Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

الحنفاء قبل الإسلام

هناك فى صفحة خاصة أسمها صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات وصمم الموقع ليصل إلى 30000 موضوع مختلف فإذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس لتطلع على ما تحب قرائته فستجد الكثير هناك

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

لم ننتهى من وضع كل الأبحاث التاريخية عن هذا الموضوع والمواضيع الأخرى لهذا نرجوا من السادة القراء زيارة موقعنا من حين لآخر - والسايت تراجع بالحذف والإضافة من حين لآخر - نرجوا من السادة القراء تحميل هذا الموقع على سى دى والإحتفاظ به لأننا سنرفعه من النت عندما يكتمل

Home
Up

Hit Counter

*********************************************************************************************************

الجزء التالى للمؤرخ العلامة جــــواد عــلى فى موضع آخر من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الثانية الجزء الثالث 1980م الفصل الخامس والسبعون - الحنفاء - ص  766 - 779 نقلنا هذه الصفحة بدون تغيير ولكننا وضعنا لكل فقرة عنوان
**********************************************************************************************************


وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم تعبد الأصنام، فلم تكن من اليهود ولا النصارى، وانما اعتقدت بوجود إله واحد عدته. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير ان ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون.
وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم كانوا على دين ابراهيم، ولم يكونوا يهودأَ ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحداً. سفهوا عيادة الأصنام، وسفهوا رأي القائلين بها.
وقد أشير إلى "الحنيفية" و "الحنفاء" في كتب الحديث. وقد بحث عنها شرّاح هذه الكتب. ومما نسب اليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة". وحديث: "بعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة". وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة".
ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعاً كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعيّ على دين ابراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فما جاء عمرو بن لحيّ، أفسد العرب، ونشر يينهم اضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثنيي بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الاصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الاوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين ابراهيم حنيفاً، وما كان ابراهيم من المشركين.
ولقد فشت دعوة عمرو بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقلّ عدد من حافظ على دين ابراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إلهَ واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج اليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، واهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية.
ولسنا نملك ويا للاسف شيئاً من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتنين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم،لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن الكريم، فلولا اشارته اليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقاً في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينهى كذلك.
وللعلماء الإسلاميين اراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون ان الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القسمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنًفُ هو مال عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالشيء يميل الى الحق،وقبل الذي يستقبل. البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن،والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتوِ في شيء، والحنيف المستقيم الذي لا يلتوِ في شيء.
وقد وردت لفظة "حنيفاً" في عشر مواضع من ا!قرآن الكريم. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه. وبعض الايات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقد نص في بعض منها على ابراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط، هما: سورة الحج وسورة البينة.، وهما من السور المدنية.
وذكر بعض أهل الأخبار ان الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو حنيف. وقد رأى الطبري ان ذلك لا يكفي، بل لا بد من الاستقامة على ملة ابراهيم واتباعه عليها. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشي من دين ابراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الأصنام والإغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين، لأن الحنفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء،وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفاً بقوله: )ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين(.
وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كَان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للاوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا اليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا اليهم أداء شعائر الحج وغبر ذلك.
وقد لخص "الفخر الرازي" و "الطبرسي"، آراء العلماء في،"0 الحنيفية" واجملاها في تفسيرهما للاية: )وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل بل ملة ابراهيم حنيفاً، وما كنت من المشركين(. فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: احدها انها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها انها اتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها انها اتباع ابراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماماً للناس بعده من الحج والختان وغير، ذلك من شرائع الإسلام، والرابع انها الاخلاص لله وحده والاقرار بالربوبية والإذعان للعبودية".
ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد ان أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وانهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من بجب اخراجهم عنها، لانهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان ابن الحويرث، فقد نصوا نصاً صريحاً على انهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف.
وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى ان اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك الذين ظهروا في اليمن خاصة ونادوا بالتوحيد وعبادة الرحمان. وهي ديانة توحيد ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير ان أصحابها لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وانما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان اللفظة من أصل عبراني، هو: "تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnet، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهّاد. وقال "نولدكه" انها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معانً دينية. ويلاحظ ان السريان يطلقون لفظة "حنفه" " Hanfaعلى الصابئة. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما. أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة اذن من الألفاظ المعروفة أيضاً عند العرب الجنوبيين.
عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب اليه علم اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و "الكافر" في لغة بني إرم، ومن اطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظة على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علماً على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين ابراهيم". ولما كان التنكر للاصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحاً لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذماً.
وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة،فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفراً منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرأوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرأوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والانجيل ? ولكن أي توراة وإنجيل ? التوراة والانجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها ? فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفاً في الكتابين، وأن هناك تبايناً قليلاً أو كثيراً بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بأيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين ابراهيم الحنيف، فقرأوا كتبه وتعبدوا بعبادة ابراهيم. ولكن ما هي كتب ابراهيم وما هي عبادته وليس في امكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في آلكثير من الذي يذكروه المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لاستخراج الماسة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف على تلك الحركة الدينية التي.كانت بارزة عند ألمذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيراً ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة ابراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إلهَ أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير. والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازاً من النسّاك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للالهَ الواحد الأحد إلَه ابراهيم واسماعيل،ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله الحجاج الزهاد بحثاً عن الدين الصحيح دين ابراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقاء ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم يرَ في الديانتين ما يريد. و منهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثّهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشاً ونصباً شديداً. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون،لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعاداً عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول للفحش، وساروا على مثل الإسلام، وان عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين ابراهيم.
والذي يفهم من القرآن الكريم، هو ان الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهوداً ولا نصارى، و )وما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين(، وان قدوتهم في ذلك ابراهيم. ويلاحظ ان لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وان ابراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وان الشريعة الإسلامية،هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تميزاً لها عن الرهبانية المتعصبة.
وقد عدّ بعض المستشرقّين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدّوهم نصارى عرباً زهاداً كيفّوا النصرانية بعض التكييف بهم وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها.
وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم وبورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم ان المراد بهم شيعة من شيع النصرانية.
غير ان القرآن الكريم قد نص نصاً صريحاً على ان الحنفاء لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وانهم ينتمون في عقيدتهم إلى ابراهيم. ثم إن الأخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناساً نصوا على انهم كانوا نصارى، إلا انهم نصوا في الوقت نفسه نصاً صريحاً على ان -البقية الباقية، كانت واقفة،لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أموراً جعلتها تتريث،فلم تدخل في احداهما، وبقيت مخلصة لسنةّ ابراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصاً، أو شيعة من الشيع النصرانية.
