحاشية رقم 34). مما يوحي بأن سمعان الشيخ كان هو أيضاً من الجليل –"جليل الأمم"- فهو ينتظر مسيحاً روحياً عالمياً، "نوراً للأمم" "ومخلّصاً للشعوب كلها"، وليسَ مسيحاً دنيوياً عنصرياً محارباً قومياً كما كان اليهود ينتظرون. ان سمعان الشيخ، بالتالي، كان اقرب الى "الاسِّينيين" "والنصارى"، "والمنتظرين" المسيح الشامل، منه الى اليهود واليهوديّة الرسمية


وهكذا كان الامر مع حنّة النبيّة، التي كانت هي أيضاً من الجليل. فاسمها واسم والدها والسبط التي هي منه، كل ذلك يدل على أنها جليلية: "وكانت هناك نبيّة هي حنّة ابنة فنوئيل من سَبط أشير طاعنة في السنّ…" (لوقا 2: 36). فسَبط أشير كما هو معروف وظاهر في الخرائط يقع في الجليل، على شاطئ المتوسط، الى الشمال الغربي من سَبط زبولون، حيث توجد بيت لحم الحقيقية، الشمالية الجليلية وحيث ولد في الحقيقة يسوع المسيح. ومن جهة ثانية، جاء في نص لوقا نفسه (2: 38) "أن حنّة النبيّة حضرت في تلك السَاعة، وأخذت تحمد الله، وتحدّث بأمر الطفل كل من كان ينتظر افتداء أورشليم…". فاذا كان الأمر كذلك، وإذا كان يسوع ولد حقيقة في بيت لحم اليهودية القريبة جداً من أورشليم، أفلا يحق التساؤل، على الأقل، كيف نسي جميع هؤلاء الناس الذين سَمعوا كلام سمعان الشيخ وخاصة كلام حنّة النبيّة، كيف نسوا جميعهم أخبار الطفل يسوع وكونه ولد في بيت لحم القريبة منهم؟ زد على ذلك أن الرعاة انفسهم، قبل سمعان وحنّة، "جاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المزود. ولما رأوا ذلك جعلوا يخبرون بما قيل لهم في ذلك الطفل. وجميع الذين سَمعوا الرعاة تعجّبوا ممّا قالوا لهم… ورجع الرعاة وهم يمجّدون الله ويسَبحونه على كلّ ما سَمعوا ورأوا كما قيل لهم…" (لوقا 2: 16-20). فكيف يا ترى نسي الرعاة وجميع من سمعوا أخبارهم قصة هذه الولادة العجيبة التي حصلت قربهم في بيت لحم اليهودية؟ والاغرب من كل ذلك، كيف نسيت "أورشليم كلها" مع جوارها، وكيف نسيت "بيت لحم وجميع أراضيها" قصة هذه الولادة الفريدة، ولادة الطفل يسوع؟! فقد جاء في متى: "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام الملك هيرودس، إذا مجوس قدموا أورشليم من المشرق وقالوا: أين ملك اليهود الذي ولد؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنسجد له. فلما بلغ الخبر الملك هيرودس، اضطرب واضطربت معه أورشليم كلّها. فجمع عظماء الكهنة وكتبة الشعب كلّهم واستخبرهم أين يولد المسيح. فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، فقد أوحي الى النبي فكتب: "وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل… ولما رأى هيرودس أن المجوس سَخروا منه، استشاط غضباً وأرسل فقتل كلّ طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سَنتين فما دون ذلك، بحسَب الوقت الذي تحقّقه من المجوس. فتمّ ما قال الرب على لسَان النبي إرميا: "صوت سمع في الرامة، بكاء ونحيب شديد، راحيل تبكي على بنيها وقد ابت ان تتعزّى لانهم زالوا من الوجود…" (لوقا 2: 1-6 و 16-18


فبعد كل هذه الأحداث الخطيرة والكبيرة والتي انتشرت في كل تلك المنطقة من اليهودية، يتساءل المرء كيف ان جميع الناس قد نسوا كل ذلك، وكيف تلاشت نهائياً من ذاكرتهم هذه الاحداث الفريدة والخطيرة؟! فاذا كان المسيح قد ولد فعلاً في بيت لحم اليهودية، ألم يبقى، على الأقل، شخص واحد يتذكّر شيئاً من كل تلك الأحداث؟ اليسَ في الأمر غرابة قصوى، هذا إذا كان المسيح قد ولد فعلاً في بيت لحم اليهودية؟… غير ان المسيح لم يولد، في الحقيقة، في بيت لحم اليهودية المعروفة اليوم والتي تقع على بعد حوالي 10 كلم الى الجنوب من أورشليم، بل قد ولد فعلاً بالقرب من بيت لحم الجليل في الشمال. فكان هناك طمس مقصود من قبل اليهود والمسيحيّين المتهوّدين من جهة، وجهل موروث ونسيان وخوف… من قبل الباقين حتى اليوم…! أما المسيحيون المتهوّدون فقد ركّزوا منذ البداية على أن المسيح ولد في بيت لحم اليهودية، مستعملين كل الوسائل… لكي يبرهنوا لليهود أن المسيح ولد عندهم في اليهودية، وانه بالتالي هو المسيح المخلّص الذي كان ينتظره اليهود، والذي كان انبياء اليهود يتنبأون عنه… من هنا كان التصرّف والتبديل والتحوير في نصوص الانبياء الذين تنبؤا عنه كي تصبح مؤاتية وملائمة لمسيح اليهود


والبرهان على ذلك –والامر غريب وملفت حقاً- انه كان هناك منذ البداية، وعلى أيام المسيح نفسَه، تباين واختلاف حول مولد المسيح ونشأته وأصله. والخلاف في هذا الشأن كان ظاهراً وعلنياً بين الناس. فقد جاء في إنجيل يوحنا ما يلي: "… فقال أناس من أهل أورشليم: اليسَ هذا الذي يريدون قتله؟ فها إنه يتكلّم جهاراً ولا يقولون له شيئاً. تُرى هل تبيّن للرؤساء أنه المسيح؟ على أن هذا نعرف من اين هو، وأمّا المسيح فلا يعرف حين يأتي من أين هو. فرفع يسوع صوته وهو يعلّم في الهيكل قال: أجل انكم تعرفونني وتعرفون من أين أنا… فقال أناس من الجمع وقد سَمعوا ذلك الكلام: هذا هو النبيّ حقاً! وقال غيرهم: هذا هو المسيح! ولكنّ آخرين قالوا: أفترى من الجليل يأتي المسيح؟ ألم يقل الكتاب إن المسيح هو من نسل داود وانه يأتي من بيت لحم، القرية التي منها خرج داود؟ فوقع بين الجمع خلاف في شأنه. وأراد بعضهم أن يمسكوه، ولكن لم يبسط اليه أحد يداً. ورجع الحرس الى رؤساء الكهنة والفرّيسيين، فقال لهم هؤلاء: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الحرس: ما تكلّم إنسان قط مثل هذا الكلام. فأجابهم الفرّيسيّون: أخدعتم أنتم أيضاً؟ هل آمن به أحد من الرؤساء أو الفرّيسيين؟ أمّا هؤلاء الرعاع الذين لا يعرفون الشريعة، فهم ملعونون. فقال لهم نيقوديمس وكان منهم، وهو ذاك الذي جاءَ قبلاً الى يسوع: أتحكم شريعتنا على أحد قبل أن يُستمع اليه ويعرف ما فعل؟ أجابوه: أوأنت أيضاً من الجليل؟ إبحث ترَ أنه لا يقوم من الجليل نبيّ… ثم انصرف كلّ منهم الى بيته…" (يوحنا 7: 25-28 و 40-53


يظهر جليّاً من النصّ أنه كان هناك خلاف واضح وعلني بين الجموع في شأن يسوع. خلاف حول أصله وموطنه، هل هو من الجليل ام من بيت لحم اليهودية؟ وخلاف ايضاً حول طبيعة دعوته ورسالته، هل هو النبيّ؟ هل هو المسيح المخلّص المنتظر؟ من هو في الحقيقة هذا الرجل؟ وما هي رسالته؟ ورغم ان الاكثرية الساحقة كانت تعتقد أنه جليلي "هذا النبي يسوع من ناصرة الجليل…" (متى 21: 11)، فإن الخلاف في شأنه، ظل قائماً فيما بعد، طوال ثلاثة قرون، بين المسيحيين من جهة واليهود والمسيحيّين المتهوّدين من جهة ثانية… وكان الخلاف يدور حول علاقة يسوع بذرية داود، وحول مكان مولد يسوع: هل ولد في الجليل أم في اليهودية؟ هل ولد في ناصرة الجليل أم في بيت لحم يهوذا؟ هل مدينَتُهُ الناصرة أم بيت لحم


هذه التساولات تعود بنا الى نهاية رواية الميلاد عند لوقا –أو انجيل الطفولة- الذي نحن بصدده. يقول لوقا: "… ولمّا أتمّا (يوسف ومريم) جميع ما تفرضه شريعة الرب (حول تقدمة يسوع لله وما اليها) رجعا الى الجليل الى مدينتهما الناصرة. وكان الطفل يترعرع ويشتدّ ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه…" (لوقا 2: 39-40). وهنا أسئلة هامة تفرض نفسَها من الناحيتين التاريخية والجغرافية، ولم تجد لها أجوبة الى اليوم حتى عند كبار شارحي ومفسّري الأناجيل المقدسة في يومنا هذا. وهذه الأسئلة تختصر بالتالية


أولاً: انطلق يوسف ومريم من الناصرة الى أورشليم، بحسَب لوقا، لتقدمة يسوع الطفل لله في الهيكل. لكن بحسَب متى، سَكنت العائلة المقدسة في الناصرة، بعد عودتها من مصر؟ ما هي الحقيقة التاريخية؟ ومتى سَكنت العائلة المقدسة الناصرة؟ لا جواب تاريخي قاطع حتى اليوم


ثانياً: متى لم يذكر تقدمة يسوع الطفل لله في هيكل أورشليم. لماذا؟ هل حصلت هذه التقدمة، بحسب متى؟ ومتى حصلت؟ ذلك لان ملاك الرب طلب من يوسف، مباشرة بعد رجوع المجوس الى بلادهم، "أن يهرب بالطفل وأمه الى مصر…" (متى 2: 13-15). وهنا أيضاً لا جواب تاريخيّ قاطع على هذا السؤال حتى اليوم


ثالثاً: وبحسَب لوقا أيضاً (2: 22-40)، ذهبت العائلة المقدسة، بكل هدوء وبشكل طبيعي جداً، من الناصرة "مدينتهم" الى أورشليم لتقدمة الطفل يسوع لله في الهيكل، وكأن شيئاً لم يكن!؟ كأن المجوس لم يأتوا ولم يسألوا: "أين ملك اليهود الذي ولد؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنسجد له…" (متى 2: 2)! وكأن "هيرودس لم يضطرب وتضطرب معه أورشليم كلها…" (متى 2: 3)! وكأن "عظماء الكهنة وكتبة الشعب كلّهم لم يجتمعوا بهيرودس ويقولوا له: إن المسيح يولد في بيت لحم اليهودية بحسب النبي القائل: "وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل…" (متى 2: 4-6)! وأكثر من ذلك كلّه، كيف ذهبت العائلة المقدسة من الناصرة الى أورشليم لتقدمة الطفل يسوع لله في الهيكل بعد أربعين يوماً من ولادته، وكأن "الملك هيرودس لم يستشط غضباً ويرسل فيقتل كل طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سَنتين فما دون ذلك، بحسَب الوقت الذي تحقّقه من المجوس. فتم ما قال الرب على لسان النبي إرميا: صوت سمع في الرامة، بكاء ونحيب شديد. راحيل تبكي على بنيها، وقد أبت أن تتعزّى لانهم زالوا عن الوجود…" (متى 2: 16-18)! كيف حصل كل ذلك؟ ومتى؟ ألم يخف يوسف ومريم من غضب الملك هيرودس؟ ألم يخافا من عظماء الكهنة ورؤساء اليهود؟ ألم يخافا من أحد وهم يقطعا تلك المسافة الشاسعة التي تفصل الناصرة عن مدينة أورشليم؟ مع انه بعد انصراف المجوس على الفور "تراءى ملاك الرب ليوسف في الحلم وقال له: قم فخذ الطفل وأمه واهرب الى مصر وأقم هناك حتى أعلمك، لان هيرودس سَيبحث عن الطفل ليهلكه. فقام يوسف فأخذ الطفل وأمّه ليلاً ولجأ الى مصر. فأقام هناك الى وفاة هيرودس، ليتم ما قال الربّ على لسان النبيّ: من مصر دعوت ابني…" (متى 2: 13-15)! فكيف والحالة هذه، ذهبت العائلة المقدسة هكذا بكل هدوء وبشكل طبيعي جداً، من الناصرة الى أورشليم، لتقدمة يسوع لله في الهيكل بعد أربعين يوماً من ولادته؟ وكيف انه "لما أتما (يوسف ومريم) جميع ما تفرضه شريعة الرب، رجعا الى الجليل الى مدينتهما الناصرة. وكان الطفل يترعرع ويشتد ممتلئاً حكمة، وكانت نعمة الله عليه…" (لوقا 2: 39-40). وكيف حصل الذهاب من الناصرة الى أورشليم والاقامة فيها والرجوع الى الناصرة، هكذا بكل هدوء وبشكل طبيعي جداً، وهيرودس يفتش عن الطفل ليهلكه "ويُرسل فيقتل كل طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سَنتين فما دون ذلك…"؟! فكيف حصل كل ذلك اذا كان المسيح قد ولد قرب أورشليم، في بيت لحم اليهودية؟ اليسَ في الأمر، كما هو واضح جداً من مقابلة النصوص، غرابة حقيقية من الناحيتين التاريخية والجغرافية


على كل هذه التسَاؤلات المحرجة يجيب كبار الشارحين ومفسَِري الأناجيل، وعلى رأسهم بنوا وبوامار، يجيبون بما معناه: إن كتب الأناجيل ليست كتباً تاريخية بالمعنى الحصري للكلمة، أي بالمفهوم العلمي الحديث لعبارة "تاريخ"، لا أجوبة قاطعة على هذه التسَاؤلات، ومن الأفضل ان نقرّ بجهلنا وضعفنا! …الخ


