Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الثالثة 180/16 م.ح

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
أيبك165/ 1 م.ح
نور الدين166/ 2 م.ح
قطز 167/ 3 م.ح
بيبرس168/ 4 م.ح
السعيد 169/ 5 م.ح
سلامش 170/ 6 م.ح
سيف الدين171/ 7 م.ح
صلاح الدين172/ 8 م.ح
بن قلاوون 173/ 9 م.ح
زين الدين174/ 10 م.ح
حسام الدين175/ 11 م.ح
بن قلاوون 176/ 12 م.ح
بيبرس177/ 13 م.ح
أحمد178/ 14 م.ح
إسماعيل179/ 15 م.ح
بن قلاوون180/ 16 م.ح
أبو بكر181/ 17 م.ح
كجك182/ 18 م.ح
شعبان 183/ 19 م.ح
حسن 184/ 20 م.ح
صالح 185/ 21 م.ح
حسن186/ 22 م.ح
محمد187/ 23 م.ح
شعبان188/ 24 م.ح
على 189/ 25 م.ح
أمير حاج 190/ 26 م.ح

 

****************************************************************************************

 الجزء التالى عن المماليك الذين حكموا مصر وهم تحت إستعمار الأسرة العباسية السنية الإسلامية من مرجع - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي - منذ غزو مصر على يد جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص ومن تولوا إمارة مصر قبل الإسلام وبعد الإسلام إلى نهاية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة

****************************************************************************************

  السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون
ونسوق الآن ذكر دخوله إلى مصر فنقول‏:‏ لما كانت الثانية من نهار الثلاثاء السادس عشر من شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة وهي الساعة التي خلع الملك المظفر بيبرس نفسه فيها من ملك مصر بديار مصر خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من دمشق يريد الديار المصرية فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب وإقبال سعد الناصر وإدبار سعد المظفر وسارا الملك الناصر يريد الديار المصرية وصحبته نواب البلاد الشامية بتمامهم وكمالهم والعساكر الشامية وخواصه ومماليكه‏.

وأما مدة سلطنته على مصر فقد تقدم أنه تسلطن ثلاث مرات فأول سلطنته كانت بعد قتل أخيه الأشرف خليل بن قلاوون في سنة ثلاث وتسعين وستمائة في المحرم وعمره تسع سنين وخلع بالملك العادل كتبغا المنصوري في المحرم سنة أربع وتسعين فكانت سلطنته هذه المرة دون السنة‏.‏

ثم توجه إلى الكرك إلى أن أعيد إلى السلطنة بعد قتل المنصور حسام الدين لاجين في سنة ثمان وتسعين وستمائة فأقام في الملك والأمر إلى سلار وبيبرس الجاشنكير إلى سنة ثمان وسبعمائة وخلع نفسه وتوجه إلى الكرك وتسلطن بيبرس الجاشنكير وكانت مدته في هذه المرة الثانية نحو التسع سنين‏.‏

ثم خلع بيبرس وعاد الملك الناصر إلى السلطنة ثالث مرة في شوال سنة تسع وسبعمائة واستبد من يوم ذاك بالأمر من غير معارض إلى أن مات في التاريخ المذكور وقد ذكرنا ذلك كله في أصل ترجمته من هذا الكتاب مفصلًا فكانت مدة تحكمه في هذه المرة الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا‏.‏
وهو أطول ملوك الترك مدة في السلطنة فإن أول سلطنته من سنة ثلاث وتسعين وستمائة إلى أن مات نحوًا من ثمان وأربعين سنة بما فيها من أيام خلعه ولم يقع ذلك لأحد من ملوك الترك بالديار المصرية فهو أطول الملوك زمانًا وأعظمهم مهابة وأغزرهم عقلًا وأحسنهم سياسة وأكثرهم دهاء وأجودهم تدبيرًا وأقواهم بطشًا وشجاعة وأحذقهم تنفيذًا مرت به التجارب وقاسى الخطوب وباشر الحروب وتقلب مع الدهر ألوانًا نشأ في الملك والسعادة وله في ذلك الفخر والسيادة خليقًا للملك والسلطنة فهو سلطان وابن سلطان وأخو سلطان ووالد ثماني سلاطين من صلبه والملك في ذريته وأحفاده وعقبه ومماليكه ومماليك مماليكه إلى يومنا هذا بل إلى أن تنقرض الدولة التركية فهو أجل ملوك الترك وأعظمها بلا مدافعة ومن ولي السلطنة من بعده بالنسبة إليه كآحاد أعيان أمرائه‏.‏ ‏
وأما أمر الديار المصرية فإن الملك المظفر بيبرس لما خلع نفسه وخرج من مصر إلى الإطفيحية جلس الأمير سلار بقاعة النيابة من قلعة الجبل وجمع من بقي من الأمراء واهتم بحفظ القلعة وأخرج المحابيس الذين كانوا فيها من حواشي الملك الناصر محمد وغيرهم وركب ونادى في الناس‏:‏ ‏"‏ ادعوا لسلطانكم الملك الناصر ‏"‏ وكتب إلى الملك الناصر بنزول المظفر عن الملك وفراره إلى إطفيح وسير بذلك أصلم الدوادار ومعه النمجاه وكان قد توجه قبل ذلك من القاهرة الأمير بيبرس المنصورفي الدوادار والأمير بهادر آص في رسالة المظفر بيبرس أنه قد ترك السلطنة وأنه سأل‏:‏ إما الكرك وإما حماة وإما صهيون‏.‏
واتفق يوم وصولهما إلى غزة قدوم الملك الناصر أيضًا إليها وقدوم الأمير سيف الدين شاطي السلاح دار في طائفة من الأمراء المصريين إليها أيضًا‏.‏
ثم قدمت العربان وقدم الأمير مهنا بن عيسى بجماعة كثيرة من آل فضل فركب السلطان إلى لقائه‏.‏
ثم قدم الأمير برلغي الأشرفي مقدم عساكر المظفر بيبرس وزوج ابنته والأمير آقوش الأشرفي نائب الكرك فسر الملك الناصر بقدومهما فإنهما كانا عضدي المظفر‏.‏
قال الأمير بيبرس الدوادار المقدم ذكره في تاريخه رحمه الله‏:‏ وأما نحن فإنا تقدمنا على البريد فوصلنا إلى السلطان يوم نزوله على غزة فمثلنا بين يديه وأعدنا المشافهة عليه وطالعناه بنزول الركن عن السلطنة والتماسه مكانًا من بعض الأمكنة فاستبشر لحقن دماء المسلمين وخمود الفتنة واتفق في ذلك النهار ورود الأمير سيف الدين برلغي والأمير عز الدين البغدادي ومن معهما من الأمراء والمقدمين واجتمعنا جميعًاأ بالدهليز المنصور وقد شملنا الابتهاج وزال عنا الانزعاج وأفاض السلطان على الأمراء التشاريف الجليلة على طبقاتهم والحوائص الذهب الثمينة لصلاتهم فلم يترك أميرًا إلأ وصله ولا مقدمًا حتى شرفه بالخلع وجمله‏.‏
وجددنا استعطاف السلطان فيما سأله الركن من الأمان وكل من الأمراء الحاضرين بين يديه يتلطف في سؤاله ويتضرع في مقاله حتى أجاب وعدنا بالجواب‏.‏
ورحل السلطان على الأثر قاصدًا الديار المصرية فوصلنا إلى القلعة يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان واجتمعنا بالأمير سيف الدين سلار ووجدنا الجاشنكير قد تجاوز موضع الميعاد وأخذ في الإصعاد وحمله الإجفال على الإبعاد ولم يدعه الرعب يستقر به قرار ولا تلقتة معه أرض ولا دار فاقتضى الحال أن أرسلنا إليه الكتب الشريفة الواردة على أيدينا وعدت أنا وسيف الدين بهادر آص إلى الخدمة السلطانية فوجدنا الدهليز على منزلة السعيدية‏.‏ انتهى كلام بيبرس الدوادار باختصار‏.‏
قلت‏:‏ ولما تكاملت العساكر بغزة سار الملك الناصر يريد الديار المصرية فوافاه أصلم دوادار سلار بالنمجاه ثم وصل رسلان الدوادار فسر السلطان بنزوله‏.‏
وسار حتى نزل بركة الحجاج في سلخ شهر رمضان وقد جهز إليه الأمير سلار الطلب السلطاني والأمراء والعساكر ثم خرج الأمير سلار إلى لقائه‏.‏
وصلى السلطان صلاة العيد بالدهليز ببركة الحاج في يوم الأربعاء مستهل شوال وخرج الناس إلى لقاء السلطان الملك الناصر‏.‏ وأنشد الشعراء مدائحهم بين يديه
فلما انقضىالسماط عزم السلطان على المبيت هناك والركوب بكرة النهار يوم الخميس فبلغه أن الأمير برلغي والأمير آقوش نائب الكرك قد اتفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله فبعث السلطان إلى الأمراء عرفهم بما بلغه وأمرهم بالركوب فركبوا وركبت المماليك ودقت الكوسات‏.‏
وسار الناصر وقت الظهر من يوم الأربعاء وقد احتفت به مماليكه كي لايصل إليه أحد من الأمراء حتى وصل إلى القلعة وخرج الناس بأجمعهم إلى مشاهدته‏.‏
فلما وصل بين العروستين ترجل سلار عن فرسه وترجل سائر الأمراء ومشوا بين يديه إلى باب السر من القلعة وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السلاح حتى عبر السلطان إلى القلعة ثم أمر السلطان الأمراء بالانصراف إلى منازلهم وعين جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمروا على ظهور خيولهم حول القلعة طول الليل فباتوا على ذلك‏.‏
وأصبحوا من الغد وقد جلس السلطان الملك الناصر على كرسي الملك وهو يوم الخميس ثاني شؤال‏.‏
وحضر الخليفة أبو الربيع سليمان والقضاة والأمراء وسائر أهل الدولة للهناء فقرأ الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن موسى الداعي‏:‏ ‏"‏ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ‏"‏ الآية 2‏.‏
ولما تقدم الخليفة ليسلم على السلطان نظر إليه وقال له‏:‏ كيف تحضر وتسلم على خارجي هل كنت أنا خارجيا وبيبرس من سلالة بني العباس فتغير وجه الخليفة ولا ينطق‏.‏
قلت‏:‏ والخليفة هذا كان الملك الناصر هو الذي ولاه الخلافة بعد موت أبيه الحاكم بأمر الله‏.‏ ثم التفت السلطان إلى القاضي علاء الدين علي بن عبد الظاهر الموقع وكان هو الذي كتب عهد المظفر بيبرس عن الخليفة وقال له‏:‏ يا أسود الوجه فقال ابن عبد الظاهر من غير توقف‏:‏ يا خوند أبلق خير من أسود‏.‏
فقال السلطان‏:‏ ويلك حتى لا تترك رنكه أيضًا يعني أن ابن عبد الظاهر كان ممن ينتمي إلى سلار وكان رنك سلار أبيض وأسود‏.‏ ثم التفت السلطان إلى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وقال له‏:‏ يا قاضي كنت تفتي المسلمين بقتالي فقال‏:‏ معاذ الله أن تكون الفتوى كذلك وإنما الفتوى على مقتضى كلام المستفتي‏.‏
ثم حضر الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل وقبل يد السلطان فقال له السلطان‏:‏ كنت تقول في قصيدتك‏:‏ ما للصبي وما للملك يكفله فحلف ابن المرحل بالله ما قال هذا وإنما الأعداء أرادوا إتلافي فزادوا في قصيدتي هذا البيت والعفو من شيم الملوك فعفا عنه‏.‏
واتفق أيضًا يوم جلوس السلطان الملك الناصر أن الأمراء لما اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق فقام مسعي وأنشد أبياتًا لبعض عوام القاهرة قالها عند توجه الملك الناصر من الديار المصرية إلى الكرك‏:‏ منها‏:‏ الطويل أحبة قلبي إنني لوحيد أريد لقاكم والمزار بعيد كفى حزنًا أني مقيم ببلدة ومن شف قلبي بالفراق فريد أجول بطرفي في الديار فلا أرى وجوه أحبائي الذين أريد فتواجد الأفرم وبكى وحسر عن رأسه ووضع الكلفتاة على الأرض فأنكر الأمراء ذلك وتناول الأمير قراسنقر الكلفتاة ووضعها بيده على رأس الأفرم ثم خرج السلطان فقام الجميع وصرخ الجاويشية فقبل الأمراء الأرض وجرى ما ذكرناه وانقضت الخدمة ودخل السلطان إلى الحريم‏.‏

ثم بعد الخدمة قدم الأمير سلار النائب عدة من المماليك والخيول والجمال وتعابي القماش ما قيمته مائتا ألف درهم فقبل السلطان شيئًا ورد الباقي‏.‏ وسأل سلار الإعفاء من الإمرة والنيابة وأن ينعم عليه بالشوبك فأجيب إلى ذلك بعد أن حلف أنه متى طلب حضر وخلع السلطان عليه وخرج سلار من مصر عصر يوم الجمعة ثالث شوال مسافرًا إلى الشوبك فكانت مدة نيابة سلار على مصر إحدى عشرة سنة‏.‏
وكانت الخلعة التي خلعها السلطان عليه بالعزل عن النيابة أعظم من خلعة الولاية وأعطاه حياصة من الذهب مرضعة وتوجه معه الأمير نظام الدين مسفرًا له واستمر الأمير علي بن سلار بالقاهرة وأعطاه السلطان إمرة عشرة بمصر‏.‏
ثم في خامس شؤال قدم رسول المظفر بيبرس يطلب الأمان فأمنه السلطان‏.‏ وفيه خلع السلطان على الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن الأمير آقوش الأفرم بحكم عزله‏.‏ وخلع على الأمير سيف الدين قبجق المنصوري بنيابة حلب عوضًا عن قرا سنقر‏.‏
وخلع على أسندمركرجي بنيابة حماة عوضًا عن قبجق وخلع على الحاج بهادر الحلبي بنيابة طرابلس عوضًا عن أسندمر كرجي‏.‏ وخلع على قطلوبك المنصوري بنيابة صفد عوضًا عن بكتمر الجوكندار‏.‏
واستقر سنقر الكمالي حاجب الحجاب بديار مصر على عادته وقرالاجين أمير مجلس على عادته‏.‏ وبيبرس الدوادار على عادته وأضيف إليه نيابة دار العدل ونظر الأحباس‏.‏ وخلع على الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام كان بنيابة صرخد على خبز مائة فارس‏.‏
وأنعم السلطان على نوغاي القبجاقي بإقطاع الأمير قطلوبك المنصوري وهو إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق‏.‏ ونوغاي هذا هو صاحب الواقعة مع المظفر والخارج من مصر إلى الكرك‏.‏ انتهى‏.‏
ثم رسم السلطان لشهاب الدين بن عبادة بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهزت وخلع عليهم كلهم في يوم الاثنين سادس شوال وركبوا بالخلع والتشاريف فكان لركوبهم يوم عظيم‏.‏
وفي يوم الأحد ثاني عشر شوال استقر فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة عوضًا عن ضياء الدين النشائي‏.‏
ثم رسم السلطان للنواب بالسفر فأول من سافر الأمير قبجق نائب حلب وخرجت معه تجريدة من العساكر المصرية خوفًا من طارق يطرق البلاد‏.‏
والذي تجرد مع قبجق من أمراء مصر هم‏:‏ الأمير جبا أخو سلار وطرنطاي البغدادي وعلاء الدين أيدغدي وبهادر الحموي وبلبان الدمشقي وسابق الدين بوزنا الساقي وركن الدين بيبرس الشجاعي وكوري السلاح دار وأقطوان الأشرفي وبهادر الجوكندار وبلبان الشمسي وأيدغدي الزراق وكهرداش الزراق وبكتمر أستادار وأيدمر الإسماعيلي وأقطاي الجمدار وجماعة من أمراء العشرات‏.‏
فلما وصلوا إلى حلب رسم بإقامة جماعة منهم بالبلاد الشامية عدتهم ستة من أمراء الطبلخاناه وعادت البقية‏.‏
وفي يوم الخميس سادس عشر شوال حضر الأمراء للخدمة على العادة وقد قرر السلطان مع مماليكه القبض على عدة من الأمراء وأن كل عشرة يقبضون أميرًا ممن عينهم بحيث يكون العشرة عند دخول الأمير محتفة به فإذا رفع السماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كل جماعة على من عين لهم‏.‏
فلما حضر الأمراء في الخدمة أحاط بهم المماليك ففهموا القصد وجلسوا على السماط فلم يتناول أحد منهم لقمة وعندما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار فتقدم إليه وقبض المماليك عل

قى الأمراء المعينين وعدتهم اثنان وعشرون أميرًا فلم يتحرك أحد منهم فبهت الجميع ولم يفلت منهم سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة فإنه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنه رعف وخرج من غير أن يشعر به أحد واختفى عند الأمير قراسنقر وكان زوج أخته فشفع فيه قراسنقر فقبل السلطان شفاعته‏.‏
وكان الأمراء المقبوض عليهم‏:‏ الأمير باكير وأيبك البغدادي وقينغار التقوي وقجماس وصاروجا وبيبرس وبيدمروتينوا ومنكوبرس وإشقتمر والسيواسي وسنقر الكمالي الحاجب والحاج بيليك المطفري والغتمي وإكبار وحسن الردادي وبلاط وتمربغا وقيران ونوغاي الحموي وهو غير نوغاي القبجاقي صاحب الواقعة وجماعة أخر تتمة الاثنين وعشرين أميرًا‏.‏
وفي ثالث عشرين شوال استقر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر عوضًا عن سلار‏.‏
وفيه أمر السلطان اثنين وثلاثين أميرًا من مماليكه منهم‏:‏ تنكز الحسامي الذي ولي نيابة الشام بعد ذلك وطغاي وكستاي وقجليس وخاص ترك وطط قرا وأقتمر وأيدمر الشيخي وأيدمر الساقي وبيبرس أمير آخور وطاجار المارديني الناصري وخضر بن نوكاي وبهادر قبجق والحاج أرقطاي وأخوه أيتمش المحمدي وأرغون الدوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر وسنقر المرزوقي وبلبان الجاشنكير وأسنبغا بن عبد الله المحمودي الأمير سيف الدين وبيبغا المكي وأمير علي بن قطلوبك ونوروز أخو جنكلي وألجاي الحسامي وطيبغا حاجي ومغلطاي العزي صهر نوغاي وقرمشي الزيني وبكتمر قبجق وتينوا الصالحي ومغلطاي البهائي وسنقر السلاح دار ومنكلي بغا وركبوا الجميع بالخلع والشرابيش من المنصورية ببين القصرين وشقوا القاهرة وقد أوقدت الحوانيت كلها إلى الرميلة وسوق الخيل وصفت المغاني وأرباب الملاهي في عدة أماكن ونثرت عليهم الدراهم فكان يومًا مشهودًا‏.‏ وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه وعشراوات‏.‏ وفيه قبض السلطان على برلغي الأشرفي وجماعة أخر‏.‏
ثم بعد أيام أيضًا قبض السلطان على الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح أمير جاندار بعدما حضرا من عند الملك المظفر بيبرس وخلع عليهما وذلك بعد الفتك بالمظفر بيبرس حسب ما ذكرناه في ترجمة المظفر بيبرس وسكتنا عنه هنا لطول قصته ولقصر مدة حكايته فإنه بالأمس ذكر فليس لتكراره محل ومن أراد ذلك فلينظر في ترجمة المظفر بيبرس‏.‏ انتهى‏.‏
وفيه سفر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندرية وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها وهم‏:‏ آقوش المنصوري قاتل الشجاعي والشيخ علي التتاري ومنكلي التتاري وشاورشي بن قنغر وهو الذي كان أثار فتنة الشجاعي وكتبغا وغازي وموسى أخوا حمدان بن صلغاي فلما حضر‏.‏ خلع عليهم وأنعم عليهم بإمريات في الشام‏.‏
ثم أحضر شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية من سجن الإسكنرية وبالغ في إكرامه وكان حبسه المظفر لأمر وقع بينه وبين علماء دمشق ذكرناه في غير هذا الكتاب وهو بسبب الاعتقاد وما يرمى به أوباش الحنابلة‏.‏ وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرين صفر سنة عشر وسبعمائة عزل السلطان قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي عن قضاء الديار المصرية بقاضي القضاة جمال الدين أبي داود سليمان بن مجد الدين أبي حفص عمر الزرعي وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم السروجي الحنفي فأقام بعد عزله ستة أيام ومات‏.‏
 كتب السلطان الملك الناصر بالقبض على الأمراء الذين كان أطلقهم من حبس الإسكندرية وأنعم عليهم بإمريات بالبلاد الشامية خوفًا من شرهم‏.‏ ثم استقر السلطان بالأمير بكتمر الحسامي حاجب دمشق في نيابة غزة عوضًا عن بلبان البدري‏.‏
ثم قبض السلطان على قطقطو والشيخ علي وضروط مماليك سلار وأمر عوضهم جماعة من مماليكه وحواشيه منهم‏:‏ بيبغا الأشرفي وجفتاي وطيبغا الشمسي وأيدمر الدوادار وبهادر النقيب‏.‏
وفيها حضر ملك العرب حسام الدين مهنا أمير آل فضل فأكرمه السلطان وخلع عليه وسأل مهنا السلطان في أشياء وأجابه منها‏:‏ ولاية حماة للملك المؤيد إسماعيل ابن الملك الأفضل علي الأيوبي فأجابه إلى ذلك ووعده بها بعد أسندمر كرجي ومنها الشفاعة في أيدمر الشيخي فعفا عنه وأخرجه إلى قوص ومنها الشفاعة في الأمير برلغي الأشرفي وكان في الأصل مملوكه قد كسبه مهنا هذا من التتار ثم أهداه إلى الملك المنصور قلاوون فورثه منه ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون فعدد السلطان الملك الناصر ذنوبه فما زال به مهنا حتى خفف عنه وأذن للناس في الدخول عليه ووعدده بالإفراج عنه بعد شهر فرضي بذلك وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء على الملك الناصر‏.‏ ولما فرغ السلطان الملك الناصر
كل من أمر المظفر بيبرس وأصحابه ولم يبق عنده ممن يخشاه إلا سلار ندب إليه السلطان الأمير ناصر الدين محمد ابن أمير سلاح بكتاش الفخري وكتب على يده كتابًا بحضوره إلى مصر فاعتذر سلار عن الحضور إلى الديار المصرية بوجع في فؤاده وأنه يحضر إذا زال عنه‏.‏
فتخيل السلطان من تأخره وخاف أن يتوخه إلى التتارة فكتب إلى قراسنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب حماة بأخذ الطرق على سلار لئلا يتوجه إلى التتار‏.‏ ثم بعث الملك الناصر بالأميرين‏:‏ بيبرس الدوادار وسنجر الجاولي إلى الأمير سلار وأكد عليهما في إحضاره وأن يضمنا له عن السلطان أنه يريد إقامته عنده يستشيره في أمور المملكة فقدما على سلار وبلغاه عن السلطان ما قال فوعدهما أنه يحضر وكتب الجواب بذلك فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله منه‏.‏
وأما سلار فإنه تحير في أمره واستشار أصحابه فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بتوجهه إلى السلطان ومنهم من أشار بتوجهه إلى قطر من الأقطار إما إلى التتار أو إلى اليمن أو إلى برقة‏.‏
فعول على المسير إلى اليمن ثم رجع عن ذلك وأجمع على الحضور إلى السلطان وخرج من الشوبك و عنده ممن سافر معه من مصر أربعمائة وستون فارسًا فسار إلى القاهرة فعندما قدم على الملك الناصر قبض عليه وحبسه بالبرج من قلعة الجبل وذلك في سلخ شهر ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة‏.‏ ثم ضيق السلطان على الأمير برلغي بعد رواح الأمير مهنا وأخرج حريمه من عنده ومنع ألا يدخل إليه أحد بأكل ولا شرب حتى أشفى على الموت ويبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع ومات ليلة الأربعاء ثاني شهر رجب‏.‏

الملك الناصر يستولى على أموال الأمير سلار
وأما أمر سلار فإنه لما حضر بين يدي الملك الناصر عاتبه عتابًا كثيرًا وطلب منه الأموال وأمر الأمير سنجر الجاولي أن ينزل معه ويتسلم منه مايعطيه من الأموال فنزل معه إلى داره ففتح سلار سربًا تحت الأرض فأخرج منه سبائك ذهب وفضة وجرب من الأديم الطائفي في كل جراب عشرة آلاف دينار فحملوا من ذلك السرب أكثر من حمل خمسين بغلًا من الذهب والفضة ثم طلع سلار إلى الطارمة التي كان يحكم عليها فحفروا تحتها فأخرجوا سبعًا وعشرين خابية مملوءة ذهبًا ثم أخرج من الجواهر شيئأ كثيرًا منها‏:‏ حجر بهرمان زنته أربعون مثقالًا وأخرج ألفي حياصة ذهب مجوهرة بالفصوص وألفي قلادة من الذهب كل قلادة تساوي مائة دينار وألفي كلفتاة زركش وشيئًا كثيرًا يأتي ذكره أيضًا بعد أن نذكر وفاته ومنها‏:‏ أنهم وجدوا له لجمًا مفضضة فنكتوا الفضة عن السيور ووزنوها فجاء وزنها عشرة قناطير بالشامي‏.‏
ثم إن السلطان طلبه وأمر أن يبنى عليه أربع ح