وقد كان من الحنفاء.نفر من النصارى، أخلصوا نصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب اخراجهم من طائفة الحنفاء، وادخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد.
ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويّتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم - كما يروي أهل الأخبار - علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد أضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علماً حصلوا عليه من أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد.الشام. ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهلين نادت بالاصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل "من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس.
لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا اناساً من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد اصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الاجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن ادراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار والى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إِمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من ابعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائراً في أمره من الديانات، يعتقد بإلَه، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب اليها.وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا انهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا ان من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا ان من أهل الأخيار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن" قبل مبعث النبي. وقد ذكروا ان "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد السلمي، كان قد رغب عن آلهة قومه في الجاهلية، رأى انها باطلة، وان الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائراً، حتى اهتدى إلى الإسلام.
وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الأخباريون عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مظاهر خارجية وداخلية يميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع ديناً بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتبُ منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فانا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى انهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب.
وجلً هؤلاء الآحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق ستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في امكانهم الحصول على ثقافة. وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في امكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لأمتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلاً برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرأوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الاراء المنسوبة اليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام.
ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد، للرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي - المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح - قدم المدينة ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به ? - فقال الرسول: جئت بالحنيفية دين ابراهيم، قال: فأنا عليها، فقال الرسول: لست عليها، ولكنك ادخلت فيها ما ليس منها. وقد سماه الرسول الفاسق. فذهب مغاضباً للرسول كما تقول الروايات،متوجهاً إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدينة للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام.
وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان ابن أمة"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعداً لرسول الله، معه خمسون غلاماً من الأوس، منهم "عمان بن حنيف". "فكان يعد قريشاً ان لو قد لقي محرماً لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم احد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشرَ الأوس، أنا ابو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق،وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسمّاه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة و خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثققي، وكان قد اختصم مع علقمة بن علاثة في ميراثه، فدقع هرقل ميراثه لكنانة قائلاً لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر.
وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل ابيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"، فعرف ب "غسيل الملائكة". فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين.
وروي أنه كان يتزيد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار، واتى قيصر فاستنجده على للنبي. وروي أنه هو للذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً واصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد ياليل الثقفي وعلقمة بن علاصة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام.
ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم،واستحوذوا. على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير انها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثققي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول: "لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم. وعاد "علقمة" أيضاً. وهناك روايات أخرى،تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام.
ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في. بعض الأخبار من انه كان حنيفاً، ذهب "ولهوزن" إلى ان الأحناف هم من النصارى، وان حركتهم حركة نصرانية، وانهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام. غير ان ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لابداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفاً دقيقاً ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن.وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه ان كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا ان أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة الحنفاء، ويقولون: انه لبس المسوح تعبداً، وكان ممن ذكر ابراهيم واسماعيل وحرم الخمر. ويلاحظ ان الأخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس المسوح، مما يشير إلى انهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين،فأخذوا عنهم هذه،الطريقة التي أشير اليها في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدّ ت من البدع الممقوتة في الإسلام.
وقد أورد أهل الأخبار كلاماً ذكروا ان الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير ان من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلام، ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف ان كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل السجع الطريقة المحببة في الكتابة إلى ايامنا هذه عند بعض الكتاّب. ويفهم من كلام الرواة ان بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة ابراهيم. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم -الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد.
ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الاحناف ان منهم من يجب ادخاله في عداد النصارى ة لا الاحناف. وقد نْص أهل الاخبار أنفسهم على تنصرهم، غير انهم ادخلوهم مع ذلك في جملة الاحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالاحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف. وقد أدخل "المسعودي" بعض الاحناف في جماعة اهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، من يقر بالبعث ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم،فمن الناس من رأى انهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و "خالد بن سنان العبسى"، و "رئاب الشنى"، و "أسعد ابو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثققي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثففي، و "ابو قيس" "صرمة بن أبي انس" الانصاري، و "أبو عامر الاوسي"، و "عبد الله بن جحش الاسدي"، و "بحيرا الراهب". ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك.
والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الأخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين، فان من عادة الأخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسباً لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة البهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضاً، ولذللك نجد صور الحكماء والفلاسفة الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جله الشيب أو قضى على شعره الزمن والتفكير، فصلِع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير. وعندي ان الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المُثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك انزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العديدة التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الاصنام ومن اسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالاصلاح، وقد أثارت دعونهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الاوثان شأن.كل دعوة إصلاحية. ويجوز ان يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير اننا لا نستطيع ان نقول انهم كانوا نصارى أو يهوداً، إنما أستطيع ان أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن، متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهوداً أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد. ولا يعني قولي هذا ان الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلاً من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شلرنكر" اليه إنما كان أولئك الاحناف نفراً من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض، عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الاصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء. والرجال الذين قال أهل الاخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الاحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفل، وأميةّ ابن أبي الصلت: وارياب بن رثاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد ابو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجُهني، وعدي بن زيد الجبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي انس،وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب ابن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب ال!تميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سُلمى، وخالد بن سنان العبَمْي ا، وعبد اللهء القضاعي، وعبيد ابن الابرص الاسسي، وكعب بن لؤي بن غالب وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعسة الإيادي" و "عضان بن الحويرث أ و "عسي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد ابو كرب الحصري"، "ابو كرب اسعد الحميري"3 و "عبيد بن الابرص"، و"زهير ابن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئاً عن دينهم. ولهذا فأنا اذكرهم هنا ذكر، مجاراة لمن أدخلهم في اهل الدين من الجاهلين. ولا أعني انهم كانوا على الحنيفية، اي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل ا لاخبار.
وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عمان ين الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش ابن رئاب الاسدي. وذكر ان منهم من تنمر ومات على النصرانية، مثل: عمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن.جحش بن رئاب الاسدي فأما قُس بن ساعسة الايادي، فقد رفعه الاخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قيل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، في انه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال.
وأما موته، فمجهول. وأما وفاته، فيكاد محصل الاتفاق على انه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية ان الرسول أدركه ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته " الشهيرة المعروفة، غير انه لم يحفظها، وان ابا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر ان الرسول كان حفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضاً منها على وفد عبد القيس.
ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ للرسول لخطبة "قس"، هو اشارتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع ان حفظ الشعر أيسر من النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وانما كان يسمعه. ولكننا في هم من ناحية أخرى نرى انه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء ان يتلو، وانه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئاً من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئاً. والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدوناً، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد.