أمّا إذا اعتبرنا ان يسوع المسيح قد ولد في مغارة بالقرب من بيت لحم الجليل الشمالية، القريبة جداً من الناصرة –وهذا ما تسعى هذه الدراسَة الى اثباته- فان كل هذه التسَاؤلات التاريخية والجغرافية المحرجة تبطل تلقائياً ويستقيم الامر تماماً من حيث المنطق والواقع معاً. وهذا ما سَنفصّله لاحقاً


وبعد أن عرضنا فيما سَبق رواية الميلاد والاحداث المحيطة بها بحسب متى ولوقا، ونقلنا تعليقات وشروحات النسخة الكاثوليكيّة الجديدة حولها، يجدر بنا هنا ان نضيف بعض الملاحظات التي وردت في الفترة الاخيرة حول هذه الاحداث عند بعض الشارحين والمؤرّخين والعلماء… فقد تأكد اليوم بفضل الاكتشافات الآركيولوجية –وبالتالي التاريخية والجغرافية- أن مدينة الناصرة لم تكن موجودة أيام الميلاد، فهي قد بنيت خلال القرن الثاني للميلاد! فهذا يغيّر أموراً كثيرة، ويوضح تماماً أموراً أخرى، ويكشف عن الحقيقة المجرّدة، مما يؤكد ويثبت، بشكل قاطع ونهائي، نظريتنا الخاصة في هذه الدراسة!! (راجع فيما يخص زمن بناء الناصرة كلام اتيان نودى الاستاذ في المدرسة البيبلية والآركيولوجيَّة في كتاب جيرار مورديّا وجيروم بريُّور "ملك اليهود"، بالفرنسية، منشورات كوربُسَ كريستي-آرتي، تورين إيطاليا، 1997، ص 29-31


ففيما يخصّ بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم، وبالتحديد فيما يخص تعيين المكان الذي حصلت فيه هذه البشارة، هناك اقوال وآراء مختلفة… منهم من يقول إن البشارة حصلت في بيت مريم ويوسف في ناصرة الجليل. ومنهم من يقول إنها حصلت في ضواحي الناصرة عند "عين الماء" حيث كانت مريم تستقي ماءً. ومنهم من يقول إنها حصلت في هيكل أورشليم عندما كانت العذراء تصلّي في داخله. ومنهم من يقول في مكان ما في الجليل دون تحديد الموقع. ومنهم من لا يحدّد أين حصلت البشارة… الخ


فعلى ضوء ما رأينا يتعذر القول، بشكل علمي جغرافي ثابت، إن البشارة حصلت في الناصرة او في ضواحيها، وذلك لان اقامة مريم في الناصرة، قبل رجوع العائلة المقدسة من مصر، غير ثابت من الناحية التاريخية والجغرافية. ففي حين يقول لوقا: "إن الله أرسَل الملاك جبرائيل الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسُف، واسم العذراء مريم…" (لوقا 1: 26-27)، يقول متى، من جهته، إن يوسف عند عودته من مصر مع مريم ويسوع، "خاف ان يذهب الى اليهودية، فأوحي اليه في الحلم، فلجأ الى ناحية الجليل. وجاء مدينة يقال لها الناصرة فسَكن فيها، ليتمّ ما قيل على لسَان الانبياء: إنه يدعى ناصريّاً…" (متى 2: 22-23)؟! والقول، على ما يظهر، إن البشارة حصلت في الناصرة أو في جوارها يعود إمّا لكون العائلة المقدسة سَكنت في الناصرة، برأيهم، لفترة من الزمن، وإمّا لتفسيرات شعبية تقويّة متوارثة، وإما للإثنين معاً… والثابت أنه ليسَ هناك اسَاس تاريخي وجغرافي محقّق لحصول البشارة في الناصرة او في جوارها، عدا عن أن الناصرة نفسَها لم تكن موجودة في تلك الأيام


أمّا القول بأن بشارة الملاك للعذراء مريم قد حدثت في هيكل اورشليم، فهو قول تقوي شعبي سطحي لا أسَاس له من الصحة على الإطلاق. فمن الثابت ان العذراء مريم قد عاشت، مع جميع اقربائها وانسبائها، في الجليل، على الأقل قبل موت ابنها يسوع على الصليب. والتقاليد القديمة، على أنواعها، مسيحيّة كانت او يهودية أو إسلامية، تقول كلها ان مريم كانت في الجليل قبل موت المسيح. ونحن نعلم مدى سَعي المسيحيّين المتهوّدين لربط أهم الامور والاحداث بمدينة أورشليم تمشياً مع اليهود


إن العذراء مريم، عندما بشّرها الملاك جبرائيل، كانت في الجليل، دون أدنى شك، ولم تكن اطلاقاً في الجنوب في أرض يهوذا أي في اليهودية. وبالتحديد، لم تكن في الناصرة بعد رجوعها من مصر، لان الناصرة، كما ثبت اليوم، لم تكن موجودة بعد، فهي قد بنيت في القرن الثاني بعد الميلاد. إذاً، أين كانت العذراء مريم مقيمة بالتحديد عندما بشرها الملاك جبرائيل بالحبل بابنها يسوع المسيح


رأينا سَابقاً أن أهل يسوع وأقاربه وأنسباءَه وأجداده كانوا جميعاً في الجليل. وهناك إجماع تام حول هذا الموضوع. ورأينا، من جهة ثانية، أن والديه، يوسف ومريم، كانا من الجماعات الروحيّة السَاكنة في "جليل الأمم"، والتي كانت تنتظر بلهفة مجيء مخلّص روحي للبشر أجمعين يحرّر الناس كلهم من ربقة الشر والخطيئة ويحلّ ملكوت الله على الأرض ويحقق المصالحة الروحية بين الله والناس، بعكس المسيح الذي كان ينتظره اليهود. فهؤلاء كانوا ينتظرون مسيحاً زمنياً محارباً قومياً يحرّرهم من الغرباء وينتصر على أعدائهم الخ… كانت الجماعات الجليلية الروحية أصحاب نظرة انسانية روحية شاملة، وكانت على علاقة متواصلة مع جماعات روحية متشابهة منتشرة في كل اصقاع الشرق ومنها جماعة المجوس… وكانوا جميعاً ينتظرون مجيء مخلّص بشريّ روحيّ. وكانت لهم بالاضافة الى دير الاسينيّين على ضفاف البحر الميت –الذي اصبح في يومنا هذا معروفاً وشهيراً جداً- مراكز في كل فلسطين، ومنها حيّ كبير في مدينة أورشليم نفسَها مع مضافة ومستشفى في الجهة الجنوبية من المدينة. وكان احد "ابواب" اورشليم يسمّى "باب الاسينيين"…! (كل هذه الحقائق التاريخية المسجّلة في التواريخ والخرائط القديمة كانت قبل اليوم منسيّة مطموسة إمّا عن قصد أو عن جهل موروث أو عن خوف… أمّا اليوم فقد أصبحت معروفة من الجميع…! راجع الخرائط القديمة والجديدة


هذه الجماعات الروحيّة الجليليّة، والتي منها "الاسينيّون" "والمنتظرون" (مجيء المخلّص الروحي) "والنذيريم" و"المكرّسون" وغيرهم…، والتي تحدثنا عنها بالتفصيل سَابقاً، هذه الجماعات كانت، قبل الميلاد بحوالي 70 سَنة، قد انتظمت في مجموعة كبرى وشيّدت ديراً كبيراً ومجموعات سَكنية فوق جبل الكرمل، بالقرب من المعبد الكنعاني القديم الذي كان قد تهدم ورمّمه النبي إيليا (سَفر الملوك الاول 18: 30). وبعد اطّلاعنا على العديد من المخطوطات والكتب التاريخية القديمة، بالاضافة الى ما نشر مؤخراً عن مخطوطات قمران (البحر الميت) وبعض الكتب السرّية الحديثة، وبعد مقابلة كل ذلك مع كتب العهد الجديد القانونية والمنحولة، تبيّن لنا بوضوح ان بشارة الملاك للعذراء مريم وأن التجسّد الالهي (لان التجسّد قد حصل في أحشاء العذراء بعد حدث البشارة على الفور) قد حصلا في الواقع، تاريخياً وجغرافياً، فوق جبل الكرمل، في الدير الكبير الذي شيدته هذه الجماعات الروحية الجليلية الآنفة الذكر! وإليكم التفاصيل


كانت هذه الجماعات الروحية المنفتحة على الحضارات والديانات والمذاهب الروحية الشرقية كافة، تنتظر عما قريب وبلهفة قوية مسيحاً روحياً ومُخلّصاً بشرياً شاملاً يحقّ الحق وينشر العدالة بين الجميع ويصالح الناس مع الله. وكانت لهم دراساتهم وتنبؤاتهم الفلكية، وكانوا على اتصال متواتر بالمجوس الشرقيّين حول تحديد مجيء هذا المسيح المخلّص المنتظر… وقد أثبتت مخطوطات قمران في البحر الميت مؤخراً صحة وجود هذه الجداول الفلكية عند الجماعة الاسينية! وهكذا، وقبيل ميلاد يسوع المسيح، كان الشرق كله، ومنه فلسطين والجليل، ينتظر بلهفة قوية مجيء "نبيّ كبير" أو مسيح مخلّص… والأناجيل القانونية نفسَها مليئة بالإشارات حول هذا الانتظار الكبير (راجع متى 16: 13-16؛ مرقس 8: 27-30؛ لوقا 9: 18-21


وقبل الميلاد بفترة قصيرة، واستعداداً وتحضيراً لمجيء هذا المخلّص الروحي الذي كانوا يعتقدون أنه سَيولد عندهم، باشر كبار ورؤساء هذه الجماعات الروحيّة الجليلية، وعلى رأسهم الاسينيّون، بالتحضير المباشر لهذه الولادة الفريدة… فاختاروا 12 فتاة أو صبيّة عذراء (لاحظ الرقم 12)، من أطهر وأقدس العائلات عندهم، عَلَّ المخلّص المنتظر يولد من إحداهن. وكانت هذه الفتيات تقمن خصيصاً في الدير الكبير فوق جبل الكرمل. وقد أصبح من المعروف اليوم، وبعد اكتشاف مخطوطات قمران، أن التجمّعات السَكنية لهذه الجماعات الروحيّة المنفتحة كانت تضم الرجال والنسَاء. وهذا ما لم يكن معتاداً عند اليهود… وكانت هذه الفتيات يَعشن سَوية في نوع من العزلة "والحصن" كالراهبات المتعبدات، يقضين أيامهنّ في الصلاة والتأمل وخدمة الهيكل. وهذه ظاهرة لم تكن معروفة اطلاقاً عند الشعب اليهودي، بل كانت سَائدة عند الاسينيّين وبقية الجماعات الروحية الجليلية المماثلة. وبالاضافة الى ذلك كانت هذه الفتيات المختارات يحصلن على ثقافة روحية وفكرية متقدمة، وذلك دون شك بتأثير مباشر من البيئة الكنعانية الحضارية المحيطة، كما كنّ يَتَلَقَنَّ الحقائق السرّية والإعداد المعيّن. من هذه الفتيات الاثنتي عشر المختارات بالذات كانت مريم العذراء. وكان والدها، يواكيم وحنّة، من أبرز واطهر العائلات الروحية بين تلك الجماعات الجليلية. وكانا قد تخليا عن كل ما يملكان في سَبيل تحقيق هذا الهدف السَامي. وعندما دنت سَاعة حنّة لتلد قرّر الوالدان في حال رزقهما الله صبيّة بأن يسَمياها "مريم" ويكرسَاها للرب، فتكون في عداد الفتيات المختارات. وهكذا كان. وعندما بشّرها الملاك جبرائيل بالحبل بيسوع ابن الله، كانت مريم العذراء –الملقّبة "بحمامة إيل"- تعيش بين تلك الفتيات الاثنتي عشر فوق جبل الكرمل بالذات. وجبل الكرمل هذا، كما هو معروف وثابت ومؤكّد (راجع جميع التواريخ والخرائط القديمة)، كان منذ فجر التاريخ، وفي أيام الميلاد، وبعد الميلاد بحوالي 70 سَنة، كان جبل الكرمل هذا داخل أراضي فينيقية-لبنان


أجل! في لبنان بالذات حصلت بشارة الملاك لمريم. في لبنان بالذات حصل الحبل بيسوع، إذ إن الحبل به قد حصل فعلاً، كما يجمع المفسّرون، في نهاية البشارة عندما قالت مريم للملاك: "فليكن لي حسَب قولك…". في لبنان بالذات، حصل التجسّد الالهي "والكلمة صار جسداً وحلّ فينا…". وولادة يسوع المسيح عينها حصلت أيضاً في لبنان، في مغارة بالقرب من بيت لحم الشمالية –لا الجنوبية- في سَفح جبل الكرمل الشمالي الشرقي، وهو موضوع هذه الدراسَة


بعد قصة بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم، ومكان حصول هذه البشارة، وبعد الحبل بيسوع، تأتي قصة الاكتتاب أو الإحصاء الذي قام به الرومان. "وفي تلك الأيام، صدر أمر عن القيصر أغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هذا الاحصاء الاول إذ كان قيرينيوس حاكم سورية. فذهب جميع الناس ليكتتب كلّ واحد في مدينته. وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية الى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم، فقد كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً…" لوقا 2: 1-5