يطان في مجلسه وأمر ألا يطعم ولايسقى وقيل‏:‏ إنه لما قبض عليه وحبسه بقلعة الجبل أحضر إليه طعامًا فأبى سلار أن يأكل وأظهر الغضب فطولع السلطان بذلك فأمر بألا يرسل إليه طعام بعد هذا فبقي سبعة أيام لا يطعم ولايسقى وهو يستغيث من الجوع فأرسل إليه السلطان ثلاثة أطباق مغطاة بسفر الطعام فلما أحضروها بين يديه فرح فرحًا عظيمًا وظن أن فيها أطعمة يأكل منها فكشفوها فإذا في طبق ذهب وفي الآخر فضة وفي الآخر لؤلؤ وجواهر فعلم سلار أنه ما أرسل إليه هذه الأطباق إلا ليقابله على ما كان فعله معه فقال سلار‏:‏ الحمد لله الذي جعلني من أهل المقابلة في الدنيا وبقي على هذه الحالة اثني عشر يومًا ومات فأعلموا الملك الناصر بموته فجاؤوا إليه فوجدوه قد أكل ساق خفه وقد أخذ السرموجة وحطها في فيه وقد عض عليها بأسنانه وهو ميت وقيل‏:‏ إنهم دخلوا عليه قبل موته وقالوا‏:‏ السلطان قد عفا عنك فقام من الفرح ومشى خطوات ثم خر ميتًا وذلك في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة وقيل‏:‏ في العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة‏.‏
فأخذ الأمير علم الدين سنجر الجاولي بإذن السلطان وتولى غسله وتجهيزه ودفنه بتربته التي أنشأها بجانب مدرسته على الكبش خارج القاهرة بالقرب من جامع ابن طولون لصداقة كانت بين الجاولي و سلار قديمًا وحديثًا‏.‏
وكان سلار أسمر اللون أسيل الخد لطيف القد صغير اللحية تركي الجنس وكان أصله من مماليك الملك الصالح علي بن قلاوون الذي مات في حياة والده قلاوون وكان سلار أميرًا جليلًا شجاعًا مقدامًا عاقلًا سيوسًا وفيه كرم وحشمة ورياسة وكانت داره ببين القصرين بالقاهرة‏.‏
وقيل‏:‏ إن سلار لما حج المرة الثانية فرق في أهل الحرمين أموالًا كثيرة وغلالًا وثيابًا تخرج عن حد الوصف حتى إنه لم يدع بالحرمين فقيرًا وبعد هذا مات وأكبر شهواته رغيف خبز وكان في شونته يوم مات من الغلال ما يزيد على أربعمائة ألف إردب‏.‏
وكان سلار ظريفًا لبيسًا كبير الأمراء في عصره اقترح أشياء من الملابس كثيرة مثل السلاري وغيره ولم يعرف لبس السلاري قبله وكان شهد وقعة شقحب مع الملك الناصر وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنًا وثخنت جراحاته وله اليد البيضاء في قتال التتار‏.‏
وتولى نيابة السلطنة بديار مصر فاستقل فيها بتدبير الدولة الناصرية نحو عشر سنين‏.‏ ومن جملة صدقاته أنه بعث إلى مكة في سنة اثنتين وسبعمائة في البحر المالح عشرة آلاف إردب قمح ففرقت في أهل مكة وكذا فعل بالمدينة‏.‏
وكان فارسًا كان إذا لعب بالكرة لا يرى في ثيابه عرق وكذا في لعب الرمح مع الإتقان فيهما‏.‏ وأما ماخلفه من الأموال فقد ذكرنا منه شيئًا ونذكر منه أيضًا ما نقله بعض المؤرخين‏.‏
قال الجزري‏:‏ وجد ل سلار بعد موته ثمانمائة ألف ألف دينار وذلك غير الجوهر والحلي والخيل والسلاح‏.‏ قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي‏:‏ هذا كالمستحيل وحسب زنة الدينار وجمله بالقنطار فقال‏:‏ يكون ذلك حمل خمسة آلاف بغل وما سمعناه عن أحد من كبار السلاطين أنه ملك هذا القدر ولا سيما ذلك خارج عن الجوهر وغيره‏.‏ انتهى كلام الذهبي‏.‏
قلت‏:‏ وهو معذور في الجزري فإنه جازف وأمعن‏.‏ وقالى ابن دقماق في تاريخه‏:‏ وكان يدخل إلى سلار في كل يوم من أجرة أملاكه ألف دينار‏.‏ وحكى الشيخ محمد بن شاكر الكتبي فيما رآه بخط الإمام العالم العلامة علم الدين البرزالي قال‏:‏ رفع إلي المولى جمال الدين بن الفويرة ورقة فيها قبض أموال سلار وقت الحوطة عليه في أيام متفرقة أولها يوم الأحد‏:‏ ياقوت أحمر وبهرمان رطلان‏.‏ بلخش رطلان ونصف‏.‏ زمرد ريحاني وذباب تسعة عشر رطلًا‏.‏ صناديق ضمنها فصوص ستة‏.‏ ما بين زمرد وعين الهر ثلاثمائة قطعة كبار‏.‏ لؤلؤ مدور من مثقال إلى درهم ألف ومائة وخمسون حبة‏.‏ ذهب عين مائتا يوم الاثنين‏:‏ فصوص مختلفة رطلان ذهب عين خمسة وخمسون ألف دينار دراهم ألف ألف درهم‏.‏ مصاغ وعقود ذهب مصري أربع قناطير‏.‏ فضيات طاسات وأطباق وطشوت ست قناطير‏.‏ يوم الثلاثاء‏:‏ ذهب عين خمسة وأربعون ألف دينار دراهم ثلاثمائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم‏.‏ قطزيات وأهله وطلعات صناجق فضة ثلاثة قناطير‏.‏ يوم الأربعاء‏:‏ ذهب عين ألف ألف دينار دراهم ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ أقبية بفرو قاقم ثلاثمائة قباء‏.‏ أقبية حرير عمل الدار ملونة بفرو سنجاب أربعمائة قباء سروج ذهب مائة سرج‏.‏ ووجد له عند صهره أمير موسى ثمانية صناديق لم يعلم ما فيها حملت إلى الدور السلطانية وحمل أيضًا من عند سلار إلى الخزانة تفاصيل طرد وحش وعمل الدار ألف تفصيلة‏.‏ ووجد له خام السفر ست عشرة نوبه كاملة‏.‏ ووصل له مما كان أخذه صحبته لما توجه إلى الشوبك ذهب مصري خمسون ألف دينار ودراهم أربعمائة ألف درهم وسبعون ألف درهم وخلع ملونة ثلاثمائة خلعة وخركاه كسوتها أطلس أحمر معدني مبطن بأزرق مروزي أوستر بابها زركش ووجد له خيل ثلاثمائة فرس ومائة وعشرون قطار بغال ومائة وعشرون قطار جمال‏.‏
هذا خارج عما وجد له من الأغنام والأبقار والجواميس والأملاك والمماليك والجواري والعبيد‏.‏
ودل مملوكه على مكان مبني في داره فوجدوا حائطين مبنيين بينهما أكياس ما علم عدتها وفتح مكان آخر فيه فسقية ملآنة ذهبًا منسبكًا بغيرأكياس‏.‏

قلت‏:‏ ومما زاد سلار من العظمة أنه لما ولي النيابة في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون وصار إليه وإلى بيبرس الجاشنكير تدبير المملكة حضر إلى الديار المصرية الملك العادل زين الدين كتبغا الذي كان سلطان الديار المصرية وعزل بحسام الدين لاجين ثم استقر نائب حماة فقدم كتبغا إلى القاهرة وقبل الأرض بين يدي الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم خرج من عنده وأتى سلار هذا ليسلم عليه فوجد سلار راكبًا وهو يسير في حوش داره فنزل كتبغا عن فرسه وسلم على سلار و سلار على فرسه لم ينزل عنه وتحادثا حتى انتهى كلام كتبغا وعاد إلى حيث نزل بالقاهرة فهذا شيء لم يسمع بمثله انتهى‏.‏
وبعد موت سلار قدم على السلطان البريد بموت الأمير قبجق المنصوري نائب حلب وكان الملك الناصر عزل أسندمر كرجي عن نيابة حماة وولى نيابة حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل فسار إليه المؤيد من دمشق فمنعه أسندمر فأقام المؤيد بين حماة ومصر ينتظر مرسوم السلطان فاتفق موت قبجق نائب حلب فسار أسندمر من حماة إلى حلب وكتب يسأل السلطان في نيابة حلب فأعطاها ثم عزل السلطان بكتمر الحسامي الحاجب عن نيابة غزة وأحضره إلى القاهرة وولى عوضه على نيابة غزة الأمير قطلقتمر وخلع على بكتمر الحاجب بالوزارة بالديار المصرية عوضًا عن فخر اللدين عمر بن الخليلي‏.‏
ثم قدم البريد بعد مدة لكن في السنة بموت الأمير الحاج بهادر الحلبي نائب طرابلس فكتب السلطان بنقل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من نيابة صرخد إلى نيابة طرابلس عوضًا عن الحاج بهادر المذكور فسار إليها وفرح بموت الحاج بهادر فرحًا عظيمًا فإنه كان يخافه ويخشى شره‏.‏
ثم التفت السلطان بعد موت قبجق والحاج بهادر المذكور إلى أسندمر كرجي وأخرج تجريدة من الديار المصرية وفيها من الأمراء كراي المنصوري وهو مقدم العسكر وسنقر الكمالي حاجب الحجاب وأيبك الرومي وبينجار وكجكن وبهادر آص في عدة من مضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومقدمي الحلقة وأظهر أنهم توجهوا لغزو سيس وكتب لأسندمر كرجي بتجهيز آلات الحصار على العادة والاهتمام في هذا الأمر حتى يصل إليه العسكر من مصر‏.‏ وكتب الملك الناصر إلى المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بالمسير مع العسكر المصري‏.‏
ثم خرج الأمير كراي من القاهرة بالعساكر في مستهل ذي القعدة سنة عشر وسبعمائة وأسر إليه السلطان ما يعتمده في أمر كرجي‏.‏

السلطان الملك الناصر يقضى على المؤامرة
وبعد خروج هذا العسكر من مصر توحش خاطر الأمير بكتمر الخوكندار نائب السلطنة من الملك الناصر وخاف على نفسه واتفق مع الأمير بتخاص المنصوري على إقامة الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح علي بن قلاوون في السلطنة والاستعانة بالمماليك المظفرية وبعث إليهم في ذلك فوافقوه‏.‏
ثم شرع النائب بكتمر الجوكندار في استمالة الأمراء ومواعدة المماليك المظفرية الذين بخدمة الأمراء على أن كل طائفة تقبض على الأمير الذي هي في خدمته في يوم عينه لهم ثم يسوق الجميع إلى قبة النصر خارج القاهرة ويكون الأمير موسى المذكور قد سبقهم هناك‏.‏ فدبروا ذلك حتى انتظم الأمر ولم يبق إلا وقوعه فنم عليهم إلى الملك الناصر بيبرس الجمدار أحد المماليك المظفرية‏.‏
وهو ممن اتفق معهم بكتمر الجوكندار أراد بذلك أن يتخذ يدًا عند السلطان الملك الناصر بهذا الخبر فعرف خشداشه قراتمر الخاصكي بما عزم عليه فوافقه‏.‏
وكان بكتمر الجوكندار قد سير يعرف الأمير كراي المنصوري بذلك لأنه كان خشداشه وأرسل كذلك إلى قطلوبك المنصوري نائب صفد ثم إلى قطلقتمر نائب غزه فأما قطلوبك وقطلقتمر فوافقاه وأما كراي فأرسل نهاه وحذره من ذلك فلم يلتفت بكتمر وتم على ما هو عليه‏.‏ فلما بلغ السلطان هذا الخبر وكان في الليل لم يتمهل وطلب الأمير موسى إلى عنده وكان يسكن بالقاهرة فلما نزل إليه الطلب هرب‏.‏
ثم استدعى السلطان الأمير بكتمر الجوكندار النائب وبعث أيضًا في طلب بتخاص وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة فلما دخل إليه بكتمر أجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص فلما رآه بكتمر علم أنه قد هلك فقيد بتخاص وسجن وأقام السلطان ينتظر الأمير موسى فعاد إليه الجاولي ونائب الكرك وأخبراه بفراره فاشتد غضبه عليهما‏.‏
وماطلع النهار حتى أحضر السلطان الأمراء وعرفهم بما قد وقع ولم يذكر اسم بكتمر النائب‏.‏ وألزم السلطان الأمير كشدغدي البهادري والي القاهرة بالنداء على الأمير موسى ومن أحضره من الجند فله إمرته وإن كان من العامة فله ألف دينار‏.‏ فنزل كشدغدي ومعه الأمير فخر الدين إياز شاذ الدواوين وأيدغل شقير وسودي وعدة من المماليك وألزم السلطان سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة الأشرفية من القلعة حتى يظهر خبر الأمير موسى‏.‏ ثم قبض السلطان على حواشي الأمير موسى وجماعته وعاقب كثيرًا منهم‏.‏
فلم يزل الأمر على ذاك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة ثم قبض على الأمير موسى المذكور من بيت أستادار الفارقاني من حارة الوزيرية بالقاهرة وحمل إلى القلعة فسجن بها‏.‏ ونزل الأمراء إلى دورهم وخلي عن الأمير بكتمر النائب أيضًا ونزل إلى داره ورسم السلطان بتسمير أستادار الفارقاني ثم عفا عنه وسار إلى داره‏.‏
وتتبع السلطان المماليك المظفرية وفيهم بيبرس الجمدار الذي نم عليهم وعملوا في الحديد وأنزلوا ليسمروا تحت القلعة وقد حضر نساؤهم وأولادهم وجاء الناس من كل موضع وكثر البكاء والصراخ عليهم رحمة لهم والسلطان ينظر فأخذته الرحمة عليهم فعفا عنهم فتركوا ولم يقتل أحد منهم فكثر الدعاء للسلطان والثناء عليه‏.‏
وأما أمر أسندمر كرجي فإن الأمير كراي لما وصل بالعساكر المصرية إلى حمص وأقام بها على ما قرره السلطان معه وصل إليه الأمير منكوتمر الطباخي وكان السلطان كتب معه ملطفات إلى أمراء حلب بقبض نائبها أسندمر كرجي في الباطن وكتب في الظاهر لكراي وأسندمر كرجي بما أراده من عمل المصالح فقضى كراي شغله من حمص وركب وتهيأ من حمص وجد في السير جريمة حتى وصل إلى حلب في يوم ونصف فوقف بمن معه تحت قلعة حلب عند ثلث الليل الآخر وصاح‏:‏ يا لعلي وهي الإشارة التي رتبها السلطان بينه وبين نائب قلعة حلب‏.‏
فنزل نائب القلعة عند ذلك بجميع رجالها وقد استعدوا للحرب وزحف الأمير كراي على دار النيابة ولحق به أمراء حلب وعسكرها فسلم الأمير أسندمر كرجي نفسه بغير قتال فأخذ وقيد وسجن بقلعتها وأحيط على موجوده‏.‏ وسار منكوتمر الطباخي على البريد بذلك إلى السلطان‏.‏ ثم حمل أسندمر كرجي إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرومي فخاف عند ذلك الأمير قرا سنقر نائب الشام على نفسه وسأل أن ينتقل من نيابة دمشق إلى نيابة حلب ليبعد عن الشر فأجيب إلى ذلك وكتب بتقليده وجهز إليه في آخر ذي الحجة من سنة عشر وسبعمائة على يد الأمير أرغون الدوادار الناصري وأسر له السلطان بالقبض عليه إن أمكنه ذلك‏.‏
وقدم أسندمر كرجي إلى القاهرة واعتقل بالقلعة وبعث يسأل السلطان عن ذنبه فأعاد جوابه‏:‏ ما لك ذنب إلا أنك قلت لي لما ودعتك عند سفرك‏:‏ أوصيك ياخوند‏:‏ لاتبق في دولتك كبشًا كبيرًا وأنشىء مماليكك ولم يبق عندي كبش كبير غيرك ‏"‏‏.‏
ثم قبض السلطان على طوغان نائب البيرة وحمل إلى السلطان فحبس أيامًا ثم أطلقه وولاه شد الدواوين بدمشق‏.‏
وفي مستهل سنة إحدى عشرة وسبعمائة وصل الأمير أرغون الدوادار إلى الشام لتسفير قراسنقر المنصوري منها إلى نيابة حلب فاحترس منه الأمير قراسنقر على نفسه وبعث إليه عدة من مماليكه يتلقونه ويمنعون أحدًا ممن جاء معه أن ينفرد مخافة أن يكون معه ملطفات إلى أمراء دمشق‏.‏
ثم ركب قراسنقر إليه ولقيه بميدان الحصى خارج دمشق وأنزله عنده بدار السعادة ووكل بخدمته من ثقاته جماعة‏.‏
فلما كان من الغد أخرج له أرغون تقليده فقبله وقبل الأرض على العادة وأخد في التجهيز ولم يدع قراسنقر أرغون أن ينفرد عنه بحيث إنه أراد زيارة أماكن بدمشق فركب معه قراسنقر بنفسه حتى قضى أرغون أربه وعاد وتم كذلك إلى أن سافر‏.‏ فلما أراد قراسنقر السفر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه وألا يخرج من بيته واستعد وقدم أثقاله أولًا في الليل فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرم بمماليكه وعدتهم ستمائة فارس أرغون الموادار بجانبه وبهادر آص في جماعة قليلة وسار معه أرغون حتى أوصله إلى حلب‏.‏
ثم عاد أرغون إلى دمشق وقلد الأمير كراي المنصوري نيابة الشام عوضًا عن قراسنقر وأنعم كراي على أرغون الدوادار بألف دينار سوى الخيل والخلع وغير ذلك‏.‏
ثم إن الملك الناصر عزل الأمير بكتمر الحسامي عن الوزارة وولاه حجوبية الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن سنقر الكمالي‏.‏ ولا زال السلطان يتربص في أمر بكتمر الجوكندار النائب حتى قبض عليه بحيلة دبرها عليه في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وسبعمائة وقبض معه على عدة من الأمراء منهم‏:‏ صهر الجوكندار الكتمر الجمدار وأيدغدي العثماني ومنكوتمر الطباخي وبدر الدين بكمش الساقي وأيدمر الشمسي وأيدمر الشيخي وسجنوا الجميع إلا الطباخي فإنه قتل من وقته‏.‏
والحيلة التي دبرها السلطان على قبض بكتمر الجوكندار أنه نزل السلطان إلى المطعم وبكتمر بإزائه فخرج السلطان من البرج ومال إلى بكتمر وقال‏:‏ ياعمي ما بقي في قلبي من أحد إلا فلان وفلان وذكر له أميرين فقال له بكتمر‏:‏ يا خوند ما تطلع من المطعم إلا وتجدني قد أمسكتهما وكان ذلك يوم الثلاثاء فقال له السلطان‏:‏ لا يا عمي إلا دعهما إلى يوم الجمعة تمسكهما في الصلاة فقال له‏:‏ السمع والطاعة‏.‏
ثم إن السلطان جهز لبكتمر تشريفًا هائلًا ومركوبًا معظمًا فلما كان يوم الجمعة قال له في الصلاة‏:‏ والله يا عمي ما لي وجه أراهما وأستحي منهما ولكن أمسكهما إذا دخلت أنا إلى الدار وتوجه بهما إلى المكان الفلاني تجد هناك منكلي بغا وقجماس فسلمهما إليهما ورح أنت فأمسكهما بكتمر الجوكندار وتوجه بهما إلى المكان المذكور له فوجد الأميرين‏:‏ قجماس ومنكلي بغا هناك فقاما إليه وقالا له‏:‏ عليك السمع والطاعة لمولانا السلطان وأخذا سيفه فقال لهما‏:‏ يا خشداشيتي ما هو هكذا الساعة كما فارقت السلطان وقال لي‏:‏ أمسك هؤلاء فقالا‏:‏ ما القصد إلا أنت فأمسكاه وأطلقا الأميرين وكان ذلك آخر العهد ببكتمر الجوكندار كما يأتي ذكره‏.‏ انتهى‏.‏
ئم أرسل السلطان استدعى الأمير بيبرس الدوادار المنصوري المؤزخ وولاه نيابة السلطنة بديار مصر عوضًا عن بكتمر الجوكندار‏.‏
ثم أرسل السلطان قبض أيضًا على الأمير كراي المنصوري نائب الشام بدار السعادة في يوم الخميس ثاني عشرين جماس الأولى وحمل مقيدًا إلى الكرك فحبس بها وسبب القبض عليه كونه كان خشداش بكتمر الجوكندار ورفيقه‏.‏
ثم قبض السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها وكان أيضًا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها وكان أيضًا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير موسى حسب ما تقدم ذكره‏.‏
ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفي نائب الكرك باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن كراي المنصوري واستقر بالأمير بهادر آص في نيابة صفد عوضًا عن قطلوبك‏.‏
ثم نقل السلطان بكتمر الجوكندار النائب وأسندمر كرجي من سجن الإسكندرية إلى سجن الكرك فبقي بسجن الكرك جماعة من أكابر الأمراء مثل‏:‏ بكتمر الجوكندار وكراي المنصوري وأسندمر كرجي وقطلوبك المنصوري نائب صفد وبيبرس العلائي في آخرين‏.‏
ثم عزل السلطان م

ملوكه أيتمش المحمدي عن نيابة الكرك واستقر في نيابتها تيبغا الأشرفي وكان السلطان قد استناب أيتمش هذا على الكرك لما خرج منها إلى دمشق‏.‏ وأما قراسنقر فإنه أخذ في التدبير لنفسه خوفًا من القبض عليه كما قبض على غيره واصطنع العربان وهاداهم وصحب سليمان بن مهنا وآخاه وأنعم عليه وعلى أخيه موسى حتى صار الجميع من أنصاره‏.‏
وقدم عليه الأمير مهنا إلى وأقام عنده أيامًا وأفضى إليه قراسنقر بسره وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنا وأنه لم يوافق على ذلك‏.‏ ثم بعث قراسنقر يسأل السلطان في الإذن له في الحج فجهز قراسنقر حاله وخرج من حلب في نصف شوال ومعه أربعمائة مملوك واستناب بحلب الأمير قرطاي وترك عنده عدة من مماليكه لحفظ حواصله فكتب السلطان لقرطاي بالاحتراس وألا يمكن قراسنقر من حلب إذا عاد ويحتج عليه بإحضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك‏.‏
ثم كتب إلى نائب غزة ونائب الشام ونائب الكرك وإلى بني عقبة بأخذ الطريق على قراسنقر فقدم البريد أنه سلك البرية إلى صرخد وإلى زيزاء ثم كثر خوفه من السلطان فعاد من غير الطربق التي سلكها ففات أهل الكرك القبض عليه فكتبوا بالخبر إلى السلطان فشق عليهم وصل قراسنقر إلى ظاهر حلب فبلغه ماكتب السلطان إلى قرطاي فعظم خوفه وكتب إلى مهنا فكتب مهنا إلى قرطاي أن يخرج حواصل قراس