وأوصل بعض الاخباريين قساً إلى القيصر، فزعموا انه ذهب البه واتصل به، وان القيصر أكرمه وعظمه. وانه سأله عن العلم قائلاً له: ما أفضل العلم ? قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل ? قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما افضل الادب ? قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة ? قال: قلة رغبة المرء في اخلاف وعده. قال: فما أفضل المال ? قال: ما قضى به الحق 1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبراً جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من خلب في لحف جبل ينشر له ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر فلم تعثر اليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت: " قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم قال: وقوف المرء عند علمه قيل له: فما أفضل المروءة قال استبقاء الرجل ماء وجهه.
وقسُ هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار، أحدث لهم أموراً كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ - عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: "أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان". وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الامور، هو من صنعة قس وعمله. ثم انه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف في ان، وخطيب العرب كافة. وذكروا ان له ولقومه فضيلة ليست لاحد من العرب، لان الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الاورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه، هوانه قال فيه: "يحشر أمة و حبر".
وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قساً، إني لأرجو ان يبعث يوم القيامة أمة واحدة "، ان وفداً من إباد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: رحمه الله، كأني أنظر اليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه. فقال رجل من القوم،.أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: ايها الناس اسمعوا وعوا... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه.
ويختلف هذا الخبر بعين الاختلاف مع خيب آخر أشرت اليه قبل قليل، فقد ورد في ذلك الخير ان رسول الله كان. يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الابيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها ان الوفد للذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو احد بني عبد القيس ويذكر بعض أهل الاخبار، ان "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس": "فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم يخيره، واقف على أمره. كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العمر عمّر ستمائة سنة نج تَفر منها نفسه أعمار في البراري والقفار". ثم ة خذ في وصض وفي ذكر عقاثده، وفي لقياه د "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ،ومطلعها: "شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعراً. وهي خطبة تختلف تماماً عن الخطبة المعروفة التي تنسب اليه، وان كانت على نمطها من حيث الاسلوب والافكار، وفيها مصطلحات اسلامية ترد في القرآن للكريم. ولا استبعد ان تكون من وضع شخص اخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد. والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانياً، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الاخير، وسرّ الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلباً على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عمان. ولو صح ما ذكروه من انه كان أسقفاً على نجران، لوجب اخراجه افن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكداً انه كان اسقفاً على ذلك الموضع، ويرى الاب "لامانس" احتمال كونه نصرانياً، لان ما نسب اليه يبعث على هذا الظن. وقد أدخل الاب "لويس شيحْؤ" قساً في جملة النصارى الجاهليين،وأورد اكثر ما نسب اليه في ترجمته غير ان كثيراً من هذا المنسوب اليه منسوب إلى غيره. وقد اشار. إلى من نهب اليهم العلماء.
وذهب "شيرنكر" إلى ان قساًَ كان من "الركولمجة"، وهم فرقة عرفهم اهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في امر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترفع والانزواء. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في اثناء كلامهم على هؤلاء.
ويرى "لامانس" انه لو كان قيس شخصية تاريخية حقاً، فإن زمانه لا يمكن ان يكون في ايام الرسول أو في ايام مقاربة من ايامه. إذ لايعقل عنده ان يتكون هذا القصص الذي صير قساً شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن اياداً لم تكن في ايام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس اليها. فلا بد اذن ان تكون ايام هذا الرجل بعيدة بعض البعد عن ايام الرسول.
غير ان حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن ان تكون سنداً يؤيد ادعاءه في ان قساً كان شخصية خرافية، أو انه كان رجلاً حقاً، ولكنه كان بعيد العهدعن الرسول. فقد روى الاخباريون قصصاً كثيراً عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لايقل نسيجاًعن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لانكار شخصية سلمان وغيره ممن ورد هذا القصص عنهم ? وهل يجوز ان نقول إن سلمان إن كان شخصاً حقاً فوجب ان تكون ايامه بعيدة عن ايام الرسول. ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قسُّ. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم.
وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح انه من شعر الجاهليين حقاً، وورود اسمه في الحديث وفي الاخبار، هو تعبير عن رأي اهل الجاهلية في خطيب مفوه عد" في نظرهم المثل الاعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.
وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا اليه شعراً،. زعموا انه قاله وهو يبكي بين قبرين بنى بينهما مسجداً، هما قبرا أخويه، على حين ان أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وان قصة القبرين لا تخص قساً،بل تخص أناساً آخرين، وقد كانا في ايران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن ابي صالح ابن عباس وجماعة آخرون آشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال: "وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته"، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة". ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس.
واما "زيد بن عمرو بن نفُيل بن عبد العزى بن رياح بن عبدالله بن قرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزىء منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الاوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للانساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للاصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش، منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيدالله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الاصنام، واتخاذ الانصاب وعبادة ما لايضر ولا ينفع. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعضى المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين. وترجع احدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، انه حضر يوماً وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبدالله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيداً من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوماً، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيء، لقد أخطأوا دين ابراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد? لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فانكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الارض يلتمسون اهل الكتاب" وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائربن على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا اليه شعراً في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى اكره على ترك مكة والنزول ب "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألاّ يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال باهلها، مخافة ان يفسد عليهم دينهم وان يتابعه احد منهم على فراق ما هم عليه.واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلاً قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سراً، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا اذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه.
وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل"، اي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع" ورقة ابن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فساله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، اما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر. وتذكر رواية أخرى ان "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه: "ورقة بن نوفل"، و "عثمان ابن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش". ويذكر الرواة أن زيد كان نديماً لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام. ويذكر أهل الاخبار ان حرصه على الحنيفية وتمسكه الشدبد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثاً عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادىً ابراهيم الاصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب ب "ميفعة" "ببيعة"من أرض البلقّاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى ان ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضاً انه التقى في اثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادىء ابراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل.
وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمّه بعض ملوك غسان. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشأم، وتذكران قتلته هم من بني لخم. وتذكر رواية ان "ورقة ين نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له. وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام،ووفاته وفاة طبيعية لا قتلا بيد إنسان." توفي وقريش تبني الكعبة قبل ان ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء.
وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد ساًلهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين ابراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك اننى على دين ابراهيم. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، وفي أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية.
