Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

تاريخ الفرس فى الفترة ما بين 334-652 م

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس بها تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up
الإمبراطوريات الفارسية
الغزو العربى لبلاد فارس

Hit Counter

لم تكن مصر بعيدة عن الفرس لأن مصر مطمع لكل غازى فى المنطقة فقد كانت بالنسبة للفرس جوهرة فى تاج إمبراطوريتها التى قامت فى العصور القديمة وبالنسبة للبيزنطيين والرومان مزرعة القمح التى يأكلون منها وبالنسبة للعرب المسلمين وخلافاتهم المتعاقبة البقرة الحلوب التى يدرون منها الأموال وفى بعض الأحيان الرجال فى أى حرب تقوم بها أالخلافة التى تصبح مصر من أملاكها (ولاياتها) لهذا يجب على المصريين معرفة تاريخ الفرس فهى وإن كانت ديانتها الإسلامية إلا أنهم صاغواً الإسلام بالمفهوم الفارسى القديم وأصبح لهم هوية إسلامية مختلفة وهى الشيعة تعطيهم الإختلاف العقيدى عن باقى أهل المنطقة الذين ينتمون للسنة والوهابية

*************************************************************************************************************

المجتمع الساساني

 يدل اسمها "الآريين"، وكانت تشمل أفغانستان وبلوخستان، وسنجديانا، وبلخ والعراق. ولم تكن فارس، وهي الاسم القديم لإحدى الولايات الحديثة، إلا جزءاً صغيراً يقع في الجنوب الشرقي من هذه الإمبراطورية، ولكن اليونان والرومان الذين لم يكونوا يعنون بشؤون "البرابرة" أطلقوا اسم الجزء على الكل. وكان يخترق إيران في وسطها من الجنوب الشرقي لجبال هملايا إلى الشمال الغربي لجبال القفقاس حاجز جبلي يقسم البلاد قسمين، في الشرق منه هضبة عالية جدباء، وفي الغرب وديان خضراء يسقيها النهران التوأمان، ويجري ماء فيضانهما الموسمي في شبكة من القنوات تكسب البلاد الخصب والنماء فتنتج أرضها القمح، والبلح، والعنب، والفاكهة. وكان بين النهرين، وعلى ضفافهما، وفي ثنايا التلال، وواحات الصحراء، عدد لا حصر له من القرى وعشرات المئات من البلدان وعشرات من المدائن الكبيرة: منها إكباتانا، والري، وموصل، واصطخر (برسبوليس القديمة)، والسوس، وسلوقية، وطيسفون (المدائن) العظيمة عاصمة الملوك الساسانيين.
ويصف أميانوس الفرس في ذلك الوقت بأنهم "يكادون كلهم يكونون نحاف الأجسام، سمر البشرة إلى حد ما... لهم لحى على جانب من الظرافة، وشعر طويل أشعث". غير أن الطبقات العليا لم تكن ذات شعر أشعث، ولم يكن أفرادها نحاف الأجسام على الدوام، وكان يغلب عليهم الجمال، وكانوا ذوي أنفة وكبرياء، ودماثة في الأخلاق، يميلون إلى الرياضة الشاقة الخطرة، والثياب الفخمة. وكان رجالهم يلبسون العمائم على رءوسهم، والسراويل المنتفخة في سيقانهم، والصنادل أو الأحذية ذات الأربطة في أقدامهم. وكان أغنيائهم يلبسون معاطف أو جلابيب من الصوف أو الحرير ويتمنطقون بمناطق يعلقون فيها السيوف. أما الفقراء فكانوا يقنعون بأثواب من نسيج القطن، أو الشعر، أو الجلد. وكان النساء يلبسن أحذية طويلة، وسراويل قصيرة، وقمصاناً واسعة، وعباءات أو أثواباً مهفهفة، ويعقصن شعرهن الأسود من الأمام في غديرة يتركنها تنوس خلفهن ويزينها بالأزهار. وكانت جميع الطبقات مولعة بالزينة والألوان الجميلة. وكان الكهنة والزرادشتيون المتحمسون يلبسون ثياب القطن الأبيض يرمزون به إلى الطهارة؛ أما قواد الجنود فكانوا يفضلون اللون الأحمر، وكان الملوك يميزون أنفسهم من سائر الطبقات بالأحذية القصيرة الحمراء، والسراويل الزرقاء، وأغطية للرءوس تعلوها كرات منتفخة أو رءوس حيوانات أو طيور. وكانت الملابس في بلاد فارس، كما كانت في جميع المجتمعات المتحضرة، تكون نصف الرجل أو أكثر قليلاً من نصف المرأة..