نقر وإلا هجم مدينة حلب وأخذ ماله قهرًا فخاف قرطاي من ذلك وجهز كتابه إلى السلطان في طي كتابه وبعث بشيء من حواصل قراسنقر إلى السلطان مع ابن قراسنقر الأمير عز الدين فرج فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة عشرة وأقام بالقاهرة مع أخيه أمير علي بن قراسنقر‏.‏
ثم إن سليمان بن مهنا قدم على قراسنقر فأخذه ومضى وأنزله في بيت أمه فاستجار قراسنقر بها فأجارته ثم أتاه مهنا وقام له بما يليق به‏.‏
ثم بعث مهنا يعرف السلطان بما وقع لقراسنقر وأنه استجار بأم سليمان فأجارته وطلب من السلطان العفو عنه فأجاب السلطان سؤاله وبعث إليه أن يخير قراسنقر في بلد من البلاد حتى يوليه إياها فلما سافر قاصد مهنا وهو ابن مهنا لكنه غير سليمان جهز السلطان تجريدة هائلة فيها عدة كثيرة من الأمراء وغيرهم إلى جهة مهنا فاستعد مهنا‏.‏
وكتب قراسنقر إلى الآفرم نائب طرابلس يستدعيه إليه فأجابه ووعده بالحضور إليه‏.‏
ثم بعث قراسنقر ومهنا إلى السلطان وخدعاه وطلب قراسنقر صرخد فانخدع السلطان وكتب له تقليدًا بصرخد وتوجه إليه بالتقليد أيتمش المحمدي فقبل قراسنقر الأرض واحتج حتى يصل إليه ماله بحلب ثم يتوجه إلى صرخد فقدمت أموال قراسنقر من حلب فما هو إلا أن وصل إليه ماله وإذا بالأفرم قد قدم عليه من الغد ومعه خمسة أمراء من أمراء طبلخاناه وست عشراوات في جماعة من التركمان فسر قراسنقر بهم ثم استدعوا أيتمش وعددوا عليه من قتله السلطان من الأمراء وأنهم خافوا على أنفسهم وعزموا على الدخول في بلاد التتار وركبوا بأجمعهم وعاد أيتمش إلى الأمراء المجردين بحمص وعرفهم الخبر فرجعوا عائدين إلى مصر بغير طائل‏.‏
وقدم الخبر على السلطان بخروج قراسنقر والأفرم إلى بلاد التتار في أول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وقيل إن الأفرم لما خرج هو وقراسنقر إلى بلاد التتار بكى الأفرم وأنشد‏:‏ الطويل سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فقال له قراسنقر‏:‏ امش بلا فشار تبكي عليهم ولا يبكون عليك فقال الأفرم‏:‏ والله ما بي إلا فراق ابني موسى فقال قراسنقر‏:‏ أي بغاية بصقت في رحمها جاء منه موسى وإبراهيم وعدد أسماء كثيرة وتوجها‏.‏ انتهى‏.‏
ثم إن السلطان أفرج عن الأمير أيدمر الخطيري وأنعم عليه بخبز الأمير علم الدين سنجر الجاولي‏.‏
وفي أول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة كملت عمارة الجامع الجديد الناصري بمصر القديمة على النيل ووقف عليه عدة أوقاف كثيرة‏.‏
وأما قراسنقر والأفرم فإنهما سارا بمن معهما إلى بلاد التتار فخرج خربندا ملك التتار وتلقاهم وترجل لهم وترجلوا له وبالغ في إكرامهم وسار بهم إلى مخيمه وأجلسهم معه على التخت وضرب لكل منهم خركاه ورتب لهم الرواتب السنية ثم استدعاهم بعد يومين واختلى بقراسنقر فحسن له قراسنقر عبور الشام وضمن له تسليم البلاد بغير قتال‏.‏
ثم اختلى بالأفرم فحن له أيضًا أخذ الشام إلا أنه خيله من قوة السلطان وكثرة عساكره‏.‏ ثم إن خربندا أقطع قراسنقر مراغة وأقطع الأفرم همذان واستمروا هناك إلى ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏
ولما حضر من تجرد من الأمراء إلى الديار المصرية حضر معهم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الذي ولي نيابة الشام بعد كراي المنصوري فقبض السلطان عليه وعلى الأمير بيبرس الدوادار نائب السلطان صاحب التاريخ وعلى سنفر الكمالي ولاجين الجاشنكير وبينجار وألدكز الأشرفي ومغلطاي المسعودي وسجنوا بالقلعة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وذلك لميلهم إلى قراسنقر والأفرم‏.‏ ثم خلع السلطان على تنكز الحسامي الناصري بنيابة دمشق دفعة واحدة عوضًا عن آقوش نائب الكرك وتنكز هذا هو أول من رقاه من مماليكه إلى الرتب السنية‏.‏
ثم استقر بسودي الجمدار في نيابة حلب واستقر تمر الساقي المنصوري في نيابة طرابلس‏.‏ ثم إن السلطان عزل مهنا بأخيه فضل ورسم بأن مهنا لايقيم بالبلاد‏.‏
ثم قبض السلطان على الأمير بيبرس المجنون وبيبرس العلمي وسنجر البرواني وطوغان المنصوري وبيبرس التاجي وقيدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك في سادس ربيع الآخر من السنة‏.‏
ثم أمر السلطان في يوم واحد ستة وأربعين أميرًا منهم طبلخاناه تسعة وعشرون وعشروات سبعة عشر وشقوا القاهرة بالشرابيش والخلع‏.‏
ثم في يوم الاثنين أول جمادى الأولى خلع السلطان على مملوكه أرغون الدوادار بنيابة السلطنة بالديار المصرية عوضًا عن بيبرس الدوادار بحكم القبض عليه‏.‏
ثم خلع السلطان على بلبان طرنا أمير جاندار بنيابة صفد عوضًا عن بهادر آص وأن يرجع بهادر آص إلى دمشق أميرًا على عادته أولًا‏.‏
ثم ركب السلطان إلى الصيد ببر الجيزة وأمر جماعة من مماليكه وهم‏:‏ طقتمر الدمشقي وقطلوبغا الفخري المعروف بالفول المقشر وطشتمر البدري المعروف بحمص أخضر‏.‏
ثم ورد على السلطان الخبر بحركة خربندا ملك التتار فكتب السلطان إلى الشام بتجهيز الإقامات وعرض السلطان العساكر وأنفق فيهم الأموال وابتدأ بالعرض في خامس عشر شهر ربيع الآخر وكمل في أول جمادى الأولى فكان يعرض في كل يوم أميرين من مقدمي الألوف وكان يتولى العرض هو بنفسه ويخرج الأميران بمن أضيف إليهما من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد ويرحلون شيئًا بعد شيء من أول شهر رمضان إلى ثامن عشرينه حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر‏.‏
ثم خرج السلطان في ثاني شوال ونزل مسجد التبن خارج القاهرة ورحل منه في يوم الثلاثاء ثالث من شوال ورتب بالقلعة نائب الغيبة الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري‏.‏
فلما كان ثامن شوال قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرين رمضان من الرحبة وعودهم إلى بلادهم بعد ما أقاموا عليها من أول شهر رمضان‏.‏
فلما بلغ السلطان ذلك فرق العساكر في قاقون وعسقلان وعزم السلطان على الحج ودخل دمشق في تاسع عشر شوال وخرج منها في ثاني ذي القعدة إلى الكرك وكان قد أقام بدمشق أرغون النائب للنفقة على العساكر وغير ذلك من الأعمال وكلف الوزير أمين الملك ابن الغنام بجمع المال اللازم وتوجه السلطان من الكرك إلى الحجاز في أربعين أميرًا فحج وعاد إلى دمشق في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وكان لدخوله دمشق يوم مشهود وعبر دمشق على ناقة وعليه بشت من ملابس العرب بلثام وبيده حربة فأقام بدمشق خمسة عشر يومًا وعاد إلى مصر فدخلها يوم ثاني عشر صفر‏.‏
ثم عمل السلطان في هذه السنة أعني سنه ثلاث عشرة وسبعمائة الروك بدمشق وندب إليه الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة‏.‏
ثم إن السلطان تجهز إلى بلاد الصعيد ونزل من قلعة الجبل في ثاني عشرين شهر رجب من السنة ونزل تحت الأهرام بالجيزة وأظهر أنه يريد الصيد والقصد السفر للصعيد وأخذ العربان لكثرة فسادهم‏.‏
وبعث عدة من الأمراء حتى أمسكوا طريق السويس وطريق الواحات فضبط البرين على العربان ثم رحل من منزلة الأهرام إلى جهة الصعيد وفعل بالعربان أفعالًا عظيمة من القتل والأسر ثم عاد إلى الديار المصرية فدخلها في يوم السبت عاشر شهر رمضان‏.‏ وكان ممن قبض عليه السلطان مقداد بن شماس وكان قد عظم ماله حتى كان عدة جواريه أربعمائة جارية وعدة أولاده ثمانين‏.‏
وكان السلطان قد ابتدأ في أول هذه السنة بعمارة القصر الأبلق على الإسطبل السلطاني ففرغ في سابع عشر شهر رجب‏.‏
وقصد السلطان أن يحاكي قصر الملك الظاهر بيبرس البندقداري الذي بظاهر دمشق واستدعى له صناع دمشق وصناع مصر حتى كمل وأنشأ بجانبه جنينة وقد ذهبت تلك الجنينة كما ذهب غيرها من المحاسن‏.‏
ثم إن السلطان رسم بهدم مناظر اللوق بالميدان الظاهري وعمله بستانًا وأحضر إليه سائر أصناف الزراعات واستدعى خولة الشام والمطعمين فباشروه حتى صار من أعظم البساتين وعرف أهل جزيرة الفيل من ذلك اليوم صناعة التطعيم للشجر واغتنوا بها‏.‏
ثم في سنة أربع عشرة وسبعمائة كتب السلطان لنائب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحدًا منهم لا يكاتب السلطان وإنما يكاتب الأمير تنكز نائب الشام ويكون تنكز هو المكاتب للسلطان في أمرهم فشق ذلك على النواب وأخذ الأمير سيف الدين بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك فكاتب فيه تنكز السلطان حتى عزل واستقر عوضه الأمير بلبان البدري وحمل بلبان طرنا مقيدًا إلى مصر وسجن بالقلعة‏.‏
ثم إن السلطان اهتم بعمارة الجسور بأرض مصر وترعها وندب الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى الشرقية والأمير علاء الدين أيدغدي شقير إلى البهنساوية والأمير حسين بن جندر إلى أسيوط ومنفلوط والأمير سيف الدين آقول الحاجب إلى الغربية والأمير سيف الدين قلي أمير سلاح إلى الطحاوية وبلاد الأشمونين والأمير جنكلي بن البابا إلى القليوبية والأمير بهادر المعزي ثم إن السلطان قبض على الأمير أيدغدي شقير وعلى الأمير بكتمر الحسامي الحاجب صاحب الدار خارج باب النصر في أول شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة فقتل أيدغدي شقير من يومه لأنه اتهم أنه يريد الفتك بالسلطان وأخذ من بكتمر الحاجب مائة ألف دينار وسجن‏.‏
ثم قبض السلطان على الأمير طغاي وعلى الأمير تمر الساقي نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل وقبض على الأمير بهادر آص وحمل إلى الكرك من دمشق‏.‏ واستقر الأمير كستاي الناصري نائب طرابلس عوضًا عن تمر الساقي‏.‏
ثم أفرج السلطان عن الأمير قجماس المنصوري أحد البرجية من الحبس وأخرج الأمير بدر الدين محمد بن الوزيري إلى دمشق منفيًا‏.‏ ثم في ثامن عشر شر رجب أفرج السلطان عن الأمير آقوش الأشرفي نائب الكرك وخلع عليه وأنعم عليه بإقطاع الأمير حسام الدين لاجين الأستادار بعد موته‏.‏
وفي العشر الأخير من شعبان من سنة خمس عشرة وسبعمائة وقع الشروع في عمل الروك بأرض مصر وسبب ذلك أن أصحاب بيبرس الجاشنكير وسلار وجماعة من البرجية كان خبز الواحد منهم مابين ألف مثقال في السنة إلى ثلاثمائة مثقال فأخذ السلطان أخبازهم وخشي الفتنة فقرر مع فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش روك البلاد وأخرج الأمراء إلى الأعمال‏:‏ فتعين الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا إلى الغربية ومعه آقول الحاجب والكاتب مكين الدين إبراهيم بن قروينة وتعين للشرقية الأمير أيدمر الخطيري ومعه أيتمش المحمدي والكاتب أمين الدين قرموط وتعين للمنوفية والبحيرة الأمير بلبان الصرخدي وطرنطاي القلنجقي ومحمد بن طرنطاي وبيبرس الجمدار‏.‏ وتعين جماعة أخر للصعيد‏.‏
وتوجه كل أمير إلى عمله فلما نزلوا بالبلاد استدعى كل أمير مشايخ البلاد ودلاتها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل منه للجندي من العي

ن والغلة والدجاج والإوز والخراف والكشك والعدس والكعك‏.‏ ثم قاس الأمير تلك الناحية وكتب بذلك عدة نسخ ولازال يعمل ذلك في كل بلد حتى انتهى أمر عمله‏.‏
وعادوا بعد خمسة وسبعين يومًا بالأوراق فتسلمها فخر الدين ناظر الجيش‏.‏
ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقي الأسعد بن أمين الملك المعروف ب كاتب برلغي وسائر مستوفي الدولة ليفردوا لخاص السلطان بلادًا ويضيفوا الجوالي إلى البلاد وكانت الجوالي قبل ذلك إلى وقت الروك لها ديوان مفرد يختص بالسلطان فأضيف جوالي كل بلد إلى متحصل خراجها‏.‏ وأبطلت جهات المكوس التي كانت أرزاق الجند عليها‏.‏
منها ساحل الغلة وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة جندي من أجناد الحلقه سوى الأمراء وكان متحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم‏.‏
وكان إقطاع الجندي منها من عشرة آلاف درهم إلى ثلاثة الاف درهم وللأمراء من أربعين ألفًا إلى عشرة الاف درهم فاقتنى المباشرون منها أموالًا عظيمة فإنها كانت أعظم الجهات الديوانية وأجل معاملات مصر‏.‏

الضرائب والقوانين أيام الملك الناصر
وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والعسف والظلم فإن أمرها كان يدور على نواتية المراكب والكيالين والمشدين والكتاب وكان المقرر على كل إردب درهمين للسلطان ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما كان ينهب‏.‏
وكان له ديوان في بولاق خارج المقس وقبله كان له خص يعرف بخص الكيالة‏.وكان في هذه الجهة نحو ستين رجلًا ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جنديًا للشد وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه فأزال الملك الناصر هذا الظلم جميعه عن الرعية ورخص سعر القمح من ذلك اليوم وانتعش الفقير وزالت هذه الظلامة عن أهل مصر بعد أن راجعته أقباط مصر في ذلك غير مرة فلم يلتفت إلى قول قائل رحمه الله تعالى ما كان أعلى همته وأحسن تدبيره‏.‏
وأبطل الملك الناصر أيضًا نصف السمسرة الذي كان أحدثه ابن الشيخي فى وزارته عامله الله تعالى بعدله وهو أنه من باع شيئًا فإن دلالة كل مائة درهم درهمان يؤخذ منها درهم للسلطان فصار الدلال يحسب حسابه ويخلص درهمه قبل درهم السلطان فأبطل الملك الناصر ذلك أيضًا وكان يتحصل منه جملة كثيرة وعليها جند مستقطعة‏.‏
وأبطل السلطان الملك الناصر أيضًا رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية وهي أنها كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش وكان عليها أيضًا جنذ مستقطعة وأمراء وكان فيها من الظلم والعس

ف وهتك الحرم وهجم البيوت وإظهار الفواحش ما لا يوصف فأبطل ذلك كله سامحه الله تعالى وعفا عنه‏.‏
وأبطل ماكان مقررًا للحوائص والبغال وكان يجبى من المدينة ومن الوجهين‏:‏ القبلي والبحري ويحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن الحياصة ثلاثمائة درهم وعن ثمن البغل خمسمائة درهم وكان على هذه الجهة أيضًا عدة مقطعين سوى ماكان يحمل إلى الخزانة فكان فيها من الظلم بلاء عظيم فأبطل الملك الناصر ذلك كله رحمه الله‏.‏
وأبطل أيضًا ما كان مقررًا على السجون وهوعلى كل من سجن ولو لحظة واحدة مائة درهم سوى ما يغرمه‏.‏
وكان أيضًا على هذه الجهة عدة مقطعين ولها ضامن يجبي ذلك من سائر السجون فأبطل ذلك كله رحمه الله‏.‏
وأبطل ما كان مقررًا من طرح الفراريج وكان لها ضمان في سائر الأقاليم‏.‏
كانت تطرح على الناس بالنواحي الفراريج وكان فيها أيضًا من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه وكان عليها عدة مقطعين ومرتبات ولكل إقليم ضامن مقرر ولا يقدر أحد أن يشتري فروجًا إلا من الضامن فأبطل الناصر ذلك ولله الحمد‏.‏
وأبطل ما كان مقررًا للفرسان وهوشيء تستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم فيجبى من ذلك مال عظيم ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم من كثرة الظلم فأبطل الملك الناصر ذلك رحمه الله تعالى‏.‏
وأبطل ما كان مقررًا على الأقصاب والمعاصر كان يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة فيحصل من ذلك شيء كثير‏.‏
وأبطل ماكان يؤخذ من رسوم الأفراح كانت تجبى من سائر البلاد وهي جهة لايعرف لها أصل فبطل ذلك ونسي و لله الحمد‏.‏
وأبطل جباية المراكب كانت تجبى من سائر المراكب التي في بحر النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية‏.‏
كان يجبى ذلك من مسافري المراكب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء فبطل ذلك أيضًا‏.‏
وأبطل ما كان يأخذه مهتار طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش وكانت جملة مستكثرة‏.‏
وأبطل ضمان تجيب بمصر وشد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة فكان يؤخذ عن كل عبد وجارية مبلغ مقرر عند نزولهم في الخانات وكانت جهة قبيحة شنيعة إلى الغاية فأراح الله المسلمين منها على يد الملك الناصر رحمه الله‏.‏
وأبطل أيضًا متوفر الجراريف بالأقاليم وكان عليها عدة كثيرة من المقطعين‏.‏
وأبطل ماكان مقررًا على المشاعلية من تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها فكان إذا امتلأ سراب بيت أو مدرسة من الأوساخ لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرر أجرته بما يختار ومتى لم يوافقه صاحب البيت تركه ومضى حتى يحتاج إليه ويبذل له ما يطلب‏.‏
وأبطل ما كان مقررًا من الجبي برسم ثمن العبي وثمن ركوة السواس‏.‏
وأبطل أيضًا وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال وكان في كل بلد ناظر ومستوف ومباشرون فرسم السلطان ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير ورفع يد سائر المباشرين من البلاد‏.‏
قلت‏:‏ وكل ما فعله الملك الناصر من إبطال هذه المظالم والمكوس دليل على حسن اعتقاده وغزير عقله وجودة تدبيره وتصرفه حيث أبطل هذه الجهات القبيحة التي كانت من أقبح الأمور وأشنعها وعوضها من جهات لا يظلم فيها الرجل الواحد‏.‏
ومثله في ذلك كمثل الرجل الشجاع الذي لا يبالي بالقوم كثروا أو قلوا فهو يكر فيهم فإن أوغل فيهم خلص وإن كر راجعًا لايبالي بمن هو في أثره لما يعلم ما في يده من نفسه فأبطل لذلك ماقبح وأحدث ما صلح من غير تكلف وعدم تخوف فلله دره من ملك عمر البلاد وعمر بالإحسان العباد‏.‏
وهذا بخلاف من ولي بعده من السلاطين فإنهم لقصر باعهم عن إدراك المصلحة مهما رأوه ولو كان فيه هلاك الرعية وعذاب البرية يقولون‏:‏ بهذا جرت العادة من قبلنا فلا سبيل إلى تغيير ذلك ولو هلك العالم فلعمري هل تلك العادة حدثت من الكتاب والسنة أم أحدثها ملك مثلهم وما أرى هذا وأمثاله إلا من جميل صنع الله تعالى كي يتميز العالم من الجاهل‏.‏ انتهى‏.‏
ثم رسم السلطان الملك الناصر بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع عشرة وسبعمائة‏.‏
وجعل الروك الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة وسبعمائة والروك الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة‏.‏
وأفرد السلطان لخاصه الجيزية وأعمالها‏.‏

الجوالى
وأخرجت الجوالي من الخاص وفرقت في البلاد وأفردت الجهات التي بقيص من المكس كلها وأضيفت إلى الوزير وأفردت للحاشية بلاد ولجوامك المباشرين بلاد ولأرباب الرواتب جهات‏.‏
وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت من بيت المال وحبست فأدخلت في الإقطاعات‏.‏
قلت‏:‏ وشراء الإقطاعات من بيت المال شراء لا يعبأ الله به قديمًا وحديثًا فإنه متى احتاج بيت مال المسلمين إلى بيع قرية من القرى وإنفاق ثمنها في مصالح المسلمين‏.‏
فهذا شيء لم يقع في عصر من الأعصار وإنما تشترى القرية من بيت المال ثم إن السلطان يهب للشاري ثمن تلك القرية فهذا البيع وإن جاز في الظاهر لا يستحله الورع ولا فعله السلف حتى إن الملك لا تجوز له النفقة من بيت المال إلا بالمعروف فمتى جاز له أن يهب الألوف المؤلفة من أثمان القرى لمن لايستحق أن يكون له النزر اليسير من بيت المال‏.‏
وهذا أمر ظاهر معروف يطول الشرح في ذكره‏.‏
وفي قصة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما فرضه لنفسه من بيت المال كفاية عن الإكثار في هذا المعنى‏.‏ انتهى‏.‏
ثم إن السلطان رسم بأن يعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاحين وحسب من جملة المبالغ‏.‏
فلما فرغ من العمل في ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من جهات المكس وغيره وكتبت المراسيم بذلك إلى سائر النواحي بهذا الإحسان العظيم فسر الناس بذلك قاطبة سرورًا عظيمًا وضج العالم بالدعاء للسلطان بسائر الأقطار حتى شكر ووقع ذلك لملوك التتار وأرسلوا في طلب الصلح حسب ما يأتي ذكره‏.‏
ثم جلس السلطان الملك الناصر بالإيوان الذي أنشأه بقلعة الجبل في يوم الخميس ثاني عشرين في الحجة سنة خمس عشرة وسبعمائة لتفرقة المثالات‏.‏
وهذا الروك يعرف بالروك الناصري المعمول به إلى يومنا هذا‏.‏
وحضروا الناس ورسم السلطان أن يفرق في كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما فكان المقدم يقف بمضافيه ويستدعى كل واحد باسمه فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان من أنت ومملوك من أنت حتى لايخفى عليه شيء من أمره ثم يعطيه مثالًا يلائمه فأظهر السلطان في هذا العرض عن معرفة تامة بأحوال رعيته وأمور جيوشه وعساكره وكان كبار الأمراء تحضر التفرقة فكانوا إذا أخفوا في شكر جندي عاكسهم السلطان وأعطاه دون ما كان في أملهم له وأراد بذلك ألا يتكلم أحدهم في المجلس فلما علموا بذلك أمسكوا عن الكلام والشكر بحيث إنه لايتكلم أحد منهم إلا رد جواب له يسأل عنه فمشى الحال بذلك على أحسن وجه من غير غرض ولا عصبية وأعطي لكل واحد ما يستحقه‏.‏
قلت‏:‏ وأين هذه الفعلة من فعل الملك الظاهر برقوق رحمه الله وقد أظهر من قلة المعرفة وإظهار الغرض التام حيث أنعم على قريبه الأمير قجماس بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية وهو إذ ذاك لا يحسن يتلفظ بالشهادتين فكان مباشرو إقطاعه يدخلون إليه مع أرباب وظائفه فيجدون الفقيه يعلمه الشهادة وقراءة الفاتحة وهو كالتيس بين يدي الفقيه فكان ذلك من جملة ذنوب الملك الظاهر برقوق التي عددوها له عند خروج الناصري ومنطاش عليه ونفرت القلوب منه حتى خلع وحبس حسب مايأتي ذكره‏.‏ ولم أرد بذلك الحط على الملك الظاهر المذكور غير أن الشيء بالشيء يذكر‏.‏ انتهى‏.‏
ثم فعل السلطان الملك الناصر ذلك مع مماليكه وعساكره فكان يسأل المملوك عن اسمه واسم تاجره وعن أصله وعن قومه إلى الديار المصرية وكم حضر مصاف وكم لعب بالرمح عن سنه ومن كان خصمه في لعب الرمح وكم أقام سنة بالطبقة فإن أجابه بصدق أنصفه وإلا تركه ورسم له بجامكية هينة حتى يصل إلى رتبة من يقطع بباب السلطان فأعجب الناس هذا غاية العجب‏.‏
كان الملك الناصر أيضًا يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والراتب فيعطيه ما يختاره ولم يقطع في هذا العرض العاجز عن الحركة بل كان يرتب له ما يقوم به عوضًا عن إقطاعه‏.‏
واتفق للسلطان أشياء في هذا العرض منها‏:‏ أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر يشبه ضربة السيف فأعجبه وناوله مثالًا بإقطاع جيد وقال له‏:‏ في أي مصاف وقع في وجهك هذا السيف فقال‏:‏ لا يا خوند هذا ما هو أثر سيف وإنما وقعت من سلم فصار في وجهي هذا الأثر فتبسم السلطان وتركه فقال له الفخر ناظر الجيش‏:‏ ما بقي يصلح له هذا الخبز فقال الملك الناصر‏:‏ قد صدقني وقال الحق وقد أخذ رزقه فلو قال‏:‏ أصبت في المصاف الفلاني من كان يكذبه فدعت الأمراء له وانصرف الشاب بالإقطاع‏.‏ ومنها‏:‏ أنه تقدم إليه رجل دميم الخلق وله إقطاع ثقيل عبرته ثمانمائة دينار فأعطاه مثالًا وانصرف به عبرته نصف ماكان في يده فعاد وقتل الأرض فسأله السلطان عن حاجته فقال‏:‏ الله يحفظ السلطان فإنه غلط في حقي فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار وهذا عبرته أربعمائة دينار فقال السلطان‏:‏ بل الغلط كان في إقطاعك الأولى فامض بما قسم الله لك وأشياء من هذا النوع إلى أن انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة وسبعمائة فوفر منها نحو مائتي مثال‏.‏
ثم أخذ السلطان في عرض مماليك الطباق ووفر جوامك عدة منهم ثم أفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد وقرر لكل منهم ثلاثة آلاف أدرهم في السنة‏.‏
ثم إن السلطان ارتجع ما كانت المماليك البرجية اشترته من أراضي الجيزة وغيرها‏.‏
وارتجع السلطان أيضًا ما كان لبيبرس و سلار وبرلغي والجوكندار وغيرهم من الرزق وغيرها وأضاف ذلك كله لخاص السلطان وبالغ السلطان في إقامة الحرمة في أيام العرض وعرف الأمير أرغون النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالًا أوتضرر أوشكا ضرب وحبس وقطع خبزه وأن أحدًا من الأمراء لايتكلم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك فلم يتجاسر أحد يخالف مارسم به وغبن في هذا الروك أكثر الأجناد فإنهم أخذوا إقطاعًا دون الإقطاع الذي كان معهم وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان فنهاهم أرغون النائب عن ذلك فقدر الله تعالى أن الملك الناصر نزل إلى بركة الحجيج لصيد الكركي على العادة وجلس في البستان المنصوري الذي كان هناك ليستريح فدخل بعض المرقدارية يقال له عزيز وكان من عادته أن يهزل قدام السلطان ليضحكه فأخذ المرقدار يهزل ويمزح ويتمسخر قدام السلطان والأمراء جلوس وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها فتمادى في الهزل لشؤم بخته إلى أن قال‏:‏ وجدت جنديًا من جند الروك الناصري وهو راكب إكديشًا وخرخه ومخلاته ورمحه على كتفه وأراد أن يتم الكلام فاشتد غضب السلطان فصاح في المماليك‏:‏ عروه ثيابه ففي الحال خلعت عنه الثياب وربط مع قواديس الساقية وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران فصار عزيز المذكور تارة ينغمس في الماء وتارة يظهر وهو يستغيث وقد عاين الموت والسلطان يزداد غضبًا‏.‏
ولم يجسر أحد من الأمراء أن يشفع فيه حتى مضى نحو ساعتين وانقطع حسه فتقدم الأمير طغاي الناصري والأمير قطلوبغا الفخري الناصري وقالا‏:‏ يا خوند هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان ويطيب خاطره ولم يرد غير ذلك فما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت ورسم بنفيه من الديار المصرية فعند ذلك حمد الله تعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد‏.‏ انتهى أمر الروك وما يتعلق به‏.‏
وفي محرم سنة ست عشرة وسبعمائة ورد الخبر على السلطان بموت خربندا ملك التتار و جلوس ولده بوسعيد في الملك بعده‏.‏ ثم أفرج الملك الناصر عن الأمير بكتمر الحسامي الحاجب وخلع عليه يوم الخميس ثالث عشر شوال من السنة المذكورة بنيابة صفد وأنعم عليه بمائتي ألف درهم‏.‏
ثم نقل السلطان في السنة أيضًا الأمير كراي المنصوري وسنقر الكمالي الحاجب من سجن الكرك إلى البرج بقلعة الجبل فسجنا بها‏.‏


الملك الناصر يزور القدس
ثم بدا له زيارة القدس الشريف ونزل السلطان بعد أيام في يوم الخميس رابع جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وسبعمائة وسار ومعه خمسون أميرًا وكريم الدين الكبير ناظر الخواص وفخر الدين ناظر الجيش وعلاء الدين علي بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب السر بعدما فرق في كل واحد فرسًا مسرجًا وهجينًا وبعضهم ثلاث هجن وكتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات لزيارة القدس فتوجه إلى القدس وزاره ثم توجه إلى الكرك ودخله وأفرج عن جماعة ثم عاد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشر جمادى الآخرة فكانت غيبته عن مصر أربعين يومًا‏.‏
ثم بعد مجيء السلطان وصل إلى القاهرة الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي والأمير بهادر آص والأمير بيبرس الدوادار وهؤلاء الذين أفرج عنهم من حبس الكرك وخلع السلطان عليهم وأنعم على بهادر بإمرة في دمشق ولزم بيبرس داره ثم أنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف على عادته أولًا‏.‏
ثم عزل السلطان الأمير بكتمر الحسامي الحاجب عن نيابة صفد في أول سنة ثماني عشرة وسبعمائة وقدم القاهرة وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر‏.‏
وفي هذه السنة تجهز السلطان لركوب الميدان وفرق الخيل على جميع الأمراء واستجد ركوب الأوجاقية بكوافي زركش على صفة الطاسات وهم الجفتاوات‏.‏ وفيها ابتدأ السلطان بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشتخاناه وجامع القلعة القديم وأخلط الجميع وبناه الجامع الناصري الذي هو بالقلعة الآن فجاء من أحسن المباني‏.‏
وتجدد أيضًا في هذه السنة بدمشق ثلاثة جوامع‏:‏ جامع الأمير تنكز المشهور به وجامع كريم الدين وجامع شمس الدين غبريال‏.‏
 سنة تسع عشرة وسبعمائة
استجد السلطان القيام فوق الكرسي للأمير جمال الدين آقوش الأشرفي نائب الكرك الذي أفرج عنه السلطان في السنة الماضية وكذلك للأمير بكتمر البوبكري السلاح دار فكانا إذا دخلا عليه قام لهما وكان آقوش نائب الكرك يتقدم على البوبكري عند تقبيل يد السلطان فعتب الأمراء على البوبكري في ذلك فسأل البوبكري السلطان عن تقديم نائب الكرك عليه فقال‏:‏ لأنه أكبر منك في المنزلة فاستغرب الأمراء ذلك وكشفوا عنه فوجدوا نائب الكرك تأمر في أيام الملك المنصور قلاوون إمرة عشرة وجعله أستادار ابنه الأشرف خليل في سنة خمس وثمانين وستمائة ووجدوا البوبكري تأمر في سنة تسعين وستمائة فسكتوا الأمراء عند ذلك وعلموا أن السلطان يسير على القواعد القديمة وأنه أعرف منهم بمنازل الأمراء وغيرها‏.‏

