Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

النحو
إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس ستجد تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
القرآن قبل موت محمد وبعده
من أين أتى اسم مصحف؟
على يجمع القرآن
الحجاج يشكل وينقط القرآن
الدؤلى وتعديلات القرآن
لهجات العرب ولغتهم
العربية الفصحى
اللسان العربي
المعربات
اللحن فى القرآن
الاعراب والعربية
النحو
محمد يجمع القرآن
Untitled 3325
Untitled 3326
Untitled 3327
Untitled 3328
Untitled 3329
تعدد المصاحف

Hit Counter

 

*******************************************************************************************************

الجزء التالى للمؤرخ العلامة جــــواد عــلى فى موضع آخر من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية الجزء الثالث 1980م الفصل الخامس والاربعون قبل المئة - النحو - ص1148 - 1135 نقلنا هذه الصفحة بدون تغيير ولكننا وضعنا لكل فقرة عنوان

*******************************************************************************************************


والنحو في الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو اعراب الكلام العربي. اخذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره ليلحق به من ليس من اهل اللغة العربية باهلها في الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو من ليس من اهل اللغة العربية باهلها من الفصاحة فينطق بها، وان لم يكن منهم أو ان شذ بعضهم عنها رد به اليها. وهو في الاصل مصدر شائع، أي نحوت نحوا، كقولك قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن ابي طالب بعدما علم الاسود الاسم والفعل وابوابا من العربية: "انح هذا النحو". أو لان ابا الاسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي" قال "علي" له: "ما احسن هذا النحو الذي نحوت ! ولذلك سمي النحو نحوا". ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في ايم "عمر"، اذ يقول: "وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"، ويشبه هذا الخبر خبرا آخر نسب اليه ايضا فقد ذكروا انه قال: "تعلموا اعراب القران كما تتعلمون حفظه"، وانه قال: "تعلموا الفرائضنن واللحن، كما تعلمون القرآن". ويظهر ان الكتاب قد فصحوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللحن" و "النحو"، وعلى كل فان بين اللفظتين صلة. واذا صح خبر "الجاحظ"، اعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علما لهذا العلم في ايامه، وقبل ايامه، أي في ايام الجاهليين.

 ابا الاسود الدؤلي
والجمهور من اهل الرواية ان النحو علم ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة اليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ ولتعليم الاعاجم الكلام بالعربية. ورجع اكثرهم مصدره واساسه إلى الأمام "علي بن ابي طالب"، ويقولون ان ابا الاسود الدؤلي "69 هـ" اخذ هذا العلم عنه. وان الأمام القى عليه شيئا من اصول النحو. فاستأذن التلميذ استاذه ان يصنع نحو ماصنع، فاذن له به، فسمي ذلك نحوا. وذكر بعضهم ان الأمام دفع إلى ابي الاسود رقعة مكتوبا فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما انبأ عن المسمى، والفعل ما انبىء به، والحرف ما افاد معنى. واعلم ان الاسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وانما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع ابو الاسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى ان وصل إلى باب ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضها على علي امره بضم لكن اليها، وكلما وضع بابا من ابواب النحو عرضه عليه". وذكر بعض اخر ان اول من اسس العربية وفتح بابها، وانهج سبيلها، ووضع قياسها، ابو الاسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السلسقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب، والجزم". وقال "ابن قتيبة": "وهو اول من وضع العربية". وذكر "ابن حجر"، انه اول من وضع العربية ونقط المصاحف. وروى "ابن النديم" ان اربعة اوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من ابي الاسود الدؤلي، وكانت بخط "يحيى بن يعمر"، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل. ففي هذه الاوراق دلالة على ان هذه الاوراق من كلام "ابي الاسود"، وانه كان صاحب علم النحو.
وروى ابن النديم رواية اخرى، ذكر فيها ان "الطبري" قال: "انما سمي النحو نحوا لان ابا الاسود الدؤلي قال لعلي عليه السلام، وقد القى عليه شيئا من اصول النحو. قال ابو الاسود: واستاذنه ان يصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا ابا الاسود إلى ما رسمه من النحو. فقال ابو عبيدة اخذ النحو عن علي بن ابي طالب ابو الاسود، وكان لا يخرج شيئا يكون اخذه عن علي كرم الله وجهه إلى احد، حتى يعث اليه زياد ان اعمل شيئا يكون للناس أماما ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع ابو الاسود قارئا يقرأ ان الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر، فقال: ما ظننت ان امر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال ابو الاسود: إذا رايتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نفطة فوقه على اعلاه، وان ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط ابي الاسود. قال ابو سعد رضي الله عنه ويقال: ان السبب في ذلك ايضا انه مر بابي الاسود سعد=، وكان رجلا فارسيا من اهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من اهله فدنوا من قدامه بن مظعون وادعوا انهم اسلموا على يديه، وانهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بابي الاسود وهو يقود فرسه. فقال: مالك يا سعد لو لا تركب ? قال: ان فرسي ضالع اراد ضالعا. قالفضحك به بعض من حضره. فقال ابو الاسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا اخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول".