كتب وضعت فى مكتبة فارس التى حرقها العرب
وظلت اللغة الفهلوية الهندي-أوروبية لغة فارس البارثية هي المستعملة في البلاد. ولم يبق مما كتب بها في ذلك العهد إلا نحو 600.000 كلمة كلها تقريباً تبحث في شؤون الدين. لكننا نعلم أنها كانت لغة واسعة ؛ غير أن الكهنة كانوا هم حفظتها وناقليها، ولذلك تركوا الكثير مما كتب بها في غير الدين يفنى على مر للزمان (ولعلنا قد خُدِعنا بخطة شبيهة بهذه الخدعة فظننا أن الكثرة الغالبة مما كتب من أدب العصور الوسطى في العالم المسيحي كان أدباً دينياً). وكان الملوك الساسانيون ملوكاً مستنيرين يناصرون الأدب والفلسفة، وكان أكثرهم مناصرة لها كسرى أنو شروان، فقد أمر بترجمة كتب أفلاطون وأرسطو إلى اللغة الفهلوية، وبتدريس هذه الكتب في غنديسابور، بل قرأها هو نفسه. وقد كتب في عهده كثير من المؤلفات التاريخية لم يبق منا كلها إلا الكرنماكي-أرتخشتر أو أعمال أردشير وهو مزيج من التاريخ والقصص كان هو الأساس الذي استمد منه الفردوسي كتاب الشاهنامة. ولما أغلق جستنيان مدارس أثينة فر سبعة من أساتذتها إلى فارس ووجدوا لهم في بلاط كسرى ملجأ أميناً.
ولكنهم حنوا فيما بعد إلى أوطانهم، فاشترط الملك في المعاهدة التي عقدها مع جستنيان عام 533 أن يسمح للحكماء اليونان بالعودة إلى أوطانهم وألا يمسهم أي أذى.
وفي عهد هذا الملك المستنير أصبحت كلية غنديسابور التي أنشئت في القرن الرابع أو الخامس "أعظم المراكز الثقافية في ذلك العهد"، ويهرع إليها الطلاب والمدرسون من كافة أنحاء العالم. وكان يؤمها النساطرة المسيحيون، الذين جاءوا معهم بتراجم سريانية لكتب الطب والفلسفة اليونانية. وجاء إليها أتباع الأفلاطونية الجديدة وبذروا فيها بذور العقائد الصوفية، وامتزجت فيها علوم الطب الهندية، والفارسية، والسورية، واليونانية. ونتج عنها مدرسة للعلاج مزدهرة ناجحة . وكان المرض حسب النظرية الفارسية ينتج إذا دنس أو تلوث ركن أو أكثر من الأركان أو العناصر الأربعة -النار، والماء، والتراب، والهواء. ويقول أطباء الفرس وكهنتهم إن الصحة العامة تتطلب إحراق كل المواد المتعفنة، وإن صحة الأفراد تتطلب الطاعة التامة لقانون الطهارة الزرداشتي.
علم الفلك عند الفرس
ولسنا نعرف عن علم الفلك عند الفرس في ذلك الوقت أكثر من أنه قد احتفظ لهم بتقويم منظم، وأن سنتهم كانت تنقسم إلى اثني عشر شهراً في كل منها ثلاثون يوماً، وأن الشهر كان ينقسم إلى أربعة أسابيع، اثنان منها يحتوي كل منها على سبعة أيام واثنان في كل منهما ثمانية، وأنهم كانوا يضيفون خمسة أيام في آخر العام. وكان التنجيم والسحر منتشرين في البلاد، فلم يكونوا يقدمون على عمل هام دون الرجوع إلى أبراج النجوم، وكانوا يعتقدون أن جميع مصائر الناس على هذه الأرض تحددها النجوم الطيبة والخبيثة التي تحترب في السماء - كما تحترب الملائكة والشياطين في النفس البشرية - حرب أهورا مزدا وأهرمان القديمة.
عبادة النار
وأعاد الملوك الساسانيون إلى الدين الزرادشتي ما كان له من سلطان ورونق. فوهبت الأراضي والعشور إلى الكهنة، وأسس نظام الحكم على أساس الدين كما كانت الحال في أوربا، وعين كاهن أكبر ذو سلطان لا يفوقه سلطان الملك نفسه رئيساً لطائفة الكهنة المجوس الوراثية، التي كانت تشرف على جميع نواحي الحياة الذهنية في فارس إلا القليل منها، وكانت تنذر كل من تحدثه نفسه بالإثم أو بالخروج على سلطان الدولة بالعذاب الدائم في الجحيم؛ وظلت تسيطر على عقول الفرس وعلى جماهير الشعب مدى أربعة قرون. وكانوا من حين إلى حين يحمون الأهلين من عسف الحياة والفقراء من استبداد الحكام. وقد بلغ من ثراء هذه الجماعة أن كان الملوك أنفسهم يستدينون أموالاً طائلة من خزائن الهياكل. وكان في كل بلدة كبيرة معبد للنار تشتعل فيه نار مقدسة يقولون إنها لا تنطفئ أبداً وترمز إلى إله النور. وكانوا يعلمون الناس أن حياة الفضيلة الطاهرة وحدها هي التي تنجي الروح من أهرمان؛ وكان لا بد للروح في حربها القائمة على الشيطان من أن تستعين بكهنة المجوس وبما يعرفونه عن الغيب، وبراقهم وسحرهم، ودعواتهم. فإذا ما نالت الروح هذه المعونة سمت إلى درجة القداسة والطهارة، وخرجت سالمة من محكمة يوم الحساب الرهيبة، واستمتعت بالنعيم المقيم في الجنة.وكانت أديان أخرى أقل منزلة من هذا الدين الرسمي تجد لها مكاناً حوله. فكان مثراس إله الشمس المحبب للبارثيين بين عدد قليل من أفراد الشعب بوصفه مساعداً لأهورا.