كسوة الكعبة
وفيها اهتم السلطان لحركة السفر إلى الحجاز الشريف وتقدم كريم الدين الكبير ناظر الخواص إلى الإسكندرية لعمل الثياب الحرير برسم كسوة الكعبة وبينا السلطان في ذلك وصلت تقدمة الأمير تنكز نائب الشام وفيها الخيل والهجن بأكوار ذهب وسلاسل ذهب وفضة ومقاود حرير وكانت عدة كثيرة يطول الشرح في ذكرها‏.‏
ثم أيضًا وصلت تقدمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة وهي أيضًا تشتمل على أشياء كثيرة‏.‏
وتولى كريم الدين تجهيز ما يحتاج إليه السلطان من كل شيء حتى إنه عمل له عدة قدور من ذهب وفضة ونحاس تحمل على البخاتي ويطبخ فيها للسلطان وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين في أحواض خشب تحمل على الجمال فتصير مزروعة فيها وتسقى بالماء ويحصد منها ما تدعو الحاجة إليه أولًا بأول فتهيأ من البقل والكراث والكسبرة والنعناع وأنواع المشمومات والريحان شيء كثير ورتب لها الخولة لتعهدها بالسقية وغيرها وجهزت الأفران وصناع الكماج والجبن المقلي وغيره‏.‏
وكتبت أوراق عليق السلطان والأمراء الذين معه وعدتهم اثنان وخمسون أميرًا لكل أمير ما بين مائة عليقة في كل يوم إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة وكانت جملة العليق في مدة سفر السلطان ذهابًا وإيابًا مائة ألف إردب وثلاثين ألف إردب من الشعير وحمل تنكز من دمشق خمسمائة حمل على الجمال ما بين حلوى وسكر وفواكه ومائة وثمانين حمل حب رمان ولوز ومايحتاج إليه من أصناف الطبخ‏.‏ وجهز كريم الدين الكبير من الإوز ألف طائر ومن الدجاج ثلانة آلاف طائر وأشياء كثيرة من ذلك‏.‏
وعين السلطان للإقامة بديار مصر الأمير أرغون الناصري النائب ومعه الأمير أيتمش المحمدي وغيره‏.‏
ثم قدم الملك المؤيد صاحب حماة إلى القاهرة ليتوجه في ركاب السلطان إلى الحجاز‏.‏
وسافر المحمل على العادة في ثامن عشر شوالى مع الأمير سيف الدين طرجي أمير مجلس‏.‏
وركب السلطان من قلعة الجبل في أول ذي القعدة وسار من بركة الحجاج في سادس ذي القعدة وصحبته المؤيد صاحب حماة والأمراء وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي وغالب أرباب الدولة‏.‏
وسار حتى وصل مكة المشرفة بتواضع زائد بحيث إن السلطان قال للأمير جنكلي بن البابا‏:‏ لا زلت أعظم نفسي إلى أن رأيت الكعبة المشرفة وذكرت بوس الناس الأرض لي فدخلت في قلبي مهابة عظيمة ما زالت عني حتى سجدت لله تعالى‏.‏
وكان السلطان لما دخل مكة حسن له قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة أن يطوف بالبيت راكبًا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الملك الناصر‏:‏ ومن أنا حتى أتشبه بالنبي والله لاطفت إلا كما يطوف الناس‏.‏
ومنع الحجاب من منع الناس أن يطوفوا معه وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد منهم في مدة طوافه في تقبيله الحجر الأسود‏.‏ قلت‏:‏ وهذه حجة الملك الناصر الثانية‏.‏
ولما كان الملك الناصر بمكة بلغه أن جماعة من المغل ممن حج في هذه السنة قد اختفى خوفًا منه فأحضرهم السلطان وأنعم عليهم وبالغ في إكرامهم‏.‏ وغسل السلطان الكعبة بيده وصار يأخذ أزر إحرام الحجاج ويغسلها لهم في داخل البيت بنفسه ثم يدفعها لهم وكثر الدعاء له‏.‏
وأبطل سائر المكوس من الحرمين الشريفين وعوض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات بمصر والشام وأحسن إلى أهل الحرمين وأكثر من وفي هذه السنة مهد السلطان ماكان في عقبة أيلة من الصخور ووسع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة وأنفق على ذلك جملًا مستكثرة‏.‏
واتفق لكريم الدين الكبير ناظر الخاصة أمر غريب بمكة فيه موعظة وهو أن السلطان بالغ في تواضعه في هذه الحجة للغاية فلما أخرجت الكسوة لتعمل على البيت صعد كريم الدن المذكور إلى أعلى الكعبة بعد ما صلى بجوفها ثم جلس على العتبة ينظر في الخياطين فأنكر الناس استعلاءه على الطائفين فبعث الله عليه وهو جالس نعاسًا سقط منه على رأسه من علو البيت فلو لم يتداركوه من تحته لهلك‏.‏ وصرخ الناس في الطواف صرخة عظيمة تعجبًا من ظهور قدرة الله تعالى في إذلال المتكبرين وانقطع ظفر كريم الدين وعلم بذنبه فتصدق بمال جزيل‏.‏
وفي هذه السفرة أيضًا أجرى السلطان الماء لخليص وكان انقطع من مدة سنين‏.‏
ولقي السلطان في هذه السفرة جميع العربان وملوكها من بني مهدي وأمرائها وشطي بن عبية وأخاه عسافًا وأولاده وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم وأشراف المدينة وينبع وغيرهم وعرب خليص وبني لام وعربان حوران وأولاد مهنا‏:‏ موسى وسليمان وفياضًا وأحمد وغيرهم ولم يتفق اجتماعهم عند ملك غيره وأنعم عليهم بإقطاعات وصلات وتدللوا على السلطان حتى إن موسى بن مهنا كان له ولد صغير فقام في بعض الأيام ومد يده إلى لحية السلطان وقال له‏:‏ يا أبا علي بحياة هذه اللحية ومسك منها شعرات إلا ما أعطيتني الضيعة الفلانية إنعامًا علي فصرخ فيه فخر الدين ناظر الجيش وقال له لاشل يدك قطع الله يدك تمد يدك إلى السلطان فتبسم له السلطان وقال‏:‏ هذه عادة العرب إذا قصدوا كبيرًا في شيء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته يريدون أنهم قد استجاروا بذلك الشيء فهو سنة عندهم فغضب الفخر ناظر الجيش وقام وهو يقول‏:‏ إن هؤلاء مناحيس وسنتهم أنحس‏.‏
ثم عاد السلطان بعد أن قضى مناسكه إلى جهة الديار المصرية في يوم السبت ثاني عشر المحرم سنة عشرين وسبعمائة بعد أن خرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحجاج وركب السلطان بعد انقضاء السماط في موكب عظيم وقد خرج الناس لرؤيته وسار حتى طلع القلعة فكان يومًا مشهودًا وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة لقدومه وكثرت التهاني وأرباب الملاهي من الطبول والزمور‏.‏
وجلس السلطان على تخت الملك وخلع على الأمراء وألبس كريم الدين الكبير أطلسين ولم يتفق ذلك لمتعمم قبله‏.‏
ثم خلع السلطان على الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة وأركبه بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية ببين القصرين وحمل وراءه الأمير قجليس السلاح دار السلاح وحمل الأمير ألجاي الدوادار الدواة وركب معه الأمير بيبرس الأحمدي أمير جاندار والأمير طيبرس وسار بالغاشية والعصائب وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن طلع إلى القلعة فكان عدة تشاريف من سار معه مائة وثلاثين تشريفًا‏:‏ فيها ثلاثة عشر أطلس والبقية كنجي وعمل الدار وطرد وحش وقبل الأرض وجلس على ميمنة السلطان ولقبه السلطان بالملك المؤيد وسافر من يومه بعد ما جهزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه‏.‏
ثم أفرج السلطان عن جماعة من الأمراء المحبوسين وعدتهم أزيد من عشرة نفر‏.‏
ثم ندب السلطان الأمير بيبرس الأحمدي الحاجب وطائفة من الأجناد إلى مكة ليقيم بها بدل الأمير آق سنقر شاد العمائر خوفًا من هجوم الشريف حميضة على مكة‏.‏
وفي هذه السنة أبطل السلطان مكس الملح بالقاهرة وأعمالها فأبيع الإردب الملح بثلاثة دراهم بعد ما كان بعشرة دراهم فإنه كتب إلى العمال ألا يمنع أحد من شيل الملح من الملاحات وأبيحت لكل أحد فبادر الناس إليها وجلبوا الملح‏.‏
ثم أذن السلطان للأمير أرغون النائب في الحج فحج وعاد في سنة إحدى وعشرين بعد أن مشى من مكة إلى عرفات على قدميه تواضعًا‏.‏

ثم أخرج السلطان الأمير شرف الدين حسين بن جندر إلى الشام على إقطاع الأمير جوبان ونقل جوبان على إمرة بديار مصر‏.‏
وسبب نفي الأمير حسين أنه لما أنشأ جامعه المعروف بجامع أمير حسين بجوار داره على الخليج في البر الغربي بحكر جوهر النوبي ثم عمر القنطرة وأراد أن يفتح في سور القاهرة خوخة تنتهي إلى حارة الوزيرية فأذن له السلطان في فتحها فخرق بابًا كبيرًا وعمل عليه رنكه فسعى به علم الدين سنجر الخياط متولي القاهرة وعظم الأمر على السلطان في فتح هذا الباب المذكور فرسم بنفيه في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة المذكورة‏.‏

ثم تنكرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير لتأخر جوامكهم شهرين وتجمعوا يوم الخميس ثامن عشرين صفر قبل الظهر ووقفوا بباب القصر‏.‏
وكان السلطان في الحريم فلما بلغه ذلك خشي منهم وبعث إليهم بكتمر الساقي فلم يلتفتوا إليه فخرج السلطان إليهم وقد صاروا نحو ألف وخمسمائة فعندما رآهم السلطان سبهم وأهانهم وأخذ العصا من مقدم المماليك وضرب بها رؤوسهم وأكتافهم وصاح فيهم‏:‏ اطلعوا مكانكم فعادوا بأجمعهم إلى الطباق وعدت سلامة السلطان في هذه الواقعة من العجائب فإنه خرج إليهم في جماعة يسيرة من الخدام وهم غوغاء لارأس لهم ولاعقل ومعهم السلاح‏

ثم أمر السلطان للنائب بعرضهم أعني المماليك فعرضهم في يوم السبت آخر صفر وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشامية فرقهم على الأمراء وأخرج بعد ذلك جماعة منهم من الطباق إلى خرائب التتار بقلعة الجبل وضرب بعضهم بالمقارع هو وغلامه لكونه شرب الخمر ضربًا قلت‏:‏ لا شك يداه هذا وأبيك العمل ثم أنقص السلطان جوامك من بقي من مماليك الطباق ثم أخرج جماعة من خذام الطباق الطواشية أعني مقدمي الطباق وقطع جوامكهم وأنزلهم من القلعة لكونهم فرطوا في تربية المماليك‏.‏

وفي شعبان زوج الملك الناصر ابنته للأمير أبي بكر بن أرغون النائب الناصري وتولى العقد قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الحريري الحنفي على أربعة آلاف دينار‏.‏
ثم قدم الملك المؤيد صاحب حماة على السلطان بالديار المصرية وتوجه في خدمة الملك الناصر إلى قوص بالوجه القبلي للصيد‏.‏
وعاد السلطان من قوص إلى جهة القاهرة في أول محرم سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الموافق لرابع عشر طوبة ونزل بالجيزة وخلع على الملك المؤيد خلعة السفر‏.‏
ثم استدعى السلطان الحريم السلطاني إلى بر الجيزة فطرد سائر الناس من الطرقات وغلقت الحوانيت ونزلت خوند طغاي زوجة السلطان وأم ولده آنوك والأمير أيدغمش الأمير آخور كبير ماش يقود عنان فرسها بيده وحولها سائر الخدام مشاة منذ ركبت من القلعة إلى أن وصلت إلى النيل فعدت في الحراقة‏.‏
ثم استدعى السلطان الأمير بكتمر الساقي وغيره من الأمراء الخاصكية وحريمهم وأقام السلطان بالجيزة أيامًا إلى أن عاد إلى القلعة في خامس عشره وقد توعك كريم الدين الكبير‏.‏ ثم قدم الحاج في سادس عشرين المحرم‏.‏
ثم عوفي كريم الدين فخلع السلطان

عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصة ذهب فاستعظم الناس ذلك وبالغ السلطان في الإنعام‏.‏
على الأمراء الحكماء‏.‏
ثم بعد أيام قبض السلطان على كريم الدين المذكور في يوم الخميس رابع عشر شهر ربيع الآخر وهو كريم الدين عبد الكريم ابن المعلم هبة الله بن السديد ناظر الخواص ووكيل السلطان وعظيم دولته وأحيط بداره وصودر فوجد له شيء كثير جدًا ولازال في المصادرة إلى أن أفرج عنه في يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الآخرة وألزمه السلطان بإقامته بتربته بالقرافة‏.‏
ثم إن السلطان أخرجه إلى الشوبك ثم نقله إلى القدس ثم طلب إلى مصر وجهز إلى أسوان وبعد قليل أصبح مشنوقًا بعمامته يعني أنه شنق نفسه وليس الأمر كذلك وقيل إنه لما أحس بقتله صلى ركعتين وقال‏:‏ هاتوا عشنا سعداء ومتنا شهداء وكان الناس يقولون‏:‏ ما عمل أحد مع أحد ما عمله الملك الناصر مع كريم الدين‏:‏ أعطاه الدنيا والآخرة ومعنى هذا أنه كان حكمه في الدولة ثم قتله والمقتول ظلمًا في الجنة‏.‏
وأصل كريم الدين هذا كان من كتبة النصارى ثم أسلم كهلًا في أيام بيبرس الجاشنكير وكان كاتبه وكان الجاشنكير لا يصرف على الملك الناصر إلا بقلم كريم الدين وكان الناصر إذ ذاك تحت حجر الجاشنكير ولما قتل بيبرس الجاشنكير اختفى كريم الدين هذا مدة ثم طلع مع الأمير طغاي الكبير فأوقفه طغاي ثم دخل إلى السلطان وهو يضحك وقال له‏:‏ إن حضر كريم الدين أيش تعطيني ففرح السلطان وقال‏:‏ أعندك هو أحضره فخرج وأحضره وقال له‏:‏ مهما قال لك قل له‏:‏ السمع والطاعة ودعني أدبر أمرك فلما مثل بين يدي السلطان قال له بعد أن استشاط غضبًا‏:‏ اخرج واحمل ألف ألف دينار فقال‏:‏ نعم وأراد الخروج فقال له السلطان‏:‏ لا كثير احمل خمسمائة ألف دينارًا فقال له كما قال أولًا ولازال السلطان ينقصه من نفسه إلى أن ألزمه بمائة ألف دينار فلما خرج على أن يحمل ذلك قال له طغاي المذكور‏:‏ ‏"‏ لا تصقع ذقنك وتحضر الجميع الآن ولكن هات منها عشرة آلاف دينار ففعل ذلك ودخل بها إلى السلطان وصار يأتيه بالنقحة من ثلاثة آلاف دينار إلى ما دونها ولما بقي عليه بعضها أخذ طغاي والقاضي فخر الدين ناظر الجيش في إصلاح أمره ولازال بالسلطان حتى أنعم عليه بما بقي واستخدمه ناظر الخاص وهو أول من باشر هذه الوظيفة بتجمل ولم تكن تعرف أولًا ثم تقدم عند السلطان حتى صار أعز الناس عليه وحج مع خوند طغاي زوجة السلطان بتجمل زائد ذكرناه في ترجمته في المنهل الصافي وكان يخدم كل أحد من الأمراء الكبار المشايخ والخاصكية وأرباب الوظائف والجمدارية الصغار وكل أحد حتى الأوجاقية وكان يركب في خدمته سبعون مملوكًا بكنابيش عمل الدار وطرز ذهب والأمراء تركب في خدمته ومن جملة ما ناله من السعادة والوجاهة عند الملك الناصر أنه مرة طلبه السلطان إلى الدور فدخل عليه وبقيت خازندارة خوند طغاي تروح إليه وتجيء مرات فيما تطلبه خوند طغاي من كريم الدين هذا وطال الأمر فقال السلطان له‏:‏ يا قاضي أيش حاجة لهذا التطويل بنتك ما تختبىء منك ادخل إليها أبصر ما تريده افعله لها فقام كريم الدين دخل إليها وقال لها السلطان‏:‏ أبوك هنا أبصري له ما يأكل فأخرجت له طعامًا وقام السلطان إلى كرمة في الدار وقطع منها عنبًا وأحضره بيده وهو ينفخه من الغبار وقال‏:‏ يا قاضي كل من عنب دارنا‏.‏ وهذا شيء لم يقع لأحد غيره مثله مع الملك الناصر وأشياء كثيرة من ذلك‏.‏
وكان حسن الإسلام كريم النفس قيل إنه كان في كل قليل يحاسب صيرفيه فيجد في الوصولات وصولات زور‏.‏
ثم بعد حين وقع بالمزور فقال له‏:‏ ما حملك على هذا فقال‏:‏ الحاجة فأطلقه وقال له‏:‏ كلما احتجت إلى شيء اكتب به خطك على عادتك على هذا الصيرفي ولكن ارفق فإن علينا كلفًا كثيرة‏.‏
وكان إذا قال‏:‏ نعم كانت نعم وإذا قال‏:‏ لا فهي لا‏.‏
ولما قبض السلطان عليه خلع على الأمير آقوش نائب الكرك باستقراره في نظر البيمارستان المنصوري عوضًا عن كريم الدين المذكور‏.‏ فوجد آقوش حاصله أربعمائة ألف درهم‏.‏
ثم أمر السلطان فنودي في يوم الأربعاء سادس المحرهم سنة خمس وعشرين‏.‏
وسبعمائة على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرطل على أن كل رطل منها بدرهمين ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم وثمن فضرب منها نحو مائتي ألف درهم فرقت على الناس‏.‏
ثم رسم السلطان بأن يكتب له كل يوم أوراق بالحاصل من تعلقات السلطنة والمصروف منها في كل يوم فصارت تعرض عليه كل يوم ويباشر ذلك بنفسه فتوفر مال كثير وشق ذلك على الدواوين‏.‏
ثم سافر السلطان إلى الوجه القبلي للصيد وعاد في ثالث عشر المحرم سنة خمس وعشرين وسبعمائة‏.‏
وفي هذه السنة قدم على الملك الناصر رسل صاحب اليمن ورسل صاحب اسطنبول ورسل الأشكري ورسل متملك سيس ورسل القان بوسعيد ورسل صاحب ماردين ورسل ابن قرمان ورسل متملك النوبة وكلهم يبذلون الطاعة‏.‏
وسأل رسل صاحب اليمن الملك المجاهد إنجاده بعسكر من مصر وأكثر من ترغيب السلطان في المال الذي باليمن فرسم السلطان بتجهيز العسكر إلى اليمن صحبة الأمير بيبرس الحاجب ومعه من أمراء الطبلخاناه خمسة وهم‏:‏ آقول الحاجب وقجماس الجوكندار وبلبان الصرخدي وبكتمر العلائي الأستادار وألجاي الناصري الساقي ومن العشرات‏:‏ عز الدين أيدمر الكوندكي وشمس الدين إبراهيم التركماني وأربعه من مقدمي الحلقة و هؤلاء العسكر لهم مقدمة أخرى كالجاليش عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب ومعه خمسة من أمراء الطبلخاناه وهم‏:‏ الأمير ططر الناصري وعلاء الدين علي بن طغريل الإيغاني وجرباش أمير علم وأيبك الكوندكي وكوكاي طاز وأربعة من مقدمي الحلقة ومن العشرات بلبان الدواداري وطرنطاي الإسماعيلي والي باب القلعة ومن مماليك السلطان ثلاثمائة فارس ومن أجناد الحلقة تتمة الألف فارس وفرقت فيهم أوراق السفر وكتب بحضور العربان من الشرقية والغربية لأجل الجمال‏.‏
ثم خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة في كل سنة وقبض على الأمير بكتمر الحاجب بها وعلى أمير آخر في يوم الخميس ثامن شهر ربيع الأول‏.‏
ثم قدم على السلطان الأمير تنكز ثم أنفق السلطان على الأمراء المتوجهين إلى اليمن فقط فحمل إلى بيبرس ألف دينار وإلى طينال ثمانمائة دينار ولكل أمير طبلخاناه عشرة آلاف درهم ولكل من العشرات مبلغ ألفي