وذكر "ابن حبيب" ان زيداً "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان". وقال عنه "ابن دريد"، و كان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه". وقصد ب "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم انه "كان يحيي الموؤودة. يقول للرجل اذا أراد ان يقتل ابنته مهلاً: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها". وقيل انه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب اليك سجدت اليه.ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته". وانه كان "يقول: إلهي إلهَ ابراهيم، وديني دين ابراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى ! انكاراً لذلك واعظاماً له".
أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحوها لغيره ! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على دين ابراهيم غيري". ويستقبل القبلة ثم يقول: أنفي لرب البيت عانٍ راغم مهما يُجشّمني فإني جاشم
عذت بما عاذ به ابراهـيم مستقبل القبلة وهو قـائم
وروى ان أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين ابراهيم غيري. ثم يقول: اللهم اني لو أعلم أحب الوجوه اليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلى إلَه ابراهيم، وديني دين ابراهيم.
وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال: "وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب اليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعضى المشاعب، وكان قد تفرّد أيضاً، فجلست اليه وقربت اليه طعاماً فيه لحم، فقال لي يا ابن أخي اني لا آكل من هذه الذبائح".
وذكر "ابن دريد"، ان زيد بن عمرو قال شعراً في تجنبه الأصنام، هو: فلا عُزى أدين ولا ابنتـيهـا ولا صنمي بني عمرو أزور
أربّـاً واحـداً أم ألـف ربّ أدين اذا تقسمـت الأمـور.
ويفهم من هذا الشعر ان "عزى"، إلهة، أي انثى، وان لها ابنتين اثنتين، ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما.
وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سُفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو:يا ابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب". وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية اخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول اللّه في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي: يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك ? فأجابه زيد، باًنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه،فقال له: ما نعلم احد يعبد الله به إلا شيخاً بالحيرة، فخرج اليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبىّ، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة. ولو صح هذا الخير لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وان الرسول نفسه قال عنه: يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق.
وروي عنه ان قومه كانوا اذا دعوه إلى وليمة، كان ياًبى ان يأكل منها قائلاَ: "اني لست آكل مما تذبحون على انصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه". وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للاصنام، ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه للذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي ان ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح ايضاً للسبب المذكور. ويذكر اهل الأخبار ان "زيد بن عمرو بن نفيل" كان اذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً، البر أرجو لا الخال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول: عذت بما عاذ به ابراهيم مستقبل الكعبة وهو قائم.
أو "لبيك حقاً، تعبداً ورقاً، عذت بما عاد به ابراهيم".
وذكر انه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إلهَ واحد. من ذلك قوله: لا تعبدنّ إلهاً غير خالقكـم وإن دعيتم فقولوا دونه حدد
وزُ عم انه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة ابراهيم واسماعيل لا اعبد حجراً ولا اصليّ له و لا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، وانما أصليّ لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شريك لك، ولا ندّ لك. ثم يدفع من عرفة ماشياً، وهو يقول: لبيك متعبداً مرقوقاً.
ويروي أهل الأخبار أقوالاً اخرى لزيد، كما رووا له أشعاراً زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة ابراهيم وللتوحيد ومن ذمّ إلى الأصنام ومن اصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم. كما رووا له أبياتاً من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماساً لهذا الدين. وتفيد رواية من روايات اهل الأخبلر بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطة.
وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال: "يبعث أمة وحده يوم القيامة". بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولأ"
وينسب اهل الأخبار لزيد شعراً،هومن هذا الشعر الذي ينسبونه إلى الأحناف، في الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إلهَ واحد، واقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما ان الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة.
ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين،شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدراً، فإنه لم يكن حاضراً بالمدينة إذ ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر انه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم. ولا بد ان يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي اقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد ان كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الاخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة. ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد.
وذكر "ابن هشام" ان زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم وم ما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكوّنوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم،ولم يشاركوهم في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين.
أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتاباً في دين قومه، بعيداً عنهم وعن عبادتهم، حتى اذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيية بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام وتنصر، وهلك هناك.
وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضباً قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب اليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكاً على مكة، ولكن قومه أبوا ذلك، فلم يتمّ له مراده، ومات بالشأم مسمومأَ، سمهّ عمرو بن جفنة الغساني.
وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذافة بن جمح". وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل. وكتب له عهداً وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا ان يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريش لقاح، لا تملك ولا تملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله". وَكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني.
وتذكر احدى الروايات، ان وفاة "عثمان بن الحويرث " كانت بالشأم وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"، وورقة بن نوفل.
ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار".
وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعأ، وقتل شيبة يوم بدر كافرأَ.
وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظاً في بقاء الذكر، بقي كثيراً من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا باًس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتأريخ النبوة والاسلام اتصالاً مباشراً وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام. لم يكن مسلماً ولم يرض أن يدخل في الإسلام لأنه كان ياًمل ان تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين. فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشاً عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. لم يمت مسلماً، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافراً با لديانتين.
وقد جاء في بعض الروايات، ان وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافراً قبل أن يسلم الثقفيون.
ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها:
الاّ بكيت عـلـى الـكـرا م بني الكرام أولى الممادح
كبكا الحمـام عـلـى فـرو ع الأيك في الغصن الصوادح
وهي قصيدة يتوجع فيها أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و "شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية. وقد ذكر بعض الرواة ان الذي حمله على قول هذا الشعر، هو انه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش في بدر، وكان ذاهباً إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاظ الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب ? قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع انف ناقته، وشق ثوبه، ويكى، وعاد إلى الطائف.
وذكر ان أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة. وذكر أيضأَ ان النبي نهى عن روايتها. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودوّنوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح ان النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار.
وأميةّ مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم ما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم. وكان تاجراً، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كَانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئاً كاتباً، قرأ الكتب، ووقف عليها. ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين،وشكّه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغريبة المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب.
وقد ورد في بعض الأخبار ان امية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلاً أخذ فيه سفراً له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم. ولم تذكر الرواية شيئاً عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى انه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "ايلياء".
ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب اليه من شعر. كما ان في بطون كتب الأدب والأخبار أشعاراً أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والاخرة وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في ايامه، أو في ايام قرببة من ايامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة.
ومما ذكره الأخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، انه استعمل. "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وانه ذكر، "السلطيط"، اسماً لله تعالى. وانه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وانه سمى السماء "صاقورة" و "حاقورة" وانه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره.
والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" Sahro، بمعنى القمر، أي تماماً بالمعنى الوارد في شعر أمية.
وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جداً تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح انها من أشعار تلك الأيام حقاً، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التيّ استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثر أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام.