ظهور الهرطقة المانوية

ولكن الكهنة الزرداشتيين كانوا يعدون الخروج على الدين القومي، وشاهد ذلك ما حدث حين قام ماني Mani حوالي (216-276) يدعي أنه رسول رابع مكمل لبوذا، وزرادشت، ويسوع، ويدعو إلى دين قوامه العزبة، والسلام، والهدوء، إذ صلب بناء على طلب المجوس ذوي النزعة الحربية القومية، واضطر أتباعه إلى العمل على نشر دينهم في خارج البلاد.

وضع المسيحيين واليهود

أما اليهودية والمسيحية فكانتا بوجه عام تلقيان من الملوك والكهنة الساسانيين كثيراً من التسامح، . وقد وجد كثير من اليهود ملجأ لهم في الولايات الغربية من الإمبراطورية الفارسية. وكانت المسيحية قد ثبتت دعائمها في تلك الولايات حين جلس الساسانيون على العرش، وظلت لا تلقى معارضة منهم حتى أضحت الدين الرسمي لعدوي الفرس القديمين وهما بلاد اليونان وروما ؛

الفرس وإضطهاد المسيحيين

فلما أشترك المسيحيين اشتراكاً فعلياً في الدفاع عن الأقاليم البيزنطية ضد شابور الثاني، كما حدث عند نصيبين عام 338، شرع ملوك الفرس يضطهدونهم، وبدأ المسيحيون في فارس يجهرون بآمالهم الطبيعية في انتصار الدولة البيزنطية. وأمر شابور في عام 341 بذبح جميع المسيحيين الساكنين في الإمبراطورية، ولما أن رأى أن قرى بأكملها من القرى المسيحية قد أقفرت من أهلها أمر بأن يقتصر على قتل القسيسين، والرهبان، والراهبات؛ ولكن 16.000 مسيحي قد أهلكوا نتيجة لهذا الاضطهاد الذي دام حتى موت شابور (379). ولما جلس يزدجر الأول على العرش (339-420) رد للمسيحيين حريتهم الدينية، وساعدهم على بناء كنائسهم، حتى إذا كان عام 422 قرر مجلس من أساقفة الفرس استقلال الكنيسة المسيحية الفارسية عن الكنيستين المسيحيتين اليونانية والرومانية.
 كان الناس يمدون الدولة والكنيسة بمقومات حياتهما -يفلحون الأرض، ويرعون الماشية والضأن، ويمارسون الصناعات اليدوية، ويتبادلون التجارة. وكانت الزراعة عندهم من الواجبات الدينية، فكان الشعب يعلم أن تنظيف الفلوات من الأشجار والأعشاب، وزرع الأرض، والقضاء على الآفات، واستئصال الأعشاب الضارة بالنبات، وإصلاح الأراضي البور، وتسخير مجاري الماء لري الأرض -كان الشعب يعلم أن هذه الأعمال المجيدة كلها تضمن انتصار أهورا مزدا في آخر الأمر على أهرمان. وكان الفلاح الفارسي في مسيس الحاجة إلى كثير من أسباب السلوى الروحية، لأنه كان يعمل عادة بوصفه مستأجراً لأرض الأمير الإقطاعي، ويؤد ضرائب ورسوماً أخرى قدراً من المحاصيل يتراوح بين سدسه وثلثه. ونقل الفرس عن الهند حوالي عام 450 استخراج السكر من القصب حتى لقد وجد الإمبراطور الشرقي هرقل مخازن ملأى بالسكر في القصر الملكي بطيسفون (المدائن) (627)؛ ولما فتح العرب بلاد فارس بعد أربعة عشر عاماً من ذلك الوقت، عرفوا من فورهم كيف يزرعون القصب، وأدخلوا زراعته في مصر وصقلية، ومراكش، وأسبانيا ومنها انتشرت في أوربا.
الفرس والصناعة
وتطورت الصناعة في عهد الساسانيين فانتقلت من المنازل إلى الحوانيت في المدن ، وأدخل نسج الحرير من الصين، وسرعان ما انتشرت هذه الصناعة وتقدمت حتى كان الحرير الساساني يطلب في كل مكان، وكان نموذجاً يحتذيه فن النسيج في بيزنطية، والصين، واليابان؛ وكان تجار الصين يفدون إلى إيران ليبيعوها حريرهم الخام ويشتروا منها الطنافس. والجواهر، والأصباغ الحمراء؛ وعمل الأرمن، والسوريون، واليهود على ربط بلاد الفرس، وبيزنطية، ورومة في سلسلة من التبادل التجاري البطيء. وأعانت الطرق والجسور الصالحة، التي كانت تتعهدها الدولة بعنايتها، على إنشاء طائفة من المراكز، وطرق القوافل التجارية التي ربطت طيسفون بسائر ولايات الدولة؛ وأنشئت المرافئ في الخليج الفارسي، لتيسير التجارة مع الهند.