درهم ولمقدمي الحلقة ألف درهم‏.‏ وحضر العربان‏.‏
وباعوا الأجناد موجودهم واكتروا الجمال فانحط سعر الدينار من خمسة وعشرين درهمًا إلى عشرين درهمًا من كثرة ماباعوا من الحلل والمصاغ‏.‏
ثم برزوا من القاهرة إلى بركة الحاج في يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسافروا من البركة في يوم الخميس ثاني عشره‏.‏
ثم خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدة من المهندسين وعين موضعًا على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبنى فيه خانقاه فيها مائة خلوة لمائة صوفي وبجانبها جامع تقام فيه الخطبة ومكان برسم ضيافة الواردين وحمام ومطبخ وندب آق سنقر شاد العمائر لجمع الصناع‏.‏
ورتب أيضًا قصور سرياقوس برسم الأمراء والخاصكية وعاد فوقع الاهتمام في العمل حتى كملت في أربعين يومًا‏.‏
ثم اقتضى رأي السلطان حفر خليج خارج القاهرة ينتهي إلى سرياقوس ويرتب عليه السواقي والزراعات وتسير فيه المراكب في أيام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور بسرياقوس‏.‏
قلت‏:‏ وقد أدركت أنا بواقي هذه القصور التي كانت بسرياقوس وخربت في دولة الملك الأشرف برسباي في حدود سنة ثلاثين وثمانمائة وأخذ الأمير سودون بن عبد الرحمن أنقاضها وبنى بها جامعه الذي بخانقاه سرياقوس فكان ذلك سببًا لمحو آثارها وكانت من محاسن الدنيا‏.‏ انتهى‏.‏
ثم إن الملك الناصر فوض عمل الخليج إلى الأمير أرغون النائب‏.‏
فنزل أرغون بالمهندسين إلى النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة البلاط من أراضي بستان الخشاب ويقع الحفر في الميدان الظاهري الذي جعله الملك الناصر هذا بستانًا من سنيات وغرم عليه أموالًا جمة ثم يمر الخليج المذكور على بركة قرموط إلى باب البحر ثم إلى أرض الطبالة ويرمي في الخليج الكبير‏.‏
وكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفر وعين لكل واحد من الأمراء أقصابًا بحفرها وابتدئ بالحفر من أول جمادى الأولى من سنة خمس وعشرين إلى أن تم في سلخ جمادى الآخرة من السنة‏.‏
وأخرب فيه أملاك كثيرة وأخذت قطعة من بستان الأمير أرغون النائب وأعطى السلطان ثمن ما خرب من الأملاك لأربابها والتزم فخر الدين ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه‏.‏
قلت‏:‏ وهي القنطرة المعروفة بقنطرة الفخر‏.‏
والتزم قديدار والي القاهرة بعمارة قنطرة تجاه البستان الذي كان ميدانًا للظاهر بيبرس البندقداري وأن قديدار أيضًا يتم قناطر الإوز وقناطر الأميرية فعمل ذلك كله‏.‏
فلما كان أيام النيل جرت السفن فيه وعمرت عليه السواقي وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك‏.‏
ثم توجه السلطان في يوم الإثنين سادس جمادى الآخرة إلى خانقاته التي أنشأها بسرياقوس وخرجت القضاة والمشايخ والصوفية إليها وعمل لهم سماط عظيم في يوم الخميس تاسعه بالخانقاه المذكورة‏.‏
واستقر الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن محمود الأقصرائي الذي كان شيخ خانقاه كريم الدين الكبير بالقرافة في مشيخة هم الخانقاه ورتب عنده مائة صوفي ورسم للشيخ مجد الدين المذكور بخلعة وأن يلقب بشيخ الشيوخ‏.‏
وأما العسكر الذي توجه إلى اليمن فإن السلطان كتب إلى أمراء الحجاز بالقيام في خدمة العسكر وتقدم كافور الشبلي خادم الملك المجاهد الذي قدم في الرسلية إلى زبيد ليعلم أستاذه الملك المجاهد بقدوم العسكر وكتب لأهل حلي بني يعقوب الأمان وأن يجلبوا البضائع للعسكر‏.‏
ورحل العسكر في خامس جمادى الآخرة من مكة فوصل إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يومًا بعد عشرين مرحلة فتلقاهم أهلها ودهشوا لرؤية العساكر وقد طلبت ولبست السلاح وهموا بالفرار‏.‏
فنودي فيهم بالأمان وألا يتعرض أحد من العسكر لشيء إلا بثمنه فأطمأنوا وحملوا إلى كل من بيبرس وطينال من مقدمي العسكر مائة رأس من الغنم وخمسمائة إردب ذرة فرداها ولم يقبلا لأحد شيئًا‏.‏ ورحلوا بعد ثلاثة أيام في العشرين منه‏.‏
فقدمت الأخبار على العسكر باجتماع رأي أهل زبيد على الدخول في طاعة الملك المجاهد خوفًا من العسكر وأنهم ثاروا بالمتملك عليهم ونهبوا أمواله ففر عنهم فكتبوا للمجاهد بذلك فقوي ونزل من قلعة تعز يريد زبيد فكتب أمراء العسكر المصري إليه أن يكون على أهبة اللقاء‏.‏
فنزل العسكر زبيد ووافاهم المجاهد بجنده فسخر منهم العسكر المصري من كونهم عراة وسلاحهم الجريد والخشب وسيوفهم مشدودة على أذرعهم ويقاد للأمير فرس واحد مجلل وعلى رأس المجاهد عصابة ملونة فوق العمامة‏.‏
فعندما عاين المجاهد العساكرالمصرية وهي لابسة آلة الحرب رعب وهم أن يترجل فمنعه الأمير بيبرس وآقول من ذلك‏.‏
ومشى العسكر صفين والأمراء في الوسط حتى قربوا منه فألقى المجاهد نفسه هو ومن معه إلى الأرض فترجل له الأمراء أيضًا وأركبوه وأكرموه وأركبوه في الوسط وساروا إلى المخيم وألبسوه تشريفًا سلطانيًا بكلفتاة زركش وحياصة ذهب‏.‏
وركب والأمراء في خدمته والعساكر إلى داخل زبيد ففرح أهلها فرحًا شديدًا ومد المجاهد لهم سماطًا جليلًا فامتنع الأمراء والعساكر من أكله خوفًا من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته واعتذروا إليه بأن هذا لا يكفي العساكر ولكن في غد يعمل السماط‏.‏
فأحضر لهم المجاهد ما يحتاجون إليه وتولى طباخو الأمراء عمل السماط وأصبح وقد حضر المجاهد وأمراؤه وقد مد السماط بين يديهم وأحضر كرسي جلس عليه المجاهد فوقف السقاة والنقباء والحجاب والجاشنكيرية على العادة ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة والأمير طينال رأس الميسرة فلما فرغ السماط صاحت الجاوشية على أمراء المجاهد وأهل دولته وأحضروهم وقرىء عليهم كتاب السلطان فباسوا بأجمعهم الأرض وقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة وكتب الأمير بيبرس لممالك اليمن بالحضور فحضروا‏.‏
ثم كتب لهم المجاهد بغنم وذرة واعتذر للأمراء والعساكر المصرية بعدم عمل الإقامة لهم بخراب البلاد فتوجه قصاد العسكر لأخذ الغنم والذرة وأقامت العساكر بزبيد فعادت قصادهم بغير غنم ولاذرة فرحلوا من زبيد في نصف رجب يريدون تعز فتلقاهم المجاهد ونزلوا خارج البلد وشكوا ماهم فيه من قلة الإقامات فوعدهم بالإنجاز‏.‏
ثم إن الأمراء كتبوا للملك الظاهر المقيم بدملوه وبعثوا له الشريف عطيفة أمير مكة وعز الدين الكوندكي وكتب إليه المجهد أيضًا يحثه على الطاعة‏.‏
وأقام العسكر في جهد فأغاروا على الضياع وأخذوا ما قدروا عليه فارتفع الذرة من ثلاثين درهمًا الإردب إلى تسعين وفقد الأك إلا من الفاكهة فقط لقلة الجالب واتهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفًا من العسكر أن تملك منه البلاد‏.‏
ثم إن أهل جبل صبر قطعوا الماء عن العسكر وتخطفوا الجمال والغلمان وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر في أثرهم فامتنعوا بالجبل ورموا بالمقاليع على العسكر فرموهم بالنشاب وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود إلى الجبل فلم يلتفتوا إلى كلامه ونازلوا الجبل يومهم وقتل من العسكر أربعة من الغلمان وبات العسكر تحت الجبل‏.‏
فبلغ بيبرس أن المجاهد قرر مع أصحابه أن العسكر إذا صعدوا الجبل يضرمون النار في الوطاق وينهبون ما فيه فبادر بيبرس وقبض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجوده ووسطه قطعتين وعلقه على الطريق ففرح أهل تعز بقتله وكان قد تغلب على زبيد حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر‏.‏
وعاد الشريف عطيفة والكوندكي من دملوه بأن الظاهر في طاعة السلطان‏.‏
ثم طلب العسكر من المجاهد ما وعد به السلطان الملك الناصر فأجاب بأنه لا قدرة له إلا بما في عملوه فأشهد عليه بيبرس قضاة تعز بذلك‏.‏
وارتحل العسكر إلى حلي بني يعقوب فقدمها في تاسع شعبان‏.‏
ورحلوا منها أول شهر رمضان إلى مكة فدخلوها في حادي عشره في مشقة زائدة‏.‏
وساروا من مكة يوم عيد الفطر إلى جهة مصر فقدموا بركة الحجاج أول يوم من ذي القعدة‏.‏
وطلع الأمراء إلى القلعة فخلع السلطان عليهم في يوم السبت ثالثه‏.‏
وقدم الأمير بيبرس هدية فأغرى الأمير طينال السلطان على الأمير بيبرس بأنه أخذ مالًا من المجاهد وغيره وقصر في أخذ مملكة اليمن‏.‏
فلما كان يوم الاثنين تاسع عشره رسم السلطان بخروج بيبرس إلى نيابة غزة فامتنع لأنه كان بلغه ما قيل عنه وأن السلطان قد تغير عليه فقبض عليه السلطان وسجنه بالبرج من القلعة وقبض على حواشيه وصادرهم وعوقبوا على المال فلم يظهر شيء وسكت السلطان عن أحوال اليمن‏.‏
ثم في سنة ست وعشرين وسبعمائة استأذن الأمير أرغون النائب السلطان في الحج فأذن له فحج هو وولده ناصرالدين محمد‏.‏
وعادا من الحجاز إلى سرياقوس في يوم الأحد حادي عشر المحرم سنة سبع وعشرين وسبعمائة فقبض السلطان عليهما وعلى الأمير طيبغا المجدي فأخذهم الأمير بكتمر الساقي عنده وسعى في أمرهم حتى أخرج في يوم الاثنين ثاني عشره يعني من الغد الأمير أرغون إلى نيابة حلب عوضًا عن الأمير ألطنبغا وأخرج معه الأمير أيتمش المحمدي مسفره وتوجه الأمير ألجاي الدوادار إلى حلب لإحضار الأمير ألطنبغا نائبها وقرر السلطان مع كل من أيتمش وألجاي أن يكونا بمن معهما في دمشق يوم الجمعة ثالث عشرينه ولم يعلم أحد بما توجه فيه الآخر حتى توافيا بدمشق في يوم الجمعة المذكور‏.‏
وقد خرج الأمير تنكز نائب الشام إلى ميدان الحصى لتلقي الأمير أرغون فترجل كل منهما لصاحبه وسارا إلى جامع بني أمية فلما توسطاه إذا بألجاي ومعه الأمير ألطنبغا نائب حلب فسلم أرغون عليه بالإيماء‏.‏
فلما انقضت صلاة الجمعة عمل لهما الأمير تنكز سماطًا جليلًا فحضرا السماط‏.‏
ثم سار أرغون إلى حلب فوصلها في سلخ الشهر‏.‏
وسار ألطنبغا حتى دخل مصر في مستهل صفر فأكرمه السلطان وخلع عليه وأسكنه بقلعة الجبل وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف من جملة إقطاع أرغون النائب وكمل السلطان من إقطاع أرغون أيضًا لطايربغا على إقطاعه إمرة مائة وتقدمة ألف فزادت التقادم تقدمة فصارت أمراء الألوف خمسة وعشرين مقدم ألف بالديار المصرية‏.‏
وفي مستهل جمادى الأولى قبض السلطان على الأمير بهاء الدين أصلم وعلى أخيه قرمجي وجماعة من القبجاقية وسبب ذلك أن أصلم عرض سلاح خاناته وجلس بإسطبله وألبس خيله ورتبها للركوب فوشى به بعض أعدائه بأنه قد عزم هو وأخوه قرمجي وجماعة القبجاق أن يهجموا على السلطان ويغيروا الدولة وكتب بواقعة أمره ورقة وألقاها إلى السلطان فلما وقف عليها السلطان تغير تغيرًا زائدًا وكانت عادته ألا يكذب في الشر خبرًا وبعث من فوره فسأل أصلم مع ألماس الحاجب عما كان يفعله أمس في إسطبله فذكر أنه اشترى عدة أسلحة فعرضها على خيله لينظر مايناسب كل فرس منها فصدق السلطان مانقل عنه وقبض السلطان عليه وعلى أخيه وعلى أهل جنسه وعلى الأمير قيران صهر قرمجي وعلى الأمير إتكان أخي آقول الحاجب وسفروا إلى الإسكندرية مع الأمير صلاح الدين طرخان بن بيسري وبرلغي قريب السلطان وأفرد أصلم ببرج في القلعة‏.‏
ثم قدم الأمير حسين بن جندر من الشام الذي كان نفاه السلطان لما عمر جامعه وفتح بابًا من سور القاهرة فلما مثل بين يدي السلطان خلع عليه خلعة أطلس بطرز زركش وكلفتاة زركش وحياصة مكوبجة وأنعم عليه بإقطاع أصلم في يوم الاثنين ثالث جمادى الآخره‏.‏
وفيها عقد على الأمير قوصون الناصري عقد ابنة السلطان الملك الناصر بقلعة الجبل وتولى عقد النكاح قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الحريري الحنفي‏.‏
ثم بعد مدة في سنة ثمان وعشرين عقد نكاح ابنة السلطان الأخرى على الأمير طغاي تمر العمري وأعفى السلطان في هذه المرة الأمراء من حمل الشموع وغيرها إلى طغاي تمر كما كانوا قد فعلوا مع قوصون وأنعم السلطان على طغاي تمر من خزانته عوضًا عن ذلك بأربعة آلاف دينار‏.‏
ثم أفرج السلطان عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي بعد أن اعتقل ثماني سنين وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا فكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث‏.‏
وفي سنة ثمان وعشرين أيضًا عزم السلطان على أن يجري النيل تحت قلعة الجبل ويشق له من ناحية حلوان فبعث الصناع صحبة شاد العمائر إلى حلوان وقاسوا منها إلى الجبل الأحمر المطل على القاهرة وقدروا العمل في بناء الواطي حتى يرتفع وحفر العالي ليجري الماء إلى تحت قلعة الجبل من غير نقل ولاكلفة‏.‏
ثم عادوا وعرفوا السلطان ذلك فركب وقاسوا الأرض بين يديه فكان قياس ما يحفر اثنتين وأربعين ألف قصبة حاكمية لتبقى خليجًا يجري فيه ماء النيل شتاء وصيفًا بسفح الجبل فعاد السلطان وقد أعجبه ذالك وشاور الأمراء فيه فلم يعارضه فيه أحد إلا الفخر ناظر الجيش فإنه قال‏:‏ بمن يحفر السلطان هذا الخليج قال‏:‏ بالعسكر قال‏:‏ والله لو اجتمع عسكر آخر فوق العسكر السلطاني وأقام سنين ما قدروا على حفر هذا العمل فإنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال ثم هل يصح أولًا فالسلطان لايسمع كلام كل أحد ويتعب الناس ويستجلب دعاءهم ونحو ذلك من القول فرجع السلطان عن عمله‏.‏
وفيها أفرج السلطان عن الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية بشفاعة الأمير جنكلي بن البابا‏.‏
وفي يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة رسم السلطان بردم الجب الذي كان بقلعة الجبل لما بلغ السلطان أنه شنيع المنظر شديد الظلمة كره الرائحة وأنه يمر بالمحابيس فيه شدائد عظيمة فردم وعمر فوقه طباق للمماليك السلطانية‏.‏
وكان هذا الجب عمل في سنة إحدى وثمانين وستمائة في أيام الملك المنصور قلاوون‏.‏ ثم في السنة المذكورة رسم السلطان للحاجب أن ينادي بألا يباع مملوك تركي لكاتب ولا عامي ومن كان عنده مملوك فليبعه ومن عثر عليه بعد ذلك أن عنده مملوكًا فلا يلوم إلا نفسه‏.‏
وفيها عرض السلطان مماليك الطباق وقطع منهم مائة وخمسين وأخرجهم من يومهم ففرقوا بقلاع الشام‏.‏
ثم خرج السلطان إلى سرياقوس في سابع عشرين من ذي الحجة على العادة في كل سنة وقدم عليه الأمير تنكز نائب الشام في أول المحرم سنة ثلاثين وسبعمائة وبالغ السلطان في إكرامه ورفع منزلته وقد تكرر قدوم تنكز هذا إلى القاهرة قبل تاريخه غير مرة ثم عاد إلى نيابته بدمشق في رابع عشر المحرم‏.‏
ثم في عشرين المحرم المذكور وصل إلى القاهرة الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماة فبالغ السلطان أيضًا في إكرامه ورفع منزلته وخلع عليه‏.‏
ثم سافر السلطان في تاسع صفر إلى بلاد الصعيد للصيد على عادته ومعه المؤيد صاحب حماة ثم عاد بعد أيام قليلة لتوعك بدنه من رمد طلع فيه وأقام بالأهرام بالجيزة أيامًا ثم عاد وسافر إلى الصعيد حتى وصل إلى هو ثم عاد إلى مصر في خامس شهر ربيع الآخر وسافر في ثامنه المؤيد صاحب حماة إلى محل ولايته بعد أن غاب مع السلطان هذه الأيام الكثيرة‏.‏
ثم نزل السلطان من القلعة في خامس عشرين ربيع الآخر المذكور وتوجه إلى نواحي قليوب يريد الصيد فبينما هو في الصيد تقنطر عن فرسه فانكسرت يده وغشي عليه ساعة وهو ملقى على الأرض ثم أفاق وقد نزل إليه الأميران‏:‏ أيدغمش أمير أخور وقماري أمير شكار وأركباه فأقبل الأمراء بأجمعهم إلى خدمته وعاد إلى قلعة الجبل في عشية الأحد ثامن عشرينه فجمع الأطباء والمجبرين لمداواته فتقدم رجل من المجبرين يعرف بابن بن بوسقة وتكلم بجفاء وعامية طباع وقال له‏:‏ تريد تفيق سريعًا اسمع مني فقال له السلطان‏:‏ قل ماعندك فقال‏:‏ لاتخل يداويك غيري بمفردي وإلا فسدت حال يدك مثلما سلمت رجلك لابن السيسي فأفسدها وأنا ما أخلي شهرًا يمضي حتى تركب وتلعب بيدك الأكرة فسكت السلطان عن جوابه وسلم إليه يده فتولى علاجه بمفرده وبطلت الخدمة مئة سبعة وثلاثين يومًا‏.‏
وعوفي السلطان فزينت له القاهرة في يوم الأحد رابع جمادى الآخرة من السنة المذكورة وتفاخر الناس في الزينة بحيث إنه لم يعهد زينة مثلها وأقامت سبعة أيام هذا والأفراح عمالة بالقلعة وسائر بيوت الأمراء مدة الأسبوع فإن كل أمير متزوج إما بإحدى جواري السلطان أو ببناته وأكثرهم أيضًا مماليكه وكذلك البشائر والكوسات تضرب وأنعم السلطان على الأمراء وخلع عليهم‏.‏
ثم خرج السلطان إلى القصر الأبلق وفرق عدة مثالات على الأيتام وعمل سماطًا جليلًا وخلع على جميع أرباب الوظائف‏.‏
وأنعم على المجبر بعشرة آلاف درهم ورسم له أن يدور على جميع الأمراء فلم يتأخر أحد من الأمراء عن إفاضة الخلع عليه وإعطائه المال فحصل له ما يجل وصفه‏.‏
وتوجه الأمير آقبغا عبد الواحد إلى البلاد الشامية مبشرًا بعافية السلطان‏.‏ وفيها اشترى الأمير قوصون الناصري دار الأمير آقوش الموصلي الحاجب المعروف بآقوش نميلة ثم عرفت ثانيًا بدار الأمير آقوش قتال السبع من أربابها واشترى أيضًا ما حولها وهدم ذلك كله وشرع في بناء جامع فبعث السلطان إليه بشاد العمائر والأسرى لنقل الحجارة ونحوها فنجزت عمارته في مدة يسيرة وجاء الجامع المذكور من أحسن المباني وهو خارج بابي زويلة على الشارع الأعظم بالقرب من بركة الفيل وتولى عمارة منارته رجل من أهل تبريز أحضره الأمير أيتمش المحمدي معه فعملها على منوال موادن تبريز‏.‏
ولما كمل بناء الجامع أقيمت الجمعة فيه في يوم الجمعة حادي عشر شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة وخطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني وخلع عليه الأمير قوصون بعد فراغه وأركبه بغلة هائلة‏.‏
وفي هذه السنة أيضًا ابتدأ علاء الدين مغلطاي الجمالي أحد المماليك السلطانية في عمارة جامع بين السورين من القاهرة وسمي جامع التوبة لكثرة ما كان هناك من الفساد وأقام به الخط

بة‏.‏
ثم عاد السلطان الملك الناصر على ما كان عليه من أول سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من التوجه إلى الصيد على عادته وقدم عليه موت الأمير أرغون الدوادار نائب حلب كان وهو بالصيد فخلع على الأمير ألطنبغا الصالحي بنيابة حلب عوضه‏.‏
ثم في يوم السبت سابع عشر ذي الحجة ركب السلطان من القلعة إلى الميدان الذي استجده وقد كملت عمارته‏.‏
وكان السلطان قد رسم في أول هذه السنة بهدم مناظر الميدان الظاهري الذي كان بباب اللوق وتجديد عمارة هذا الميدان الذي استجده وفوض ذلك للأمير ناصر الدين محمد بن المحسني فهدم تلك المناظر وباع أخشابها بمائة ألف درهم وألفي درهم واهتم في عمارة جديدة فكمل في مدة شهرين وجاء من أحسن مايكون فخلع السلطان عليه وفرق على الأمراء الخيول المسرجة الملجمة‏.‏
وفي أول محرم سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة قدم مبشر الحاج وأخبر بسلامة الحاج وأن الأمير مغلطاي الجمالي الأستادار على خطة فعين السلطان عوضه في الأستادارية الأمير أقبغا عبد الواحد‏.‏
ومات مغلطاي في العقبة وصبر وحمل إلى أن دفن بمدرسته قريبًا من درب ملوخيا بالقاهرة بالقرب من رحبة باب العيد‏.‏
ولبس آقبغا عبد الواحد الأستادارية في يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم‏.‏ ثم بعد أيام خلع عليه السلطان بتقدمة المماليك السلطانية مضافًا على الأستادارية من أجل أن السلطان وجد بعض المماليك قد نزل من القلعة إلى القاهرة وسكر فضرب السلطان كثيرًا من الطواشية وطرد كثيرًا منهم وأنكر على الطواشي مقدم المماليك وصرفه عن التقدمة بآقبغا هذا فضبط آقبغا المذكور طباق المماليك بالقلعة وضرب عدة منهم ضربًا مبرحًا أشرف منهم جماعة على الموت فلم يجسر بعد ذلك أحد أن يتجاوز طبقته إلى وفي يوم الاثنين ثالث عشرين صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة والخليفة ليعهد بالسلطنة لابنه آنوك ويركب ولده آنوك بشعار السلطنة ثم انثنى عزمه عن ذلك في المجلس وأمر أن يلبس آنوك شعار الأمراء ولا يطلق عليه اسم السلطنة فركب وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز زركش وشربوش مكلل مزركش وخرج من باب القرافة والأمراء في خدمته حتى مر من سوق الخيل تحت القلعة ونزل عن فرسه وباس الأرض وطلع من باب الإسطبل إلى باب السر وصعد منه إلى القلعة ونثرت عليه الدنانير والدراهم‏.‏
وخلع السلطان على الأمير ألماس الحاجب والأمير بيبرس الأحمدي وكان السلطان أفرج عن بيبرس المذكور قبل ذلك بمدة من السجن وخلع على الأمير أيدغمش أمير آخور الجميع خلع أطلس وخلع السلطان على جميع أرباب الوظائف ومد لهم سماط عظيم وعملت الأفراح الجليلة‏.‏
وعظم المهم لعقد آنوك المذكور على بنت بكتمر الساقي فعقد العقد بالقصر على صداق مبلغه من الذهب اثنا عشر ألف دينار المقبوض منه عشرة آلاف دينار وأنعم السلطان على ولده آنوك المذكور بإقطاع الأمير مغلطاي المتوفى بالعقبة‏.‏
ثم في عاشر شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة المذكورة قدم الملك الأفضل ناصرالدين محمد بن الملك المؤيد إسماعيل الأيوبي صاحب حماة بعد وفاة أبيه الملك المؤيد بها وله من العمر نحو من عشرين سنة فأكرمه السلطان وأقبل عليه‏.‏
وكان والده لما توفي بحماة أخفى أهله موته وسارت زوجته أم الأفضل هذا إلى دمشق وترامت على الأمير تنكز نائب الشام وقدمت له جوهرًا باهرًا وسألته في إقامة ولدها الأفضل في سلطنة أبيه المؤيد بحماة‏.‏
فقبل تنكز هديتها وكتب في الحال إلى الملك الناصر بوفاة الملك المؤيد وتضرع إليه في إقامة ولده الأفضل مكانه‏.‏
فلما قدم البريد بذلك تأسف السلطان على الملك المؤيد وكتب للأمير تنكز بولايته وبتجهيز الأفضل المذكور إلى مصر فأمره تنكز في الحال بالتوجه إلى مصر فركب وسار حتى دخلها ومثل بين يدي السلطان‏.‏
وخلع عليه الملك الناصر في يوم الخميس خامس عشرين شهر ربيع الآخر بسلطنة حماة وركب الأفضل من المدرسة المنصورية ببين القصرين وهو بشعار السلطنة وبين يديه الغاشية وقد نشرت على رأسه العصائب الثلاث منها واحد خليفتي أسود واثنان سلطانيان أصفران وعليه خلعة أطلسين بطراز ذهب وعلى رأسه شربوش ذهب وفي وسطه حياصة ذهب بثلاث بيكاريات‏.‏ وسارالأفضل في موكب جليل وطلع إلى القلعة وقبل الأرض بين يدي السلطان بالقصر‏.‏
ثم جلس وخلع السلطان على الأمراء الذين مشوا بخدمته وهم‏:‏ الأمير ألماس الحاجب وبيبرس الأحمدي وأيدغمش أمير آخور وطغجي أمير سلاح وتمر رأس نوبة ألبمس كلًا منهم أطلسين بطراز ذهب‏.‏ ثم خلع على جماعة أخر وكان يومًا مشهودًا‏.‏ ولقبه السلطان بالملك الأفضل ثم جهزه إلى بلاده‏.‏
ثم حضر بعد ذلك تنكز نائب الشام إلى القاهرة ليحضر عرس ابن السلطان الأمير آنوك‏.‏
وشرع السلطان في عمل المهم من أوائل شعبان من سنة اثنتين وثلاثين وجمع السلطان من بالقاهرة ومصر من أرباب الملاهي واستمر المهم سبعة أيام بلياليها‏.‏
واستدعى حريم الأمراء للمهم فلما كانت ليلة السابع منه حضر السلطان على باب القصر وتقدم الأمراء على قدر مراتبهم واحدًا بعد واحد ومعهم الشموع فكان إذا قدم الواحد ما أحضره من الشمع قبل الأرض وتأخر حتى انقضت تقادمهم فكان عدتها ثلاثة آلاف وثلاثين شمعة زنتها ثلاثة آلاف وستون قنطارًا فيها ماعني به ونقش نقشًا بديعًا تنوع في تحسينه وأحسنها شمع الأمير سنجر الجاولي فإنه اعتنى بأمره وبعث إلى عملها إلى دمشق فجاءت من أبدع شيء‏.‏
وجلس الأمير آنوك تجاه السلطان فأقبل الأمراء جميعًا وكل أمير يحمل بنفسه شمعة وخلفه مماليكه تحمل الشمع فيتقدمون على قدر رتبهم ويقبلون الأرض واحدًا بعد واحد طول ليلهم حتى كان آخر اللي

ل نهض السلطان وعبر حيث مجتمع النساء فقامت نساء الأمراء بأسرهن وقبلن الأرض واحدة بعد أخرى وهي تقدم ما أحضرت من التحف الفاخرة حتى انقضت تقامهن جميعًا رسم السلطان برقصهن فرقصن عن آخرهن واحدة بعد واحدة والمغاني تضربن بالدفوف والأموال من الذهب والفضة والشقق الحرير تلقى على المغنيات فحصل لهن ما يجل وصفه ثم زفت العروس‏.‏
وجلس السلطان من بكرة الغد وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف بأسرها ورسم لكل امرأة أمير بتعبية قماش على قدر منزلة زوجها وخلع على الأمير تنكز نائب الشام وجهز صحبته الخلع لأمراء دمشق‏.‏
فكان هذا العرس من الأعراس المذكورة ذبح فيه من الغنم والبقر والخيل والإوز والدجاج ما يزيد على عشرين ألفًا وكمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار وبلغت قيمة ماحمله الأمير بكتمر الساقي مع ابنته من الشورة ألف ألف دينار قاله جماعة من المؤرخين‏.‏
ثم استهم السلطان إلى سفر الحجاز الشريف وسافر الأمير أيدمر الخطيري أمير حاج المحمل في عشرين شوال من السنة ونزل السلطان من القلعة في ثاني عشر شوال وأقام بسرياقوس حتى سار منه إلى الحجاز في خامس عشرينه بعد ما قدم حرمه صحبة الأمير طغيتمر في عدة من الأمراء‏.‏
واستناب السلطان على ديار مصر الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ورسم له أن يقيم بداره وجعل الأمير آقبغا عبد الواحد داخل باب القلة عن قلعة الجبل لحفظ القلعة وجعل الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بالقلعة وأمره ألا ينزل منها حتى يحضر وأخرج كل أمير من الأمراء المقيمين إلى إقطاعه ورسم لهم ألا يعودوا منها حتى يرجع السلطان من الحجاز‏.‏
وتوجه مع السلطان إلى الحجاز الملك الأفضل صاحب حماة ومن الأمراء‏:‏ جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وبيبرس الأحمدي وبهادر المعزي وأيدغمش أمير آخور وبكتمر الساقي وطقزدمر وسنجر الجاولي وقوصون وطايربغا وطغاي تمر وبشتاك وأرنبغا وطغجي وأحمد بن بكتمر الساقي وجركتمر بن بهادر وطيدمر الساقي وآقبغا آص الجاشنكير وطوغان الساقي وطقتمر الخازن وسوسون السلاح دار وتلك وبيبغا الشمسي وبيغرا وقماري وتمر الموسوي وأيدمر أمير جاندار وبيدمر البدري وطقبغا الناصري وأيتمش الساقي وإياز الساقي وألطنقش وأنس وأيدمر دقماق وطيبغا المجدي وخير بك وقطز أمير آخور وبيدمر وأينبك وأيدمر العمري ويحيى بن طايربغا ومسعود الحاجب ونوروز وكجلي وبرلغي وبكجا ويوسف الدوادار وقطلقتمر السلاح دار وآناق وساطلمش وبغاتمر ومحمد بن جنكلي وعلي بن أيدغمش وألاجا وآق سنقر وقرا وعلاء الدين علي بن هلال الدولة وتمربغا العقيلي وقماري الحسني وعلي بن أيدمر الخطيري وطقتمر اليوسفي و هؤلاء مقدمون وطلبخاناه‏.‏
ومن العشرات‏:‏ علي بن السعيدي وصاروجا النقيب وآق سنقر الرومي وإياجي الساقي وسنقر الخازن وأحمد بن كجكن وأرغون العلائي وأرغون الإسماعيلي وتكا وقبجق ومحمد بن الخطيري وأحمد بن أيدغمش وطشبغا وقليجي‏.‏
وحج مع السلطان أيضًا قاضي القضاة جلال الدين القزويني الشافعي وابن الفرات الحنفي وفخر الدين النويري المالكي وموفق الدين الحنبلي وكانوا أربعتهم ينزلون في خيمة واحدة فإذا قدمت لهم فتوى كتبوا عليها الأربعة وقدم السلطان الأمير أيتمش إلى عقبة أيلة ومعه مائة رجل من الحجازيين حتى وسعوا طريق العقبة وأزالوا وعرها ومن يومئذ سهل صعودها‏.‏
ولما قرب السلطان من عقبة أيلة بلغه آتفاق الأمير بكتمر الساقي على الفتك به مع عدة من المماليك السلطانية فتمارض السلطان وعزم على الرجوع إلى مصر ووافقه الأمراء على ذلك إلا بكتمر الساقي فإنه أشار بإتمام السفر وشنع عوده قبل الحج‏.‏
فعند ذلك عزم السلطان على السفر وسير ابنه آنوك وأمه خوند طغاي إلى الكرك صحبة الأمير ملكتمر السرجواني نائب
الكرك فإنه كان قدم إلى العقبة ومعه ابنا السلطان الملك الناصر‏:‏ أبو بكر وأحمد اللذان كان والدهما الناصر أرسلهما إلى الكرك قبل تاريخه بسنين ليسكنا بها‏.‏
ثم مضى السلطان إلى سفره وهو محترز غاية التحرز بحيث إنه ينتقل في الليل عدة مرار من مكان إلى مكان ويخفي موضع مبيته من غير أن يظهر أحدًا على مافي نفسه مما بلغه عن بكتمر الساقي إلى أن وصل إلى ينبع‏.‏
فتلقاه الأشراف من أهل المدينة وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قواده وحريمه فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم وساروا معه إلى أن نزل على خليص فر منه نحو ثلاثين مملوكًا إلى جهة العراق فلم يتكلم السلطان‏.‏
وسا حتى قدم مكة ودخلها فأنعم على الأمراء وأنفق في جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهبًا كثيرًا وأفاض على أهل مكة بالصدقات والإنعام‏.‏
فلما قضى النسك عاد يريد مصر وعرج إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسار حتى وصلها فلما دخلها هبت بها ريح شديدة في الليل ألقت الخيم كلها وتزايد اضطراب الناس واشتدت ظلمة الجو فكان أمرًا مهولًا فلما كان النهار سكن الريح فظفر أمير المدينة بمن فر من المماليك السلطانية فخلع السلطان عليه وأنعم عليه بجميع ماكان مع المماليك من مال وغيره وبعث بالمماليك إلى الكرك فكان ذلك آخر العهد بهم‏.‏
ثم مرض الأمير بكتمر الساقي وولده أحمد فمات أحمد في ليلة الثلاثاء سابع المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ومات أبوه الأمير بكتمر الساقي في ليلة الجمعة عاشر المحرم بعد ابنه أحمد بيومين وحمل بكتمر إلى عيون القصب فدفن بها واتهم السلطان أنه سمهما‏.‏
وذلك أنه كان قد عظم أمر بكتمر بحيث إن السلطان كان معه في هذه السفرة ثلاثة آلاف ومائة عليقة ومع بكتمر الساقي ثلاثة آلاف عليقة وبلغت عدة خيوله الخاصة مائة طوالة بمائة سايس بمائة سطل وكان عليق خيول إسطبله دائمًا ألفًا ومائة عليقة كل يوم ومع هذا لم يقنعه ذلك‏.‏
وأخذ يدبر في قتل السلطان وبلغ السلطان ذلك بعد أن خرج من القاهرة فتحرز على نفسه بدربة وعقل ومعرفة ودهاء ومكر حتى صار في أعظم حجاب من بكتمر وغيره‏.‏
ثم أخذ هو أيضًا يدبر على بكتمر وأخذ يلازمه في الليل والنهار بحيث أن بكتمر عجز في الطريق أن ينظر إلى زوجته فإنه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه ويكالمه من غير جفاء وإذا نزل جلس معه فإن مضى إلى خيامه أرسل السلطان في الحال خلفه بحيث إنه استدعاه مرة وهو يتوضأ بواحد بعد آخر حتى كمل عنده اثنا عشر جمدار‏.‏
فلما ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان قتل بكتمر وولده أحمد تلك الليلة‏.‏ وأعد لذلك جماعة فهجموا على ولده أحمد فلم يتمكنوا منه واعتذروا بأنهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعًا فمروا في طلبهم فداخل الصبي منهم الفزع ثم زاد احتراز السلطان على نفسه ورسم للأمراء أن يناموا بمماليكهم على بابه‏.‏
ولما سار من المدينة عظم عنده أمر بكتمر فلما كان في أثناء الطريق سقى أحمد بن بكتمر ماء باردًا في مسيره كانت فيه منيته ثم سقى بكتمر بعد موت ولده مشروبًا فلحق بابنه‏.‏
واشتهر ذلك حتى إن زوجة بكتمر لما مات صاحت وقالت للسلطان بصوت سمعها كل أحد‏:‏ يا ظالم أين تروح من الله ولدي وزوجي فأما زوجي كان مملوكك وولدي ايش كان بينك وبينه وكررت ذلك مرارًا فلم يجبها‏.‏
قلت‏:‏ ولولا أن الملك الناصر سقى ولده أحمد قبله وإلا كانت حيلة الناصر لا تتم فإن بكتمر أيضًا كان احترز على نفسه وأعلم أصحابه بذلك‏.‏ فلما اشتغل بمصاب ابنه أحمد انتهز الملك الناصر الفرصة وسقاه في الحال‏.‏
و أيضًا لو بقي ولده ربما وثب حواشي بكتمر به على السلطان وهذا الذي قلته على الظن مني‏.‏ والله أعلم‏.‏ انتهى‏.‏