يجمع المؤرخون وشارحو الكتاب المقدس اليوم أنه قد حصل بالفعل نوع من الاكتتاب والاحصاءات في ذلك العصر، من قبل الرومان، لسكّان المملكة الرومانية والبلاد التابعة لسلطة قيصر. غير أنه قد ثبت اليوم ان هذه الاحصاءات قد حصلت، بشكل مؤكّد، قبل ولادة المسيح بفترة طويلة او بعد ولادته بسَنوات عديدة‍ ولم يحصل أي إحصاء كان عند ميلاد يسوع بالذات، كما في رواية لوقا‍؟! وهناك اليوم إجماع تامّ حول هذا الموضوع بالذات، من قبل جميع المؤرخين وشارحي ومفسّري الكتاب المقدّس…! والمؤرخون في ذلك العصر، وعلى رأسهم المؤرخ الشهير يوسيفوس (فلافيوس جوزاف)، لم يذكروا أي نوع من الإحصاء أو الاكتتاب في الزمن الذي ولد فيه المسيح. حتى إن متى نفسَه الذي تحدّث عن الميلاد والاحداث المحيطة به لم يذكر شيئاً عن الإحصاء والاكتتاب ولا عن سَفر يوسف ومريم الحبلى من الجليل الى بيت لحم… كما أن مرقس ويوحنا هما ايضاً، من جهتهما، لم يذكرا شيئاً عن الميلاد وطفولة يسوع! والنسخة الكاثوليكية الجديدة، التي بين أيدينا، تعلّق على موضوع الاحصاء، وقد أشرنا الى ذلك سَابقاً، فتقول: "ببليوس سَلبيسيوس قيرينيوس معروف في التاريخ بأنه حاكم على سوريَّة، أجْرى إحصاءَ فلسطين في السَنة 6 ب.م. أي بعد وفاة هيرودس الكبير بعشر سَنوات (وقعت هذه الوفاة بعد ميلاد يسوع، بحسَب ما ورد في متى 2: 19 وراجع لوقا 1: 5). كان مسؤولاً عن السياسَة الرومانية في الشرق الأدنى منذ السَنة 12 ق.م.، أفتراه باشر عمليات الاحصاء في فلسطين قبل وفاة هيرودس الكبير؟ أم هل استبق لوقا الاحصاء اللاحق؟ لا تمكننا المعلومات التي لدينا من البتّ في هذا الأمر…" (النسخة الجديدة في تعليقها على الاحصاء في لوقا 2: 1-5 والحاشية رقم 4 ص:193-194). وهكذا، وبعد مرور الفي سَنة على ميلاد يسوع، لا يمكن النسخة الجديدة ان تبت بتحديد زمن الاحصاء الذي ورد في لوقا. هل حصل قبل الميلاد ام بعده؟ وهي تتسَاءل اليوم: أفترى قيرينيوس باشر الإحصاء في فلسطين قبل وفاة هيرودس الكبير؟ أم هل استبق لوقا الإحصاء اللاحق؟! وهي تعترف أنه لا تمكننا المعلومات التي لدينا من البتّ في هذا الامر…"! أما التواريخ –بالمفهوم الحصري الحديث لكلمة "تاريخ"- فانها تؤكّد بالاجماع أنه قد حصلت إحصاءات رومانية قبل ولادة المسيح بفترة طويلة وبعد هذه الولادة بسَنوات عديدة، وأنه بالتالي –وهذا هو المهم والخطير في نظرنا- لم يحصل إحصاء أو اكتتاب البتّة في زمن الميلاد بالذات. وهذا يعني بوضوح، وكنتيجة منطقية حتمية، ان يوسف والد يسوع لم يذهب من الناصرة الى اليهودية، الى بيت لحم مدينة داود، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً…!!! فمن جهة، لم يحصل إحصاء في ذلك الوقت كي يذهب يوسف… ومن جهة ثانية، لم يكن هناك ناصرة لينطلق منها يوسف…! هذه هي الحقيقة


وجاء في أعمال الرسل، حول موضوع الاحصاء، ما يلي: "فقام في المجلس فريسيّ اسمه جملائيل، وكان من علماء الشريعة، وله حرمة عند الشعب كلّه. فأمر بإخراج هؤلاء الرجال (الرسل المسجونين في مجلس اليهود) وقتاً قليلاً، ثم قال لهم: يا بني إسرائيل، إياكم وما توشكون أن تفعلوه بهؤلاء الناس. فقد قام ثودس قبل هذه الأيام، وادّعى أنه رجل عظيم، فشايعه نحو أربعمائة رجل، فقتل وتبدّد جميع الذين انقادوا له، لم يبقَ لهم أثر. وبعد ذلك قام يهوذا الجليلي أيام الاحصاء، فاستدرج قوماً الى اتّباعه، فهلك هو أيضاً وتشتّت جميع الذين انقادوا له…" (أعمال الرسل 5: 34-37


فالنسخة الجديدة تعلق على هذا النص، فتقول: "كتب المؤرخ اليهوديّ يوسيفوس أن "ثودس" كان يدّعي أنه نبيّ ويعد أنصاره بأنهم سَيعبرون نهر الاردن على اليبس، كما فعل يشوع محرّر أرض الميعاد… والعصيان الذي تزعّمه "يهوذا الجليليّ" ورد ذكره أيضاً عند يوسيفوس المؤرخ، ولقد نتج عن الاحصاء مباشرة (4 ق.م. أو 6 ب.م.). وكان هذا العصيان منطلقاً لحركة الغيورين، علماً بأن هذه الحركة لم تفشل…" (ص 388، الحاشيتان رقم 16 ورقم 17). وهذا دليل آخر، في الكتاب المقدّس نفسَه، وفي يوسيفوس المؤرّخ أيضاً، أن الإحصاء أو الاكتتاب لم يحصل زمن الميلاد نفسَه، بل قبله بفترة من الزمن! مع أن لوقا يقول عن الإحصاء الذي جرى وقت الميلاد أنه الاحصاء الاول؟! فقد جاء بالحرف الواحد: "وفي تلك الأيام، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور. وجرى هذا الإحصاء الأول إذ كان قيرينيوس حاكم سورية. فذهب جميع الناس ليُكتتب كل واحد في مدينته. وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة… ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً…" (لوقا 2: 1-5)؟! ونذكّر هنا، مرّة أخرى، بتعليق النسخة الجديدة التي تقول حول هذا الموضوع: "… لا تمكّننا المعلومات التي لدينا من البتّ في هذا الامر…" (ص 194، الحاشية رقم 4، المقطع الأخير


يقول الشارح واللاهوتي الكاثوليكي الكبير، والاستاذ في المعهد الكاثوليكي في باريس، شارل بيرّو: "إن مشكلة الإحصاء في الأناجيل لم تحسم بعد، فهي قائمة الى يومنا هذا… ("يسوع والتاريخ"، 1979، ص 86). ويوافق هذا القول لاهوتي كبير لآخر، هو أوسكار كولمن في كتابه: "الولادة وشجرة الميلاد"، منشورات "سَيرف"، 1933. وهكذا، يتبين لنا أن كتب الأناجيل المقدسة لا يمكن اعتبارها، مرة أخرى، كتباً تاريخية بحصر المعنى وبحسَب مفهومنا اليوم، العلمي والدقيق، لكلمة "تاريخ". وهكذا، لم يذهب يوسف ليكتتب هو ومريم خطيبته الحامل، لانه، وبكل بسَاطة، لم يكن هناك اكتتاب او احصاء في ذلك الوقت بالذات! والذي جعل عامة الناس يعتقدون أن المسيح ولد في بيت لحم اليهودية، الجنوبية، بالقرب من أورشليم، وليس في بيت لحم الشمالية في الجليل، هو هذا المقطع الوارد في لوقا 2: 1-8، والغير الثابت والدقيق تاريخياً وجغرافياً، والذي ورد فيه: "وفي تلك الأيام، صدر أمر عن القيصر أغسطس بإحصاء جميع أهل المعمور… وصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة الى اليهودية… ليُكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً…" (لوقا 2: 1-7). مرّة أخرى، الناصرة لم تكن موجودة أيام يوسف


يقول اليوم الشارحان الكاثوليكيان الكبيران ب. بنوا وم. أ. بوامار: "أن الاحصاء او الاكتتاب الذي ذكر وقت الميلاد هو أمر غير مؤكد وغير ثابت تاريخياً…" (راجع كتابهما الضخم الشهير بالفرنسية: "إزائية الأناجيل الأربعة، الجزء الثاني، ص 63، الحاشية رقم 9، المقطع الأخير). غير أنهما يذكران أكثر من إحصاء حصل في الامبراطورية الرومانية قبل الميلاد أو بعده. والعالم شارل بيرّو، أحد كبار شارحي الانجيل وكتب العهد الجديد، يقول: "في كل الاحصاءات التي حصلت في أيام أغسطس قيصر، في بلاد الغال، في إسبانيا، في مصر، في سوريّة وغيرها، كان كل انسان يسجّل في مكان إقامته وليسَ في وطنه الأصلي أو مسقط رأسه… وكانت الغاية من تلك الاحصاءات إمّا تعداد الرجال الصالحين للحرب وإما معرفة حجم الممتلكات والخيرات بغية تحسين الضرائب. فإذا كان الامر كذلك، فمن المستبعد جداً ان يكون يوسف قد سَافر من الجليل الى اليهودية لهذه الغاية…" ("أحداث طفولة يسوع"، بالفرنسية، ص 51، العمود الأول). وجاك دوكين في كتابه الشهير "يسوع" يقول نفس القول تقريباً (الفصل الثالث، ص 45). وهكذا، وإذا افترضنا أن إحصاءً ما حصل عند الميلاد، في أيام يوسف، فان هذا الأخير يكون قد اكتتب في بيت لحم في الجليل، لانه كان من هذه المدينة.‎ غير أنه في الحقيقة التاريخية، كما ذكرنا، لم يحصل أي احصاء او اكتتاب في أيام يوسف، أي في زمن الميلاد. أمّا رواية سَفر يوسف المزعومة من الناصرة الى اليهودية اى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم (مع انه من الثابت أن اورشليم كانت تسمّي هي وحدها دوماً "مدينة داود"…)، لانه كان من بيت داود وعشيرته، ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً…، هذه الرواية، من حيث ربطها الميلاد بأرض اليهودية ومن هذه الناحية فقط، لا تستند الى أي أسَاس تاريخيّ وجغرافيّ. أما فيما سَوى ذلك، فالميلاد، كما جاء في الأناجيل المقدّسة، هو حقيقة تاريخية وجغرافية ثابتة ومؤكّدة، لا لبسَ فيها ولا إبهام ولا شك، على الإطلاق؛ وهي بكل تأكيد أعظم حقيقة في تاريخ البشرية والأرض. غير أن ربط أحداث رواية الميلاد بأرض اليهودية، وببيت لحم اليهودية بالذات، كان الغاية منه ربط يسوع المسيح بسَبط يهوذا وببيت داود وبأورشليم عاصمة اليهود (ولو عاصمتهم لفترة قصيرة من الزمن…) أي بالمثلث القومي اليهودي المعروف، والذي تحدثنا عنه مراراً وتكراراً. ومفتعلو هذا الربط غير الصحيح وغير الثابت هم بعض من النسّاخ الأقدمين من المسيحيّين المتهوّدين، الذين كان همّهم اقناع اليهود، بكل الطرق والوسائل، أن يسوع هو المسيح المخلّص الذي كان ينتظره اليهود. ومعروف تماماً أن المسيح المخلّص الذي ينتظره اليهود هو قائد عسكري قومي يحرّر اليهود وينصرهم على أعدائهم ويجعلهم يستعبدون الناس أجمعين. أما المسيح المخلّص الحقيقي –أي يسوع المسيح نفسه، "فهو مخلص العالم أجمع" (يوحنا 4: 42) وهو النور للأمم والمخلّص الذي أعدّه الله للشعوب كلّها…" (لوقا 2: 31-32). وهو المخلّص الوحيد للكون الكبير بكامله… نقول ذلك تكراراً وتكراراً عن قصد، وذلك لان الصفة الكونية للمسيح تبطل الصفة الضيقة العنصرية القومية "لمسيح اليهود


بعد قضية الإحصاء وعلاقته بالميلاد، تأتي قضية مجيء المجوس من المشرق الى أرض فلسطين بحثاً عن المولود الفريد "الذي رأوا نجمه في المشرق…". ولقد كتب الكثير الكثير عن قصة مجيء المجوس هذه. فالبعض يثبت حدوثها تاريخياً، ومنهم التقليد الشعبي المسيحي –كما وردت في رواية متى. والبعض الآخر ينفي حدوثها تاريخياً ويرجعها الى الرواية الاسطورية الشعبية كبعض المؤرخين المعاصرين… والبعض الآخر أيضاً يلمح الى بعض المبالغات في الرواية ويناقش بعض التفاصيل فيها. أمّا نحن فالذي يهمّنا في رواية مجيء المجوس، في هذه الدراسَة، هو الناحية الجغرافية والمكان الذي قصدوه عند مجيئهم وعلاقة ذلك بمكان ولادة يسوع المسيح. وقبل أن نفصّل رأينا في ذلك، ننقل أولاً رواية قدوم المجوس وسجودهم ليسوع، كما جاءَت في إنجيل متى


"ولمّا ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام الملك هيرودس، إذا مجوس قدموا أورشليم من المشرق وقالوا: أين ملك اليهود الذي ولد؟ فقد رأينا نجمه في المشرق، فجئنا لنَسجد له. فلما بلغ الخبر الملك هيرودس، اضطرب واضطربت معه أورشليم كلّها. فجمع عظماء الكهنة وكتبة الشعب كلّهم واستخبرهم أين يولد المسيح. فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، فقد أوحي الى النبيّ فكتب

"وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا، لستِ أصغر ولايات يهوذا، فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي اسرائيل". فدعا هيرودس المجوس سرّاَ وتحقق منهم في أي وقت ظهر النجم. ثم أرسلهم الى بيت لحم وقال: إذهبوا فابحثوا عن الطفل بحثاً دقيقاً، فإذا وجدتموه فأخبروني لأذهب أنا أيضاً وأسجد له. فلما سَمعوا كلام الملك ذهبوا. وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. فلما أبصروا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جدّاً. ودخلوا البيت فرأوا الطفل مع أمّه مريم. فجثوا له سَاجدين، ثم فتحوا حقائبهم وأهدوا إليه ذهباً وبخوراً ومرّاً. ثم أوحي اليهم في الحلم الاّ يرجعوا الى هيرودس، فانصرفوا في طريق آخر الى بلادهم"… (متّى 2: 1-12


إن الذي يهمنا من قضية قدوم المجوس، في هذه الدراسَة، هو بالدرجة الأولى تحديد الموقع الجغرافي الذي قصدوه، مع الاعتراف بمجيئهم من الناحية التاريخية. وتحديد الموقع الجغرافي يفسِّر، بشكل غير مباشر، أموراً تاريخية ظلت فترة طويلة مبهمة وغامضة وحتى متناقضة في بعض التفاصيل حتى اليوم. مرادنا أن نبرهن على أن المجوس قد قدموا من المشرق الى منطقة الجليل وحدها، ولم يدخلوا قط أرض اليهودية في الجنوب. وإليكم القرائن والأدلة والبراهين بالتفصيل. هذا مع العلم أنه إذا كان المجوس قد قدموا الى الجليل فقط ولم يدخلوا قط أرض اليهودية، فهذا يعني بوضوح ان ولادة يسوع المسيح قد حصلت في بيت لحم الشمالية في الجليل وليسَ في بيت لحم اليهودية كما يظنّ حتى اليوم


