تعليق من الموقع : الفلسفة من نتائج التفكير العقلى للبشرية وكما قال المتنيح النبا غريغوريوس هى من أرقى المعارف البشرية وقد إتجهت المسيحية لراسة الفلسفة والعلوم الإنسانية لأنها واجهت حرباً مضادة من الوثنية بواسطة الفلسفة فأنشأت الكنيسة مدرسة الإسكندرية لمقاومة الفلسفات الوثنية
***********************************
وطنى 12/10/2008م السنة 50 العدد 2442 عن خبر بعنوان [ يجب علي رجل الدين أن يدرس الفلسفة ] للمتنيح الأنبا غريغوريوس
أولا: لأن الفلسفة أرقي المعارف البشرية:
يجب علي رجل الدين أن يكلم الناس بلغتهم حتي يمكنه أن يصل إليهم ويمكنهم أن يصلوا إليه ويفهموا حقائق الدين العالية عن عقولهم والبعيدة عن تفكيرهم وشعورهم.وكما أنك لا تستطيع أن تكلم الفرنسيين أو الإنجليز أو الألمان أو الطليان إلا إذا درست اللغة التي يتكلمون بها حتي لا تكون أعجميا لديهم وحتي تفهمهم ويفهموك هكذا المعارف والعلوم البشرية أهميتها في الدين كأهمية اللغة في كيفية التبليغ والتوصيل وبالأخص العلوم والمعارف العصرية أي التي يتداولها ويتعارف عليها أهل العصر.
فكلما كان رجل الدين ملما بعلوم عصره كان أقدر علي نقل أفكاره ومعتقدات الدين إلي عقول الناس بطريقة قريبة إلي تفكيرهم وشعورهم ولذلك كان علي رجل الدين أن يبذل قصاري جهده في تزويد عقله بكل الثقافات والعلوم العصرية فستكون له خير أداة لنجاح مهمته بين الناس.
ذلك إلي أن تفسير الكتب المقدسة وشرح العقائد والعلوم اللاهوتية فضلا عن التاريخ الديني أو الكنسي يستلزم أن يلم رجال الدين بالعلوم الطبيعية والأنستنية (من طبيعة ونبات وحيوان وتشريح ووظائف الأعضاء وتاريخ وجغرافيا وجيولوجيا وفلك وطب وأدب وسياسة واجتماع ونفس...إلخ) ثم باللغات الحية والميتة.
ولما كان الإلمام التام بكل هذه العلوم معا متعذرا بل ومستحيلا علي رجل الدين الذي يجب أن يكون متضلعا أولا وبالذات وقبل كل شئ آخر بالعلوم الروحية والعقائد الدينية بعد أن ينقطع للتعبد والصلاة والتجارب الروحية لذلك فلا مندوحة له من أن يكتفي ببعض المعارف والعلوم علي أن يكون هذا البعض هو الأهم الذي لا غني عنه والذي يفضل غيره ويأتي في الترتيب قبلا.
ولما كانت الفلسفة تعد أرقي جميع المعارف والعلوم فالإلمام بها أولي من غيرها وإن كان لا يغني عن غيرها.
أما أنها أرقي العلوم فلأنها تستأثر بأرقي الملكات الفكرية ثم لأنها دراسة للفكر نفسه الذي تقوم عليه جميع العلوم البشرية وهي بحث الأفكار الرئيسية والمبادئ العامة دون التفاصيل المادية التي تبحث فيها العلوم المختلفة,ولذا فدراسة الفلسفة تغني إلي حد كبير عن دراسة الكثير من العلوم أو يمكن علي الأقل أن نقول إنها تسهل البحث في جميع العلوم إذ هي أشق وأرهق للفكر من هذه العلوم ومن ثم فمن درسها يمكنه في يسر وسهولة أن يدرس غيرها من العلوم مع أن العكس ليس بصحيح.
هذا والفلسفة كما يعرفها الفيلسوف الإنجليزي سبنسر هي جماع جميع العلوم إذ الفلسفة تركيب للمعارف الإنسانية وهو تركيب يكتمل ويتوثق بتقدم العلوم الفرعية التي تجعلها الفلسفة في أحضانها فإن دراسة الفلسفة دراسة للتركيب العام لجميع العلوم.ولذا فهي أخصب وأغني للفكر العام وأنسب لقيادة الفكر من دراسة سائر العلوم ولو أنها دراسة أيضا وفي الآن نفسه-للمبادئ العامة لجميع العلوم.