ثم وصل إلى القاهرة مبشر الحاج في ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين تلك المظفري الجمدار وأخبر بسلامة السلطان فدقت البشائر وخلع عليه خلع كثيرة واطمأن الناس بعد ما كان بينهم أراجيف‏.‏
ثم وصل السلطان إلى الديار المصرية في يوم السبت ثامن عشر المحرم بعد ما خرج معظم الناس إلى لقائه ومد شرف الدين النشو شقاق الحرير والزربفت من بين العروستين إلى باب الإسطبل فلما توسط بين الناس صاحت العوام‏:‏ هو إياه ما هو إياه با لله اكشف لنا لثامك وأرنا وجهك وكان قد تلثم فعند ذلك حسر اللثام عن وجهه فصاحوا بأجمعهم‏:‏ الحمد لله على السلامة ثم بالغوا في إظهار الفرح به والدعاء له وأمعنوا في ذلك فسر السلطان بهذا الأمر ودخل القلعة ودقت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام‏.‏ وهذه حجة السلطان الملك الناصر الثالثة وهي التي يضرب بها المثل‏.‏
وجلس السلطان على كرسي الملك وخلع على الأمراء قاطبة‏.‏ وكان بلغ السلطان أن ألماس الحاجب كان اتفق مع بكتمر الساقي على الفتك بالسلطان‏.‏ قلت‏:‏ وبكتمر وألماس كلاهما مملوكه ومشتراه‏.‏ انتهى‏.‏

ثم أخذ السلطان يدبر على ألماس حتى قبض عليه وعلى أخيه قرا في العشرين من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين وحمل قرا من يومه إلى الإسكندرية‏.‏ وسبب معرفة السلطان اتفاق ألماس مع بكتمر أن الملك الناصر لما مات بكتمر الساقي صحبته بطريق الحجاز احتاط على موجوده فكان من جملة الموجود جزدان ففتحه السلطان فوجد فيه جوابًا من الأمير ألماس إلى بكتمر الساقي يقول فيه‏:‏ إنني حافظ القاهرة والقلعة إلى أن يرد علي منك ما أعتمده فتحقق السلطان أمره وقبض عليه ولما قبض السلطان على ألماس أخذ جميع أمواله وكان مالًا جزيلًا إلى الغاية فإنه كان ولي الحجوبية وباشرها وليس بالديار المصرية نائب سلطنة فإن الملك الناصر لم يول أحدًا معه بعد الأمير أرغون فعظم أمر ألماس في الحجوبية لذلك فصار هو في محل النيابة ويركبون الأمراء وينزلون في خدمته ويجلس في باب القلعة في منزلة النائب والحجاب والأمراء وقوف بين يديه‏.‏
وكان ألماس رجلًا طوالًا غتميًا لا يفهم بالعربية يفعل ذلك عامدًا لإقامة الحرمة ويظهر البخل ولم يكن كذلك بل كان يفعل ذلك خوفًا من الملك الناصر فإنه كان يطلق ثم في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة قدم تنكز إلى القاهرة وأقام بها أيامًا ثم عاد إلى محل ولايته في يوم الخميس ثالث شهر رجب من سنة أربع وثلاثين وسبعمائة‏.‏
وفي هذه السنة أفرج السلطان عن الأمير بهاء الدين أصلم وعن أخيه قرمجي وعن بكتوت القرماني فكانت مدة اعتقال أصلم وقرمجي ست سنين وثمانية أشهر‏.ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس بعد موت قرطاي‏.‏
قلت‏:‏ وإخراج آقوش نائب الكرك المذكور من مصر لأمور منها‏:‏ صحبته مع ألماس ومنها ثقله على السلطان فإن السلطان كان يجله ويحترمه ويقوم له كلما دخل عليه لكبر سنه ومنها معارضته للسلطان فيما يرومه فأخرجه وبعث له بألف دينار وخرج معه برسبغا مسفرًا له فلما أوصله إلى طرابلس وعاد خلع عليه السلطان واستقر به حاجبًا صغيرًا‏.‏
وخلع على الأمير مسعود بن أوحد بن الخطير بدر الدين واستقر حاجبًا كبيرًا عوضًا عن ألماس‏.وورد الخبر على السلطان من بغداد بأن صاحبها أمر النصارى بلبس العمائم الزرق واليهود الصفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السنة الحسنة‏.‏
وفي يوم الأحد رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قبض السلطان على الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي مقدم المماليك بسعاية النشو ناظر الخاص‏.‏ وأنعم بإقطاعه وهي إمرة طبلخاناه على الطواشي سنبل واستقر نائب مقدم المماليك‏.‏
وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد واستقر مقدم المماليك السلطانية مضافًا للأستادارية عوضًا عن عنبر السحرتي كما كان أولًا‏.‏ فلما تولى آقبغا تقدمة المماليك عرض الطباق ووضع فيهم وضرب جماعة من السلاح دارية والجمدارية لامتناعهم عنه ونفاهم إلى صفد فأعجب السلطان ذلك‏.‏
وفي شهر رجب من سنة خمس وثلاثين أفرج السلطان عن الأمير بيبرس الحاجب وكان له في السجن من سنة خمس وعشرين‏.‏ وأفرج أيضًا عن الأمير طغلق التتاري وهو أحد الأمراء الأشرفية وكان له في السجن ثلاث وعشرون سنة فمات بعد أسبوع من قدومه‏.‏ قلت‏:‏ لعله مات من شدة الفرح‏.‏
ثم أفرج السلطان عن الأمير غانم بن أطلس خان وكان له في السجن خمس وعشرون سنة وأفرج عن الأمير برلغي الصغير وله في السجن ثلاث وعشرون سنة وأفرج عن جماعة أخر وهم‏:‏ أيدمر اليونسي أحد أمراء البرجية المظفرية والأمير لاجين العمري والأمير طشتمر أخو بتخاص والأمير بيبرس العلمي وكان من أكابر الأمراء البرجية من حواشي المظفر بيبرس والأمير قطلوبك الأوجاقي والشيخ علي مملوك سلار والأمير تمر الساقي نائب طرابلس أحد المنصورية وكان قبض عليه سنة أربع عشرة والجميع كان حبسهم في ابتداء سلطنة الملك الناصر الثالثة بعد سنة عشر وسبعمائة‏.‏
وأنعم السلطان على تمر الساقي بطبلخاناه بالشام وأنعم على بيبرس الحاجب بإمرة في حلب وأنعم على طشتمر بإمرة بدمشق وعلى أيدمر اليونسي وبلاط بإمرة

في طرابلس‏.‏
ثم في يوم الخميس رابع شهر ربيع الأول أنعم السلطان على ولده أبي بكر بإمرة وركب بشربوش من إسطبل الأمير قوصون وسار من الرميلة إلى باب القرافة فطلع إلى القلعة والأمراء والخاصكية في خدمته وعمل لهم الأمير قوصون مهمًا عظيمًا في إسطبله‏.‏
ثم إن السلطان قبض على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك وهو يوم ذاك نائب طرابلس في نصف جمادى الآخرة وحبس بقلعة صرخد ثم نقل منها في مستهل شوال إلى الإسكندرية ونزل النشو إلى بيته بالقاهرة وأخذ موجوده وموجود حريمه وعاقب أستاداره‏.‏
واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير طينال‏.‏

النشـــو
نقلت قصة النشو إلى صفحة خاصة

 


وفي آخر شهر ربيع الآخر نودي على الذهب أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهمًا وكان بعشرين درهمًا‏.‏
وفي هذه السنة فرغت مدرسة الأمير آقبغا عبد الواحد بجوار الجامع الأزهر وأبلى الناس في عمارتها ببلايا كثيرة منها‏:‏ أن الصناع كان قرر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يومًا في الاسبوع بغير أجرة ثم حمل إليها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية فكانت عمارتها ما بين نهب وسرقة‏.‏
ومع هذا فإنه ما نزل إليها قط إلا وضرب بها أحدًا زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شادًا بها‏.‏
فلما تمت جمع بها القضاة والفقهاء ولم يول بها أحد وكان الشريف المحتسب قدم بها سماطًا بنحو ستة آلاف درهم على أن يلي تدريسها فلم يتم له ذلك‏.‏
ثم إن السلطان نزل إلى خانقاه سرياقوس التي أنشأها في يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الاخر من سنة أربعين وسبعمائة وقد تقدمه إليها الشيخ شمس الدين محمد الأصفهاني وقوام الدين الكرماني وجماعة من صوفية سعيد السعداء‏.‏
فوقف السلطان على باب خانقاه سعيد السعداء بفرسه وخرج إليه جميع صوفيتها ووقفوا بين يديه فسألهم من يختارونه شيخًا لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي فلم يعينوا أحدًا‏.‏
فولى السلطان بها الركن الملطي خادم المجد الأقصرائي المتوفى‏.‏
وانقطع السلطان في هذه الأيام عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يومًا بسبب شغل خاطره لمرض مملوكه يلبغا اليحياوي وملازمته له إلى أن تعافى وعمل السلطان لعافيته سماطًا عظيمًا هائلًا بالميدان وأحضر الأمراء ثم استدعى بعدهم جميع صوفية الخوانق والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف ومد لهم الأسمطة الهائلة‏.‏
وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دين وأخرج للأمير يلبغا المذكور ثلاث حجورة بمائتي ألف درهم وحياصة ذهب مرصعة بالجوهر كل ذلك لعافية يلبغا المذكور‏.‏
ثم في هذه السنة تغير خاطر السلطان على مملوكه الأمير تنكز نائب الشام وبلغ تنكز تغير خاطر السلطان عليه فجهز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر ويخرج هو إليها بعد ذلك بحجة أنه يتصيد‏.‏
فقدم إليه الأمير طاجار الدوادار قبل ذلك في يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة وعتبه وبلغه عن السلطان ما حمله من الرسالة فتغير الأمير تنكز وبدأت الوحشة بينه وبين السلطان وعاد طاجار إلى السلطان في يوم الجمعة تاسع عشر في الحجة فأغرى السلطان على تنكز وقال‏:‏ إنه عزم على الخروج من دمشق‏.‏
فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتك والأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا والأمير أرقطاي والأمير طقزدمر في آخرين وعرفهم أن تنكز قد خرج عن الطاعة وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير جنكلي والأمير بشتك والأمير أرقطاي والأمير أرنبغا أمير جاندار والأمير قماري أمير شكار والأمير قماري أخو بكتمر الساقي والأمير برسبغا الحاجب ومع هذه الأمراء السبعة ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة وخمسون نفرًا من مقدمي الحلقة وأربعمائة من المماليك السلطانية وجلس السلطان وعرضهم‏.‏
ثم جمع السلطان في يوم السبت عشرين ذي الحجة الأمراء جميعهم وحلف المجردين والمقيمين له ولولده الأمير أبي بكر من بعده وطلبت الأجناد من النواحي للحلف فكانت بالقاهرة حركات عظيمة‏.‏
وحمل السلطان لكل مقدم ألف مبلغ ألف دينار ولكل أمير طبلخاناه أربعمائة دينار ولكل مقدم حلقة ألف درهم ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرسًا وقرقلًا وخوذة‏.‏
فاتفق قدوم الأمير موسى بن مهنا فقرر معه السلطان القبض على الأمير تنكز وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كل جهة على تنكز‏.‏ ثم بعث السلطان بهادر حلاوة من طائفة الأوجاقية على البريد إلى غزة وصفد وإلى دمشق بملطفات كثيرة‏.‏
ثم أخرج موسى بن مهنا لتجهيز العربان قلت‏:‏ على قدر الصعود يكون الهبوط ما لتلك الإحسان والعظمة المحبة الزائدة لتنكز قبل تاريخه إلا هذه الهمة العظيمة في أخذه والقبض عليه ولكن هذا شأن الدنيا مع المغرمين بها‏.‏
ثم إن الملك الناصر كثر قلقه من أمر تنكز وتنغص عيشه‏.‏ وخرج العسكر المعين من القاهرة لقتال تنكز في يوم الثلاثاء ثالث عشرين ذي الحجة من سنة أربعين وسبعمائة‏.‏ وكان حلاوة الأوجاقي قدم على الأمير ألطنبغا الصالحي نائب غزة بملطف‏.‏ وفيه أنه استقر في نيابة الشام عوضًا عن تنكز وأن العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق‏.‏
قلت‏:‏ وألطنبغا نائب غزة هو عدو تنكز الذي كان تنكز سعى في أمره حتى عزله السلطان من نيابة حلب وولاه نيابة غزة قبل تاريخه‏.‏ ثئم سار حلاوة الأوجاقي إلى صفد وإلى الشام وأوصل الملطفات إلى أمراء دمشق‏.‏
ثم وصلت كتب ألطنبغا الصالحي إلى أمراء دمشق بولايته نيابة الشام‏.‏ ثم ركب الأمير طشتمر الساقي المعروف بحمص أخضر نائب صفد إلى دمشق في ثمانين فارسًا واجتمع بالأمير قطلوبغا الفخري وسنجر البشمقدار وبيبرس السلاح دار‏.‏
واتفق ركوب الأمير تنكز في ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصى في خواصه للنزهة وبينما هو في ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد فعاد إلى دار السعادة وألبس مماليكه السلاح فأحاط به في الوقت أمراء دمشق ووقع الصوت بوصول نائب صفد فخرج عسكر دمشق إلى لقائه وقد نزل بمسجد القدم‏.‏
فأمر نائب صفد جماعة من المماليك الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه فدخل عليه جماعة منهم تمر الساقي والأمير طرنطاي البشمقدار وبيبرس السلاح دار وعرفوه مرسوم السلطان فأذعن لقلة أهبته للركوب فإن نائب صفد طرقه على حين غفلة باتفاق أمراء دمشق ولم يجتمع على تنكز إلا عدة يسيرة من مماليكه فلذلك سلم نفسه‏.‏
فأخذوه وأركبوه إكديشًا وساروا به إلى نائب صفد وهو واقف بالعسكر على ميدان الحصى فقبض عليه وعلى مملوكيه‏:‏ جنغاي وطغاي وسجنا بقلعة دمشق‏.‏
وأنزل تنكز عن فرسه على ثوب سرج وقيده وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار وتوجه به إلى الكسوة فحصل لتنكز إسهال ورعدة خيف عليه الموت فأقام بالكسوة يومًا وليلة ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة ونزل طشتمر حمص أخضر نائب صفد بالمدرسة النجيبية‏.‏ وتقدم بهادر حلاوة عندما قبض على تنكز ليبشر السلطان بمسك تنكز فوصل إلى بلبيس ليلًا والعسكر نازل بها وعرف الأمير بشتك‏.‏
ثم سار حتى دخل القاهرة وأعلم السلطان الخبر فسر سرورًا زائدًا وكتب بعود العسكر من بلبيس إلى القاهرة ما خلا بشتك وأرقطاي وبرسبغا الحاجب فإنهم يتوجهون إلى دمشق للحوطة على مال تنكز وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جاندار والأمير قماري أمير شكار بالصالحية إلى أن يقدم عليهما الأمير تنكز‏.‏
وعاد جميع العسكر إلى الديار المصرية‏.‏ وسار بشتك ورفيقاه إلى غزة فركب معهم الأمير ألطنبغا الصالحي إلى نحو دمشق فلقوا الأمير تنكز على حسبان فسلموا عليه وأكرموه‏.‏
وكان بشتك لما سافر من القاهرة صحبة العسكر كان في ذلك اليوم فراغ بناء قصره الذي بناه ببين القصرين فلم يدخله برجله واشتغل بما هو فيه من أمر السفر فشرع السلطان في غيبته في تحسين القصر المذكور‏.‏
وكان سبب عمارة بشتك لهذا القصر أن الأمير قوصون لما أخذ قصر بيسري وجدده أحب الأمير بشتك أن يعمل له قصرًا تجاه قصر بيسري ببين القصرين فدل على دار الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح وكانت أحد قصور الخلفاء الفاطميين التي اشتراها من ذريتهم وأنشأ بها الفخري دورًا وإسطبلات وأبقى ما كان بها من المساجد فشاور بشتك السلطان على أخذها فرسم له بذلك فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم وأنعم عليهم‏.‏
وأنعم السلطان عليه بأرض كانت داخلها برسم الفراشخاناه السلطانية‏.‏
ثم أخذ بشتك دار أقطوان الساقي بجوارها وهدم الجميع وأنشأه قصرًا مطلًا على الطريق وارتفاعه أربعون ذراعًا وأساسه أربعون ذراعًا وأجرى إليه الماء ينزل إلى شاذروان إلى بركة به‏.‏
وأخرب في عمله أحد عشر مسجدًا وأربعة معابد أدخلها فيه فلم يحدد منها سوى مسجد رفعه وعمله معلقًا على الشارع‏.‏
وفي هذه الأيام ورد الخبر على السلطان من بلاد الصعيد بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بقوص في مستهل شعبان وأنه قد عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلًا وأثبت قاضي قوص ذلك فلم يمض السلطان عهده وطلب إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله في يوم الاثنين ثالث عشر شهر رمضان واجتمع القضاة بدار العدل على العادة فعرفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم في الخلافة وأمرهم بمبايعته فأجابوا بعدم أهليته وأن المستكفي عهد إلى ولده واحتجوا بما حكم به قاضي قوص فكتب السلطان بقدوم أحمد المذكور‏.‏
وأقام الخطباء بالقاهرة ومصر نحو أربعة أشهر لا يذكرون في خطبتهم الخليفة‏.‏
فلما قدم أحمد المذكور من قوص لم يمض السلطان عهده وطلب إبراهيم وعرفه قبح سيرته فأظهر التوبة منها والتزم سلوك طريق الخير‏.‏
فاستدعى السلطان القضاة وعرفهم أنه قد أقام إبراهيم في الخلافة فأخذ قاضي القضاه عز الدين بن جماعة يعرف السلطان عدم أهليته فلم يلتفت السلطان اليه وقال‏:‏ إنه قد تاب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فبايعوه ولقب بالواثق وكانت العامة تسميه المستعطي فإنه كان يستعطي من الناس ما ينفقه‏.‏  ثم وصل الأمير تنكز إلى الديار المصرية
في يوم الثلاثاء ثامن المحرم سنه إحدى وأربعين وسبعمائة وهو متضعف صحبة الأمير بيبرس السلاح دار وأنزل بالقلعة في مكان ضيق‏.‏ وقصد السلطان ضربه بالمقارع فقام الأمير قوصون في شفاعته حتى أجيب إلى ذلك‏.‏
ثم بعث السلطان إليه يهدده حتى يعترف بما له من المال ويذكر له من كان موافقًا له من الأمراء على العصيان فأجاب بأنه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقي وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة‏.‏
فأمر به السلطان في الليل فأخرج مع المقدم بن صابر وأمير جاندار في حراقة إلى الإسكندرية فقتله بها المقدم بن صابر في يوم الثلاثاء نصف المحرم من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وتأتي بقية أحواله‏.‏
ثم لما وصل الأمير بشتك إلى دمشق قبض على الأمير صاروجا والجيبغا العادلي وسلما إلى الأمير برسبغا فعاقبهما أشد عقوبة على المال وأوقع الحوطة على موجودهما‏.‏
ثم وسط بشتك جنغاي وطغاي مملوكي تنكز وخواصه بسوق خيل دمشق وكان جنغاي المذكور يضاهي أستاذه تنكز في موكبه وبركه ثم أكحل صاروجا وتتبع أموال تنكز فوجد له مايجل وصفه وعملت لبيع حواصله عدة حلق وتولى البيع فيها الأمير ألطنبغا الصالحي نائب دمشق والأمير أرقطاي وهما أعدى عدو لتنكز‏.‏
وكان تنكز أميرًا جليلًا محترمًا مهابًا عفيفًا عن أموال الرعية حسن المباشرة والطريقة إلا أنه كان صعب المراس ذا سطوة عظيمة وحرمة وافرة على الأعيان من أرباب الدولة متواضعًا للفقراء وأهل الخير وأوقف عدة أوقاف على وجوه البر والصدقة‏.‏
وقال الشيخ صلاح الدين الصفدي‏:‏ جلب تنكز إلى مصر وهو حدث فنشأ بها وكان أبيض إلى السمرة أقرب رشيق القد مليح الشعر خفيف اللحية قليل الشيب حسن الشكل ظريفه‏.‏
جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي فاشتراه الأمير لاجين فلما قتل لاجين في سلطنته صار من خاصكية الملك الناصر وشهد معه وقعة وادي الخازندار ثم وقعة شقحب‏.‏ قلت‏:‏ ولهذا كان يعرف تنكز بالحسامي‏.‏
قال‏:‏ وسمع تنكز صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة وسمع كتاب معاني الآثار للطحاوي وصحيح مسلم وسمع من عيسى المطعم وأبي بكر بن عبد الدائم وحدث وقرأ عليه المحدثين ثلاثيات البخاري بالمدينة النبوية‏.‏
قال‏:‏ وكان الملك الناصر أمره إمرة عشرة قبل توجهه إلى الكرك ثم ساق توجهه مع الملك الناصر إلى الكرك وخروجه من الكرك إلى مصر وغيرهما إلى أن قال‏:‏ وولاه السلطان نيابة دمشق في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة فأقام بدمشق نائبًا ثمانيًا وعشرين سنة وهو الذي عمر بلاد دمشق ومد نواحيها وأقام شعائر المساجد بها بعد التتار‏.‏
قلت‏:‏ وأما ماظهر له من الأموال فقد وجد له من التحف السنية ومن الأقمشة مائتا منديل زركش وأربعمائة حياصة ذهب وستمائة كلفتاه زركش ومائة حياصة ذهب مرصعة بالجوهر وثمان وستون بقجة بذلات ثياب زركش وألفا ثوب أطلس ومائتا تخفيفة زركش‏.‏ وذهب مختوم أربعمائة ألف دينار مصرية‏.‏
ووجد له من الخيل والهجن والجمال البخاتي وغيرها نحو أربعة آلاف ومائتي رأس وذلك غير ما أخذه الأمراء ومماليكهم فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهبًا‏.‏
ووجد له من الثياب الصوف ومن النصافي ما لا ينحصر‏.‏ وظفر الأمير بشتك بجوهر له ثمين اختص به‏.‏ وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا بعد ما أخذ لهم من الجوهر واللؤلؤ والزركش شيء كثير‏.‏
وأما أملاكه التي أنشأها فشيء كثير‏.‏
وقال الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي في تاريخه وهو معاصره قال‏:‏ ورد مرسوم شريف إلى دمشق بتقويم أملاك تنكز فعمل ذلك بالعمول وأرباب الخبرة وشهود القيمة وحضرت بذلك محاضر إلى ديوان الإنشاء لتجهز إلى السلطان فنقلت منها ما صورته‏:‏ دار الذهب بمجموعها وإسطبلاتها ستمائة ألف درهم‏.‏ دار الزمرد مائتا ألف وسبعون ألف درهم‏.‏
دار الزردكاش وما معها مائتا ألف وعشرون ألف درهم‏.‏ الدار التي بجوار جامعه بدمشق مائة ألف درهم‏.الحمام التي بجوار جامعه مائة ألف درهم‏.‏ خان العرصة مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم‏.‏ إسطبل حكر السماق عشرون ألف درهم‏.‏
الطبقة التي بجوار حمام ابن يمن أربعة الآف وخمسمائة درهم‏.‏ قيسارية المرحلين مائتا ألف وخمسون ألف درهم‏.‏ الفرن والحوض بالقنوات من غير أرض عشرة آلاف درهم‏.‏ حوانيت التعديل ثمانية آلاف درهم‏.‏ الأهراء من إسطبل بهادر آص عشرون ألف درهم‏.‏ خان البيض وحوانيته مائة ألف وعشرة الآف درهم‏.‏ حوانيت باب الفرج خمسة وأربعون ألف درهم‏.‏
حمام القابون عشرة آلاف درهم‏.‏ حمام العمري ستة آلاف درهم‏.‏ الدهشة والحمام مائتا ألف وخمسون ألف درهم‏.‏ بستان العادل مائة ألف وثلاثون ألف درهم‏.‏ بستان النجيبي والحمام والفرن مائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم بستان الحلبي بحرستا أربعون ألف درهم‏.‏ الحدائق بها مائة ألف وخمسة وستون ألف درهم بستان القوصي بها ستون ألف درهم‏.‏
بستان الدردوزية خمسون ألف درهم الجنينة المعروفة بالحمام بزبدين سبعة الآف درهم‏.‏ بستان الرزاز خمسة وثمانون ألف درهم الجنينة وبستان غيث ثمانية آلاف درهم‏.‏
المزرعة المعروفة بتهامة بها يعني دمشق ستون ألف درهم مزرعة الركن النوبي والعبري مائة ألف درهم الحصة بالدفوف القبلية بكفر بطنا ثلثاها ثلاثون ألف درهم بستان السفلاطوني خمسة وسبعون ألف درهم الفاتكيات والرشيدي والكروم بزملكا مائة ألف درهم وثمانون ألف درهم‏.‏
مزرعة المربع بقابون مائة ألف وعشرة الآف درهم الحصة من غراس غيضة الأعجام عشرون ألف درهم نصف الضيعة المعروفة بزرنية خمسة آلاف درهم غراس قائم في جوار دار الجالق ألفا درهم‏.‏
النصف من خراج الهامة ثلاثون ألف درهم الحوانيت التي قبالة الحمام مائة ألف درهم بيدر تبدين ثلاثة وأربعون ألف درهم الإسطبلات التي عند الجامع ثلاثون ألف درهم أرض خارج باب الفرج ستة عشر ألف درهم القصر وما معه خمسمائة ألف درهم وخمسون ألف درهم ربع ضيعة القصرين ثمانية وعشرون ألف درهم نصف بوابة مائة وثمانون ألف درهم العلانية بعيون الفارسنا ثمانون ألف درهم حصة دير ابن عصرون خمسة وسبعون ألف درهم حصة دويرة الكسوة ألف وخمسمائة درهم الدير الأبيض خمسون ألف درهم العديل مائة ألف وثلاثون ألف درهم حوانيت أيضًا داخل باب الفرج أربعون ألف درهم التنورية اثنان وعشرون ألف درهم‏.‏
الأملاك التي له بحمص‏:‏ الحمام خمسة وعشرون ألف درهم الحوانيت سبعة آلاف درهم السريع ستون ألف درهم الطاحون الراكبة على العاصي ثلاثون ألف درهم زور قبجق خمسة وعشرون ألف دره