ونظم أمراء الإقطاع، الذين كانوا يعيشون في الغالب في ضياعهم، طريقة استغلال الأرض ومن عليها، وألفوا الفيالق من مستأجري أرضهم ليحاربوا حروب الآمة. وكانوا يتدربون على الحرب بمطاردة الصيد بحماسة وشجاعة، فكانوا لذلك ضباطاً في سلاح الفرسان ذوى شهامة؛ وكانوا هم وجيادهم مسلحين كما كانت جيوش الإقطاع مسلحة في أوربا فيما بعد؛ ولكنهم لم يبلغوا ما بلغه الرومان في فرض النظام على جنودهم، أو في استخدام ما عرف فيما بعد من فنون هندسة الحصار والدفاع. وكان يعلوا عليهم في المنزلة الاجتماعية عظماء الأشراف الذين كانوا يتولون حكم الولايات ويرأسون المصالح الحكومية. وشاهد ذلك أن الخزانة الفارسية كانت في أغلب الأوقات أكثر عمراناً بالمال من خزائن أباطرة الرومان، وإن كانت الضرائب في الدولة الفارسية أقل إرهاقاً مما كانت عليه في الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو الغربية.
القانون الفارسى
وكان سن القوانين من عمل الملوك، ومستشاريهم، والمجوس؛ وكانوا يعتمدون في سنها على قوانين الأبستاق القديمة، وكان يترك للكهنة تفسير هذه القوانين وتنفيذها. ووصف أميانوس، الذي كان يحارب الفرس، قضاتهم بأنهم كانوا "رجالا عدولا، ذوي تجربة، وعلم بالقوانين(31)". وكان المعروف عن الفرس بوجه عام أنهم يحافظون على الوعد، وكانت الإيمان التي يقسمونها في المحاكم تحاط بهالة من التقديس، وكان الحنث في اليمين يلقى أشد العقاب في هذا العالم بحكم القانون، ويعاقب صاحبه في الدار الآخرة بوابل من السهام، والبلط والحجارة. وكان التحكيم الإلهي من الوسائل التي يلجأ إليها لكشف الجرائم، فكان يطلب إلى المتهمين أن يمشوا على مواد تحمى في النار حتى تحمر، أو يخوضوا اللهب، أو يطعموا الطعام المسموم. وكان وأد الأطفال وإسقاط الأجنة محرمين يعاقب من يرتكبهما بالإعدام. وكان الزاني إذا عرف ينفى من البلاد والزانية يجع أنفها وتصلم أذناها. وكان في وسع المتقاضين أن يستأنفوا الأحكام أمام محاكم عليا؛ ولم يكن الحكم بالإعدام ينفذ إلا إذا نظر فيه الملك وأقره.
تأثير الوثنية فى نظام الحكم
وكان الملك يستمد سلطانه من الآلهة ، وإنه وليهم في الأرض، وإنه يضارعهم في قوة أحكامهم، وكان يلقب نفسه حين تسمح الظروف "ملك الملوك، وملك الآريين وغير الآريين، وسيد الكون، وابن الآلهة". وأضاف شابور الثاني إلى هذه الألقاب: "أخا الشمس والقمر، ورفيق النجوم" وكان الملك الساساني مطلق السلطان من الوجهة النظرية، ولكنه كان يعمل في العادة بمشورة وزرائه الذين كانوا يؤلفون مجلساً للدولة. وقد أثنى المسعودي المؤرخ المسلم على ما كان الملوك الساسانيين من إدارة ممتازة، وعلى سياستهم الحسنة النظام، وعنايتهم برعاياهم ورخاء بلادهم.

ويقول كسرى أنوشروان، كما جاء في كتاب ابن خلدون "لولا الجيش لما كان الملك، ولولا موارد الدولة ما كان الجيش، ولولا الضرائب ما كانت الموارد؛ ولولا الزراعة ما كانت الضرائب، ولولا الحكومة العادلة ما كانت الزراعة". وكانت المَلَكِية في الأوقات العادية وراثية، ولكن كان في وسع الملك أن يختار غير ابنه الأكبر ليخلفه على العرش. وجلست ملكتان على العرش في زمنين مختلفين؛ وإذا لم يترك الملك من بعده ولياً من نسله اختار الأشراف ورجال الدين حاكماً على البلاد، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون أن يختاروا واحداً من غير الأسرة المالكة.

وكانت حياة الملك مثقلة بالواجبات والتبعات التي لا آخر لها. فقد كان ينتظر منه أن يخرج للصيد والقنص بلا خوف، وكان يخرج إليه في هودج مزركش تجره عشرة من الجمال، وعليه ثيابه الملكية. وكانت سبعة جمال تحمل عرشه، ومائة جمل تحمل الشعراء المنشدين. وقد يكون في ركابه عشرة آلاف من الفرسان؛ ولكن إذا صدقنا ما كتب من النقوش الساسانية على الصخور قلنا إنه كان ينبغي له آخر الأمر أن يمتطي صهوة جواد، ويواجه بنفسه وعلاً، أو غزالاً، أو رئماً، أو جاموساً برياً، أو نمراً، أو أسداً، أو غيرها من الوحوش التي جمعت في حديقة حيوان الملك أو "جنته". فإذا عاد من الصيد إلى قصره واجه مهام الحكم الشاقة، وسط ألف من الحشم وفي حفلات ا آخر لها. وكان عليه أن يرتدي ثياباً مثقلة بالجواهر، وأن يجلس على عرش من الذهب، ويضع على رأسه تاجاً يبلغ من الثقل حداً لابد معه أن يعلق على مسافة جد صغيرة، لا يمكن رؤيتها، من رأسه الذي لا يستطيع تحريكه. وعلى هذا النحو كان يستقبل الشعراء، والأضياف، ويتبع ما لا يحصى من المراسم الشاقة الدقيقة، ويصدر الأحكام، ويستقبل الوافدين الذين حددت لهم المواعيد ويتلقى التقريرات. وكان على الذين يدخلون عليه أن يخروا سجداً أمامه، ويقبلوا الأرض بين يديه، وألا يقفوا إلا إذا أمرهم بالوقوف، ولا يتحدثوا إليه إلا وفي فمهم منديل خشية أن تعدي أنفاسهم الملك أو تدنسه. فإذا جاء الليل دخل على إحدى زوجاته أو محظياته يبذر فيها بذوره العليا.