ثانيا: لأن دراسة الفلسفة نافعة للعقل
ليس بين جميع العلوم ما يعود بالنفع علي العقل نفسه مثل الفلسفة ورجل الدين بوصفه مفكرا بل قائدا للفكر يرحب بهذه الفوائد الجليلة.
1- الفلسفة تصقل العقل:
بدراسة الفلسفة يمرن العقل علي حل المشكلات وفك الغوامض والمبهمات فيسهل عليه التفكير في سائر الأمور العويصة فيصبح أكثر استعدادا وأقدر علي الاستنتاج والتعليل والقياس.ومثل العقل في ذلك مثل قطعة من الخشب فيها بروزات ونتوءات ولكن بكثرة حكها والضغط عليها والمرور علي سطحها بألة النجار (الفارة) يتم صقلها وتختفي نتوءاتها ويصبح من الممكن أن يمر عليها المرء بيده دون أن تجرح أو تخدش لأنها غدت ناعمة الملمس هكذا العقل بمرانه علي التفكير وكثرة اشتغاله بمسائل الفلسفة ومعضلاتها.
2- تمكن العقل من التفكير العميق:
الفلسفة تفكير عميق ومتواصل وهي تستأثر بأسمي ملكات العقل وتستغلها أرقي نوع من الاستغلال وتجهدها أعظم إجهاد مما يحصل معه المرء علي فوائد فكرية جلي إذ يزداد كل يوم قدرة علي التفكير العميق والبحث العنيف الشاق في مجالات المدركات العقلية المجردة عن العوارض الحسية.إذ قد مرن علي التفكير في نظائرها.وبهذا يتأهب الباحث لدراسة اللاهوت ولذا كان طلبة المدرسة الإكليريكية بمينة الإسكندرية يدرسون الفلسفة قبل اللاهوت.
3- تكسب العقل دقة في البحث:
وكما تمتاز الفلسفة بالعمق تمتاز كذلك بالدقة فالمنطق وهو أول علوم الفلسفة يعني بتحديد الألفاظ والمدركات كذلك تاريخ الفلسفة بما يقدمه من مذاهب فلسفية متباينة لم تختلف عن بعضها إلا يسيرا في نقطة البدء ثم اتسعت شقة الخلاف بينها حتي أصبحت متعارضة جد التعارض بل ومحاولة الفلاسفة استعمال أو خلق مصطلحات فلسفية خاصة للتعبير عن معان فكرية معينة مصطلحات قد تكون متقاربة في لفظها وشكلها ولكنها تختلف في معناها عن بعضها اختلافا صغيرا أو كبيرا...كل هذا من شأنه أن يعود العقل خاصية الحذر والدقة والتوقف عن الحكم والتثبت من كل خطوة قبل الانتقال إلي غيرها وعدم الخلط بين الألفاظ الموافقة للمعاني تخيرا مانعا فلا يكون اللفظ أوسع من المعني ولا أضيق منه.وإذا كان للفيلسوف الحق أن يتحلي بهناء الفضائل العقلية التي بدونها لن يستحق لفظ الفيلسوف فإن رجل الدين كذلك بوصفه مفكرا في أعوص المسائل وأرفعها تلزمه هذه الدقة وسائر الفضائل الفلسفية الأخري حتي يكون دقيقا في لفظه سليما في قوله وحكمه يمكن أن يتناول الناس عباراته فيفهمون مقصوده علي وجه الدقة فليس يصلح للقيادة في الفكر إلا رجل يقول ما يقصد ويقصد ما يقول واضح الفكر سليم العبارة.فإذا بحث مشكلة لاهوتية عرضها عرض المفكر الرصين المتريث الذي لن ينتقل من فكره قبل أن يسلم ما قبلها لما بعدها وبذا تكون بحوثه وافية شافية ومقنعة كافية.
4- تكون أو تربي ملكة النقد الصحيح:
فالصراع الذي يقوم بين الفلاسفة علي شتي المسائل العقلية وما ينشأ بينهم من نواحي الاتفاق أو الاختلاف يلزم الفكر ويوضعه علي أن لا يقتبل أي مذهب أو رأي قبولا سهلا وإنما يزن كل فكرة فيه ليري ما فيها من صواب ومن خطأ وهذا هو النقد الصحيح الذي يتوافر بنصيب عظيم للفلاسفة أو دارسي الفلسفة.
ورجل الدين يعوزه أن يكون ناقدا لا ناقلا ومهمته تقتضيه أن يقرأ كل شئ ليفحصه حتي يستفيد من خيره ويطرح ثمره ولكيما يرشد أفراد رعيته إلي مواطن القوة والضعف في المؤلفات التي يقرأونها فيجنبهم العثار والضلال ويقتادهم إلي الحق والصواب.