م الخان مائة ألف درهم الحمام الملاصقة للخان ستون ألف درهم الحوش الملاصق له ألف وخمسمائة درهم‏.‏
المناخ ثلاثة آلاف درهم الحوش الملاصق للخندق ثلاثة آلاف درهم حوانيت العريضة ثلاثة آلاف درهم الأراضي المحتكرة سبعة آلاف درهم‏.‏
والتي في بيروت‏:‏ الخان مائة وخمسة وثلاثون ألف درهم الحوانيت والفرن مائة وعشرون ألف درهم المصبنة بآلاتها عشرة آلاف درهم الحمام عشرون ألف درهم‏.المسلخ عشرة آلاف درهم الطاحون خمسة آلاف درهم قرية زلايا خمسة وأربعون ألف درهم‏.‏ القرى التي بالبقاع‏:‏ مرج الصفا سبعون ألف درهم التل الأخضر مائة ألف وثمانون ألف درهم المباركة خمسة وسبعون ألف درهم‏.‏ المسعودية مائة ألف درهم‏.‏
الضياع الثلاث المعروفة بالجوهري أربعمائة ألف وسبعون ألف درهم السعادة أربعمائة ألف درهم أبروطيا ستون ألف درهم نصف بيرود والصالحية والحوانيت أربعمائة ألف درهم المباركة والناصرية مائة ألف درهم رأس الماء سبعة وخمسون ألف درهم حصة من خربة روق اثنان وعشرون ألف درهم رأس الماء والدلي بمزارعها خمسمائة ألف درهم حمام صرخد خمسة وسبعون ألف درهم‏.‏ طاحون الغور ثلاثون ألف درهم السالمية ثلاثة آلاف درهم‏.‏
الأملاك بقارا‏:‏ الحمام خمسة وعشرون ألف درهم الهري ستمائة ألف درهم الصالحية والطاحون والأراضي مائتا ألف درهم وخمسة وعشرون ألف درهم‏.‏ راسليها ومزارعها مائة وخمسة وعشرون ألف درهم القضيبة أربعون ألف درهم‏.‏
القريتان المعروفة إحداهما بالمزرعة والأخرى بالبينسية تسعون ألف درهم هذا جميعه خارج عما له من الأملاك على وجوه البر والأوقاف في صفد وعجلون والقدس ونابلس والرملة والديار المصرية‏.‏
وعمر بصفد بيمارستانا مليحًا‏.‏ وعمر بالقدس رباطًا وحمامين وقياسر‏.‏ وله بجلجولية خان مليح وله بالقاهرة دار عظيمة بالكافوري‏.‏ قلت‏:‏ هي دار عبد الباسط بن خليل الآن‏.‏ وحمام وغير ذلك من الأملاك‏.‏ انتهى كلام الشيخ صلاح الدين باختصار‏.‏
أسباب غضب السلطان على تنكز
قلت‏:‏ وكان لتغير السلطان الملك الناصر على تنكز هذا أسباب منها‏:‏ أنه كتب يستأذنه في سفره إلى ناحية جعبر فمنعه السلطان من ذلك لما بتلك البلاد من الغلاء فألح في الطلب والجواب يرد عليه بمنعه حتى حنق تنكز وقال والله لقد تغير عقل أستاذنا وصار يسمع من الصبيان الذين حوله‏.‏ والله لو سمع مني لكنت أشرت عليه بأن يقيم أحدًا من أولاده في السلطنة وأقوم أنا بتدبير ملكه ويبقى هو مستريحًا فكتب بذلك جركتمر إلى السلطان وكان السلطان يتخيل بدون هذا فأثر هذا في نفسه‏.‏
ثم اتفق أن أرتنا نائب بلاد الروم بعث رسولًا إلى السلطان بكتابه ولم يكتب معه كتابًا لتنكز فحنق تنكز لعدم مكاتبته ورد رسوله من دمشق‏.‏ فكتب أرتنا يعرف السلطان بذلك وسأل ألا يطلع تنكز على ما بينه وبين السلطان ورماه بأمور أوجبت شدة تغير السلطان على تنكز‏.‏ ثم اتفق أيضًا غضب تنكز على جماعة من مماليكه فضربهم وسجنهم بالكرك والشوبك فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه إلى الأمير قوصون يتشفع به في الإفراج عنهم من سجن الكرك‏.‏
فكلم قوصون السلطان في ذلك فكتب السلطان إلى تنكز يشفع في جوبان فلم يجب عن أمره بشيء فكتب إليه ثانيًا وثالثًا فلم يجبه‏.‏ فاشتد غضب السلطان حتى قال للأمراء‏:‏ ما تقولون في هذا الرجل هو يشفع عندي في قاتل أخي فقبلت شفاعته وأخرجته من السجن وسيرته إليه يعني طشتمر أخا بتخاص وأنا أشفع في مملوكه ما يقبل شفاعتي وكتب السلطان لنائب الشوبك بالإفراج عن جوبان المذكور فأفرج عنه فكان هذا وما أشبهه الذي غير خاطر السلطان الملك الناصر على مملوكه تنكز‏.‏ انتهى‏.‏

موت أبن السلطان
ثم اشتغل السلطان بموت أعز أولاده الأمير آنوك في يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الآخر بعد مرض طويل ودفن بتربة الناصرية ببين القصرين وكان لموته يوم مهول نزل في جنازته جميع الأمراء وفعلت والدته خوند طغاي خيرات كثيرة وباعت ثيابه وتصدقت بجميع ما تحصل منها‏.‏
ثم إن السلطان ركب في هذه السنة وهي سنة إحدى وأربعين إلى بركة الحبش خارج القاهرة وصحبته عدة من المهندسين وأمر أن يحفر خليج من البحر إلى حائط الرصد ويحفر في وسط الشرف المعروف بالرصد عشر آبار كلى بئر نحو أربعين ذراعًا تركب عليها السواقي حتى يجري الماء من النيل إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة ليكثر بها الماء‏.‏
وأقام الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل فشق الخليج من بحري رباط الآثار ومروا به في وسط بستان الصاحب تاج الدين ابن حنا المعروف بالمعشوق وهدمت عدة بيوت كانت هناك وجعل عمق الخليج أربع قصبات‏.‏
وجمعت عدة من الحجارين للعمل وكان مهمًا عظيمًا‏.‏ ثم أمر السلطان بتجديد جامع راشدة فجدد وكان قد تهدم غالب جدره‏.‏
مــرض السلطان
ثم ابتدأ توعك السلطان ومرض مرض موته فلما كان يوم الاربعاء سادس ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة قوي عليه الإسهال ومنع الأمراء من الدخول عليه فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج إليهم السلام مع أمير جاندار عن السلطان فانصرفوا وقد كثر الكلام‏.‏
ثم في يوم الجمعة ثامنه خف عن السلطان الإسهال فجلس للخدمة وطلع الأمراء إلى الخدمة ووجه السلطان متغير فلما انقضت الخدمة نودي بزينة القاهرة ومصر وجمعت أصحاب الملاهي بالقلعة وجمع الخبز الذي بالأسواق وعمل ألف قميص وتصدق بذلك كله مع جملة من المال‏.‏
وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سرورًا بعافية السلطان وعمل الأمير منكتمر الحجازي نفطًا كثيرًا بسوق الخيل تحت القلعة والسلطان ينظره واجتمع الناس لرؤيته من كل جهة‏.‏
وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال ولعبوا بالرماح تحت القلم وخرجت الركابة والكلابزية وطائفة الحجارين والعتالين إلى سوق الخيل للعب واللهو وداروا على بيوت الأمراء وأخذوا الخلع منهم وكذلك الطبلكية فحصل لهم شيء كثير جدًا بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه ثمانين ألف درهم ولما كان ليلة العيد وهي ليلة الأحد عاشر ذي الحجة وأصبح نهار الأحد اجتمع الأمراء بالقلعة وجلسوا ينتظرون السلطان حتى يخرج لصلاة العيد وقد أجمع رأي السلطان على عدم صلاة العيد لعود الإسهال عليه فإنه كان انتكس في الليلة المذكورة فما زال به الأمير قوصون والأمير بشتك حتى ركب ونزل إلى الميدان‏.‏
وأمر قاضي القضاة عز الدين عبد العزير بن جماعة أن يوجز في خطبته فعندما صلى السلطان وجلس لسماع الخطبة تحرك باطنه فقام وركب وطلع إلى القصر وأقام يومه به‏.‏
وبينا هو في ذلك قدم الخبر من حلب بصحة صلح الشيخ حسن صاحب العراق مع أولاد صاحب الروم فانزعج السلطان لذلك انزعاجًا شديدًا واضطرب مزاجه فحصل له إسهال دموي وأصبح يوم الاثنين وقد منع الناس من الاجتماع به‏.‏
فأشاع الأمير قوصون والأمير بشتك أن السلطان قد أعفى أجناد الحلقة من التجريد إلى تبريز ونودي بذلك وفرح الناس بذلك فرحًا زائدًا إلا أنه انتشر بين الناس أن السلطان قد انتكس فساءهم ذلك‏.‏
ثم أخذ الأمراء في إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة حيث سكنهم إلى القاهرة فآرتجت القاهرة ومادت بأهلها‏.‏

الخلاف بين قوصون وبشتك ونهب الحوانيت
واستعد الأمراء لا سيما قوصون وبشتك فإن كلًا منهما احترز من الآخر وجمع عليه أصحابه‏.‏
وأكثروا من شراء الأزيار والدنان وملأوها ماء وأخرجوا القرب والروايا والأحواض وحملوا إليهم البقسماط والرقاق والدقيق والقمح والشعير خوفًا من وقوع الفتنة ومحاصرة القلعة‏.‏
قكان يومًا مهولًا ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق ونهبوا الحوانيت التي تحت القلعة والتي بالصليبة‏.‏
هذا وقد تنكر ما بين قوصون وبشتك واختلفا حتى كادت الفتنة تقوم بينهما وبلغ ذلك السلطان فازداد مرضًا على مرضه وكثر تأوهه وتقلبه من جنب إلى جنب وتهوس بذكر قوصون وبشتك نهاره‏.‏
ثم استدعى بهما فتناقشا بين يديه في الكلام فأغمي عليه وقاما من عنده على ما هما عليه‏.‏
فاجتمع يوم الاثنين ثامن عشره الأمير جنكلي والأمير آل ملك والأمير سنجر الجاولي وبيبرس الأحمدي وهم أكابر أمراء المشورة فيما يدبرونه حتى اجتمعوا على أن يبعث كل منهم مملوكه إلى قوصون وبشتك ليأخذا لهم الإذن في الدخول على السلطان فأخذا لهم الإذن فدخلوا وجلسوا عند السلطان‏.‏
فقال الجاولي وآل ملك للسلطان كلامًا حاصله أن يعهد بالملك إلى أحد أولاده فأجاب إلى ذلك وطلب ولده أبا بكر وطلب قوصون وبشتك وأصلح بينهما ثم جعل ابنه أبا بكر سلطانًا بعده وأوصاه بالأمراء وأوصى الأمراء به وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك وحذرهم من إقامته سلطانًا‏.‏
وجعل قوصون وبشتك وصييه وإليهما تدبير أمر ابنه أبي بكر وحلفهما‏.‏
ثم حلف الأمراء والخاصكية وأكد على ولده في الوصية بالأمراء وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام وهم‏:‏ طيبغا حاجي والجيبغا العادلي وصاروجا ثم قام الأمراء عن السلطان‏.‏

موت السلطان الملك الناصر بن قلاوون
فبات السلطان ليلة الثلاثاء وقد تخلت عنه قوته وأخذ في النزع يوم الأربعاء فاشتد عليه كرب الموت حتى فارق الدنيا في أول ليلة الخميس حادي عشرين ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام فإن مولده كان في الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة‏.‏
وأمه أشلون بنت سكتاي بن قرا لاجين بن جفتاي التتاري‏.‏ وكان قدوم سكتاي مع أخيه قرمجي من بلاد التتار إلى مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة‏.‏
ثم حمل السلطان الملك الناصر مئتا في محفة من القلعة بعد أن رسم بغلق الأسواق ونزلوا به من وراء السور إلى باب النصر ومعه من أكابر الأمراء بشتك وملكتمر الحجازي وأيدغمش أمير آخور ودخلوا به من باب النصر إلى المدرسة المنصورية ببين القصرين فغسل وحنط وكفن من البيمارستان المنصوري وقد اجتمع الفقهاء والقراء والأعيان ودام القراء على قبره أيامًا‏.‏



وكان متجملًا يقتني من كل شيء أحسنه‏.‏

شراءه للمماليـــــك
أكثر في سلطنته من شراء المماليك والجواري وطلب التجار وبذل لهم الأموال ووصف لهم حلي المماليك والجواري‏.‏
وسيرهم إلى بلاد أزبك خان وبلاد الجاركس والروم‏.‏ وكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له أغلى القيم فيهم فكان يأخذهم ويحسن تربيتهم وينعم عليهم بالملابس الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم فأكثر التجار من جلب المماليك‏.‏
وشاع في الأقطار إحسان السلطان إليهم فأعطى المغل أولادهم وأقاربهم للتجار رغبة في السعادة فبلغ ثمن المملوك على التاجر أربعين ألف درهم وهذا المبلغ جملة كثيرة بحساب يومنا هذا‏.‏
وكان الملك الناصر يدفع للتاجر في المملوك الواحد مائة ألف درهم وما دونها‏.‏

شغفـــه بشراء الخيـــل
وكان مشغوفًا أيضًا بالخيل فجلبت له من البلاد لا سيما خيول العرب آل مهنا وآل فضل فإنه كان يقدمها على غيرها ولهذا كان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب في خيولهم فكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوي أخذوها منه بأغلى القيمة وأخذوا من السلطان مثلي ما دفعوا فيها‏.‏
وكان له في كل طائفة من طوائف العرب عين يدله على ما عندهم من الخيل من الفرس السابق أو الأصيل بل ربما ذكروا له أصل بعضها لعدة جدود حتى يأخذها بأكثر مما كان في نفس صاحبها من الثمن‏.‏
فتمكنت منه بذلك العربان ونالوا المنزلة العظيمة والسعادات الكثيرة‏.‏ وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية في الجودة وما عدا ذلك إذا جلبت إليه فرقها‏.‏
وكان له معرفة تامة بالخيل وأنسابها ويذكر من أحضرها له في وقتها وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير آخور‏:‏ الفرس الفلانية التي أحضرها فلان واشتريتها منه بكذا وكذا وكان إذا جاءه شيء منها عرضها وقلبها بنفسه فإن أعجبته دفع فيها من العشرة آلاف إلى أن اشترى بنت الكرماء بمائتي ألف درهم وهذا شيء لم يقع لأحد من قبله ولا من بعده فإن المائتي ألف درهم كانت يوم ذاك بعشرة آلاف دينار‏.‏
وأما ما اشتراه بمائة ألف وسبعين ألفًا وستين ألفًا وما دونها فكثير‏.‏ وأقطع آل مهنا وآل فضل بسبب ذلك عمة إقطاعات فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئًا قدم عليه في معنى أنه يدله على فرس عند فلان ويعظم أمره فيكتب من فوره بطلب تلك الفرس فيشتد صاحبها ويمتنع من قودها ثم يقترح ما شاء ولا يزال حتى يبلغ غرضه من السلطان في ثمن فرسه‏.‏
وهو أول من اتخذ من ملوك مصر ديوانًا للإسطبل السلطاني وعمل له ناظرًا وشهودًا وكتابًا لضبط أسماء الخيل وأوقات ورودها وأسماء أربابها ومبلغ أثمانها ومعرفة سواسها وغير ذلك من أحوالها‏.‏
وكان لا يزال يتفقد الخيول فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به مع أحد الأوجاقية إلى الجشار بعد مايحمل عليها حصانًا يختاره ويأمر بضبط تاريخه فتوالدت عنده خيول كثيرة حتى أغنته عن جلب ماسواها ومع هذا كان يرغب في الفرس المجلوب إليه أكثر مما توالد عنده‏.‏
فعظم العرب في أيامه لجلب الخيل وشمل الغنى عامتهم وكانوا إذا دخلوا إلى مشاتيهم أوإلى مصايفهم يخرجون بالحلي والحلل والأموال الكثيرة‏.‏ ولبسوا في أيامه الحرير الأطلس المعدني بالطرز الزركش والشاشات المرقومة ولبسوا الخلع البابلي والإسكندري المطرز بالذهب وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصع وعمل لهم العناتر بالأمر الذهب والأساور المرصعة بالجوهر واللؤلؤ وبعث لهن بالقماش السكندري وعمل لهن البراقع الزركش ولم يكن لبسهم قبل ذلك إلا الخشن من الثياب على عادة العرب‏.‏
وأجل ما لبس مهنا أميرهم أيام الملك المنصور لاجين طرد وحش لمودة كانت بين لاجين وبين مهنا بن عيسى فأنكر الأمراء ذلك على الملك المنصور لاجين فاعتذر لهم بتقدم صحبته له وأياديه عنده وأنه أراد أن يكافئه على ذلك‏.‏
وكان الملك الناصر في جشاره ثلاثة آلاف فرس يعرض في كل سنة نتاجها عليه فيدمغها ويسلمها للركابين من العربان لرياضتها ثم يفرق أكثرها على الأمراء الخاصكية ويفرح بذلك ويقول‏:‏ هذه فلانة بنت فلانة أوفلان بن فلان عمرها كذا وشراء أمها بكذا وشراء أبيها بكذا‏.‏
سباق الخيــــل
وكان يرسم للامراء في كل سنة أن يضمروا الخيول ويرتب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس يضمرها‏.‏
ثم يرسم لأمير آخور أن يضمر خيلًا من غير أن يفهم الأمراء أنها للسلطان بل يشيع أنها له ويرسلها للسباق مع خيل الأمراء في كل سنة‏.‏
وكان للأمير قطلوبغا الأفخري حصان أدهم سبق خيل مصر كلها ثلاث سنين متوالية فأرسل السلطان إلى مهنا وأولاده أن يحضروا له الخيل للسباق فأحضروا له عدة وضمروا فسبقهم حصان الفخري الأدهم‏.‏
ثم بعد ذلك ركب السلطان إلى ميدان القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر وهو أماكن الترب الآن وأرسل الخيل للسبق وعدتها دائمًا في كل سنة ماينيف على مائة وخمسين فرسًا‏.‏
وكان مهنا بعث للسلطان حجرة شهباء للسباق على أنها إن سبقت كانت للسلطان وإن سبقت ردت إليه بشرط ألا يركبها للسباق إلا بدويها الذي قادها إلى مصر‏.‏
فلما ركب السلطان والأمراء على العادة ووقفوا ومعهم أولاد مهنا بالميدان وأرسلت الخيول من بركة الحاج كما جرت به العادة وركب البدوي حجرة مهنا الشهباء عريًا بغير سرج ولبس قميصًا ولاطئة فوق رأسه‏.‏
وأقبلت الخيول يتبع بعضها بعضًا والشهباء قدام الجميع وبعدها على القرب منها حصان الأمير أيدغمش أمير اخور يعرف بهلال فلما وقف البدوي بالشهباء بين يدي السلطان صاح بصوت ملأ الخافقين‏:‏ ‏"‏ السعادة لك اليوم يامهنا لاشقيت ‏"‏ وألقى بنفسه إلى الأرض من شدة التعب فقدمها مهنا للسلطان فكان هذا دأب الملك الناصر في كل سنة من هذا الشأن وغيره‏.‏
قلت‏:‏ وترك الملك الناصر في جشاره ثلاثة آلاف فرس وترك بالإسطبلات السلطانية أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس ما بين حجورة ومهارة وفحولة وأكاديش وترك من الهجن الأصائل والنياق نيفًا على خمسة آلاف سوى أتباعها‏.‏
وأما الجمال النفر والبغال فكثير‏.‏
شغفـــه بالصيــــد
وكان الملك الناصر أيضًا شغوفًا بالصيد فلم يدع أرضًا تعرف بالصيد إلا وأقام بها صيادين مقيمين بالبرية أوان الصيد‏.‏
وجلب طيور الجوارح من الصقورة والشواهين والسناقر والبزاة حتى كثرت السناقر في أيامه‏.‏ وصار كل أمير عنده منها عشرة سناقر وأقل و كثر‏.‏
وجعل له البازدارية وحراس الطير وما هو موجود بعضه الآن وأقطعهم الإقطاعات الجليلة وأجرى لهم الرواتب من اللحم والعليق والكساوي وغير ذلك‏.‏
ولم يكن ذلك قبله لملك فترك بعد موته مائة وعشرين سنقرًا ولم يعهد بمثل هذا لملك قبله بل كان لوالده الملك المنصور قلاوون سنقر واحد وكان المنصور إذا ركب في المركب للصيد كان بازداره أيضًا راكبًا والسنقر على يده‏.‏ وترك الملك الناصر من الصقورة والشواهين ونحوها ما لاينحصر كثرة‏.‏
وترك ثمانين جوقة كلاب بكلابزنتها وكان أخلى لها موضعًاأ بالجبل‏.‏
رعايته للأغنـــام  والأوز
وعني أيضًا بجمع الأغنام وأقام لها خولة‏.‏
وكان يبعث في كل سنة الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من المماليك لكشفها فيكشف المراحات من قوص إلى الجيزة ويأخذ منها ما يختاره من الأغنام وجرده مرة إلى عيذاب والنوبة لجلب الأغنام‏.‏
ثم عمل لها حوشًا بقلعة الجبل وقد ذكرنا ذلك في وقته وأقام لها خولة نصارى من الأسرى‏.‏
وعني أيضًا بالإوز وأقام لها عدة من الخدام وجعل لها جانبًا بحوش الغنم‏.‏
ولما مات ترك ثلاثين ألف رأس من الغنم سوى أتباعها‏.‏
فاقتدى به الأمراء وصارت لهم الأغنام العظيمة في غالب أرض مصر‏.‏
وكان كثير العناية بأرباب وظائفه وحواشيه من أمراء اخورية والأوجاقية وغلمان الإسطبل والبازداردة والفراشين والخولة والطباخين‏.‏
فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مما رتبه له في كل سنة مع أمير آخور وأوجاقي وسايس وركبدار ويترقب عودهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم فإن شح الأمير في عطاياتهم تنكر عليه وبكته بين الأمراء ووبخه وكان قرر أن يكون الأمير آخور بينهم بقسمين ومن عداه بقسم واحد‏.‏
وكان أيضًا إذا بعث لأمير بطير مع أمير شكار أو واحد من البازدارية يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كاملة بحياصة ذهب وكلفتاه زركش فيعود بها ويقبل الأرض بين يديه فيستدنيه ويفتش خلعته‏.‏
وكانت عادته أن يبعث في يوم النحر أغنام الضحايا مع الأبقار والنوق إلى الأمراء فبعث مرة مع بعض خولة النصارى إلى الأمير يلبغا حارس طيره ثلاثة كباش فأعطاه عشرة دراهم فلوسًا وعاد إلى السلطان فقال له‏:‏ ‏"‏ وأين خلعتك ‏"‏‏.‏
فطرح الفلوس بين يديه وعرفه بقدرها فغضب وأمر بعض الخدام أن يسير بالخولي إلى عنده ويوبخه ويأمره أن يلبسه خلعة طرد وحش‏.‏
وكانت حرمته ومهابته وافرة قد تجاوزت الحد حتى إن الأمراء كانوا إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدث مع رفيقه ولا يلتفت نحوه خوفًا من مراقبة السلطان لهم‏.‏ وكان لا يجسر أحد أن يجتمع مع خشداشه في نزهة ولا غيرها‏.