"وقيل لابي الاسود: من اين لك هذا العلم ? _ يعنون النحو _ فقال: لقنت حدوده من علي بن ابي طالب - عليه السلام - وكان ابو الاسود من القراء، قرأ على امير المؤمنين عليه السلام".
وتذكر رواية اخرى، ان "ابا الاسود" دخل على "علي" فوجده مطرقا مفكرا، فساله عن سبب ما به، فذكر له امر اللحن وما فشا من الخطأ في السنة الناس، وانه يريد ان يصنع كتابا في اصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد اليه بعد امد، فألقي الأمام عليه رقعة كتب فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما بنأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما افاد معنى"، ثم امره ان ينحو نحوه، وان يزيد عليه، فجمع "ابو الاسود" اشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: ان، أن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فاشار الأمام عليه بادخالها عليها.
وذكر "ابن الانباري" "577 ه"، "ان من وضع علم العربية، واسس قواعده، وحدد حدوده، امير المؤمنيينن علي بن ابي طالب رضي الله عنه لهذا العلم، ما روى ابو الاسود، قال: دخلت على امير المؤمنيين علي بن ابي طالب رضي الله عنه فوجدت في بده رقعة، فقلت: ما هذه يا امير المؤمنيين ? فقال: اني تاملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء - يعني الاعاجم - فاردت ان اضع لهم شيئا يرجعون اليه، ويعتمدون عليه، ثم القي الي الرقعة، وفيها مكتوب: كلام كله اسم، فعل، حرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: انح هذا النحو، واضف اليه ما وقع اليك، واعلم يا ابا الاسود ان الاسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، واراد بذلك الايم المبهم.
قال ابو الاسود: فكان ما وقع الي: ان واخواتها ما خلا لكن، فلما عرضتها على علي رضي الله عنه، قال لي: واين لكن ? فقال ما حسبتها منها، فقال: عي منها فألأحقها، ثم قال: ما احسن هذا لانحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوا.
وتذكر رواية تنسب إلى الاصمعي تذكر انه قال: "سمعت ابا عمرو بن العلاء يقول جاء اعرابي إلى علي عليه السلام، فقال، السلام عليك يا امير المؤمنيين. كيف تقرا هذه الحروف ? لا ياكله إلا الخاطون، كلنا والله يخطو، قال: فتبسم امير المؤمنيين عليه السلام، وقال: بيا اعرابي: لا ياكله إلا الخاطئون. قال صدقت والله يا امير المؤمنيين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت امير المؤمنيين إلى ابي الاسود الدؤلي، فقال: ان العاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح السنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض".
و "روي من حديث علي رضي الله عنه مع الاعرابي الذي أقرأه المقرىء: ان الله بريء من المشركين ورسوله: حتى قال الاعرابي: برئت من رسول الله، فأنكر ذلك علي عليه السلام، ورسم لابي الاسود من عمل النحوما رسمه ما لا يجهل موضعه".
ونجد رواية اخرى تذكر ان "ابا الاسود"، كان اول من وضع العربية، واول من املى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، زالنصب، والرفع، والجر، والجزم. وكان قد اخذ العلم من "علي بن ابي طالب". وحدث ان ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لابيها وكان اليوم حارا شديد الحر: "ما اشدُ الحر" وكانت تقصد "ما اشدًّ الحر" أي على باب التعجب. فلما علم "أبو الأسود" بخطأها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والى البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما اخطأ رجل أمام "زياد"، كبر عليه ذلك فوضع "أبو الأسود" قواعد النحو. فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسعه "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل.
ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، "روي أيضاً ان زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى ! فأبى أبو الأسود، وكَرِه إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً وقال له: أقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئاً من القرآن، وتعمّد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ "بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله ! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلى بثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال:خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحتُ شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعتُ شيئاً من هذه الحركات غُنة فانقط نقطتين".
"وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما احسنُ السماء! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شئ منها أحسن ? وإنما تعجبت من حسنها ؛ فقال: إذا فقولي ما أحسنَ السماء ! فحينئذ وضع كتاباً".
و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو ؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف". و"قال ابو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم".
"ومن الرواة من يقول: إن أبا الأسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله". وكان "أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها". وروي عن "أبي سلمة موسى بن اسماعيل" "عن أبيه، قال: كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة".
وتذكر رواية ان "أبا الأسود" الدؤلي، إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابياً قدم المدينة في خلافته، فقال: "من يُقرئني شيئاً مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ? فأقرأه رجل سورة براءة، فقال: "ان الله برئ من المشركين ورسولهِ" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله ! إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه ! فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله! فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: إن الله برئ من المشركين ورسولهِ، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله ! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين ? فقال: )إن الله برئ من المشركين ورسولهُ(، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر رضي الله ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو".
وذكر أن "عمر بن الخطاب" كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتاباً فيه: "أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرّية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب".
ويفهم من هذا الكتاب، أن "أبا الأسود"، كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف "أبا الأسود" بتعليم أهل البصرة الإعراب.
ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء "أبي الأسود" بعبد الله بن عباس، وقوله له: "إني أرى ألسنة العرب قد فسدت ؛ فأردت أن أضع شيئاً لهم يقوّمون به ألسنتهم "ومن رد "عبد الله بن عباس" عليه بقوله له: "لعلك تريد النحو"، أن "ابن عباس"، كان على علم بالنحو، ودليل ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه معروفاً. وذلك إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الرواية، التي أرى أنها من المصنوعات.
وكان "أبو الأسود" مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال: "إني لأجد للحن غمزاً كغمز اللحم".
ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفي سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: ان أبا الأسود كان أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديماً، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الأمام. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه.
فنحن اذن أمام رأي جديد، رأي يرجع على العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه ? ثم انه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قلَّ في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده ? تعرض "ابن فارس"لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم ان العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاَ". وهو يرى ان رأيهم باطل، وان بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أمياً، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإنا لم نزعم ان العرب كلها -مدراً ووبراً - قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة". ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض، والدليل على صحة هذا وان القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان لليلى دون ناظرة بواكر
فنجد قوافيه كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون.
فإن قال قائل: فقد تواترت الرويات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العملين قد كانا قديماً، وأتت عليهما الأيام وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددها هذان الأمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب.
وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل: الخبء، والدفء، والملء".
وقد استخدم "ابن فارس"لفظة "العربية" في معنى: الإعراب. وذكر لفظة "النحو"قبل كلمة: "الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل: "وانهم لم يعرفوا نحواً و لا إعراباً و لا رفعاً و لا نصباً و لا همزاً". وذكر غيره أيضاً ان "أبا الأسود"" أول من وضع العربية، و "أول من نقط المصحف ووضع العربية". وقد استنتج المرحوم "احمد أمين" من ذلك الاستعمال انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموّا كلامهم "نحواً" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً". ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و "النحو"، وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليداً ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده.
هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن اسحاق: زعم اكثر العلماء ان النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وان أبا الأسود أخذ ذلك عن أميلا المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام"، ثم روى روايات أخرى، تذكر ان غيره قام برسم النحو، إذ قال: "وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، انه قال: روى ابن ابي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان اعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء".
وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم ان أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضاً نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن". وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام "أبي الأسود به"، ثم رجحها على غيره بقوله: "والصحيح ان أول من وضع النحو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن الروايات كلها تُسنِد إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه روي عن أبي الأسود انه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو ? فقال: لَفَقٌتُ حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه".
ويلاحظ ان الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: "إن الله برئ من المشركين ورسوله"، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد "عمر"، ومنهم من صيره في عهد "علي"، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر ان الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.
وقد رجح "أحمد أمين"نسبة النحو إلى أبي الأسود، اذ يقول: "ويظهر لي ان نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك ان الرواة يكادون يتفقون على ان أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وانه ابتكر شكل المصحف ... وواضح ان هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك ان هذا يلفت النظر إلى النحو .... وعلى هذا فمن قال ان أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئاً من هذا، وهو انه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، و لا ضمة موضع فتحة، فجاء بعدُ من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر، ومضمر، وغير ظاهر و لا مضمر، وباب التعجب وباب إن".