الملكية الساسانية

تقول الرواية الفارسية إن ساسان كان كاهناً في برسبوليس (اصطخر)، وإن ابنه باباك Papak كان أميراً صغيراً في خور، وإن باباك قتل جوزهر، حاكم الولاية الفارسية، وأعلن نفسه ملكاً على تلك الرواية، وأورث سلطانه ابنه شابور، وإن شابور مات نتيجة لحادثة وقعت في الوقت المناسب، فخلفه ابنه أردشير. وأبى أرطبانوس الخامس آخر ملوك الفرس الأرساسيين أو البارثيين أن يعترفوا بهذه الأسرة المحلية الجديدة؛ فحاربه أردشير وهزمه (224)، وصار ملك الملوك (226). فلما تم له هذا استبدل بحكم الأرساسيين الإقطاعي المفكك حكماً ملكياً قوياً أداته بيروقراطية مركزة كثيرة الفروع؛ وكسب تأييد رجال الدين بأن أعاد العقيدة الزرادشتية وأعاد إلى كهنتها سابق سلطانهم، وأثار كبرياء الشعب بأن أعلن أنه سيقضي على النفوذ الهلنستي في فارس، ويثأر لدارا من ورثة الإسكندر، ويستعيد كل الأقاليم التي كانت فيما مضى تحت حكم الملوك الأكمينيين. والحق أنه قدير بوعده هذا أو كاد. فقد قام بحملات خاطفة مدت حدود باد الفرس في الشمال إلى نهر جيحون، وفي الغرب إلى نهر الفرات، ووضع التاج قبل أن تدركه المنية في عام 241 على رأس ابنه شابور، وأمره أن يلقي باليونان والرومان في البحر.

وورث شابور الأول عن أبيه قوته ودهاءه؛ وتمثله النقوش التي على الصخور بهي الطلعة، نبيل الملامح، ولكن هذه النقوش كانت بلا ريب تحيات من صانعيها جرى العرف بأن تكون على هذه الصورة. وقد تلقى شابور تعليماً طيباً، ونشأ على حب العلم، ويقال إنه أعجب بحديث أوسطاثيوس Eustathius السوفسطائي سفير اليونان إعجاباً جعله يفكر في اعتزال الملك ليتفرغ للفلسفة وخالف سميه بأن أطلق الحرية الكاملة لجميع الأديان، وسمح لماني بأن يلقي مواعظه الدينية في بلاطه؛ وأعلن أن "المجوس، والمانيين، واليهود، والنصارى، والناس جميعاً أياً كان دينهم يجب أن يتركوا وشأنهم في جميع أنحاء إمبراطوريته وواصل ما بدأه أردشير من تنقيح الأبستاق، فأقنع الكهنة بأن يضموا إلى كتابهم المقدس أبواباً في غير شؤون الدين تشمل علوم ما بعد الطبيعة والفلك، والطب، معظمها مأخوذ من بلاد الهند واليونان. وكان سخياً في مناصرة الفنون، ولم يبلغ ما بلغه شابور الثاني، أو كسرى الأول والثاني، من براعة في قيادة الجند، ولكنه كان أقدر الملوك الساسانيين جميعاً في الشؤون الإدارية. وأنشأ له عاصمة جديدة في شاه بور لا تزال آثارها تحمل اسمه حتى الآن، وأقام عند ششتار على نهر قارون سداً يعد من أكبر الأعمال الهندسية في التاريخ القديم. وقد بني هذا السد من كتل ضخمة من الحجر الأعبل (الجرانيت)، تكون منها جسر طوله 1710 قدم، وعرضه عشرون قدماً. وحول مجرى النهر مؤقتاً لكي يستطاع إقامة البناء؛ ورصف قاع المجرى عنده رصفاً متيناً؛ وأنشئت فيه بوابات لتنظيم تصريف المياه. وتقول الرواية المتواترة إن شابور استخدم في تخطيط السد وبنائه مهندسين وأسرى من الرومان. وقد ظل هذا السد يؤدي الغرض منه حتى هذا القرن. ثم حول شابور اهتمامه على كره منه إلى الحرب والقتال، فغزا سوريا، ووصل في حملته إلى إنطاكية، ولكنه هزم في معركة مع جيش روماني فعقد مع روما صلحاً (244)، استردت بمقتضاه جميع ما كان قد استولى عليه في حروبه. غير أنه حقد على أرمينية أن تعاونت عليه مع روما، فزحف على تلك البلاد، وأقام فيها أسرة صديقة لفارس (252)؛ ولما حمى بذلك جناحه الأيمن، عاد إلى قتال روما، فهزم الإمبراطور فلبريان وأسره (260)، ونهب إنطاكية، واستولى على آلاف من الأسرى سخرهم للعمل في إيران(260). ثم انضم أدناثوس حاكم تدمر إلى روما، فاضطر شابور مرة أخرى إلى الاكتفاء بأن يكون نهر الفرات الحد الفاصل بين أملاك الفرس والرومان.