وقد روى الأخباريون قصصاً عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة.
فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده"، كما رووا قصصاً عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له.
وقد حاكى أهل الأخبار في قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وانه كان يسخر الجنّ، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سلمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيواناتْ. وذكر "ابن دريد": "كان بعض العلماء يقول له لولآ النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي،لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكلّ الكتب قرأ".
وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت اليها قبل قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هم من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لُبّ وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجباً"، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته " فقال رسول الله: "ان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها له".
ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن امية كان يرجو انً يكون نبياً، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتامله أن يكون هو ذلك النبي المرتجى: ألا نبيّ مـنـا فـيخـبـرنـا ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
وقد كسف وتألم كثيرأَ وأكل الحسد قلبه، حين فلت ا الأمر منه، اذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس. إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو اليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسوكل قال: "إنما كنت أرجو ان اكونه".
ويروي أهل الأخبار أن امية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حق إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم ان الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا برىء فأعتذر ولا قوي فانتصر له".
وفي جملة ما رووه عنه، انه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم انه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان ان مات على نحو ما قال القوم. وذكر أيضاً انه لما كان على فراش الموت محتضراً أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كَل مرة: "لبيكما لبيكما، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإلَه، إلى ان أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعراً بين فيه ان الموت أمر لا بد منه، وانه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون ان يؤمن بالرسول.
وهذا القصص الوارد عن أمية، هو - بالطبع - من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والأخبارين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الاسرائيليات والأساطير، وروي على انه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب.
ولا أستبعد ان يكون هذا القصص قد ظهر في ايام الحجاج عصبية وتقرباً اليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في ايامه شيئاً كثيراً من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئاً في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به.
وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال: "ذهب قوم يعرفون شعر امية، وكذلك اندراسُ الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى.
ونحن نستطيع ادخال قول من قال عن "أمية" "قيل انه كان نبياً" في جملة هذه الدعاوى التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقبفاً" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا ان الرسول قاله: "ثقيف من ثمود"، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وابو رغال نفسه الذي نسب عبده اليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة.
ويذكرون عنه انه بعد ان صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرّم الخمر على نفسه مثل بقية المتاًلهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر ابراهيم واسماعيل، وانه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة: "باسملك اللهم"، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم". ويذكر أهل الأخبار ان امية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطوياً على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حيّة كانت تظهر بين ابلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو: "حرب بن أمية بن عبد شمس"كان قد قتل حيةّ فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقاماً منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الأخبار بقولهم: وقبر حرب بمكان قـفـر وليس قرب قبر حرب قبر
فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلاً من الجن.
ويُذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غبر دين الحنيفية ديناً. وأنه قال ذلك في شعر له: كل دين يوم القيامة عند الله ، إلاً دين الحنيفـية، زور
وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إلهَ واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحداً فقد ظلم نفسه: الحمدلله لاشـريك لـه من لم يقلها فنفسه ظلما
وهناك من يروي أن "النابغة الحعدي"،كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن على بن أبي طالب".
ويروى ان النبي كان يسمع شعر أمية، وان "الشريد بن سويد" "الشريد ابن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئاً منه، في اثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئاً منه، طلب منه المزيد، حتى اذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كاد ليسلم في شعره. وذكر ان الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه. وانه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه: الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخيرصبحنا ربي ومسّانا
قال: "إن كاد أمية ليسلم".
وروي عن "ابن عباس"، ان الرسول لما سمع شعر " امية ": زحل وثور تحت رجل يمينـه والنسر للاخرى وليث مرصد
قال: صدق أمية.
وفي رواية أنه: "كان قد قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولأ، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فآتفق أن خرج إلى البحرين، وتنباً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابة، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى اذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا امية ? فقال: أشهد انه على الحق. قالوا: هل نتبعه ? قال: حتى انظر في امره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبياً ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات".
وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضاً.
وورد في رواية أخرى، ان اًمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به ? فقال الرسول: الحنيفية دين ابراهيم. قال: فانا عليها. فقال غليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريداً وحيداً، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح. ثم أتى قيصر، وطلب منه جنداً، ليخرج النبي من المدينة، فمات بالشام طريداً وحيدأَ. وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك.
وتخالف هذه الرواية الروايات المالوفة الواردة الينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم احدى الروايات، ان أمية كان قد أخذ ابنتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع اخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعب، وأدرك أمية انه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدّث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من انه كان لا يقترب من الخمر، ومن انه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شأن بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحربمه الخمر على نفسه،خبر آخر، خلاصته انه كان يشرب يوماً مع عبدالله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضاً للشرب معه، سأل "عبدالله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعراً في سبب تركه ألخمر. ويقول أهل الأخبار: "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما فيه من الدنس".
وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمداً هناك قصة ينتهي سندها ب "أبي سفيان"، خلاصتها انه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمرّ بأمية، وقال له كالمستهزىء به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته ? فأجابه أمية: اما انه حق فاتبعه. وقال له قولاً يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية الى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زماناً هناك.
وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: )واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا، فانسلخ منها(. وهي آية قيل أيضاً إنها نزلت في "بلعام بن باعور" "بلعم بن ابر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس، أو في "النعمان ابن صيفي الراهب".
وأمية كاكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من اجواد العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة اخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادراً في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل علي غلبة التفكَير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال: "ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب،وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب".
ووالد "أمية"، هو "عبدالله بن أبي ربيعة بن عوف الثققي" أو "ربيعة ابن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري". أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعراً. ذكر انه مدح "سيف بن ذي يزن".
ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد امية، والتي هي في مدح " سيف بن ذي يزن"، إلى امية نفسه. وفي هذه القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن" إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت اليه بعد سنين من تعب ومواظبة.
وينسب إلى أمية شعر، ذكر انه افتخر فيه ب "نزار" وب "معد". وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم ب "قومي إياد".
ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إلَه واحد، خلق الكون وسوّاه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت،ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النآر، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله ان يمكثوا فيها خالدين أبدأَ.
أما المتقون،فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال: لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد رَيٌط وديباج، حلّوا بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولأ تأثيم، ولا غول ولا فيهاُ مليم، وكاس لا تصدع شاربيها، يلذّ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم.