5- ترشده إلي اكتشاف المغالطات:
الأغاليط أو المغالطات باب من أبواب علم المنطق وهو فرع من فروع الفلسفة ودراستها تفقه المرء في سبيل كشف الأخطاء والأغاليط التي يسقط الناس فيها سواء في كتاباتهم أو أقوالهم.فلا يفحم بكل قياس ولا ينخدع بظاهر القول.
وما أشد حاجة رجل الدين إلي هذه الفلسفة التي تكون له خير عون علي كشف الأغاليط التي يقع فيها خصوم الحق المكابرون فإن لم يكن أوسع حيلة منهم وأقدر علي إظهار تفاهة أدلتهم وفضح أساليب هجومهم ودفاعهم لا يمكنه أن يظفر بهم.ففي علم اللاهوت الجدلي يفتقر اللاهوتي إلي الفلسفة ليقنع ويفحم ويرد ويدفع.
ثالثا: لأن دراسة الفلسفة نافعة للدين:
أما نفع الفلسفة للدين فيتضح من جهتين:-
أولا تؤكد حقائق الدين في ذهن رجل الدين:
قد يكون الدين عند بعض المؤمنين حقائق عالية لا يستطاع فهمها ولا يمكن التوصل إلي فهمها وهم لذلك ضعيفو الاعتقاد واهنوا الإيمان لا يكاد يعترضهم في دينهم إنسان حتي يعتورهم الشك ويزعجهم الريب لكن رجل الدين الفيلسوف قد ثبت الدين عنده بأدلة من العقل ولذا فهو راسخ الاعتقاد قادر علي الثبات أمام عواصف الشكوك وليس هناك من قضية إيمانية إلي وقد فهمها وهضمها بعقله وهضمها بقلبه وارتكزت في نفسه بأسلوب واضح متميز منتظم فالدين لديه إذن قد استحال إلي حقيقة إنسانية يستطيع أن يبرهن عليه بأدلة معقولة بعد أن كان دينا عاليا من سلطة آمن بها مقهورا.
والدين في نظر الكثيرين ضد الفلسفة والفلسفة خصم للدين أما عند رجل الدين الذي درس الفلسفة فقد صارت هذه الخصومة المزعومة لا مبرر لها ولم يعد ينزعج بما يشنه خصوم الدين من براهين وأسانيد فقد اطمأن إلي الدين ورسخت عقائده في قلبه بأدلة من العقل والنقل وبالإجمال فعلي قدر ما تبدو الفلسفة عند العوام عدوة للدين تصبح عند رجل الدين الفيلسوف خادمة للدين.
ثانيا: تطمئن الناس علي الدين:
والناس بإزاء الفلسفة فريقان.فريق جهل الفلسفة ومع ذلك فهو متخوف علي الدين من الفلسفة بما يصل إلي سمعه من خصوم الدين من أن عباقرة المفكرين رفضوا مبادئ الدين فإذ يدرس علماء الدين آراء الفلاسفة ومذاهب الفلسفة وإذ يري الناس أن دراسة الفلسفة لم تزعزع إيمان المتدينين يتشجعون ويطمئنون إلي الدين ويتحققون من أنه لا خوف عليه من الفلسفة فيزدادون به إيمانا وثقة ورسوخا.
والفريق الآخر فريق الفلاسفة ودارسي الفلسفة الذين قد بهرتهم الفلسفة صاروا بها مغرورين واعتقدوا أن جهالة رجال الدين بالفلسفة هي التي صيرتهم متدينين وكأنهم يشعرون أن رجل الدين إذا تفلسف تزعزت أسس إيمانه.ولكن إذا درس رجل الدين الفلسفة استطاع أن يصد المتغطرسين والمدعين وأمكنه عن طريق الفلسفة أن يبرهن علي صحة الحقائق الإيمانية فينكص أولئك علي أعقابهم وترتد سهامهم إلي نحرهم فلا يهاجمون الدين ورجاله.