وخلفه على العرش فيما بين 272و302 ملوك لم يرق أحد منهم إلى ما فوق الدرجة الوسطى من الكفاية. ويأتي بعد هذا هرمزد الثانى (302- 309) الذي يشيد التاريخ بحكمه القصير الأجل، والذي بدأ فيه طائفة من الأعمال النافعة وبسط على البلاد لواء السلم والرخاء. وبذل الملك عناية كبيرة فى ترميم الأبنية العامة، والمساكن الخاصة، موجهاً أكبر اهتمامه إلى مساكن الفقراء، وكان ينفق على هذه الأعمال كلها من أموال الدولة. وأنشأ محكمة جديدة خصها بسماع شكاوى الفقراء ضد الأغنياء، وكثيراً ما كان يتولى رياستها بنفسه. ولسنا نعرف هل كانت هذه العادات الغريبة هي التي حرمت ابنه من وراثة العرش؛ وسواء كان ذلك أو لم يكن فقد حدث على أثر وفاة هورمزد أن زج النبلاء بابنه في السجن، وأعطوا الملك لابنه الذي لم يولد بعد، ولقبوه في ثقة واطمئنان بشابور الثاني، وأرادوا ألا يتركوا في الأمر مجالا للشك فتوجوا الجنين بأن علقوا التاج الملكي على رحم أمه.

وبهذه البداية الطيبة حكم شابور الثاني أطول حكم في تاريخ آسية (309-379). وقد درب منذ طفولته على الفنون الحربية، فقوى جسمه وإرادته، حتى إذا بلغ السادسة عشرة من عمره تولى شؤون الملك ونزل إلى ميدان القتال، فغزا شرقي جزيرة العرب وخرب حوالي عشرين قرية، وقتل آلافاً من الأسرى، وقاد ألفاً غيرهم إلى الأسر في حبال ربطها بجروحهم. وفي عام 337 شن الحرب على روما للسيطرة على الطرق التجارية المؤدية إلى بلاد الشرق الأقصى، وواصلها حتى وفاته تقريباً إذا استثنينا فترات من السلم قصيرة. وكان اعتناق روما وأرمينية للدين المسيحي سبباً في ازدياد نيران الحرب شدة على شدتها كأن الآلهة هي الأخرى قد نزلت إلى الميدان، وجاءت معها بكل ما يحدثنا عنه هومر من وحشية في القتال. وظل شابور أربعين عاماً يقاتل طائفة كبيرة من أباطرة الروم واحداً بعد واحد، قصده يوليان إلى طيسفون، ولكنه ارتد بعد ذلك ارتداداً غير شريف؛ واضطر جوفيان أمام تفوق عدوه عليه في الفنون العسكرية أن يعقد مع شابور صلحاً نزل له بمقتضاه عن الولايات الرومانية الممتدة على نهر دجلة وعن أرمينية كلها. ولما مات شابور الثاني كانت بلاد الفرس قد بلغت ذروة سلطانها وهيبتها، وكانت مائة ألف فدان من أرضها قد أصلحت واستخدم في إصلاحها الأسرى من الأعداء.

وانتقل ميدان الحرب في القرن التالي إلى حدود الفرس الشرقية. فقد حدث حوالي عام 425 أن استولت على الأقاليم المحصورة بين نهري سيحون وجيحون جماعات طورانية يطلق عليها اليونان اسم الإفثاليين Ephthalites، ويلقبون خطأ باسم "الهون البيض"، استولوا على الإقليم المحصور بين نهري سيحون وجيحون وحاربهم الملك بهرام الخامس الساساني (420-438)، المعروف باسم الغور -أي "الحمار الوحشي"- لجرأته في أعمال الصيد، وانتصر عليهم، ولكنهم بعد وفاته أخذوا ينتشرون في الإقليم لكثرة تناسلهم وتفوقهم في القتال، وأنشئوا لهم إمبراطورية امتدت من بحر الخزر إلى نهر السند، وجعلوا عاصمتها جرجران، وكانت أشهر مدنها بلخ، وهزموا فيروز شاه وقتلوه (459-484)، وأرغموا الشاه الذي خلفه على أداء الجزية.