والوقوف على آراء "امية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب اليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل أراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جداً من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولاً اسلامياً في لفظه وفي معناه مسبوكاً في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة طوفانه، والغراب والحمامة، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد، وقصة ابراهيم وتقديم ابنه للذبح،وداوود، وفرعون، وموسى، وابن عاد. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانياً وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكوّ ن عيسى، مضيفاً إلى ذلك زيادات في 2حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها. كما أورد في الشعر قصة "لوط اخي سدوم". وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل. وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلاً لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخداماً لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك ? وكيف حدث هذا التشابه ? هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو ان امية اخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، اي ان القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر امية فظهرت الأفكار والألفاط التي استعملها امية في آيات الله وسوره ? فكتاب الله اذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو ان هذا التشابه مردّه شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفاقهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والانجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن ابي الصلت، أو ان كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه افتراضاً لم يقع، وان ما وقع ونشاهده، سببه ان هذا الشعر وضع على لسان امية في الإسلام، وان واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه.
أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ امية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدىء بمبعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت. اما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع ان يكون امية قد اقتبس من القرآن، لأنه لم يكن منزلاً يومئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضاً، لأنه لم يكن حياً، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولاً معقولاً في هذه الحالة،إلا اذا أثبتنا بصورة جازمة ان شعر امية الموافق لمبادىء الإسلام ولما جاء في القرأن قد نظم في هذه المدة المذكورة، اي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن امية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه،وانه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع اليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تأريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من ايات نزلت ببن ابتداء نزول الوحي علىالرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهداً على أخذ أميّة منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض.
ولكن من في استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه ? إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبدالله بن جُدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلاّ في الإسلام.، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم إن أحداً من الرواة لم يذكر ان امية كان ينتحل معاني القرآن الكرم، وبنسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.
بقي لدينا افتراض آخر، هو أخذ القرآن الكريم من أميه، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى قائله اثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهداً من القرآن الكريم،.وتلك قضية لا يمكن اثبانها أبداً. ثم إن قريشاً ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له انك تأخذ من أمية، كما قالوا له: انك تتعلم من غلام نصراني كان مقيماً بمكة، واليه اشير في القرآن الكريم يقوله: )ولقد نعلم انهم يقولون: انما يعلمه بشر، لسانُ الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن ان محمداً. انما اخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد ان تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت. أمية لو كان قد وجد اي ظن وإن كان بعيداً يفيد ان الرسول قد اخذ فكرة منه، أو من المورد الذي اخذ أمية نفسه منه ? لو كان شَعرَ بذلك، لنادى به حتماً، ولأعلن للناس انه هو ومحمد أخذا من منبع واحد،. وان محمداً أخذ منه، فليس له من الدعوة شئ، ولكانت قريش وثقيف اول القائلين بهذا القول والمنادين به.
نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، ان الشريد بن سويد.كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وانه كان كلما أنشده شيئاً منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لاثبات ان ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي.
وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كلمان هوار" و "بور" Power زعم "بور" انه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم، فإن ذلك يدل على ان الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا ان هذا النظم شعر أصيل صحيح" وانه نظم قبل نزول مشابهه في القران الكريم، وانه لم يضف اليه في الإسلام. فإن أثبتنا انه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء.
وأما الرأي الثالث - وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر امية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ إلاثنين من التوراة والانجيل وتفاسيرهما، والى بعض "الصحف" و "المجلات" الني أشير إلى وجودها عند العرب - فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعرّ امية أو غير امية، قبل ان يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زُعم "ان النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر !!". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى: ) ولقد نعلم أنهم يقولون،إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون اليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين (. فلمُ يخْف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يَعلمه، فذكروا جبراً هذا، وكان غلامأً مقيماً بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك.
ولو كان الرسول وأمية قد أخذا من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدأَ بالنسبة اليه. وسيف يحارب به الإسلام? ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة اليه في أثناء حروب الردّة، وقد كانت فرصة سانحة لإظهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه على الإسلام.
ثم إنّ هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم، لم ترد في التوراة ولا في الانجيل، ولكنها وردت في شعر امية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشخص لجمل وألفاظ وتراكيب اسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مردً هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والانجيل والقرآن، وفي شعر أمية حسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى.
ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صله احدهما بالآخر،وأخذ احدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة هذا الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن ان يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصاً على انه لغيره، وهم انما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض اهل الأخبار نسبه اليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالاشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب ايضاً، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظاً ثابتأ، فلم يرتق اليه الشك. اما شعر امية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تأريخ النظم. فهذه المقابلة إن جازت، فانها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كَان عليهم ان يثبتوا أولاً اثباتاً قاطعاً صحة رأيهمَ في أصالة هذا الشعر، لا ان يفترضوا مقدماً انه شعر أصيل صحيح، وان يذهبوا رأساً إلى انه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل انه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه.
وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich Schulthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضاً احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانتُ منزلة يوشذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه ان الرسول كان قارئاً كاتباً، لكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الانجيل و التوراة، بل ذهب الى انها "مجلة" و "صحيفة"، تتضن أحأديث وتفاسير وقصصاً دينياً قديما. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلإعلى دليل ملموس.
أما أنا، فاًرى ان مردّ هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعراً، ما في ذلك شك، لاجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائراً على قومه، ناقماً عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفاً على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك، إن هذا الذي ذكره شيء إسلامي خالص،لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الاسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه،وأنه لم يكن لذلك غريباً، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبيّ عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا،وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج امثاله في كل دين من الأديان.
ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للاسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر. وقد يكون قد وضع أ كثره في عهد الحجاج تقرباً اليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضّاع أخباراً كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون اليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر الى أمية وغيره، ليكون رداً على كارهي ومبغضى الحجاج.
وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.
فبينما نجد شعره المنسوب اليه في المدح أو في الرثاء أو فيَ الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسقى الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب بعيد عن هذا الأسلوب، بعيد عن الأساليب المعروفة عن الجاهليين، أسلوب يجعله قريباً من شعر الفقهاء والصوفين المتزمتين، ونسّاك النصارى، فهو بعيد جداً من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد "العبادي والأعشى ويقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نسبة بعض ذلك الشعر إلى غيرة من الشعراء، وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا ان يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضاً، بدليل ان بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل ان نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامه في النظم، وان شعر "لبيد".
في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وانما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي أصالته، وليس من أسلوب النظم.
ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية? ومن الذي وضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية ? ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه اليه ? هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه،عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي ان الحجّاج قال، وهو على المنبر: لا ذهب قوم يعرِفون شعر أمية. فهل ذهب العالمون به حقاً قبل ايام الحجاج ? وهل كان شعره ضخماً واسعاً ? أو هو قول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيداً. فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن ربّ العبا د أنت المليك وأنت الحكم.