رأينا سَابقاً، واكثر من مرّة، أن الجماعات الروحية في الجليل، وعلى رأسهم الاسينيّون في الدير الكبير فوق جبل الكرمل، كانوا ينتظرون قبيل الميلاد مجيء "مسيح روحيّ" مخلّص للناس أجمعين، وليسَ مسيحاً قومياً عنصرياً محارباً كما كان اليهود ينتظرون… وكانت هذه الجماعات الروحية في الجليل على اتصال متواتر بسَائر الجماعات الروحية المماثلة في بلاد المشرق، في مصر وفارس وبابل. وقد تبيّن مؤخّراً أن هذه الجماعات الروحية الخاصة كانت تنتمي الى تيار روحي واحد وشبه منظمة روحية مشرقية هي المنظّمة الروحية الهرمسية العالمية…، التي كانت مطّلعة عن الاسرار الكونية والحقائق السرّية. كانت كل هذه الجماعات تنتظر سَوية مجيء هذا المخلّص الروحي الشامل، بواسطة الدراسات الفلكية وتقصّي علامات الأزمنة. وكانت الجماعات الجليلية –وخاصة الجماعة الاسينية- قد اكتشفت، بواسطة جداولها الفلكية-الروحية، بأن المسيح الروحي المنتظر سَوف يولد قريباً في منطقتهم أي في الجليل. واليوم أصبح من الثابت والمحقق وجود هذه الجداول الفلكية عند الاسينيين، بعد أن تمّ اكتشافها بين مخطوطات قمران –البحر الميت…! ولهذا، أخذت الجماعات الروحية في الجليل تستعد بشكل واع ومباشر لتقبّل هذا المخلّص، فاختارت، كما أوضحنا سَابقاً، 12 فتاة من أطهر وأقدس عائلاتهم، عَلَّ المخلّص يأتي من إحداهنّ. وكانت مريم العذراء من بين هذه الفتيات


والملفت حقاً، أن النسخة الكاثوليكية الجديدة نفسَها، في تعليقها على كلمة "مجوس"، تعترف بشكل واضح بالعلاقات التي كانت قائمة بين جماعة المشيحيّة القديمة في فلسطين –أي المنتظرين مجيء المسيح- وبين علماء الفلك في بابل! وهذا الاعتراف بالعلاقة بين الجماعتين، هو، على ما نعلم، الأول من نوعه في شروحات الكتاب المقدّس. وتقول النسخة الجديدة، في تعليقها على الآية الأولى من الفصل الثاني من متى والقائلة: "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام الملك هيرودس، إذا مجوس قدموا أورشليم من المشرق…" تقول النسخة: كان لكلمة "مجوس" معانٍ مختلفة: كهنة فرس ودعاة دينيون… وقد تدل هنا على منجّمين من بابل، لربّما كانوا على صلة بالمشيحية القديمة في فلسطين… (ص 38 والحاشية رقم 2). ويقول العالم المسيحي جاك دوكين في كتابه الشهير "يسوع"، الصادر حديثاً، يقول، مستنداً إلى مخطوطات قمران-البحر الميت: "إن الجماعة الاسينية قد حدّدت، من خلال جداولها الفلكيّة المفصّلة، زمن مجيء المسيح المخلّص. هذا ما وجدناه بين مخطوطات مغاور قمران-البحر الميت…" (ص 58، المقطع الأول)! ومن الجليل نفسَه انطلقت أخبار توقّع المخلّص وعمّت كلّ أرجاء فلسطين وجوارها. لذلك نجد في نصوص الأناجيل المقدّسة عينها اكثر من إشارة واضحة الى هذا "الانتظار الكبير": انتظار مسيح أو مخلّص أو نبيّ كبير، أو حتى عودة أحد الانبياء الكبار… يقول متى: "ولمّا وصل يسوع الى نواحي قيصرية فيلبّسَ سَأل تلاميذه: من ابن الإنسان في قول الناس؟ فقالوا: بعضهم يقول: هو يوحنا المعمدان (وكان قد مات)، والبعض الآخر يقول: هو إيليا، وغيرهم يقول: هو إرميا أو أحد الانبياء… فقال لهم: ومن أنا في قولكم أنتم؟ فأجاب سمعان بطرس: أنتَ المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 13-16). ويقول مرقس من جهته: "وذهب يسوع وتلاميذه الى قرى قيصرية فيلبّس، فسَأل في الطريق تلاميذه: من أنا في قول الناس؟ فأجابوه: يوحنا المعمدان. وبعضهم يقول: إيليّا، وبعضهم الآخر: أحد الانبياء. فسَألهم: ومن أنا، في قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: أنتَ المسيح. فنهاهم أن يخبروا أحداً بأمره…" (مرقس 8: 27-30). ولوقا يقول أيضاً: "واتفق أنه كان يصلّي في عزلة والتلاميذ معه فسَألهم: "من أنا في قول الجموع؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان. وبعضهم يقول: إيليّا. وبعضهم: نبيّ من الأولين قام. فقال لهم: ومن أنا في قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فنهاهم بشدّة أن يخبروا أحداً بذلك…" (لوقا 9: 18-21 الخ


وهكذا كان الجليل وفلسطين وجوارها في انتظار حدث روحي كبير، يدور حول مجيء مسيح أو مخلّص أو نبي كبير أو عودة أحد الانبياء الكبار الأقدمين… وهكذا كل الحاضرات الشرقية الثقافية والروحية. الانتظار كان يعمّ الشرق كلّه! وحدها الجمعيات الجليلة الروحية –وعلى رأسها الجماعة الاسينيّة- كانت تنتظر قدوم "مسيح روحي" غير زمني وذي طابع انسَانيّ شامل. وكان يعزز هذا الطابع الانساني الشمولي الروح الكنعانية المحلية التي ما فتئت تعزّز، من خلال صهرها لكل المعتقدات والمذاهب، الروح الانسانية الشاملة وتسعى الى ترسيخ "عالمية الانسان"…! وجَاءت مخطوطات قمران-البحر الميت لتؤكد وتثبت روحية وشمولية المسيح المنتظر… ولذلك، نجد المسيح نفسَه ينهى تلاميذه، أكثر من مرّة، أن يخبروا أحداّ بأنه المسيح! والسَبب في نهي المسيح هذا هو، دون شك، حرصه على الاّ يظن الناس أنه مسيح زمني دنيوي كما كان يعتقد اليهود، ولان الناس لم يكونوا مُهيّأيِنَ بعد لاقتبال مسيح روحيّ سَماويّ… يقول متى: "… ثم أوصى يسوع تلاميذه بالاّ يخبروا أحداً بأنه المسيح…" (متى 16: 20). ومرقس من جهته، يقول بعد اعتراف بطرس بأن يسوع هو المسيح: "فنهاهم أن يخبروا أحداً بأمره…" (مرقس 8: 30). ولوقا يقول بعد اعتراف بطرس أيضاً: "فنهاهم بشدّة أن يخبروا أحداً بأنه المسيح…" (لوقا 9: 21


والنسخة الجديدة في تعليقها على نهي المسيح هذا، الوارد في مرقس (8: 30)، تقول: "لا يتضمن ردّ فعل يسوع هذا، في نظر مرقس، أي استنكار للقب "المسيح"، علماً بأنه سَيقبله (في 14: 62). يخضع هذا اللقب (المسيح) للتوصية بالسكوت كلقب ابن الله وسَائر تعابير الكنيسَة. (راجع 1: 34 +، و1: 44 +) وهي تعد سَابقة لأوانها قبل انتهاء رسَالة يسوع بالموت والقيامة (راجع 4: 22 + و 9: 9). وإن أردنا أن نفهم سَبب تشديد مرقس على "سرّ" يسوع، لا بدّ لنا ان نأخذ بعين الاعتبار، لا التباسات الالقاب المشيحية اليهودية فقط، وهي غير كافية لتحديد رسَالة يسوع، بل التقدّم الذي أحرزه إيمان الكنيسة القديمة أيضاً، واجتهاد مرقس في إعادة قراءة حياة يسوع الأرضية في ضوء وحي الفصح…" (النسخة الجديدة، ص 152 والحاشية رقم 21). والبرهان على ذلك، أن يسوع نفسَه في الوقت المناسب، وفي اثناء محاكمته مثلاً، صرّح عالياً وبوضوح تام انه هو "المسيح" ابن الله الحيّ. يقول مرقس: "فسَأله عظيم الكهنة ثانية قال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ (والمبارك هو الله) فقال يسوع: أنا هو. وسَوف ترون ابن الانسان جالساً عن يمين القدير، وآتياً في غمام السماء" (مرقس 14: 61-62). ومن بقية النص عينه، يتضح ان يسوع هو غير "المسيح" الذي كان ينتظره اليهود. لان مرقس يتابع: "فشقّ عظيم الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد الى الشهود؟ لقد سَمعتم التجديف، فما رأيكم؟ فأجمعوا على الحكم بأنه يستوجب الموت. وأخذ بعضهم يبصقون عليه، ويُقَنِّعُون وجهه ويلطمونه ويقولون: تنبّأْ! وانهال الخدم عليه باللّطم…" (مرقس 14: 63-65). أجل! ان يسوع، كما هو واضح في الأناجيل المقدسة وكما صرّح هو نفسه علناً بذلك، ليسَ "المسيح" الذي كان ينتظره اليهود –مسيحاً زمنياً دنيوياً ملكاً محارباً…- بل هو في الحقيقة "المسيح الحق"، المسيح الروحيّ السماويّ الشامل، مخلّص الناس أجمعين والكون الكبير بكامله


هذا المسيح الروحي الشامل هو الذي كان ينتظره كبار الجماعات الروحية الجليلية بعد أن حدّدوا زمان مجيئه من خلال دراسَاتهم وأبحاثهم الفلكيّة. وهذه الدراسَات الفلكيّة كانت مقتصرة عليهم وحدهم في كل تلك المنطقة، لان كتب التوراة كانت تحرّم بشدّة على اليهود اللجوء الى الفلكيين والعرّافين والمنجّمين. فقد جاء في كتاب أشعيا النبي ما يلي: "قد أعييتِ، أيتها البكر بنت بابل، من كثرة مشوراتك. فليقف المنجّمون الناظرون في الكواكب، المعرّفون عن رؤوس الشهور، وليخلّصوكِ ممّا هو أتٍ عليكِ. إنهم سَيصيرون كالقشّ فتحرقهم النار، ولا ينقذون أنفسهم من يد اللّهيب، ولا تبقى جمرة يستدفأ عليها، ولا نار يقعد أمامها…" (سَفر أشعيا 47: 13-14). وسِفْرُ الأحبار يشدّد على ذلك فيقول: "لا تقصُدُوا العرافين والمنجّمين، فتتنجّسوا بهم: أنا الرب إلهكم…" (سِفْرُ الأحبار 19: 31


"لقد قلّب علماء الاسينيّين طرفهم في السَماوات وسَامروا النجوم ورقبوا الكواكب ورعوها ليتبيَّنوا خطة الله فيها، وكتبوا في ذلك ودوّنوا… فهناك درج يتضمّن أثر النجوم والكواكب في مصير الإنسان جسَداً وعقلاً… وهناك ما يبحث في تغييرات الطقس وآثارها في الحوادث الجارية: فبرقة أو رعدة معيّنة قد تنبئ بوصول غريب الى قمران أو بوقوع حادث غير عادي الخ…" (الدكتور أسَد رستم مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران طبعة ثانية، بيروت لبنان، 1990، ص 72


وهكذا في حين كانت علوم الفلك والتنجيم محرّمة تماماً على اليهود، حتى في النصوص الكتابية نفسها، كانت الجماعات الروحيّة الجليليّة، وخاصة جماعة الاسينيّين، يلجأون الى هذه العلوم لمعرفة أحوال المستقبل. وقد أجمع علماء اليوم الذين درسوا مخطوطات البحر الميت في قمران أن جماعة قمران كان لديها درج خاص يحوي جداول ولوائح منتظمة في علوم الفلك والتنجيم، بغية معرفة أحوال المستقبل


يقول الدكتور هـ. سبنسر لويس في كتابه "الحياة السرّية ليسوع": "تقول الوثائق والمخطوطات الشرقية القديمة إن جماعة المجوس، وهم من المنظمة الهرمسية الروحية العالمية، قد لمحت في المشرق بعد دراسات وأبحاث فلكية مفصّلة، النجم الذي يدلّ على ولادة المسيح المخلّص البشريّ المنتظر… وقد توجهوا الى منطقة فلسطين قبل عدة أسابيع من وقوع الحدث الكبير… وبعد أن قدّموا للطفل الالهي الاكرام والتقدمات الثمينة صعدوا الى جبل الكرمل المتاخم لمكان الولادة حيث أطلعوا كبار جماعة الكرمل على طبيعة ورسّالة هذا المولود الفريد وطلبوا اليهم توفير كل الظروف الملائمة لتربيته وتثقيفه وإعداده… وبعد فترة من الزمن قفلوا راجعين الى حيث انطلقوا…" (الفصل السَادس: "مكان ولادة يسوع والمجوس"، ص 104-105