وبينما كان الخطر يتهدد فارس من جهة الشرق، إذ ضربت الفوضى أطنابها في البلاد، نتيجة لاضطرار الملكية إلى الكفاح للمحافظة على سلطانها ضد الأشراف ورجال الدين. وفكر كفاده الأول (488-531) في أن يضعف أولئك الأعضاء بمناصرة إحدى الحركات الشيوعية، التي كانت تتخذهم الهدف الأول لهجاتها وتفصيل ذلك أن أحد رجال الدين الزرادشتيين المدعو مزدق قد أعلن في عام 490 أنه مرسل من عند الله للدعوة إلى عقيدة قديمة مضمونها أن الناس جميعاً يولدون أكفاء، وأن ليس لأحد من الناس حق طبيعي في أن يمتلك أكثر مما يمتلكه غيره، وأن المِلْكية والزواج من البدع التي ابتدعها البشر، وأنها أخطاء عاقبتها البؤس والشقاء، وأن السلع جميعها والنساء كلهن يجب أن تكون ملكاً مشاعاً لجميع الرجال. ويقول عنه أعدائه إنه كان يجيز السرقة، والزنى ومضاجعة المحارم ويتخذ هذه الأعمال وسيلته الطبيعية لمقاومة الملكية والزواج، ويقول إنها الطرق المشروعة للوصول إلى المدينة الفاضلة. واستمع إليه الفقراء وبعض الطوائف الأخرى مغتبطين، ولكن أكبر الظن أن مزدق نفسه قد أدهشته أن يجد ملكاً يوافق على آرائه. وبدأ أتباعه ينهبون بيوت الأغنياء، ثم لا يكتفون بهذا بل يسبون نساءهم أيضاً، ويأخذون أثمن ما في هذه البيوت ومن فيها من جوار ومحظيات حسان. وثارت ثائرة الأشراف فزجوا كفاده في السجن وأجلسوا أخاه جامسب على العرش. وقضى كفاده في "قلعة النسيان" ثلاث سنين فر بعدها من السجن، وهرب إلى الإفثاليين، ورأى هؤلاء الفرصة سانحة لأن يكون حاكم بلاد الفرس خاضعاً لسلطانهم، فأمدوه بجيش وساعدوه على أخذ طيسفون عنوة. ونزل جامسب عن العرش، وفر الأشراف إلى ضياعهم في الريف، وأصبح كفاده مرة أخرى ملك الملوك (499). ولما استتب له الأمر غدر بالشيوعيين، وقتل مزدق وآلافاً من أتباعه. ولعل هذه الحركة قد رفعت من شأن العمل اليدوي، لأن قرارات مجلس الدولة بعدئذ لم يكن يوقعها الأمراء ورجال الدين وحدهم، بل كان يوقعها معهم رؤساء نقابات الحرف. وحكم كفاده بعد ذلك جيلاً آخر؛ وحارب أصدقاء الإفثاليين وانتصر عليهم، وحارب روما حرباً غير حاسمة، ثم مات وترك العرش لابنه الثاني كسرى أعظم ملوك الساسانيين جميعاً.

كان خسرو الأول ("أي صاحب المجد المتقى" 531-579) يعرف عند اليونان باسم كسروس Chosroes وعند العرب باسم كسرى؛ ولقبه الفرس بأنوشروان ("الروح الخالدة"). ولما أن ائتمر به اخوته الأكبر منه سناً ليخلعوه قتل اخوته جميعاً، وقتل جميع أبنائهم عداً واحداً منهم. ولقبه رعاياه "بالعادل"، ولعله يستحق هذا اللقب إذا فرقنا بين العدالة والرحمة. ويصفه بروكبيوس بأنه كان "بارعاً إلى أقصى حد في تصنع التقى" وفي نكث العهد ولكن بروكبيوس من ألد أعدائه. ويثنى الطبري المؤرخ الفارسي الأصل على "نفاذ بصيرته، وعلمه، وذكائه، وشجاعته، وحصافة رأيه" وينطقه بخطبة ألقاها أول ما جلس على العرش، وهي خطبة قد أحسن المؤرخ اختراعها إن لم يكن صادقاً في نسبتها إليه. ونظم كسرى الحكومة كلها على أساس جديد وأختار أعوانه لكفايتهم بصرف النظر عن طبقتهم، ورفع منزلة بزرجمهر مربي ولده فجعله من كبار وزرائه، وقد طبقت شهرة هذا الوزير الآفاق. واستبدل بجنود الإقطاع الغير مدربين جيشاً نظامياً دائماً حسن النظام كامل العدة، وأنشأ نظاماً عادلاً للضرائب، وجمع القوانين الفارسية ونظمها، وأنشأ الترع والجسور لإصلاح نظام الري ومد المدن بالماء، وأصلح الأراضي لبور بأن أمد أصحابها بالماشية، والآلات والبذور. وشجع التجارة ووسع نطاقها بإنشاء الجديد من الطرق والجسور، وإصلاح ما كان قائماً منها وتعهده، وقصارى القول أنه بذل جهوده العظيمة كلها في خدمة الشعب والدولة. وشجع الزواج -أو أرغم الناس عليه إرغاماً- لاعتقاده أن بلاد الفرس في حاجة إلى المزيد من الناس لحرث أرضها وحماية تخومها. وحمل العزاب على الزواج بأن وهب البائنات للزوجات، وأمر بتعليم أبنائهم على نفقة الدولة. وكان يربي الأطفال اليتامى والفقراء ويعلمهم وينفق عليهم من أموال العامة، ويعاقب المرتدين عن الدين بالإعدام، ولكنه كان يسمح بانتشار المسيحية حتى بين حريمه. وقد قرب إليه الفلاسفة، والأطباء، والعلماء، من بلاد الهند واليونان، وكان يسره أن يبحث معهم مشاكل الحياة، والحكم، والموت.