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبداً أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إبماناً عميقاً من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلاً:ً محمداً أرسله بالهـدى فعاش غنياً ولمُ يهتضم
ثم خذ الأبيات التالية له وفيها: عطـاء مـن الـلــه أعـــطـــيتـــه وخـصّ بـه الـلّـه أهـلَ الـــحـــرم
وقـد عـلـمــوا انـــه خـــيرهـــم وفـي بـيتـهـم ذي الـنـدى والـكـــرم
يعَـيبـون مـا قـال لـــمـــا دعـــا وقـد فـرج الـلـه احـدى الـبـــهُـــم
به وهـو يدعـو بـصـــدق الـــحـــد يث الـى الـلـه مـن قـبـل زيغ الـقــدم
أطـيعـوا الـرســـول عـــبـــادَ الإل ه تـنـجـون مـــن شـــرّ يوم ألـــم
تنـجـون مـن ظـلـمـات الــعـــذاب ومـن حـر نـار عـلـى مـنً ظـلـــم
دعـانـا الـنـبــيّ بـــه خـــاتـــم فمـن لـمُ يجـبـه أســـر الـــنـــدم
نبـــي صـــدقً صـــادق طــــيب رحـيم رؤوف بـوصــل الـــرحـــيم
به خـتـم الـلـه مــن قـــبـــلـــه ومـن.بـعـده مـن نـبــي خـــتـــم
يمـوت كـمـا مـات مـن قـد مـضـــى يردّ إلـى الـلـه بـاري الــنـــســـم
مع الأنـبـياء فـي جـنـان الـخــلـــود همُ أهـلـهـا غـير حـلّ الـقـــســـم
وقدس فينا ا بحب الصلاة جميعاً وعلم خط القلم
كتاباً من اللهِ نقرأ به فمـن يعـتـريه فـقـــدمـــاً أتـــم
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها " هل تستطيع ان تقول انه كان شاعراً مغاضباً للرسول، وإنه مات كافراً، وان صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول ? اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبداً فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الايمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام والى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلباً وايماناً، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها: أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلاً على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صنّاعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوّا على مقاتل النظم.
ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت: جهنم تلك لا تبقي بغيا وعدن لا يطالعها رجيمُ
ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم انعم النظر في هذه الأبيات: فذا عسل وذا لبـن وخـمـرٌ وقمح في منابـتـه صَـريمُ
ونخل ساقط الأكتـاف عـد خلال أصوله رطب قمـيمُ
وتـفـاح ورمـان ومـوز وماء بـارد عـذب سـلـيم
وفيها لحم ساهـرة وبـحـر وما فاهوا به لهُـمُ مـقـيم
وحور لا يربن الشمس فيهـا على صور الدمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصـرات فهنّ عقـائل وهُـمُ قـروم
على سرر ترى متقـابـلات ألا، ثمَ النضارةُ والـنـعـيم
عليهم سنـدًس وجـياد رَيط وديباج يُرىفـيهـا قـتـوم
وحلوا امن أساور منُ لجـين ومن ذهب،وعسجده كـريم
ولا لغَوٌ ولا تـأثـيم فـيهـا ولا غولٌ ولا فيهـا مُـلـيمُ
وكأس لا تصدع شاربـيهـا يلذّ بحسن رؤيتهـا الـنـديم
تصفق في صحافٍ من لجين ومن ذهب مـبـاَركة رذوم
ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات" لقد حاول ناظمها ادخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوباً جاهلياً، ولاظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظماً لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى ان أحيلك على الايات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر.وصفه من القرآن الكريم.
ومن الغريب ان بعض الأخباربين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلاً ان العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وان منهم من نظر في الكتب وكِان مقراًَ بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الأخباريون عن الجاهليين.
ثم خذ قصيدته في عيسى بن مريم وحمل أمه به، وسائر قصائده ألأخرى، تجد عليها هذه المسحة الاسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقاً، في هذا المنظوم الديني، غير ان هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن ادراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره،وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين.
ولأمية بن أبي الصلت اًخت، اسمها "فارعة". قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لبّ وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوماً: هل تحفظين من شعر أخيك شيئأَ ? فأخبرته خبره وقصت قصته في شق جوفه واخراج قلبه وردّ ه مكانه وهو نائم وأنشدته شعره، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار اسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما "القاسم"، فكان شاعراً، وله مرثية في عثمان بن عفّان. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلاَ من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبى ميراثه لوهب. وأما "ربيعة"، فأسلم كذلك، وله شعر. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت "وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبدالله بن صفوان الأكبر"، فولدت له صفوان بن عبدالله بن صفوان. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الابلة. وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفاً شاعراً. وقد ذكر أن بغلاً قتل "ربيعة" على باب دار "عبدالله بن عباس".
وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة ابراهيم، وأنه قال شعراً، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وان المنايا محتومة لا مفرّ منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي،وليس لامرىء يدٌ فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة: "الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال انها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال: "لو أدركته لأسلم".
وآما ورقة بن نوفل. فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا انه ساح على شاكلة من شك في دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعدّ في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر انه " تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها". وهذا هو رأي اكثر اهل الأخبار.
ونسب اليه شعر ذكَر انه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار والى الثواب والعقاب بعد الموت والى فكرة التوحيد والأيمان برب ليس رب كمثله والى التنديد بالأوثان.
وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلىفعل الخير للناس.
ولا نعلم عن حياة ورقة في ايام شبابه شيئاً، ولعله كان يعين اهله أو إقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن اكثر شبان أسر مكة المعروفة فىِ ذلك الوقت. فتَعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الثأم، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر انه لم يكن في شبابه من اولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما انه لم يكن من اولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفاق على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شاباً متأملاً مفكراً منكمشاً على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل اليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعاً أو قهراً، والتجول للبحث أو فراراً من غضب قومه عليه.
وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير اليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبى في حراء"،وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات،يقال إنه قال للرسول و كَان قد ذهب اليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك !" وان الرسول قال له: أمخرجي هم ? قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً". وأشير اليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنتِ صادقة، إنّ زوجك لنبي، وليلقينمن أمته.شدة، ولئن أدركته لأومنن به".
وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابساً ثياباً بيضاً، وان الرسول ذكر ذلك لمن سأله عنه، وبين لهم انه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار. لا يلبسون ثياباً بيضاً. ويروى أن الرسول قال:"لا تسبّوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض". قيل إن شخصاً تساب مع أخ لورقة بن نوفل،فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبّه.