ولئن كان حقا أن القديس بولس الرسول لم يرد أن يكلم الناس عن المسيح بأدلة الفلسفة لئلا تستحيل ديانة المسيح إلي مذهب فلسفي ولئلا تختفي قوة الروح القدس في إقناع القلوب وإشباع النفوس إلا أننا لا ننسي مطلقا أن القديس بولس كان دارسا للفلسفة وقد تأثر جد التأثر بالمنهج الفلسفي فكتاباته تمتاز بالأسلوب الفلسفي الرائع وهو ما حدا بالكثيرين من المؤرخين وعلماء التاريخ الفلسفي إلي أن يعدوا الرسول بولس فيلسوفا عظيما بل لقد لقبوه بفيلسوف المسيحية.ولم يكن لأحد أن ينكر هذه القضية وقد اعترف بها زميله وشريكه في الخدمة الرسولية القديس بطرس قال في خاتمة رسالته الثانية:
ثقوا أن أناة ربنا (هي) لخلاصكم كما كتب إليكم أيضا أخونا الحبيب بولس بحسب الحكمة التي وهبت له.وهكذا (فعل) في جميع رسائله حيث تكلم عن هذه الأمور التي توجد فيها أشياء يعسر فهمها يمجها الجهال وغير الراسخين كسائر الكتب فيهلكون نفوسهم (2بط3:15, 1).
لهذا اختاره الرب الإله ليكون كارزا باسمه بين الأمم حتي يكون له إناء مختارا يحمل اسمه بين أمم وملوك بني إسرائيل (أع9:15) فصار رسول الأمم كما أن مار بطرس كان رسول الختان (غل2:8, 9) ولما كان دارسا لفلسفة الأمم أمكنه أن يفهمهم ويعرف أفكارهم كما أمكنه أن يكلمهم بمنهجهم وأسلوبهم ولغة عقولهم.خذ مثلا لذلك ما ورد عنه في سفر الأعمال فقابله قوم من الفلاسفة الأبيكوزيين والرواقين وقال بعضهم تري ماذا يريد هذا المهذار أن يقول وبعض أنه يظهر مناديا بآلهة غريبة لأنه كان يبشرهم بيسوع والقيامة.فأخذوه وذهبوا به إلي أريوس باغوس قائلين: هل يمكننا أن نعرف ما هو هذا التعليم الجديد الذي تتكلم به لأنك تأتي إلي مسامعنا بأمور غريبة عنا فنريد أن نعلم ما عسي أن تكون هذه.أما الأثينيويون أجمعون والغرباء والمستوطنون فلا يتفرغون لشئ آخر إلا أن يتكلموا أو يسمعوا شيئا حديثا. فوقف بولس في وسط أريوس باغوس وقال: أيها الرجال الأثينويون أراكم من كل وجه كأنكم متدينون كثيرا لأنني بينما كنت أجتاز وأنظر إلي معبوداتكم وجدت أيضا مذبحا مكتوبا عليه لإله مجهول فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلي شئ إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شئ.وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيدا لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد كما قال بعض شعرائكم أيضا لأننا أيضا ذريته.فإذ نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر أو نقش صناعة واختراع إنسان.فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضيا عن أزمنة الجهل لأنه أقام يوما هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل...ولكن أناسا التصقوا به وآمنوا منهم ديونيسيوس الديوباغي وامرأة اسمها دامرس وآخرون معهما (أع17:18-34).
أفهل كان يمكن أن يكون الرسول موفقا في رسالته كل هذا التوفيق في وسط بيئة تموج بالفلسفة والفلاسفة لو لم يكن دارسا للفلسفة وهل كان يمكنهم أن يثقوا في شخصه ويطمئنوا إلي رأيه لو لم يحدثهم بطريقة عقلية بحتة وبأسلوب فلسفي محض يظهر فيه علمه باتجاهاتهم الفكرية وأقوال علمائهم وفلاسفتهم؟
حقا إننا نؤمن بالوحي للرسل والأنبياء ولكننا نعلم كذلك أن الوحي ترك لكل نبي ورسول أسلوبه الخاص ليعبر به عن أفكار مقدسة كاملة.وهذه الحرية في الأسلوب هي التي تبرر لرجال الدين دراسة الفلسفة لتكون أسلوبا ساميا من أساليب التبليغ في الكتابة والكلام.
وإذن فدراسة الفلسفة خير للدين ورجاله ولكن رجال الدين ليسوا رجال فلسفة فقط بل هم رجال وحي أيضا يصلحون بالوحي أخطاء العقل ويكملون الحقيقة الإنسانية بالحقيقة الإلهية فهم مؤمنون بالعقل في غير غرور وبالدين في غير كسل.ولو كان رجال الدين فلاسفة وفلاسفة العالم متدينين لأدرك الناس جميعا الطريق والحق والحياة.
Encyclopedia - أنسكلوبيديا