فارس تعلن الحرب على روما التى أستمرت لأكثر من 40 سنة وبدأت فى 539 م
ولما جلس على العرش جهر برغبته في أن يعقد الصلح مع روما. ووافق جستنيان على هذه الرغبة لأنه كان يعد العدة لغزو أفريقية وإيطاليا، ووقع "الأخوان" في عام 532"صلحاً دائماً". ولما أن سقطت أفريقية وإيطاليا في يد جستنيان طالب كسرى بقسط من الغنيمة، وحجته أن بيزنطية لم تكن لتصل إلى هذا النصر لو أن فارس لم تعقد معها الصلح، فبعث إليه جستنيان ببعض الهدايا القيمة. وفى عام 539 أعلن كسرى الحرب على "روما" بحجة أن جستنيان قد أخل بشروط الصلح، ويؤيد بركبيوس هذه التهمة. لكن أكبر الظن أن كسرى قد رأى أن من الحكمة أن يبادر بالهجوم على جستنيان وجيوشه لا تزال مشغولة في الغرب، فذلك في رأيه خير له من أن ينتظر حتى تنتصر بيزنطية ثم توجه قوتها كلها ضد فارس. يضاف إلى هذا أن كسرى قد بدا له ألا بد لبلاد الفرس من امتلاك مناجم الذهب في طربزون وأن يكون لها منفذ على البحر الأسود. ولهذا زحف على سوريا، وحاصر هيرابوليس، وأباميا، وحلب، وتركها وشأنها بعد أن افتدت أنفسها بكثير من المال، وسرعان ما وقف أمام إنطاكية. ولم يبال أهلها به وبقوته فحيوه من فوق الأسوار بوابل من السهام وقذائف المنجنيقات، وبوابل آخر من ألفاظ السخرية الوقحة التي اشتهرت بها هذه المدينة في كافة أنحاء العالم. واستشاط المليك غضباً فهجم على المدينة واستولى عليها عنوة، ونهب كنوزها، وأحرق جميع مبانيها عدا كنيستها الكبرى، وذبح عدداً كبيراً من أهلها، وساق من بقي منهم ليعمروا "إنطاكية" أخرى في بلاد الفرس، ثم نزل مبتهجاً ليستحم في البحر المتوسط الذي كان في وقت من الأوقات حد دولة الفرس الغربي. وأرسل - جستنيان قائده بليساريوس لينقذ بلاده، ولكن كسرى عبر الفرات على مهل مثقلاً بالغنائم، وفضل القائد الحصيف ألا يتبعه (541). وما من شك في أن انتهاء الحروب التي قامت بين الفرس والرومان إلى نهاية غير حاسمة إنما يرجع بعضه إلى تعذر إقامة حامية قوية على ناحية العدو من الصحراء السورية أو جبال طوروس، وإن كان ما أدخل حديثاً من تحسين على وسائل النقل والاتصال قد جعل الحروب الكبيرة في أمثال تلك الأصفاع مستطاعة في هذه الأيام. وقام كسرى بعدئذ بثلاث غزوات على آسية الرومانية زحف فيها على تلك البلاد زحفاً سريعاً، وحاصر عدداً من مدنها، وأخذ منها الفداء والأسرى، ونهب ريفها، ثم ارتد عنها في أمان (542-543) وأدى له جستنيان عام 542 ألفي رطل من الذهب (نحو 840.000 دولار أمريكي) ثمناً لهدنة تدوم خمسة أعوام على أن يؤدي إليه بعد انتهائها 2600 رطل أخرى نظير امتدادها خمسة أعوام جديدة وبعد أن دامت الحرب بين العاهلين الطاعنين في السن جيلاً من الزمان تعهد آخر الأمر (562) بأن يحتفظا بالسلم خمسين عاماً، وتعهد جستنيان بأن يؤدي للفرس ثلاثين قطعة من الذهب في كل عام (7.500.000 دولار أمريكي)، ونزل كسرى عن حقه في جميع الأقاليم المتنازع عليها في بلاد القوقاز والبحر الأسود.

ولكن كسرى لم يفرغ بهذا من حروبه كلها. فقد أرسل حوالي عام 570 بناء على طلب الحميريين المقيمين في الجنوب الغربي من جزيرة العرب جيشاً من عنده ليخلصهم من الأحباش الذين فتحوا بلادهم. فلما أنجى الفرس الحميريين من الغزاة، وجد هؤلاء أن بلادهم قد أضحت ولاية فارسية. وكان جستنيان قد عقد حلفاً مع بلاد الحبشة، ورأى خلفه جستين الثاني أن طرد الفرس للأحباش من جزيرة العرب عمل عدائي موجه له. هذا إلى أن الترك الضاربين على الحدود الشرقية لبلاد الفرس قد اتفقوا سراً أن ينضموا إلى من يهاجمون كسرى. وأعلن جستين الحرب في عام 572. ونزل كسرى إلى الميدان بنفسه لعى الرغم من كبر سنه، واستولى على مدينة دارا الواقعة على الحدود الرومانية؛ ولكن صحته خانته فهزم لأول مرة في حياته (578)، وارتد إلى طيسفون حيث وافته منيته في عام 579 ولسنا نعرف سنه بالضبط حين وفاته. وقد امتد حكمه ثمانية وأربعين عاماً كسب فيها كل ما خاضه من الوقائع عدا واقعة واحدة؛ ووسع حدود إمبراطوريته في جميع جهاتها، وجعل بلاد الفرس أقوى منها في أي عهد آخر بعد عهد دارا الأول؛ ووهبها نظاماً من الحكم بلغ من شأنه أن العرب حين فتحوا تلك البلاد فيما بعد اتخذوه نظاماً لحكمها دون أن يدخلوا عليه تغييراً يستحق الذكر. ويكاد كسرى أن يكون معاصراً لجستنيان؛ ولكن معاصريهما مجمعون على أنه أعظم ملكين، ويعده من جاء بعده من الفرس أقوى من حكم بلادهم في تاريخها كله وأعظمهم شأناً.

الفترة من (579-628) يمكنك الإطلاع عليها فى هذه الصفحة http://www.coptichistory.org/new_page_2080.htm
 

 

*****************************

المراجع

(1) راجع هذا الموقع لمزيد من المعلومات   http://www.edu-prog.com/folder5/index.htm

 

This site was last updated 11/07/09