وجاء في خبر ان "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالاً وهو يعذَّب، يعْذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه ان يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا ان يقول: أحد أحد،فيرثي ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين. أو "والله لئن قتلتموه، لاتخذن قبره حناناً".
ويظهر من الأخبار المتقدمة ان "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك ايام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه،انه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير إن الأخبار المذكورة لا تنص على اسلامه، ولم نجد أحداً قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فانه يدل على عدم إسلامه، وعلى انه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم انه مات نصرانياً ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى انه مات مسلماً وانه مدح النبي. وقد ورد في بعض الأخبار ان الرسول قال لما توفي ورقة: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني". وورد مثل ذلك من أحاديث زعم ان الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام.
وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الانجيل ما شاء أن يكتب". وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب". والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرّ ف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الانجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الانجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيراً فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت.
وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد تزوج، ولكنه كان عقيماً، فلم يعقب ? أو أنه عاش أعزبُ لم يتزوّج طول حياته ? وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس" "صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتاً واتخذه مسجداً لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب ابراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية. )وكلوا واشربوا حى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر(. ورووا له شعراً. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف اليه يأخذ عنه الشعر.
وأما "وكيع بن سلمة بن زهر الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" انه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحأَ بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلّماً، فكان يرقاه ويزعم انه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس انه صدِّيق من الصدِّيقين، وقالوا كان كاهناً،. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني ويوضحه وضوحاً تاماً.
والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء وكل بناء عالٍ مرتفع. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير. ويظهر انه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك.
وكل ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب " الجُهني، انه كان من جهينة، وانه كان موحداً لم يشرك بربه احداً، وانه مات قبيل الإسلام.
وكان عامر بن الظرب العَدواني من الحكماء، نسبت اليه أقوال في الحكم والدين. منها: "إني ما رأيت شيئاً خلق نفسه، ولا رأيت موضوعاً إلا مصنوعاً، ولا جائياً إلا ذاهباً، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني ارى أموراً شتى وحتى. قيل له: وما حتى? قال: حتى يرجع الميت حياً، ويعود اللاشيء شيئاً، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين".
وقد نسبوا اليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقرّه الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت اليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له.
ونسبت إلى كل من عبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها اقرار بوجود إلَه واحد خالق لهذا الكون، ويوجود الحساب والثواب والعقاب.
وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا انه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعاً يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم "انكم قد تفردتم بآلهة شتى، واني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآلهة، وانه ليحب ان يعبد وحده"، فنفرت كلماته هذه وامثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه انه على دين بني تميم.
وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن ابي سُلمى الشاعر المعروف إقرار بوجود الَه عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه،.وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له.
ونسب الايمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبدالله القضاعي والشاعرَ عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء.
واما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير،له في قتله قصة،هي من ذيول قصة "الغريَين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب اليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، ونراه في القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول: من يسأل الناس يحرموه وسائل اللّـه لا يخـيب
باللـه يدرك كـل خـير والقول في بعضه تلغيب
والله لـيس لـه شـريك علاّمُ ما أخفت القلـوب
ونراه يقول في المنايا: فاًبلغ بنيَّ وأعمامـهـم بان المنايا هي الـوارده
لها مدة فنفوس العـبـاد اليها وإن كرهت قاصده
فلا تجزعوا الحمام دنـا فللموت ما تلد الوالـده
وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، في نفس ميالة إلى التقشف والتصوّف، مؤمنً بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة ? وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه ? أوهو من نظم من عاش بعده في الإسلام ? وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبى. وقد كان على الحنيفية،واليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة،فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم ياًمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتام.
هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطورٍ واصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من ايذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيراً هادئاً، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك منغص.
لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان ان منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني ارم. ولكن الاْخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنُزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظانّ التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، باهمالهم الاشازة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة مهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وابان ظهوره.
وبؤكد أهل الأخبار ان بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة ابراهيم وشريعته، وان بعضاً آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسالء عنها، وانهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشام وأعالي العراق. اي المواضع التي كانت غالبية اهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا اليهم الأحبار أحياناً،. وذكروا ان الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين ابراهيم واسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقّداً بدين ابراهيم حنيفاً، غير مشرك بربه أحداً.
أما كيف كانت شريعة ابراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك ? فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة ابراهيم، شريعة التوحيد الحق.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان لأتباع ابراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب، وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات ابراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية: )وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فاًتمهن(. ذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فاًما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقصّ الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي.في الجسد فألاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان". ومن سنن شريعة ابراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" آن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في هذه المعركة مع هوازن وجدوا عبداً، عندما كشف ليستلب ما علية وجد أغرل. فلما تبين ذلك للانصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفاً غُرل ما تختتن. فقام اليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وخشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل تلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين ? ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغرل شيئاً معيباً، ومنقصة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعاً كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة،التي ذكوت قصة اختتان اسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد.
الاعتكاف
وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال الى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار "حراء" وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار.
ويعبر عن التعبد ليلا ب "التهجد" أيضاً. وذكر ان التهجد الصلاة ليلاً. وقد كان الرسول يتهجد. والتهجد التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. والهجود النوم عند العرب. ويظهر ان تفسير التهجد بالتعبد ليلاً، انما ورد من تفسيرهم لما ورد في القرآن الكريم: )ومن الليل فتهجد به نافلة، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً(. فخص العلماء التهجد بالتعبد ليلاً.
ويعبر عن التعبد بالنسك، والنسك: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الآلهة. والنسّاك: المتعبدون. وقد كان الحنفاء من النساك أي المتعبدين. وعدوا الذبائح من النسك. وجعلوا النسيكة: الذبيحة. و،الذبائح، أي النسائك، هي من أهم مظاهر التعبد والزهد عند الجاهليين.
وممن نسب إلى النسك والرهبنة من الجاهليين "أبو عامر عبد عمرو بن صيفي ابن مالك بن النعمان"، أحد "بني ضبيعة بن زيد". وكان في الجاهلية يسمى "الراهب"،. لأنه كان مترهباً، وقد كان من المقدمين بيثرب، إذ كان رأس الأوس فيها، فلما جاء رسول الله إلى المدينة، خاصمه، ثم خرج إلى مكة مباعداً له، ومعه خمسون غلاماً من الأوس، واشترك مع قريش يوم أًحد.
 

Home

This site was last updated 04/17/08