وقال:"فالذي يظهر انهم يعنون بالعربية هذه العلأمات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وان هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحواً سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: انه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتاً ... فالظاهر ان عمله كان في أول الأمر ساذجاً بسيطاً، وهو وضع علأمات الرفع والنصب وما اليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعض ضروب الرفع فاعلاً، وبعض ضروب النصب مفعولاً، قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلاً ولا مفعولاً، بل ربما لم يعرف أيضاً رفعاً و لا نصباً، فإنهم يروون انه قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وان كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود".
ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى إن المصطلحات والقواعد التي ذكر ان "أبا الأسود" وضعها بأمر "علي" لا يمكن أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر. ويذكر إن الآراء النحوية، لم تظهر أيضاً في عهده، بدليل اننا لا نجد في كتاب سيبويه و لا في كتب النحو الأخرى رأياً له. ويستنتج من ذلك ان عمل أبي الأسود، كان وضع الإعراب وضبط المصحف.
وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال انه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: انه كان من إبداع، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، تعلموا أيضاً شيئاً من النحو، وهو النحو الذي كتبه "ارسطو طاليس"، وبرهان هذا ان تقسيم الكلمة مختلف، قال"سيبويه":"فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الأسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية Verb، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية Conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت و لا نقلت.
ثم ان "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث انه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جند يسابور"وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر"أبي الأسود"الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام.
ويرى "فون كريمر"، ان ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب في وضع النحو، دعوى لا يعول عليها، و لا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح.
وقد ألّف بعض المستشرقين بحوثاً في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"، و"هول"، و"رايت"، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها.
وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثير النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: ان تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلاً من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول ان النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق "أرسطو" خاصة، لاسيما وان النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد"الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن اسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف "الخليل"على اللغة اليونانية.
وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن "يعقوب" الرهاوي، كان من معاصري "أبي الأسود" الدؤلي، وكان من تلامذة "سويرس سيبخت"، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جند يسابور"، فلا يستبعد اذن تاثر "ابي الأسود"بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك.
وأنا على رأي "ابن فارس" القائل ان الإعراب كان قديماً عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وان علم العربية كان قديماً، ثم جدده "أبو الأسود الدؤلي" على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل. وعندي ان علم "العربية" كان معروفاً في العراق، وانه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كانت غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم.
وأنا لا أستبعد احتمال وقوف "علي بن أبي طالب"، أو "أبو الأسود"الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده.
ومما يؤسف له كثيراً ان المؤرخين اليونان واللاتين والسريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذين أرخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحلفون كثيراً بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه عنهم انما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الانبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوئد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تدوين تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الأمام "علي" أو "أبو الأسود" إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و "النعت"والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لايمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع ! وأنا لا أستطيع أن أتصور ان انساناً يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي يتكلم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات و لا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول انها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط ان الكلمة أما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجابة نظر وإعمال فكر، من دون أن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد. ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها انسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل اليها عقل انسان واحد أبداً.
لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي العلم اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربية والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم، أو من أعراب جهلاء، و لا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وانما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة اليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف "علي" أو "أبو الأسود"، وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي.
ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى "يثرب" و "مكة"، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال "السيوطي": "فأما مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نعلم بها أماماً في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زماناً ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلأما ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته". "وممن كان بالمدينة أيضاً عليّ الملقب بالجمل، وضع كتاباً في النحو لم يكن شيئاً. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئاً من النحو ووضع كتاباً لا يساوي شيئاً". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه.
وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق "أرسطو". هذا الأمام "الشافعي" يشير إلى تأثر القوم بمنطقه، إذ قال: "ما جهل الناس و لا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس". وقد توفي الشافعي سنة "204" للهجرة، فلا بد اذن من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد ب "لسان أرسو طاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد.
و"أبو الأسود"الدؤلي، هو "ظالم بن عمرو بن سفيان"، أو "عمرو ابن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع "علي بن أبي طالب" ومن أصحابه. استعمله "عمر" و "عثمان" على البصرة، ثم استعمله "علي" عليهما بعد "ابن عباس". وقد ذكر "أبو عبيدة"، انه كان كاتباً لابن عباس على البصرة، وكان "ابن عباس" يكرم "أبا الأسود" لما كان عاملاً بالبصرة لعليّ ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع "علي"في وقعة صفين. ويذكر انه توفي في وباء سنة "تسع وستين"، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه "الجاحظ": "أبو الأسود الديلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدوداً في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف". وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به، تدل على بديهة وذكاء.
ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفاً منه في الكتب التي تعرضت لسيرته، وليس شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، و لا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه.
وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه "عطاء". وكان قد بعج العربية وبرز بها. ومنهم "يحيى بن يعمر"وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في "بني ليث بن كنانة"، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروي عنه قتادة. ومنهم "عنبسة بن معدان"، المعروف ب"عنبسة الفيل"، ويقال ان "نصر ابن عاصم" أخذ عن أبي الأسود، وأخذ عن "نصر" "أبو عمرو بن العلاء"البصري، وأخذ عن "أبي عمرو" "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبويه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش". وممن أخذ عن أبي الأسود: "ميمون الأقرن"، و"عبد الرحمن بن هرمز".
وفي رواية: ان الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي اسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل.
ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف.
وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال ان سيبويه مات قبل يونس.
وكان عيسى بن عمرو في عهد أبي عمرو وعهد الخليل، وكان بارعاً أيضاً. وكان "عنبسة" الفيل، من أبرع أصحاب "أبي الأسود" الذين كانوا يتعلمون منه العربية. وذكر ان الناس اختلفوا اليه بعد "أبي الأسود"، وكان من بينهم "ميمون الأقرن" الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى "أبي عبيدة" اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة.
وأما "نصر بن عاصم"الليثي "89 ه" "90 ه"، فإنه كان فقيهاً عالماً بالعربية، فصيحاً قرأ القرآن على "أبي الأسود"، وقرأ "أبو الأسود"على "عليّ"، فكان "أبو الأسود" أستاذه في القراءة.
و"ابن أبي اسحاق" الحضرمي، هو "أبو بحر عبد الله بن أبي اسحاق" "117 ه"، وكان قيّماً بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان أشد تجريداً للقياس من "أبي عمرو بن العلاء"، وكان "أبو عمرو ابن العلاء "أوسع علماً بكلام العرب ولغاتهم وغريبها. ويقال انه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على "يحيى بن يعمر"، وعلى "نصر بن عاصم"، وزعم انه كان أول من بعج النحو ومدّ القياس والعلل.
وأما "يحيى بن يعمر" العدوانبي، "129 ه"، فكان عالماً بالعربية والحديث، لقي "عبد الله بن عمر"، و"عبد الله بن عباس" وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد ابن المهلب، ألحقه بها "الحجاج".
وكان "عيسى بن عمر" الثقفي "149 ه"، ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما "الخليل بن أحمد" بقوله: ذهب النحو جمـيعـاً كـلـه غير ما احدث عيسى بن عمر
ذاك إكمـال وهـذا جـامـع فهما للناس شمـس وقـمـر
وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى "الخليل ابن احمد" الفراهيدي، الذي "كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس". "فهو الذي بسط النحو ومد اطمنابه وسبب علله، وفتق معانيه، واوضح الحجاج فيه حتى بلغ اقصى حدوده، ثم لم يرض ان يؤلف فيه حرفاً أو يرسم منه رسماً. . واكتفى في ذلك بما اوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، والف فيه الكتاب الذي اعجز من تقدم قبله، وامتنع على تأخر بعده". وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها "سيبويه" في كتابه:الكتاب. وقد ذكر "سيبويه" اسمه في "410" مواضع من كتابه، واشار إلى ارائه دون ان يذكر اسمه في "174" مكاناً اخر، وهو وان لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا انه قصده.
واورد"سيبويه" له في كتابه اراء استاذه في اعراب آيات من القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها اشعار نص على اسماء قائليها، مثل امية بن ابي الصلت، وطرفة والنابغة والاعشى، وغيرهم. ومنها اشعار لشعراء مخضرمين واسلاميين، ومنها اشعار لم يذكر اسماء اصحابها.
ونعت بانه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه احد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل انه دعا بمكة ان يرزق علماً لم يسبق اليه احد، ولا يؤخذ عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض". وذكر انه كان "الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله"، "وكان اول من حصر اشعار العرب". دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فخرج إلى الناس وقال: ان ابي قد جن، فدخل الناس عليه فرأوه يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما اقول عذرتني أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي وعلمت انك جاهل فعذلتكـا
ويظهر من دراسة "كتاب" "سيبويه" ان اثر "الخليل" عليه كان كبيراً، لا يدانيه اثر أي عالم اخر عليه، وان علم الخليل بالنحو، كان غزيراً جداً، يؤيده استشهاد "سيبويه" بآرائه اكثر من استشهاده برأي أي عالم اخر من علماء هذا العلم، مثل "ابو عمرو بن العلاء" "154ه"، و"عيسى بن عمر الثقفي"، "149ه"، و"يونس بن حبيب"، "182ه". ويظهر ان "الخليل" لم يدون علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وانما كان يعلم من يقصده مشافهة، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة اكثر العلماء في ذلك العهد.
وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد "الخوارزمي" يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله: "في وجوه الاعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن احمد"، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، اشير اليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه أستعماله مصطلح الرفع في الاسم المضمون المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمى بقية الحركات العارية من التنوين في الاحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما انه يسمى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، الاغ في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في اواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم.
وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي اخذوا منه علمهم في وضع القواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الاول الذي استمد منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو مال ما اخذ من القبائل والأفراد، و نجد للهجات اهل الحجاز وتميم اهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد. ونظراً لاعتماد العلماء على هذا المورد اكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من امور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذه الموارد المذكورة، هي موارد اخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياساً على كلام العرب، استنبطوها بطريق "القياس". و"القياس"من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة.
والقياس ركن من ركنيين مهمين، قام عليهما علم النحو، أما الركن ألاول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين اصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثير النحو العربي بمنطق "ارسطو". وممن اخذ وعمل به في النحو "عبد الله بن ابي اسحق" الحضرمي، قيل عنه "وكان شديد التجريد للقياس. ويقال انه كان اشد تجريداً للقياس من ابي عمرو بن العلاء".
وفرع النحو وقاسه، وكان اول من بعج النحو ومد القياس والعلل.
وكان الخليل بن احمد على رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياساً بارعاُ فيه. قيل عنه "انه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه". وقد تأثر "سيبويه" بقياس الخليل، فأستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملاً مثل:"والقياس كذا" أو "والقياس يأباه" و "سألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال:لم يكن ينبغي ان يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وأنما تحقر الاسماء".
وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الاغلبية معه، وقد وقع فعلاً، واثر في وضع القواعد اثراً خطيراً. فبه اوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الانباري: اعلم ان انكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن انكر القياس فقد انكر النحو، ولا يعلم احد من العلماء انكره. وينسب إلى الكسائي انه قال: انما النحو قياس يتبـع وبه في كل امرٍ ينتفع
ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع، لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فأذا كانت سماعاً، وجب الاخذ بالسماع، فأذا ورد السماع بطل القياس. وقد تحدث العلماء عنه. قال "ابن فارس": "اجمع أهل اللغة -الا من شذ عنهم- ان للغة العرب قياساً، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير انه قال:"وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا ان نقول غير ما قالوه، ولا ان نقيس قياساً لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب ان اللغة لا تؤخذ قياساً نقيسه الآن نحن".
ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم انه إذا أداك القياس إلى شئ ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشئ آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه، فأن سمعت من آخر مثل ما اجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل ايهما شئت، فإن صح عندك ان العرب لم تنطق بقياسك انت كنت على ما اجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك اليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو لضرورة، لأنه على قياس كلامهم".
والاجماع ان النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيباً علمياً إلا في الإسلام، وإلا في ايام العباسيين، حيث ظهر علماء العربية نشاطاً عظيماً في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي اشرت اليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذ ورد بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها.
ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهماً صحيحاً واضحاً، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية، لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في امور، إلا انها عربية في النهاية، ودراستها تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من اقدم اللهجات العربية التي افادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الايام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن امور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الاول المعروف بتاريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد.
هذا وقد عثر حديثاً على آثار في أمارة "ابي ظبي" وفي مواضع اخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علماً جديداً بلهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من امرها شيئاً، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها.
بل ارى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والالفاظ. وقد بذل-المستشرقون-والحق يقال- جهوداً يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت للحروف بنوعيها الصامتة "The consonant sounds" والحروف المتحركة "The vowels "وللضمائر، وللأسماء الموصولة وادوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها.
ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية اليها، موضوع: علم الاموات "Phonology"بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والأمالة، والتفخيم، والاشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "Morphology"، مثل جذور الالفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "Triconsonantal"المكون من الحروف الصامتة، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من اربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلأمات التي تميز الجنس:المؤنث عن المذكر، ثم العدد:المفرد، والمثنى والجمع، جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الافعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات.
وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللغات السامية. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الاخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية اخرى من حيث قواعد النحو والصرف.

This site was last updated 02/15/11