يتبيّن من هذا النص، بالاضافة الى ما ذكرنا في الفقرات السَابقة، عدّة حقائق تاريخيّة وجغرافية لم يحصل تركيز وافٍ عليها حتى اليوم، او لم يجرؤ أحد على إعلانها حتى اليوم، وهي التالية: أولاً كانت حاضرات الشرق كلها تتلهّف لمجيء مخلّص بشري روحي كبير، وكان علماء الفلك والمنجّمون يجرون الأبحاث والدراسات حول تحديد زمن مجيئه. ثانياً كانت جماعات المنظّمة الهرمسية في الشرق على اتصال متواتر، بعضها مع بعض، حول تحديد زمن ولادته. وقد توافقت أخيراً هذه الجماعات الروحية على ن منطقة فلسطين (آنذاك، أي جنوب أرض كنعان) هي المكان المحدّد لولادة هذا المخلّص. ثالثاً عندما قدم مجوس الشرق الى المنطقة لم يذهبوا الى الجنوب أي الى اليهودية، بل قصدوا الجليل، في الشمال، لأنهم كانوا يعرفون بالتحديد موقع الولادة… وبعد أن سَجدوا للطفل الالهي كان من الطبيعي جداً أن يبقوا في المنطقة لفترة من الزمن يتوافقون خلالها مع زملائهم المحليّين –الجماعات الجليليّة الروحيّة- حول مصير الطفل وظروف تربيته وتثقيفه وإعداده… نظراً لرسَالته البشرية السَامية. لذلك، وبعد سجودهم للطفل الالهيّ قصدوا جماعة جبل الكرمل الملاصق لمكان الولادة… هذه الجماعة الذين كانوا على اتصال مستمر معها حول مجيء هذا المخلّص. رابعاً اذا كانت كل هذه الامور قد حصلت فعلاً في الجليل، في منطقة جبل الكرمل، فان ولادة يسوع قد حصلت، ليسَ في بيت لحم اليهودية في أقاصي الجنوب، بل بالاحرى في بيت لحم الشمالية الجليلية المتاخِمة لجبل الكرمل بالذات، والكائنةـ الى اليوم، في سفوحه الشمالية الشرقية (راجع جميع خرائط العالم القديمة والحديثة، المخطوطة والمطبوعة، بجميع اللغات…!). وتكرارنا لمراجعة الخرائط مقصود أيضاً، وذلك لان الطابع "العلمي" للخرائط يقنع نظر انسان اليوم وعقله ومنطقه العلميّ


وعلى ضوء كلّ ما سَبق، وبالاضافة اليه، وزيادة في التأكيد، نفهم الآن لماذا تؤكد الأناجيل المنحولة –من النواحي التاريخية والجغرافية…- أن المجوس لم يدخلوا قط أرض اليهودية في الجنوب، بل دخلوا أرض الجليل حيث ولد يسوع، في بيت لحم الجليلية، وحيث قدموا وسَجدوا به… يقول الانجيل القديم بحسَب يعقوب –وقد ثبت أن هذا الانجيل هو أقدم الأناجيل وأقدم كتب العهد الجديد كلّها- يقول ما ترجمته الى العربية، بالحرف الواحد: "… وقد أوحى ملاك الرب الى المجوس الآتين من المشرق بالاّ يدخلوا الى أرض اليهودية بل الى أرض الجليل…" (الانجيل القديم ليعقوب 21: 1-4 راجع أيضاً: "الاناجيل المنحولة" إعداد وتقديم دانيال روبس و ف. أَميو، ص 63، "الأناجيل المنحولة" اعداد وتقديم فرانس كيرى ص 83؛ وب. بنوا وم.أ. بوامار في مجلّدهما الكبير "إزّائية الأناجيل الأربعة"، الجزء الأول، ص 10، الحاشيتين رقم 1 ورقم 2). وهكذا، وبحسَب هذه الأناجيل أيضاً، يتبيّن أن المجوس الآتين من المشرق لم يدخلوا أرض اليهودية في الجنوب، بل قصدوا مسبقاً أرض الجليل حيث تمّت ولادة يسوع في بيت لحم الجليلية الشمالية. وحتى أنهم لم يعرّجوا على اليهودية حيث بيت لحم المعروفة اليوم، لا في مجيئهم ولا في إيابهم. أمّا لماذا حاول النسّاخ المتأخرون، وهم من المسيحيّين المتهوّدين، أن يوهموا الناس بأن المجوس قدموا الى أورشليم واجتمعوا بالملك هيرودس –وبالتالي أن المسيح ولد في بيت لحم اليهودية القريبة من أورشليم بالذات- فَلأَسباب عينها التي ذكرناها أكثر من مرّة ألا وهي: التركيز على أورشليم العاصمة اليهودية أنذاك وجعلها محور الأحداث، ومحاولة ربط يسوع بذرية داود وسلالته، كلّ ذلك لكي يبرهنوا ان يسوع المسيح هو مسيح اليهود


أما إذا عدنا الى التاريخ، بالمفهوم الحديث لكلمة "تاريخ"، فلا نجد أي ذكر لمجيء المجوس الى أرض اليهودية عند جميع مؤرخي ذلك العصر. فالمؤرّخ فلافيوس جوزاف –يوسيفوس- الذي ذكر كل شاردة وواردة حصلت في اليهودية في ذلك الزمان لا يذكر شيئاً عن قدوم المجوس الى اليهوديّة! مع أن مجيء المجوس للبحث عن مكان ولادة "ملك اليهود"، بحسَب نسّاخ متى المتأخرين، قد هزّ بقوة هيرودس الملك وأحبار اليهود وأورشليم كلّها. فقضية ولادة ملك جديد لليهود قضية في غاية الاهمية والخطورة بالنسبة الى الجميع، وحتى بالنسبة الى قيصر رومه نفسَه. وهذا أمر طبيعي جداً وفي غاية المنطق والمعقول. ومع هذا كلّه، فان المؤرخ الامبراطوري الكبير يوسيفوس، وهو المؤرخ المرجع الثقة، لم يذكر أي شيء عن هذا الحدث البالغ الخطورة! إنه، في الحقيقة والواقع، أمر في غاية الغرابة! والمؤرخون الرومان، امثال لاكتانس وبلينوس وسَيّوتون وغيرهم، الذين تحدثوا عن يسوع المسيح، لم يذكروا شيئاً عن مجيء المجوس ولا عن ولادة "ملك جديد لليهود"، مع أن هذا الامر كان يعنيهم بشكل مباشر… وذلك لأنهم رومان، ولأن هذا الملك يهدّد سلطة الملك هيرودس الذي عينه الرومان ملكاً على اليهوديّة


وإذا تصفحنا كتب كبار المؤرّخين العرب والمسلمين، كالطبري والمسعودي وغيرهم، فلا نجد أي ذكر فيها لمجيء المجوس الى أرض اليهوديّة أو الى أورشليم بالذات، ولا أي ذكر لولادة ملك جديد لليهود. يروي الطبري، المؤرخ والمفسّر المسلم الشهير، من الجيل العاشر المسيحي، قدوم المجوس الآتين من الشرق، ويعطي عن تقادمهم شرحاً يقرب من تفسير المسيحييّن: "فالذهب يقدم لامير عصره، والمرّ بلسَم لجراحه وما البخور الاّ رائحته تبلغ السماء…". غير ان الطبري لا يذكر أي شيء عن اليهودية أو أورشليم أو الملك هيرودس. بل يقول بالحرف الواحد: "مرّ المجوس، الآتون من الشرق، بملك الشام وأخبروه بامر المولود الجديد…" (راجع تاريخ الطبري 1: 727-729؛ راجع أيضاً: " مروج الذهب" للمسعودي 4: 77-80؛ "وكتاب العبر" لابن خلدون 2: 148، وغيرهم…). والمعروف أن فينيقية عهد ذاك كانت تسمّى: فينيقية –سوريّة… (الشام)- راجع أيضاً الخرائط المنشورة في هذا الكتاب


وهكذا يتبيّن لنا أخيراً وبوضوح أن المجوس الآتين من الشرق لم يدخلوا أرض اليهودية حيث أورشليم وبيت لحم يهوذا، بل دخلوا أرض الجليل في الشمال حيث منطقة الكرمل وبيت لحم الحقيقية حيث ولد السيّد المسيح في مغارة قريبة من بيت لحم الجليل، وفي سفوح جبل الكرمل بالذات. وذلك بالاستناد الى الوثائق والخرائط والقرائن التاريخية والجغرافية القديمة، والأناجيل المنحولة، وبعض كبار مؤرخي العرب والاسلام، وبعض المؤرخين والمفسِّرين المسيحيين من قدماء وحديثين ومعاصرين


وبعد قضية المجوس ومجيئهم من الشرق الى الجليل، تأتي قضية قتل أطفال بيت لحم وجميع أراضيها على يد هيرودس الملك، كنتيجة مباشرة لمجيء المجوس والولادة المزعومة لملك اليهود… هذا يعني أنه لو لم يأت المجوس ويسألوا عن "ملك اليهود الذي ولد…"، بحسَب رواية متى (2: 1-12)، لما اضطرب الملك هيرودس وخاف على ملكه… "فأرسل فقتل كل طفل في بيت لحم وجميع أراضيها، من ابن سَنتين فما دون ذلك، بحسَب الوقت الذي تحقّقه من المجوس…" ولئلا نقع في التكرار نقول إن كل ما قدمناه، في الفقرات السابقة، عن المجوس وقصدهم من المجيء ودخولهم فقط الى أرض الجليل حيث حصلت الولادة، وعن عدم دخولهم الى اليهودية حيث بيت لحم المعروفة، كل ذلك، وكل ما ينتج عنه، ينطبق بالتالي، وكنتيجة منطقية حتمية، على قضيَّة قتل اطفال بيت لحم وكل أراضيها… وبعبارة أبسَط إن عملية قتل أطفال بيت لحم هذه لم تحصل أبداً في أرض اليهودية في الجنوب، بل هي قد تكون حصلت –في حال حصلت بالفعل تاريخياً- في مدينة بيت لحم الجليل الشمالية وكل أراضيها


إن قتل أطفال بيت لحم "وكل أراضيها"، هو في الحقيقة، مجزرة بشرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى. ونحن نعرف، والكتاب المقدس نفسه يصرّح بوضوح انه كان لمدينة بيت لحم شيوخ عديدون يمثلونها، وكان لها أبواب ومداخل وسَاحات يجتمع فيها الشعب. فقتل كل أطفالها وأطفال جميع أراضيها من ابن سَنتين فما دون ذلك، يشكّل في الواقع مجزرة انسانية حقيقية. والقتل هو قتل اطفال صغار ابرياء وعزّل… فلو كانت هذه المجزرة الفظيعة قد حصلت فعلاً في بيت لحم اليهودية بالقرب من أورشليم، أفلم يكن من البديهي والطبيعي والمعقول أن يأتي على ذكرها، ولو بإشارة عابرة، واحد من مؤرخي العالم؟ وبنوع خاص واحد من مؤرخي ذلك العصر وتلك المنطقة بالذات؟ أنه في الواقع لأمر عجيب غريب للغاية‍ فلا المؤرخون اليونان ولا المؤرخون الرومان ولا المؤرخون العرب والمسلمون ولا غيرهم، اشاروا الى هذه المجزرة البشعة، ولو بكلمة واحدة. والمؤرخ الكبير يوسيفوس، المؤرخ اليهودي لذلك العصر ولكل تلك المنطقة، والذي أورد كثيراً من التفاصيل في تواريخه، هو أيضاً لم يذكر هذه المجزرة بعبارة واحدة‍؟ وحتى في يومنا هذا، لا أحد من المؤرخين ولا من شارحي ومفسّري الأناجيل المقدسّة يؤكد حصول مجزرة بيت لحم هذه، بشكل تاريخي، في أرض اليهودية. أما اذا كانت مجزرة بيت لحم قد حصلت –هذا اذا كانت قد حصلت فعلاً- في بيت لحم الحقيقية الشمالية في الجليل، كما تحاول هذه الدراسة ان تثبت، فان كل التساؤلات تبطل دفعة واحدة، وينتفي العجب وتتلاشى الغرابة وتلتقي القرائن ويسود المنطق التاريخي والجغرافي. فلا مجال في علم التاريخ والجغرافية للأفكار المسبقة والتفسير التقوي والتأويلات الشعبية السَطحية، ولا بالأحرى للطمس والتحريف والجهل الموروث… والخوف… وعندما نقول "الخوف" ونكرر هذا القول، في هذه المواضيع بالذات، فانما نَعْنِي الخوف من اليهود ومن المسيحيّين المتهوّدين


وإذا عدنا الى المؤرخ الكبير يوسيفوس، مؤرخ ذلك العصر وتلك المنطقة، نقرأ في كتابه الكبير "الآثار اليهوديّة" ما ترجمته الى العربية: "أغرق هيرودس الكبير، بواسطة حرسه الخاص، ابن حميّه الشاب الجميل "أرِستوبيل" الذي كان ذا شعبية كبيرة… والذي كان مهيأ لان يصبح رئيس الكهنة… وكان ارستوبيل عندما مات غرقاً بعمر السابعة عشر‍! ثم قتل على التوالي: ابن حميّه الآخر المدعو جوزيف، ثم الملك الشيخ العجوز هيرقان الثاني الذي كان بعمر 80 سَنة، ثم قتل زوجته الاشمونية "مريامن" ذات الشخصية القويّة، والتي كان يحبّها كثيراً، ثم قتل ولديه "أرستوبيل والكسندر"… وقبل موته، أثناء مرضه العضال، أمر هيرودس بقطع رأس ابنه الثالث "أنتيباتر"…، ثم أمر بإحراق 40 شاباً يهودياً لانهم خلعوا "النسر الذهبي" الذي وضعه فوق باب الهيكل في أورشليم… وقبيل موته بسَاعات قليلة أمر بقتل وجيه يهوديّ في كلّ منطقة من مناطق اليهودية، لكي يعمّ هكذا البكاء والعويل والحزن على موته كل انحاء اليهودية‍… وكان قد أمر برجم يعقوب أخي يسوع المدعو المسيح…" ("الآثار اليهويدة" 20: 1-2؛ راجع أيضاً" جيرالد مسّاديه: "الانسان الذي صار الهاً" ص 88-89؛ جاك دوكين: "يسوع" ص 61-64 مع الحواشي والشروحات؛ دانيال روبس: "يسوع في زمانه" ص 120، وغيرهم كثيرون…). وهكذا، يروي يوسيفوس مؤرخ اليهودية آنذاك كل هذه الحوادث والجرائم، الصغيرة والكبيرة، التي قام بها هيرودس الكبير، وهو يروي أيضاً غيرها، دون ان يذكر حرفاً واحداً عن قتل اطفال بيت لحم في أرض اليهودية


وخلف الحاكم أرخلاوس أباه هيرودس الكبير على اليهودية، وحكم من السَنة 4 قبل الميلاد حتى سَنة 6 بعد الميلاد (الكتاب المقدس –العهد الجديد، انجيل متى 2: 21، الحاشية رقم 1، الطبعة الثامنة، ص 39). ويقول دانيال روبس في أرخلاوس: "وخلف أرخلاوس أباه هيرودس الكبير على اليهودية وكان أكثر شراسة من أبيه. فقد قتل في بداية عهده حوالي ثلاثة الآف يهودي لأسباب مختلفة…" ("يسوع في زمانه"، ص 123). ولم يذكر كلمة واحدة عن قتل اطفال بيت لحم اليهودية "وجميع أراضيها". ومتى، من جهته، يستطرد في الكلام عن أرخلاوس حاكم اليهودية فيقول: "وما إن توفي هيرودس حتى تراءى ملاك الرب في الحلم ليوسف في مصر وقال له: قم فخذ الطفل وأمه واذهب الى أرض اسرائيل، فقد مات من كان يريد اهلاك الطفل. فقام فأخذ الطفل وأمه ودخل أرض اسرائيل. لكنه سَمع أن أرخلاوس خلف أباه هيرودس على اليهودية، فخاف ان يذهب اليها. فأوحي اليه في الحلم، فلجأ الى ناحية الجليل. وجاء مدينة يقال لها الناصرة فسَكن فيها، ليتمّ ما قيل على لسَان الانبياء: إنه يدعى ناصريّاً…" (متى 2: 19-23). ويقول دانيال روبس أيضاً عن عودة يوسف ومريم والطفل يسوع من مصر، أيام أرخلاوس، وإقامتهم في ناصرة الجليل، ما يلي: "ويتبيّن لنا ممّا تقدم أن يسوع المسيح قد ولد، دون شك، بين 749 و 748 لرومة. وكان عند عودته من مصر مع أبويه، بعمر ما بين 8 أشهر و18 شهراً…" ("يسوع في زمانه"، ص 123). وعندما يتعرّض لقضية رواية قتل أطفال بيت لحم، يرجّح دانيال روبس أنها كتبت على الطريقة التي استعملت في ولادات عظماء الرجال أمثال أغوسطوس قيصر… فيقول: "يروي "سَيّواتون" المؤرخ الروماني ان مجلس الشيوخ في رومة، عندما نمي اليه، عن طريق العرافة، أن طفلاً سَيولد ويجلس على عرش رومه مكان أوغسطوس قيصر، أرسل فقتل العديد من الأطفال في تلك النواحي التي من الممكن ان يولد فيها أطفال يطمحون الى الجلوس على عرش رومه…" ("يسوع في زمانه"، ص 122


واذا عدنا الى رواية قتل اطفال بين لحم نفسها بحسَب متى، نجد أن كبار المفسّرين، وعلى رأسهم شارل بيرّو، يقولون إن متى الذي وضع انجيله على طريقة واسلوب "المدراش اليهودي"، وهنا بالتحديد على طريقة واسلوب "مدراش موسَى الصغير"، عرض رواية قتل اطفال بيت لحم في أطار كتابة "المدراش": موسَى هو مخلص شعبه… في العهد القديم، وقد مات عند ولادته العديد من أطفال العبرانيين. ويسوع هو مخلّص شعبه… في العهد الجديد، وقد مات عند ولادته العديد من الأطفال الأبرياء، أطفال بيت لحم… فقد جاء في سَفر الخروج عن مولد موسَى ما يلي: "وكلّم ملك مصر (الفرعون رعمسيس الثاني 1304-1238) قَابِلَتَيّ العبرانيّات اللتين اسم إحداهما شفرة والاخرى فوعة وقال: إذا وَلَّدْتُما العبرانيات، فانظرا الى جنس المولود، فإن كان ابناً فأميتوه، وإن كانت ابنة فلتحيا… وأمر فرعون كل شعبه قائلاً: كل ابن يولد للعبرانيّين فاطرحوه في النيل، وكل ابنة فاستبقوها… ومضى رجل من آل لاوي فتزوّج بابنة لاوي. فحملت المرأة وولدت ابناً. ولما رأت أنه جميل، أخفته ثلاثة أشهر. ولمّا لم تستطع أن تخفيه بعد، أخذت له سلّة من البرديّ وطلتها بالحمر والزفت، وجعلت الولد فيها ووضعتها بين القصب على حافة النهر… فنزلت ابنة فرعون الى النيل لتغتسل، فرأت السلّة بين القصب، فأرسلت خادمتها فأخذتها. وفَتَحَتْها ورأت الولد، فاذا هو صبيّ يبكي… فأشفقت عليه وقالت: هذا من أولاد العبرانيّين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لكِ مرضعاً من العبرانيات ترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أمّ الولد. فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد فأرضعيه لي، وأنا أعطيك أجرتك. فأخذت المرأة الولد وأرضعته. ولما كبر الولد، جاءَت به ابنة فرعون، فأصبح لها ابناً، وسمّته موسَى وقالت لانني انتشلته من الماء…" (سَفر الخروج 1: 15-22؛ 2: 1-10 مع الحواشي والشروحات


يقول شارل بيرّو: "ان نصوص الانجيل بحسَب متى ترتبط ارتباطاً وثيقاً باسلوب كتابة المدراش عند اليهود، وعلى الخصوص "بمدراش موسَى الصغير". والبعض من هذه النصوص يستوحي "مدراش أجّاداً"… والبعض الآخر "مدراش بيشر"…. وعند الجماعات المسيحية الأولى كان هذا الاسلوب متّبعاً بشكل عادي شفهياً وكتابة. وكيف، يا ترى، يمكن لهؤلاء المسيحييّن أن يتأملوا بأحداث ميلاد يسوع وطفولته دون الرجوع الى الولادات الفريدة التي تتحدث عنها اسفار العهد القديم؟ ودون الأخذ بالشروحات والتفسيرات الخاصة بهذه الولادات، والسَائدة في أيامهم؟ فبالنسبة الى المسيحييّن الأولين، كانت أحداث طفولة يسوع تختصر كل تلك الولادات القديمة وتبلغ بها الى حد كمالها… فكل هذه الاعتبارات تلقي ضوءاً جديداً على احداث ولادة يسوع وطفولته… ومتى عندما يروي أحداث الميلاد والطفولة، يركّز فقط على شخص يسوع ورسالته الجديدة، دون الاهتمام الكافي والوافي للتفاصيل التاريخية والجغرافية وما إليها…! ويمكن أن يسَمّى هذا "انتقالاً لاهوتياً" على حسَاب "الانتقال التاريخي"…! (شارل بيرّو: "أحداث طفولة يسوع" ص 11-16؛ وأيضاً: "أحداث الطفولة في مدراش هجاداً" ابتداء من القرن الثاني قبل الميلاد"، ص 481-518



-الولادة السرّية ليسوع المسيح

يقول المسيح، في صون الحقائق السرّية المقدسة، في إنجيل متى: "لا تعطوا الكلاب ما هو مقدّس، ولا تلقوا جواهركم الى الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها، ثم ترتدّ إليكم فتمزّقكم…" (متى 7: 6). وفي شرح "مثل الزارع" المتعلّق باسرار ملكوت السَماوات، قال المسيح: "من كان له أذنان سَامعتان فليسمع!" فدنا تلاميذه وقالوا له: لماذا تكلّمهم بالامثال؟ فأجابهم يسوع: لأنكم أعطيتم أنتم وحدكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السَماوات، وأمّا أولئك فلم يعطوا ذلك… لأن من كان له شيء، يعطى فيفيض… ومن ليس له شيء، ينتزع منه حتى الذي له. وإنما اكلّمهم بالأمثال لأنهم ينظرون ولا يبصرون، ولأنهم يسمعون ولا يسمعون ولا هم يفهمون. وفيهم تتمّ نبؤة أشعيا حيث قال


تسمعون سَماعاً ولا تفهمون
وتنظرون نظراً ولا تبصرون
فقد غلظ قلب هذا الشعب
وأصَمّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم
لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم
ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا
أفأشفيهم
(راجع انجيل متى 13: 3-15، مع الحواشي والشروحات في النسخة الكاثوليكية (اليسوعية)، طبعة 1989


وبولس رسول "الأمم"، يشير الى الحقائق الدهريّة السرّية الخاصة بالراشدين بالروح…، فيقول


"… وإننا على حكمة نتكلّم بين المؤمنين الراشدين، وليسَت بحكمة هذه الدنيا، ولا بحكمة رؤسَاء هذه الدنيا ومصيرهم للزوال، بل نتكلّم على حكمة الله السرّية التي ظلّت مكتومة في الماضي… تلك التي أعدّها الله قبل الدهور في سَبيل مجدنا. ولم يعرفها أحد من رؤساء هذه الدنيا، ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد… وإننا لا نتكلّم عليها بكلام مأخوذ من الحكمة البشريّة، بل بكلام مأخوذ عن الروح، فنعبّر عن الأمور الروحيّة بعبارات روحيّة. فالإنسان البشريّ لا يقبل ما هو من روح الله فإنه حماقة عنده، ولا يستطيع أن يعرفه لأنه لا حكم في ذلك الاّ بالروح… وإني، أيها الإخوة لم أستطع أن اكلّمكم كلامي لأناس روحيّين، بل لأناس بشريّين، لأطفال في المسيح. وقد غذوتكم باللّبن الحليب لا بالطعام، لأنكم ما كنتم تطيقونه ولا أنتم تطيقونه الآن، فإنكم لا تزالون بشريّين"… (الأولى الى كورنتس 2: 6-8، 13-14؛ 3: 1-3، مع الحواشي والشروحات). وفي الرسالة الى العبرانيين، نقرأ في الموضوع نفسَه، وفي "سرّ ملكيصادق" –عظيم كهنة "إيل"- بالتحديد، ما يلي


"… ان الله أعلن المسيح عظيم كهنة على رتبة ملكيصادق… ولنا في هذا الموضوع كلام كثير صعب التفسير، لأنكم كسَالى عن الإصغاء، وكان عليكم أن تستفيدوا من الزمن فتصبحوا معلّمين، في حين أنكم محتاجون الى من يعلّمكم أوليّات أقوال الله، محتاجون الى لبن حليب، لا الى طعام قويّ. فكلّ من كان طعامه اللبن الحليب لا تكون له خبرة بكلمة البرّ لأنه طفل، في حين أن الطعام القويّ هو للراشدين، لأولئك الذين بالتدرّب روّضت بصائرهم…" (الرسالة الى العبرانيين 5: 10-14). وفي موضوع آخر، تقول الرسَالة نفسَها في " سرّ" ملكيصادق، الذي كان المسيح "على رتبته"، ما يلي: "… والرجاء هو لنا مثل مرسَاةٍ للنفس أمينة تخترق الحجاب الى حيث دخل يسوع من أجلنا سَابقاً لنا وصار عظيم كهنة للأبد على رتبة ملكيصادق… فإن ملكيصادق هذا هو ملك شليم وكاهن الله تعالى، خرج لملاقاة إبراهيم عند رجوعه، بعدما كسَر الملوك، وباركه، وله أدّى إبراهيم العشر من كلّ شيء. وتفسير اسمه أولاً ملك البرّ، ثم ملك شليم، أي ملك السَلام. وليسَ له أب ولا أم ولا نسَب، وليسَ لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله… ويبقى كاهناً أبد الدهور… فانظروا ما أعظم هذا الذي أدّى له إبراهيم عشر خيار الغنائم، مع أنه رئيس الآباء… إن الذين يقبلون الكهنوت من بني لاوي تأمرهم الشريعة بأن يأخذوا العشر من الشعب، أي من إخوتهم، مع أنهم خرجوا هم أيضاً من صلب إبراهيم. أمّا الذي ليسَ له نسَب بينهم، فقد أخذ العشر من إبراهيم وبارك ذاك الذي كانت له المواعد. وممّا لا خلاف فيه أن الأصغر شأناً يتلقى البركة من الاكبر شأناً. ثم إن الذين يأخذون العشر ههنا بشر مائتون، وأمّا هناك فإنه الذي يُشهد له بأنه حيّ. فيجوز القول إن لاوي نفسَه، وهو الذي يأخذ العشر، قد أدّى العشر في شخص إبراهيم، لأنه كان في صلب أبيه يوم خرج ملكيصادق لملاقاته…". (الرسَالة الى العبرانيين 6: 19-20؛ 7: 1-10، مع الحواشي والشروحات…). وتوضح الشروحات لهذه النصوص، في النسخة الكاثوليكية الجديدة، فتقول (صفحة 703): "يأخذ الكاتب بمبدأ تفسير للربّانيّين فيستند هنا الى ما لا تذكره رواية تكوين 14 ليخطّ رسماً يجعل خارج الزمان صورة ملكيصادق الغامضة والنبوية. ويرى في ملكيصادق صورة سَابقة ليسوع المسيح… لا يضع الكتاب المقدّس حدّاً زمنياً لكهنوت ملكيصادق. وهذه الصفة تميّزه عن كهنوت عظماء الكهنة اليهود، علماً بأن كهنوت أحبار اليهود كان ينتهي عند موتهم (راجع سَفر العدد 20: 24-28)". ونرى هذه الصفة نفسَها كاملة في كهنوت المسيح، غير اليهوديّ، القائم من الموت: "انه كاهن الى الأبد على رتبة ملكيصادق…". ويستخدم الكاتب جباية العشر من إبراهيم على يد ملكيصادق ليدلّ على تفوّق كهنوته على كهنوت اليهود، كهنوت هارون واليعازر ولاوي المولودين من إبراهيم… وحين يتم إثبات الشبه القويّ بين المسيح وملكيصادق بالاستشهاد بمزمور 110، يبلغ الاستدلال خاتمته: إن كهنوت المسيح ليسَ كهنوتاً يهودياً، وهو أفضل من كهنوت اللاويّين اليهود، لأنه على "رتبة ملكيصادق"… فالكتاب المقدس نفسَه في عهديه، القديم (مزمور 110)، والجديد (الرسَالة الى العبرانيين 7)، يؤكّد اذاً أن كهنوت المسيح ليسَ كهنوتاً يهودياً، بل كهنوتاً على رتبة ملكيصادق. وملكيصادق، كما هو واضح وضوح الشمس عند الظهيرة في سَماء لبنان الصافية، هو كبير كهنة الإله الكنعانيّ-اللبنانيّ "إيل". فالنتيجة السَاطعة كالشمس أو كحدّ السيف هي التالية: ان كهنوت يسوع المسيح ابن مريم العذراء هو كهنوت كنعاني! هذه حقيقة سَاطعة كالشمس، تبهر العيون الضعيفة لشدّة سطوعها… وهذه الحقيقة يؤكدها التاريخ والجغرافية والوحي الالهيّ والتقليد والكتاب. ويؤكدها، بنوع خاص، العهد الجديد والقديس بولس وتلاميذه… أما لماذا لا يراها الكثيرون؟ "لأنهم يبصرون ولا ينظرون…". أو لأنهم خارجون لتوّهم من ظلمات المغاور اليهوديّة القديمة الى سطوع شمس وجه المسيح: إن شدّة سطوع هذه الشمس القوية تبهر عيونهم الضعيفة المشبعة بالظلمات الحالكة، والتي لم تَعْتَدْ بعدُ على التحديق بالشمس مباشرة!… أما نحن، فبفضل تشبعنا من الإصالة الكنعانيّة، نعلن هذه الحقيقة، الآن وهنا، بالفم الملآن امام العالم أجمع، امام الكون الكبير، امام البشر والحضارات الكونية والملائكة وقوات السَماء أجمعين: أجل! ان كهنوت يسوع المسيح هو كهنوت كنعاني –لبناني


لقد مهّدنا لهذا الفصل المتعلق بسرّ ولادة المسيح، بهذه المقدمة الكتابيّة الطويلة، نظراً لأهمية موضوع هذا الفصل من جهة، ومن جهة ثانية، نظراً لمتانة "الأسَاس الكتابي" المستند على الوحي وكلام الله


تحدّثنا في الفصول السَابقة عن "جليل الأمم" موطن يسوع المسيح، عن نسَبه وأقاربه، عن البيئة الجغرافية والفكرية والدينية التي ولد ونشأ وبشّر فيها. ثم تحدّثنا عن الجماعات والفرق المذهبية والروحية التي كانت منتشرة في هذه البيئة، والتي كانت تشكل بوتقة إنسانيّة حضاريّة دينيّة… وقد ركّزنا، بنوع خاص، على الجماعة الاسينية الفريدة، والآن أصبح بامكاننا أن نتكلّم على ولادة يسوع المسيح، هذه الولادة ذات الطابع السرّي والفريد…،بشكل طبيعي وموضوعي. ولو حمل كلامنا هذا بعض الغرابة


في زمن الميلاد، كانت "الجماعة الاسينيّة" راسخة ومنتشرة في مناطق عدة من مصر وفلسطين "وجليل الأمم". وكانت مدينة الاسكندرية تحتضن المركز الأسَاسي للجماعة الاسينية المصرية. أمّا الهيكل الاسينيّ السرّي الكبير فكان قائماً في مدينة هيليوبوليس الشهيرة بقدمها وروحانيتها العريقة، حيث كان كبار الأخوة الاسينيّين يعقدون دورياً اجتماعاتهم السرّية ويحتفلون بأسرارهم وطقوسهم الدينية. وكانت الوثائق التاريخية القديمة تتحدث عن هذا الهيكل الكبير بكثير من الهيبة والوقار وتسميه "هيكل هيليوس" أو "هيكل الشمس". أما في "جليل الأمم" –في شمالي فلسطين- فكان نشاط الجماعة الاسينيّة ينطلق من مركزها الاسَاسي وديرها الكبير فوق جبل الكرمل. ومن دير قمران بجانب البحر الميت، يمتد نشاطها الى أورشليم وسَائر اليهوديّة. وكان لها هيكل خاص قرب أحد أبواب أورشليم مخصّص للاحتفالات الدينية… وقد سَلّطت الاكتشافات والدراسات العلمية النقدية الحديثة كثيراً من الأضواء على هذه الحقائق التي ظلّت مطموسَة الى يومنا هذا


وبفضل هذه الأضواء بدأنا نعرف حالة المرأة في الجماعات الروحية الجليلية، وخاصة الاسينية، التي كانت مريم العذراء تنتمي اليها دون شك


والملفت حقاً في هذه الجماعات، ان المرأة كان لها دورها البارز في جميع المجالات الانسَانيّة، وخاصة الثقافية منها والدينية، خلافاً لما كانت عليه الحال في المجتمعات اليهوديّة التي لم تعترف بأن للمرأة روحاً كالرجل! وذلك يعود الى التأثير القوي الذي كان لمصر وكنعان خاصة على "الروح الاسينية". ألا يُبرز التاريخ دور "أيزيس" "وهاتور" "وتانيت" في الحضارة الفرعونية، ودور "إيلات" "وأشيراي" "وعشتار" "وعناة" في الحضارة الكنعانية؟ "وعناة نفسَها، إبنة الإله الكنعاني "إيل"، العذراء والبتول، ألم تكن المثال والظاهرة الأولى والفريدة للعذرية والبتولية الحقة، في التاريخ الكنعانيّ القديم قبل مريم العذراء؟ وفي الحقيقة كانت "عناة" رمزاً وصورة وتمهيداً للعذراء مريم


وكانت العذارى الاسينيّات يخدمن داخل الهياكل والمعابد الاسينية كعروسات مكرّسات لله، فترة محدّدة من الزمن. وكن يخترن عادة من بنات كبار الإخوة الاسينيّين. وكان هؤلاء يرعون بناتهم بكل عناية داخل المعابد، ويؤمّنون لهنّ الثقافة الزمنية والدينية بحيث يبلغن مرحلة متقدمة من النضج الانساني والروحيّ، ويمثلن ويعكسن هكذا الوجدان الروحيّ الكونيّ…! أجل! كان للمرأة دور روحيّ بارز جداً عند هذه الجماعات الجليلية الروحية، على عكس ما يظن البعض في أيامنا هذه. وذلك بفصل "البوتقة الروحية" التي كانت تمتاز بها الحضارة الكنعانية نفسَها


وقبيل زمن الميلاد، كان هناك في "جليل الأمم" كاهن أسينيّ كبير يدعى يواكيم، وكان خادماً في هيكل "هيليوس-خارج- الاسوار" (وهيليوس باليونانية تعني: "إيل"…) وقد "باع ما يملك وأعطاه للمساكين"، ليتكرّس كلياً لله، منصرفاً الى خدمة أسراره وطقوسه. وحين جاء وقت امرأته حنّة لتلد وكانت أسّينيّة مثله، قرّر وإياها، إذا كان المولود طفلة، أن يكرّساها لله فتكون عذراء عروساً روحية في الهيكل. ووضعت حنّة طفلة، كما تنبأ لها فلكيّو (مجوس) الهيكل، وسَمّتها "مريم"، لأنها عندما ولدت كانت الشمس في برج الميزان


وعندما بلغت الطفلة مريم ستة أشهر، أخذها والدها الى هيكل هيليوس فوق جبل الكرمل، كما كانت العادة عهد ذاك، ليباركها الكهنة وينظروا روحياً في أمرها… وبعد إداء الفريضة المقدسة، رجع الوالدان، يواكيم وحنّة، الى منزلهما، أما الكهنة فسرّوا وفرحوا وباركوا الله لأن كاهنهم الكبير يواكيم قدّم طفلته الى الهيكل


ولقد وفت الوالدة حنّة بوعدها. فأقامت معبداً صغيراً في بيتها وفرشته بقماشة من هيكل هيليوس كي لا تطأ قدما الصبيّة مريم الأرض حتى يوم تكريسها في الهيكل… وعملت على الاّ تقترب الصبيّة مريم من أي شيء نجس… ودعت بعضاً من عذارى الهيكل الطاهرات ليكنّ برفقة ابنتها في المعبد الصغير في المنزل. كانت مريم "منذورة" للربّ


وعند بلوغ الطفلة مريم سَنتها الأولى، كان فرح واحتفال ديني، في بيت يواكيم وحنّة، حيث دعي كهنة الجماعة مع الأقارب والجيران. وأخذ يواكيم ابنته مريم وقدّمها للكهنة. فصلّى هؤلاء عليها وباركوها ورشوا عليها أوراق الورد، كما كانت العادة، واطلقوا عليها رسمياً اسم "مريم"، ولقّبوها "بعروس الهيكل" "وحمامة هيليوس" (أي حمامة "إيل"…). ثم تلوا فوق رأسها هذه الصلاة النبويّة: "يا إله القلوب والأرواح، بارك ببركتك الابوية هذه الطفلة الصغيرة "مريم"، واجعل أن يكون هذا الاسم الذي أطلق عليها مباركاً لدى الأجيال الآتية من أبناء الله…". وبعد انتهاء الاحتفال ذهب كلّ واحد الى بيته، ورجع الكهنة يخبرون أخوة الجماعة، في كل منطقة "جليل الأمم" بان ابنة كاهنهم الكبير يواكيم أصبحت رسمياً عروساً للهيكل مكرّسة لله، باسم "مريم" الملقّبة "بحمامة إيل"…! (فيما يخصّ هذه الفقرة: "الولادة السرّية ليسوع المسيح"، راجع: الدكتور هـ. سبنسر لويس "حياة يسوع السرّية"، بالفرنسيّة، الفصل الخامس، ص 83-94). ومن مريم العذراء، الملقّبة "بحمامة إيل"، ولد يسوع المسيح "عمّانوئيل" (أي إيل معنا، او الله معنا)، كما يقول الإنجيل نفسه (متى 1: 23). وهكذا كانت "الولادة السرّية" ليسوع المسيح



-الميلاد وبيت لحم "اللبنانية" في القرآن الكريم

جاء في سَورة آل عمران الآيات 34-36، ما يلي: "إذ قالت امرأة عمران ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنك أنت السَميع العليم. فلمّا وضعتها قالت ربِّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليسَ الذكر كالانثى، وإني سَمّيتها مريم وإني أعيزها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم. فتقبّلها ربّها بقبول حسَن وأنبتها نباتا حسَناً وكفلها زكريّا كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حسَاب


يتّضح من هذا النصّ القرآني أولاً أن امرأة عمران قد نذرت لله ما في بطنها محرّراً. فمريم هي اذاً من "المنذورات لله" أو "المكرّسَات له". والمنذورات لله لم يرد ذكرهن في التوراة ولا في تواريخ اليهود. كان عندهم "المنذورون" من الرجال فقط، وليسَ من النسَاء. لأن الامرأة عند اليهود لم تكن مؤهّلة للتكريس لله، وهذا أمر معروف… أمّا النساء المكرّسات والمنذورات لله فكان أمرهنّ شائعاً في الجماعات الروحية غير اليهوديَّة في جليل الأمم قبل المسيح وفي أيامه. ومن هذه الجماعات: الاسينيون والناصريون، والنذيرون –المنذورون، والمكرّسون وغيرهم… كان المكَرَّسُون والمكرّسَات من هذه الجماعات الروحية الجليلية، غير اليهود، يسكنون أمكنة خاصة في أغلب الأحيان ويتّبعون نظاماً حياتياً ومعيشياً خاصاً بهم، يغْلب عليه التقشّف والزهد والصلاة. وهذا ما يتفق مع ما جاء في تواريخ هذه الجماعات الروحية الجليلية من جهة، كما رأينا سابقاً، ومن جهة ثانية مع ما جاء في القرآن نفسَه عن مريم بالذات، حيث يقول في سَورة مريم الآيتين 15 و16: "واذكر في الكتب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فارسَلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سَويّاً". كما ان النص الذي نحن بصدده (سَورة عمران الآيات 34-36) يقول هو أيضاً في الآية 36: "فتقبّلها ربّها بقبول حسَن وانبتها نباتاً حسَناً. وكفلها زكريا. كلما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً. قال يا مريم أنّى لك هذا. قالت هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حسَاب". هذا يعني بوضوح أن مريم المكرّسة والمنذُورة لله قد قبلها الله هكذا، وكانت تقيم في "المحراب" أي في المعبد أو الهيكل: وهذا لم يكن معروفاً عند اليهود. وكانت ضروريات الحياة مؤمّنة لمريم في المحراب نفسّه: السَكن والمأكل والمشرب واللباس وغيره. وهذا أيضاً لم يكن معروفاً عند اليهود، بل كان معروفاً وسَائداً عند الجمعيات الروحية الجليلية الآنفة الذكر


ومن جهة ثانية، تقول الآية القرآنية التالية (37): "هناك دعا زكريّا ربه. قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّية طيّبة. إنك سَميع الدعاء". مما يدلّ أن زكريّا كان يسكن قريباً من مسكن مريم، في الجليل، وليسَ في اليهودية في جنوبي فلسطين، كما كان يُظن. فقد جاء في انجيل لوقا (1: 39-40): "وفي تلك الأيام قامت مريم فمضت مسرعة الى الجبل الى مدينة في يهوذا. ودخلت بيت زكريّا، فسَلّمت على اليصابات…". فالتفسيرات القديمة كانت تقول: ان هذه "المدينة في يهوذا" هي عين كارم، على بعد ستة كيلومترات الى الجنوب الغربي لمدينة أورشليم؟ والتفسيرات الحديثة، من جهتها، تقول: ان كلمة "الجبل" تدلّ أحياناً على أحد أقضية اليهودية الأحد عشر؟ (راجع النسخة الجديدة: لوقا 1: 39 والحاشية رقم 64، ص 190)… أمّا المفسِّران الكاثوليكيان الشهيران "ب. بنوا وم.أ. بوامار" فيؤكدان أن عبارة "الى مدينة في يهوذا" هي عبارة مضافة الى النصّ الأصلي، زيدت فيما بعد على يد بعض النسّاخ المتأخرين من المسيحيّين المتهوّدين (راجع كتابهما "إزائية الأناجيل الأربعة" في مراجع الفصل) فيكون ان النص الأصليّ في لوقا 1: 39 هو كالتالي: "وفي تلك الأيام قامت مريم فمضت مسرعة الى الجبل، ودخلت بيت زكريّا، فسَلمت على اليصابات". فهل يعقل أن تذهب مريم من الناصرة (والناصرة لم تكن موجودة بعد)، وهي حبلى، مسرعة الى الجبل الى مدينة في يهوذا في جنوب فلسطين، قاطعة مسَافات طويلة (أكثر من 150 كيلومتر!) يتخللها جبال ووديان ووهاد، بالاضافة الى صعوبات وعوائق ومطبات الطريق الناتجة عن الاعداء السامريّين وجنود الرومان… ولصوص الطرق المنتشرين في تلك النواحي، كما يؤكد اليوم جميع مؤرخي ذلك العصر؟! وكيف عادت مريم أيضاً –دائماً لوحدها- من اليهودية الى الجليل؟ هل هذا أمر معقول؟ ولا يغرب عن بالنا أن لوقا نفسه صاحب النص الذي نحن بصدده، سَبق وقال: "وفي الشهر السَادس (بعدما حبلت اليصابات بيوحنا المعمدان) أرسل الله الملاك جبرائيل الى مدينة في الجليل اسمها الناصرة، الى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم الفتاة مريم…". والمعروف أن حبل مريم بيسوع قد تمّ فعلاً في ختام بشارة الملاك، عندما قالت له: "أنا أمة الرب، فليكن لي بحسَب قولك" (لوقا 1: 38). اذاً عندما حبلت مريم بيسوع كانت مقيمة في مدينة في الجليل اسمها "الناصرة". وهكذا، فالحقيقة هي ان مريم الحبلى والمقيمة في "الناصرة" قد ذهبت مسرعة لزيارة نسيبتها اليصابات الى الجبل

الى جبل الكرمل في الجليل، هذا الجبل الذي هو قريب جداً من "الناصرة" على مسَافة بضعة كيلومترات فقط! فهناك كانت اليصابات تسكن مع زوجها زكريا. فهكذا، وهكذا فقط، يحصل التوافق والتطابق بين النص الانجيلي وبين الحقيقة والواقع الجغرافي المنطقي الموضوعي المجرّد! بعيداً عن الأفكار المسبقة والتفسيرات التقوية الشعبية وزيادة النسَّاخ المتأخرين والطمس المقصود والجهل الموروث


وجاء أيضاً في سَورة عمران، الآيات 41-44، ما يلي: "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نسَاء العالمين. يا مريم أقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك. وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم اذ يختصمون. إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشَرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسَى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين


يظهر بوضوح من النص القرآني أولاً أن مريم كانت منذورة ومكرّسة ومصطفاة من الله. وترد كلمة "اصطفاكِ" مرتين! وهذا يثبت ما قلناه سَابقاً من أن مريم كانت من "جماعة المنذورات –النذيرات"، و"المكرّسَات لله"… ويظهر ثانياً أنها كانت تلازم مكاناً مقدساً مع زميلات لها: "يا مريم اقتني لربك واسجدي واركعي مع الراكعين". كانت في حالة زهد ونسك وصلاة في "المحراب"، في المعبد أو الهيكل. وهذا أيضاً، مرّة أخرى، ما كان سَائداً في الجمعيات الروحية الجليلية في ذلك الوقت كما اسلفنا. ويظهر ثالثاً ان المسؤولين عن قبولها في الجماعة والمشرفين على رعايتها فيما بعد كانوا يلجأون الى القرعة لمعرفة من يكفلها في الجماعة، كما كانت العادة آنذاك، وكما هي مستمرة حتى اليوم، في بعض الجمعيات الروحية والرهبانية… "إذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون". ويجمع كبار مفسِّري القرآن، كالجلالين وغيرهما، أنهم كانوا يلقون اقلامهم، بشكل قرعة، في مياه النهر، ليعرفوا من يكفل مريم. والنهر هو هنا، دون أدنى شك، نهر قيشون (أو أحد روافده)، الذي يمر بين "بيت لحم اللبنانية"، الجليلية في شمال فلسطين، وبين جبل الكرمل القريب جداً منها. هذا هو الواقع الجغرافي الظاهر للعيان حتى اليوم. أمّا بيت لحم اليهوديّة، في أرض سَبط يهوذا، في جنوب فلسطين، أي بيت لحم المعروفة اليوم، والذي يُظنّ ان المسيح ولد فيها، فلا تجاور لا نهراً ولا غديراً ولا جدولاً كما هو معروف وظاهر


وفي سَورة مريم (الآيتان 15-16) نقرأ ما يلي: "واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً فارسَلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سَويّاً". يتبيّن من النص أن مريم، وقبل أن يبشرها الملاك بالحبل بيسوع، قد ابتعدت عن أهلها وذويها والناس واحتجبت عن الأعين "فاتخذت من دونهم حجاباً". ولا شك انها انقطعت الى الزهد والنسك والصلاة، ولازمت حياة "التكريس لله"، متمّمة نذر والدتها التي قالت: "ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنك أنت السميع العليم" (سَورة آل عمران، الآية 34). هذا مع العلم ان كتب العهد الجديد القانونية، ومنها الأناجيل المقدسة، لم تاتِ على ذكر والدي مريم –يواكيم وحنّة- بل أخذتهما الكنيسة المسيحية، مع غيرها من الأمور، من الأناجيل المنحولة


والملفت حقاً، أن مريم قد "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً أي بعيداً والى ناحية الشرق، أي شرقيّ جبل الكرمل حيث كانت تقيم مع أهلها داخل الجماعة الروحية. وهذا المكان الذي انتقلت اليه هو بالتحديد، جغرافياً، منطقة بيت لحم الجليل (ومغارتها) والمغاور التي تقع في السفوح الشرقية لجبل الكرمل نفسَه. والذي نبغي التركيز عليه هنا هو أن جبل الكرمل نفسَه وسفوحه الشرقية والمغاور التي في هذه السفوح تقع جميعها في داخل أرض فينيقية – لبنان بالذات في تلك الأيام (وطيلة الألاف من السنين التي سَلفت). هذه هي الحقيقة المرتكزة على الواقع التاريخي والجغرافي، والتي طمسّها التاريخ المزوّر من قبل اليهود والمسيحيّين المتهوّدين والجهل الموروث…! (فلتُراجَعْ جميع الخرائط الجغرافيّة، المخطوطة والمطبوعة، وبكل لغات العالم حتى يومنا هذا


وجاء في سَورة مريم نفسَها، في الآيات 21-24، ما يلي: "فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً. فجاءها المخاض الى جزع النخلة فقالت يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسَياً منسيّاً. فناداها من تحتها الاّ تحزني قد جعل ربّك تحتكِ سَريّاً. وَهُزِّي اليك بجزع النخلة تسقط عليك رطباً جنيّاً". مرّة أخرى، تقول "سَورة مريم" إن مريم، قبيل ولادة ابنها، ذهبت الى مكان قصيّ بعيداً عن أعين الناس. وهذا المكان الذي قصدته يقع بقربه نهر. لأن النص يقول: قد جعل ربّك تحتك سَريَاً" – والسرِيّ هو النهر. والمعروف أن مغاور بيت لحم في الجليل، والتي تقع في أرض فينيقية –لبنان، يمرّ بقربها نهر "قيشون" أو أحد روافده، في السفوح الشرقية لجبل الكرمل. ونشير الى ان المسؤولين عن قبول مريم في جماعتهم الروحية، كانوا قد "رموا اقلامهم"، بشكل قرعة، كما اسلفنا، في مياه النهر نفسَه: نهر قيشون. كما ان السواحل الشمالية والشرقية لهذه المنطقة – منطقة بيت لحم الفينيقية – كانت تكثر فيها اشجار النخيل، كما هو ظاهر حتى اليوم


ومن جهة ثانية، وهذا امر بالغ الاهمية، لا تذكر النصوص القرآنية أيّ شيء على الاطلاق عن سَفر طويل قامت به مريم (وهي حبلى!؟) مع زوجها يوسف (على الحمار؟!) أي عن السَفر الطويل التي قامت به مريم مع زوجها يوسف، من "الناصرة" في الجليل، حيث بشرها الملاك وحيث حبلت بيسوع، الى مدينة بيت لحم في أرض اليهودية، في أقاصي جنوب فلسطين. هذا السَفر، الذي يتنافى تماماً مع المنطق والحقيقة والواقع الجغرافي. أجل! مرّة أخرى، هذا السَفر الطويل والشاق هو أمر مستغرب للغاية ويتنافى مع الحدّ الأدنى للعقل السَليم. لماذا هذا التَحَايُلْ السَخيف والضعيف على الحقيقة والمنطق والواقع والجغرافية، وهناك، على مسافة كيلومترات قليلة جداً من "الناصرة" حيث كانت تقيم مريم، توجد مدينة اسمها "بيت لحم" بالذات، منذ الألاف من السنين، ولم تنتقل من مكانها أبداً!!… وهكذا يُستدلّ من نصوص الآيات القرآنية ومن القرائن الجغرافية الملازمة ان ولادة المسيح قد حصلت في بيت لحم الجليل حيث تمت بشارة مريم والحبل بيسوع


يقول ياقوت الحمويّ في قاموسه الجغرافي الشهير "معجم البلدان" (المجلّد الأول ص 521-522)، يقول في باب كلمة "بيت لحم" (وهو يقصد بيت لحم اليهودية في جنوبي فلسطين) ما يلي: "بيت لحم" قرية على نحو فرسَخ من جهة جبرين، بها ولد عيسَى بن مريم، عليه السَلام، وثمّ كانت النخلة وليسَ ترطب النخيل بهذه الناحية، ولكن جعلت لها آية…" فهو يذكّر بالنص القرآني الذي أوردناه: سَورة مريم، الآيات 22-24، والذي يقول: فجاءها المخاض الى جزع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً. فناداها من تحتها الاّ تحزني قد جعل ربك تحتك سريّاً. وهزّي اليك بجزع النخلة تسقط عليك رطباً جنيّاً". فيوضح ياقوت الحموي مفسّراً: "وثم كانت النخلة وليسَ ترطب النخيل بهذه الناحية، ولكن جعلت لها (لمريم) آية…" اذاً، وبشهادة ياقوت الحموي كبير جغرافيّي العرب، لم يكن يوجد نخيل في تلك الناحية أي في منطقة "بيت لحم" اليهودية الجنوبية. وقد رأينا أن النخيل يكثر في منطقة بيت لحم الجليلية الشمالية. هذا برهان تاريخي – جغرافي آخر على أن ولادة المسيح قد حصلت في منطقة "بيت لحم" الجليليّة الشماليّة. وبالاضافة الى ياقوت الحمويّ، يجمع مؤرّخو المنطقة والمفسّرون على أن شجر النخيل لا ينبت في منطقة بيت لحم اليهوديّة في الجنوب، بل ينبت كثيراً في منطقة بيت لحم الجليل، كما هو ظاهر للعيان في أيامنا هذه


ويقول الطبريّ، المؤرخ الكبير، في كتابه الشهير "تاريخ الأمم والملوك"، ص 593-594)، يقول عن مريم ويوسف ما يلي: "… وكانت مريم ويوسف بن يعقوب ابن عمّها يليان خدمة الهيكل… وكان ذلك الهيكل يومئذ من أعظم هياكلهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك الهيكل في ذلك الزمان. وكان لخدمته فضل عظيم، فرغبا في ذلك، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتجميره وكناسَته وطهوره، وكل عمل يعمل فيه… وكان لا يعلم من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهاداً وعبادة منهما


يظهر جلياً من النص أن يوسف بن يعقوب هو ابن عم مريم، مما يتوافق والتقليد المسيحي المستمر الذي يقول ان مريم ويوسف كانا نسيبين… والانجيليّ متى يقول من جهته: "… ويعقوب ولد يوسف زوج مريم التي ولد منها يسوع وهو الذي يقال له المسيح" (متى 1: 16). كما يتضّح من مجمل النصّ ان مريم ويوسف كانا ملازمين للهيكل، يخدمان فيه ويقومان بكل عمل يعمل فيه من "تجمير وكناسَة وطهور" الخ… إنها في الواقع حياة المكرّسين والمكرّسات لله، المنذويين والمنذورات لله، ممّا يتوافق تماماً مع ما جاء على لسَان والدة مريم عندما كانت حبلى: "إذ قالت امرأة عمران ربِّ اني نذرت لك ما في بطني محرَّراً فتقبّل منّي انك أنت السميع العليم". ونحن نعلم انه لم يكن مسموحاً ابداً للنساء والبنات عند اليهود أن يخدمن الهيكل. فينتج أن مريم كانت تخدم في أحد هياكل الجماعات الروحية الجليلية، "وكان ذلك الهيكل يومئذ من أعظم هياكلهم". وهذا الهيكل كان قائماً، بنظرنا، فوق جبل الكرمل، أقدس امكنة الجليل، وفي المنطقة نفسَها حيث بشر الملاك مريم وحيث حبلت هي بيسوع، وحيث تمت ولادة يسوع


ويضيف الطبري في نفس الكتاب: "تاريخ الأمم والملوك" (ص 599) فيقول شارحاً ومحدّداً تماماً مكان ولادة يسوع: "وولدت مريم طفلها الى الجهة الشرقية من محراب قومها…"! وكان الطبري يشرح في كلامه المحدّد والواضح هذا، الأيتين 15 و16 من سَورة مريم حيث جاء: "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسَلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سَويّاً…". وجاء أيضاً في سَورة التحريم، الآية 12: "ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا فصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين"، أي من النسَاء التقيّات المتعبّدات، "المكرّسات" "والمنذورات لله"… والملفت حقاً، ان مغارة بيت لحم الجليل حيث ولد يسوع تقع تماماً الى الجهة الشرقية من جبل الكرمل حيث "المحراب" الكبير، وبالتحديد في السفوح الشرقية لهذا الجبل المقدس الذي كان القطب الروحي لكل منطقة الجليل منذ أقدم العصور حتى سَنة 70 بعد المسيح… في هذه المنطقة بالذات حصلت بشارة مريم والحبل بيسوع وولادته. والطبري، هو أيضاً، لا يأتي، لا من قريب ولا من بعيد، على ذكر سَفر قامت به مريم من مكان ولادتها وإقامتها الى جنوبي فلسطين، الى بيت لحم اليهودية


ويقول الطبري أيضاً في نفس الكتاب (ص 598) ما يلي: "أوحى الله عزّ وجلّ الى مريم ان تكون وابنها عيسَى في بلاد الشام، ففعلت الذي أُمرت به. فلم تزل هي وابنها في بلاد الشام حتى كان ابن ثلاثين سَنة… فجاءَهُ الوحي على ثلاثين سَنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله اليه…". لم يذكر الطبري أن المسيح ولد أو عاش في اليهودية بل في بلاد الشام. ولم يأتِ على ذكر اليهودية لا من قريب ولا من بعيد. ومعروف أن أرض كنعان – فينيقية كانت تدعى في أيام المسيح: فينيقية – سورية (الشام…)… (فلتُراجَعْ جميع الخرائط الجغرافية، المخطوطة والمطبوعة بكل اللغات القديمة والحديثة حتى يومنا هذا

This site was last updated 12/22/16