غـــزوات السلطان الملك الناصر
وكان له المواقف المشهودة منها لما لقي غازان على فرسخ من حمص وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏
ثم كانت له الوقعة العظيمة مع التتار أيضًا بشقحب وأعز الله تعالى فيها الإسلام وأهله ودخلت عساكره بلاد سيس وقرر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم في السنة بعد ما غزاها ثلاث مرار‏.‏
وغزا ملطية وأخذها وجعل عليها الخراج ومنعوه مرة فبعث العساكر إليها حتى أطاعوه‏.‏ وأخذ مدينة آياس وخرب البرج الأطلس وسبعة حصون وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد‏.‏ وأخذ جزيرة أرواد من الفرنج‏.‏
وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة وحديثة في طلب مهنا‏.‏ وجرد إلى مكة والمدينة العساكر لتمهيدها غير مرة ومنع أهلها من حمل السلاح بها‏.‏ وعمر قلعة جعبر بعد خرابها وأجرى نهر حلب إلى المدينة‏.‏ وخطب له بماردين وجبال الأكراد وحصن كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق وهو بكرسي مصر‏.‏
 صفات الملك الناصر وهدايا الملوك
وأتته هدية ملوك الغرب والهند والصين والحبشة والتكرور والروم والفرنج والترك‏.‏
وكان رحمه الله على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا في انبساطه مع عظيم ملكه وطول مدته في السلطنة وكثرة حواشيه وخدمه‏.‏
وكان يدعو الأمراء والأعيان وأر

باب الوظائف بأحسن أسمائهم وأجل ألقابهم وكان إذا غضب على أحد لا يظهر له ذلك‏.‏
وكان مع هذه الشهامة وحب التجمل مقتصدًا في ملبسه يلبس كثيرًا البعلبكي والنصافي المتوسط ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر ويركب بسرج مسقط بفضة التي زنتها دون المائة درهم وعباءة فرسه إما تدمري أوشامي ليس فيها حرير‏.‏
وكان مفرط الذكاء يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم ويعرف بهم الأمراء خشداشيتهم فيتعجبون الأمراء من ذلك وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم واحد منهم ولا وظيفته عنده ولامبلغ جامكيته هذا مع كثرتهم‏.‏
وكان أيضًا يعرف غلمانه حاشيته على كثرة عددهم ولا يفوته معرفة أحد من الكتاب فكان إذا أراد أن يولي أحدًا مكانًا أو يرتبه في وظيفة استدعى جميع الكتاب بين يديه واختار منهم واحدًا أو أكثر من واحد من غير أن يراجع فيهم ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف‏.‏
وكان إذا تغير على أحد من أمرائه أو كتابه أسر ذلك في نفسه وتروى في ذلك مدة طويلة وهو ينتظر له ذنبًا يأخذه به كما وقع له في أمر كريم الدين الكبير وأرغون النائب وغيرهم وهو يتأنى ولا يعجل حتى لا ينسب إلى ظلم فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر أو وقع في أيامه خراب أوخلل ويحرص على حسن القالة فيه‏.‏
وكان يستبد بأمور مملكته وينفرد بالأحكام حتى إنه أبطل نيابة السلطنة من ديار مصر ليستقل هو بأعباء الدولة وحده‏.‏
وكان يكره أن يقتدي بمن تقدمه من الملوك فمن أنشأه من الملوك كائنًا من كان ولايدخلهم المشورة حتى ولا بكتمر الساقي ولا قوصون ولا بشتك وغيرهم بل كان لا يقتدي إلا بالقدماء من الأمراء‏.‏
وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه ويبعد من يشربه من الأمراء عنه‏.‏
وكان في الجود والكرم والإفضال غاية لاتدرك خارجة عن الحد وهب في يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهبًا وأعطى في يوم واحد لأربعة من مماليكه وهم الأمير ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وملكتمر الحجازي وقوصون مائتي ألف دينار ولم يزل مستمر العطاء لخاصكيته ومماليكه ما بين عشرة آلاف دينار وأكثر منها وأقل ونحوها من الجوهر واللآلىء‏.‏ وبذل في أثمان الخيل والمماليك ما لم يسمع بمثله‏.‏
وجمع من المال والجوهر والأحجار ما لم يجمعه ملك من ملوك الدولة التركية قبله مع فرط كرمه‏.‏
قلت‏:‏ كل ذلك لحسن تدبيره وعظم معرفته فإنه كان يدري مواطن استجناء المال فيستجنيه منها ويعرف كيف يصرفه في محله وأغراضه فيصرفه‏.‏ ولم يشهر عنه أنه ولي قاض في أيامه برشوة ولا محتسب ولا وال بل كان هو يبذل‏.‏
لهم الأموال ويحرضهم على عمل الحق وتعظيم الشرع الشريف وهذا بخلاف من جاء بعده فإن غالب ملوك مصر ممن ملك مصر بعده يقتدي بشخص من أرباب وظائفه فيصير ذلك الرجل هو السلطان حقيقة والسلطان من بعض من يتصرف بأوامره وكل ذلك لقصر الإدراك وعدم المعرفة فلذلك يتركون الأموال الجليلة والأسباب التي يحصل منها الألوف المؤلفة ويلتفتون إلى هذا النزر اليسير القبيح الشنيع الذي لا يرتضيه من له أدنى همة ومروءة وهو الأخذ من قضاة الشرع عند ولايتهم المناصب وولاة الحسبة والشرطة وذلك كله وإن تكرر في السنة فهو شيء قليل جدًا يتعوض من أدنى الجهات التي لا يؤبه إليها من أعمال مصر فلو وقع ذلك لكان أحسن في حق الرعية وأبرأ لذمة السلطان والمسلمين من ولاية قضاة الشرع بالرشوة وما يقع بسبب ذلك في الأنكحة والعقود والأحكام وما أشبه ذلك‏.‏ انتهى‏.‏


وكان الملك الناصر يرغب في أصناف الجوهر فجلبتها إليه التجار من الأقطار‏.‏ وشغف بالجواري الراري فحاز منهن كل بديعة الجمال‏.‏
غنى وثروة الملك الناصر
وجهز إحدى عشرة ابنة له بالجهاز العظيم فكان أولهن جهازًا بثمانمائة ألف دينار منها قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلق به مائة ألف دينار وبقية ذلك ما بين جواهر ولألىء وأواني ونحو ذلك وزوجهن لمماليكه مثل الأمير قوصون وبشتك وألطنبغا المارداني وطغاي تمر وعمر بن أرغون النائب وغيرهم‏.‏
وجهز جماعة من سراريه وجواريه ومن تحسن بخاطره كل واحدة بقريب ذلك وبمثله وأكثر منه‏.‏ واستجد النساء في زمانه الطرحة كل طرحة بعشرة آلاف دينار وبما دون ذلك إلى خمسة آلاف دينار والفرجيات بمثل ذلك‏.‏ واستجد النساء في زمانه الخلاخيل الذهب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذهب المرضعة والأزر والحرير وغير ذلك‏.‏
وكان الملك الناصر كثير الدهاء مع ملوك الأطراف يهاديهم ويستجلبهم إلى طاعته بالهدايا والتحف حتى يذعنوا له فيستعملهم في حوائجه ويأخذ بعضهم ببعض‏.‏ وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداوية لكثرة بذله لهم الأموال‏.‏
وكان يحب العمارة فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمر العمارة فحسب تقدير مصروفه فجاء في كل يوم مدة هذه السنين ثمانية آلاف درهم قوم ذلك بطالة على عمل والسفر والحضر والعيد والجمعة‏.‏
وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم فإذا رأى منها ما لا يعجبه هدمها كلها وجددها على ما يختاره‏.‏ ولم يكن من قبله من الملوك في الإنفاق على العمائر كذلك‏.‏

وقد حكي عن والده الملك المنصور قلاوون أنه أراد أن يبني مصطبة عليها رفرف تقيه حر الشمس إذا جلس عليها فكتب له الشجاعي تقدير مصروفها أربعة آلاف درهم فتناول المنصور الورقة من يد الشجاعي ومزقها وقال‏:‏ أقعد في مقعد بأربعة آلاف درهم انصبوا لي صيوانًا إذا نزلت على المصطبة‏.‏
ومع هذا كله خفف الملك الناصر في بيت المال من الذهب والقماش أضعاف ما خلفه المنصور قلاوون‏.‏ وكانت المظالم أيام الملك المنصور قلاوون أكثر مما كانت في أيام الناصر هذا‏.‏ قلت‏:‏ عود وانعطاف إلى ما كنا فيه من أن الأصل في تدبير الملك وتحصيل الأموال المعرفة والذكاء وجودة التنفيذ‏.‏ انتهى‏.‏
قلت‏:‏ والملك المنصور قلاوون كان أسمح من الملك الظاهر بيبرس البندقداري وأقل ظلمًا‏.‏
والحق يقال ليس الظاهر والمنصور من خيل هذا الميدان ولا بينهما وبين الملك الناصر هذا نسبة هذا على أن الملك الناصر لما عمل الروك الناصري أبطل مظالم كثيرة من الضمانات والمكوس وغيرها
مآدب السلطان الملك الناصر
وكان الملك الناصر واسع النفس على الطعام يعمل في سماطه في كل يوم الحلاوات والمآكل المفتخرة وأنواع الطير وبلغ راتب سماطه في كل يوم وراتب مماليكه من اللحم ستة وثلاثين ألف رطل لحم في اليوم سوى الدجاج والإوز والرمسان والجدي المشوي والمهارة وأنواع الوحوش كالغزلان والأرانب وغيره‏.‏
تعمير مصـــر فى عهد الملك الناصر
واستجد في أيامه عمائر كثيرة منها‏:‏ حفر خليج الإسكندرية حفروه في مدة أربعين يومًا‏.‏
عمل فيه نحو المائة ألف رجل من النواحي‏.‏
واستجد عليه عدة سواقي وبساتين في أراض كانت سباخًا فصارت مزارع قصب سكر وسمسم وغيره‏.‏
وعمرت هناك الناصرية ونقل إليها المقداد بن شماس وأولاده وعدة أولاده مائة ولد ذكر‏.‏
واستمر الماء في خليج الإسكندرية طول السنة وفرح الناس بهذا الخليج فرحًا زائدًا وعظمت المنافع به‏.‏
وأنشأ الميدان تحت قلعة الجبل وأجرى له المياه وغرس فيه النخل والأشجار ولعب فيه بالكرة في كل يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصكية وأولاد الملوك‏.‏
وكان الملك الناصر يجيد لعب الكرة إلى الغاية بحيث إنه كان لا يدانيه فيها أحد في زمانه إلا إن كان ابن أرغون النائب‏.‏
ثم عمر فوق الميدان هذا القصر الأبلق وأخرب البرج الذي كان عمره أخوه الأشرف خليل على الإسطبل وجعل مكانه القصر المذكور وعمر فوقه رفرفًا وعمر بجانبه برجًا نقل إليه المماليك‏.‏
وغير باب النحاس من قلعة الجبل ووسع دهليزه‏.‏
وغمر في الساحة تجاه الإيوان طباقًا للأمراء الخاصكية وغير عمارة الإيوان مرتين ثم في الثالثة أقره على ما هو عليه الآن وحمل إليه الغمد الكبار من بلاد الصعيد فجاء من أعظم المباني الملوكية ورتب خدمته بالإيوان بأنواع مهولة عجيبة مزعجة لمن يقدم من رسل الملوك يطول الشرح في ذكر ترتيب ذلك‏.‏
ثم رتب خدم القصر ومشديه وما كان يفرش فيه من أنواع البسط والستائر وكيفية حركة أرباب الوظائف فيه‏.‏
ثم عمر بالقلعة أيضًا دورًا للأمراء الذين زوجهم لبناته وأجرى إليها المياه وعمل بها الحمامات وزاد في باب القلة من القلعة بابًا ثانيًا‏.‏
وعمر جامع القلعة والقاعات السبع التي تشرف على الميدان لأجل سراريه‏.‏
وعمر باب القرافة‏.‏ وكان غالب عمائره بالحجارة خوفًا من الحريق‏.‏
وعزم على أن يغير باب المدرج ويعمل له دركاه فمات قبل ذلك‏.‏
وعمر بالقلعة حوش الغنم وحوش البقر وخوش المعزى فأوسع فيها نحو خمسين فدانًا‏.‏
وعمر الخانقاه بناحية سرياقوس ورتب فيها مائة صوفي لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه‏.‏
قلت‏:‏ وقد صارت الخانقاه الآن مدينة عظيمة‏.‏ انتهى‏.‏
قال‏:‏ وعمر القصور بسرياقوس وعمل لها بستانًا حمل إليه الأشجار من دمشق وغيرها فصار بها عامة فواكه الشام‏.‏
وحفر الخليج الناصري خارج القاهرة حتى أوصله بسرياقوس وعمر على هذا الخليج أيضًا عدة قناطر وصار بجانبي هذا الخليج عدة بساتين وأملاك‏.‏
وعمرت به أرض الطبالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا‏.‏
وعمرت جزيرة الفيل وناحية بولاق بعد ماكانت رمالًا يرمي بها المماليك النشاب وتلعب الأمراء بها الكرة فصارت كلها دورًا وقصورًا وجوامع وأسواقًا وبساتين وبلغت البساتين بجزيرة الفيل في أيامه مائة وخمسين بستانًا بعد ما كانت نحو العشرين بستانًا‏.‏
واتصلت العمائر من ناحية منية الشيرج على النيل إلى جامع الخطيري إلى حكر بن الأثير وزريبة قوصون وإلى منشأة المهراني إلى بركة الحبش حتى كان الإنسان يتعجب لذلك فإنه كان قبل ذلك بمدة يسيرة تلالًا ورمالًا وحلفاء فصار لا يرى قدر ذراع إلا وفيه بناء‏.‏ كل ذلك من محبة السلطان للتعمير‏.‏
 قيل إنه كان إذا سمع بأحد قد أنشأ عمارة بمكان شكره في الملأ وأمده في الباطن بالمال والآلات وغيرها فعمرت مصر في أيامه وصارت أضعاف ما كانت كما سيأتي ذكره من الحارات والحكورة والأماكن‏.‏
فمما عمر في أيامه أيضًا القطعة التي فيما بين قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى باب القرافة طولًا وعرضًا بعد ما كانت فضاء لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدام فكان يحصل هناك أيام السباق اجتماعات جليلة للتفرج على السباق إلى أن أنشأ الأمير بيبغا التركماني تربته بها وشكره السلطان‏.‏ فأنشأ الناس فيه تربًا حتى صارت كما ترى‏.‏
قلت‏:‏ وكذا وقع أيضًا في زماننا هذا بالساحة التي كانت تجاه تربة الملك الظاهر برقوق أعني المدرسة الناصرية بالصحراء فإنها كانت في أوائل الدولة الأشرفية برسباي ساحة كبيرة يلعب فيها المماليك السلطانية بالرمح وهي الآن كما ترى من العمائر‏.‏ وكذا وقع أيضًا بالساحة التي كانت من جامع أيدمر الخطيري على ساحل بولاق إلى بيت المقر الكمال بن البارزي فإن الملك المؤيد شيخ جلس في حدود سنة عشرين وثمانمائة ببيت القاضي ناصر الدين ين البارزي والد كمال الدين المذكور بساحة بولاق وساقت الرماحة المحمل قدامه بالساحة المذكورة وهي الآن كما هي من الأملاك‏.‏
وكذلك وقع أيضًا بخانقاه سرياقوس وأنها كانت ساحة عظيمة من قدام خانقاه الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الترجمة إلى الفضاء حتى عمر بها الأمير سودون بن عبد الرحمن مدرسته في حدود سنة ست وعشرين وثمانمائة فكان ما بين المدرسة العبد الرحمانية المذكورة وبين باب الخانقاه الناصرية ميدان كبير‏.‏ انتهى‏.‏
وعمر أيضًا في أيامه الصحراء التي ما بين قلعة الجبل وخارج باب المحروق إلى تربة الظاهر برقوق المقدم ذكرها‏.‏
وأول من عمر فيها الأمير قراسنقر تربته وعمر بها حوض السبيل يعلوه مسجد‏.‏ ثم اقتدى به جماعة من الأمراء والخوندات والأعيان مثل خوند طغاي عمرت بها تربتها العظيمة ومثل طشتمر حمص أخضر الناصري ومثل طشتمر طلليه الناصري وغيرهم‏.‏
وكان هذا الموضع ساحة عظيمة وبه ميدان القبة من عهد الملك الظاهر بيبرس برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به برسم سباق الخيل فلما عمر قراسنقر تربته عمر الناس بعده حتى صارت الصحراء مدينة عظيمة‏.‏
وعمر الملك الناصر أيضًا لمماليكه عدة قصور خارج القاهرة وبها منها قصر الأمير طقتمر الدمشقي بحدرة البقر وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم فلما مات طقتمر أنعم به على الأمير طشتمر حمص أخضر فزاد في عمارته‏.‏
ومنها قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل بالقرب من الكبش فعمل أساسه أربعين ذراعًا وارتفاعه أربعين ذراعًا فزاد مصروفه على ألف ألف درهم ومنها الكبش حيث كان عمارة الملك الصالح نجم الدين أيوب فعمله الملك الناصر سبع قاعات برسم بناته ينزلون فيه للفرجة على ركوب السلطان للميدان الكبير‏.‏
ومنها إسطبل الأمير قوصون بسوق الخيل تحت القلعة تجاه باب السلسلة وكان أصله إسطبل الأمير سنجر البشمقدار وسنقر الطويل‏.‏
ومنها قصر بهادر الجوباني بجوار زاوية البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش‏.‏
ومنها قصر قطلوبغا الفخري وقصر ألطنبغا المارداني وقصر يلبغا اليحياوي و هؤلاء أجل ماعمر من القصور وهم موضع المدرسة الناصرية الحسنية أخذهم الملك الناصر حسن وهدمهم وعمر مكان ذلك مدرسته المشهورة به‏.‏
وعمر في أيامه الأمراء عدة دور وقصور منها‏:‏ دار الأمير أيدغمش أمير آخور وقصر بشتك وغيره‏.‏
وكان الملك الناصر له عناية كبيرة ببلاد الجيزة حتى إنه عمل على كل بلد جسرًا وقنطرة وكانت قبل ذلك أكثر بلادها تشرق لعلوها فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة أقام العمل فيه مدة شهرين وهو الذي أقترحه فحبس الماء حتى رده على تلك الأراضي وعم النفع بها جميع أهل الجيزة‏.‏ ومن يومئذ قوي بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحرًا يتصل بالجيزة‏.‏ وخرج في أراضي الجيزة عدة مواضع وزرعت بعد ما كانت شاسعة وأخذ من هذه الأراضي قوصون وبشتك وغيرهما عدة أراض عمروها ووقفوها‏.‏ واستجد السلطان على بقية الأراضي ثلاثمائة جندي‏.‏
قلت‏:‏ هذا وأبيك العمل وأين هذا من فعل غيره ينظر إلى أحسن البلاد فيأخذها ويوقفها فيخربها النظار بعد سنين فالفرق واضح لايحتاج إلى بيان‏.‏
وهذا الذي أشرنا إليه من أن الملك إذا كان له معرفة حصل له أغراضه من جمع المال من هذا الوجه وغيره ولا يحتاج لأخذ الرشوة من الحكام والإفحاش في أخذ المكوس وغيرها ومثل ذلك فكثير‏.‏
واستجدت في أيام الملك الناصر عدة أراض أيضًا بالشرقية ونواحي فوة وغيرها أقطعت للأجناد وكانت قبل ذلك بسنين كثيرة خرابًا لاينتفع بها‏.‏
وعمل أيضًا سد شبين الفصر فزاد بسببه خراج الشرقية زيادة كثيرة‏.‏
وعمل جسرًا خارج القاهرة حتى رد النيل عن منية الشيرج وغيرها فعمر بذلك عدة بساتين بجزيرة الفيل وأحكم عامة أراضي مصر قبليها وبحريها بالتراع والجسور حتى أتقن أمرها‏.‏
ركان يركب إليها برسم الصيد كل قليل ويتفقد أحوالها بنفسه وينظر ف

ي جسورها وتراعها وقناطرها بحيث إنه لم يدع في أيامه موضعًا منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه‏.‏
وكان له سعد في جميع أعماله فكان يقترح المنافع من قبله بعد أن كان يزهده فيما يأمر به حذاق المهندسين ويقول بعضهم‏:‏ يا خوند الذين جاؤوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصح فعلوه فلا يلتفت إلى قولهم ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد فتأتيه أغراضه على ما يحدث وزيادة فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم‏.‏
وكان إذا سمع بشراقي بلد أو قرية من القرى أهمه ذلك وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرة بل كلما وقع بصره عليه ولا يزال يفحص عن ذلك حتى يتوصل إلى ريها بكل ما تصل قدرته إليه‏.‏
كل ذلك وصاحبها لايسأله في شيء من أمرها فيكلمه بعض الأمراء في ذلك فيقول‏:‏ هذه قريتي وأنا الملزوم بها والمسؤول عنها فكان هذا دأبه‏.‏
وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد في عمل مصلحة بلده بسبب عمل جمر أو تقاوي أو غير ذلك وينبل ذلك الرجل في عينه ويفعل له ماطلبه من غير توقف ولاملل في إخراج المال فإن كلمه أحد في ذلك يقول‏:‏ فلم نجمع المال في بيت مال المسلمين إلا لهذا المعنى وغيره فهذه كانت عوائده‏.‏
وأنشأ الملك الناصر بالديار المصرية الميدان الكبير على النيل وخرب ميدان اللوق الذي كان عمره الظاهر بيبرس وعمله بستانًا وقد تقدم ذكره‏.‏
ثم أنعم السلطان بالبستان المذكرر على الأمير قوصون فبنى قوصون تجاهه زريبته المعروفة بزريبة قوصون بنيانًا ووقفه واقتدى الأمراء بقوصون في العمارة‏.‏
ثم أخذ قوصون بستان الأمير بهادر رأس نوبة وحكره للناس ومساحته خمسة عشر فدانًا فبنوه دورًا على الخليج فعرف بحكر قوصون‏.‏
وحكر السلطان حول البركة الناصرية أراضي البستان فعمروها الناس وسكنوا فيه‏.‏ ثم حكر الأمير طقزدمر الحموي الناصري بستانًا بجوار الخليج مساحته ثلاثون فدانًا وبنى له قنطرة عرفت به وعمل هناك حمامًا وحوانيت أيضًا فصار حكرًا عظيم المساكن‏.‏
قلت‏:‏ وطقزدمر هذا هو الذي جدد الخطبة بالمدرسة المعزية الأيبكية على النيل بمصر القديمة‏.‏
ثم حكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستانًا بجوار بركة قارون ظاهر القاهرة فعمره عمارة كبيرة وأخذ بقية الأمراء جميع ماكان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها وحكرت دادة السلطان الملك الناصر الست حدق والست مسكة القهرمانة حكرين عرفا بهما‏.‏
وأنشأت كل واحدة منهما في حكرها جامعًا تقام به الجمعة فزادت الأحكار في أيام الملك الناصر على ستين حكرًا وبهذا اتصلت العمائر من باب زويلة إلى سد مصر بعد ماكانت ساحة مخيفة‏.‏

تعمير الجوامع
 وعمرت في أيامه بالديار المصرية عدة جوامع تقام فيها الخطب زيادة على ثلاثين جامعًا منها‏:‏ الجامع الناصري بقلعة الجبل جدده وأوسعه ومنها الجامع الجديد الناصري أيضًا على نيل مصر ومنها جامع الأمير طيبرس الناصري نقيب الجيش على النيل بجوار خانقاته وقد ذهب أثر هذا الجامع المذكور من سنين ثم عمر طيبرس المذكور مدرسته المشهورة به بجوار الجامع الأزهر ولما خرب جامعه المذكور الذي كان على النيل نقل الصوفية الذين كانوا به إلى المدرسة المذكورة‏.‏ انتهى‏.‏
ومنها جامع المشهد النفيسي لا أعلم من بناه ومنها جامع الأمير بدر الدين محمد الئركماني بالقرب من باب البحر ثم جامع الأمير كراي المنصوري بآخر الحسينية وجامع كريم الدين خلف الميدان وجامع شرف الدين الجاكي بسويقة الريش وجامع الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة الفيل وجامع آخر خلف خص الكيالة ببولاق وجامع ثالث بالروضة وجامع أمير حسين بالحكر وبنى له قنطرة على الخليج بالقرب منه وجامع الأمير قيدان الرومي بقناطر الإوز وجامع دولة شاه مملوك العلائي بكوم الريش وجامع الأمير ناصر الدين الشرابيشي الحزاني بالقرافة وجامع الأمير آقوش نائب الكرك بطرف الحسينية بالقرب من الخليج وجامع الأمير آق سنقر شاد العمائر قريبًا من الميدان وجامع خارج باب القرافة عمرة جماعة من العجم وجامع التوبة بباب البرقية عمره مغلطاي أخو الامير ألماس وجامع بنت الملك الظاهر بالجزيرة المستجدة المعروفة بالوسطانية وجامع الأمير ألماس الناصري الحاجب بالقرب من حوض ابن هنس بالشارع الأعظم خارج القاهرة وجامع الأمير قوصون الناصري بالقرب منه أيضًا على الشارع خارج القاهرة وله أيضًا جامع وخانقاه خارج باب القرافة وجامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري بساحل بولاق وجامع أخي صاروجا بشون القصب وجامع الأمير بشتك الناصري على بركة الفيل تجاه خانقاته وجامع الأمير آل ملك بالحسينية وجامع الست حدق الدادة فيما بين السد وقناطر السباع وجامع الست مسكة قريبًا من قنطرة آق سنقر وجامع الأمير ألطنبغا المارداني خارج باب زويلة وجامع المظفر بسويقة الجميزة من الحسينية وجامع جوهر السحرتي قريبًا من باب الشعرية وجامع فتح الدير محمد بن عبد الظاهر بالقرافة‏.‏
الجوارى وأولاد الملك الناصر بن قلاوون
وكان الملك الناصر في آخر أيامه شغف بحب الجواري المولدات وحملن إليه فزادت عدتهن عنده على ألف ومائتي وصيفة‏.‏
وخلف من الأولاد الذكور أبا بكر ومحمدًا وإبراهيم وعليًا وأحمد وكجك ويوسف وشعبان وإسماعيل ورمضان وحاجي وحسينًا وحسنًا وصالحًا‏.‏
وتسلطن من ولده لصلبه ثمانية‏:‏ أبو بكر وكجك وأحمد وإسماعيل وشعبان وحاجي وحسن وصالح ثم حسن ثانيًا حسب مايأتي ذكر ذلك كله في محله إن شاء الله تعالى‏.‏
وخلف من البنات سبعًا‏.‏
قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه‏:‏ وكان الملك الناصر ملكًا عظيمًا محظوظًا مطاعًا مهيبًا ذا بطش ودهاء وحزم شديد وكيد مديد قلما حاول أمرًا فانخرم عليه فيه شيء يحاوله إلأ أنه كان يأخذ نفسه فيه بالحزم البعيد والاحتياط‏.‏ أمسك إلى أن مات مائة وخمسين أميرًا‏.‏ وكان يصبر الدهر الطويل على الإنسان وهو يكرهه‏.‏
تحدث مع الأمير أرغون الدوادار في إمساك كريم الدين الكبير قبل القبض عليه بأربع سنين وهم بإمساك تنكز لما ورد من الحجاز في سنة ثلاث وثلاثين بعد موت بكتمر الساقي ثم إنه أمهله ثماني سنين بعد ذلك‏.‏ وكان ملوك البلاد الكبار يهابونه ويراسلونه‏.‏

مراسلاته مع الملوك

وكان يتردد إليه رسل صاحب الهند وبلاد أزبك خان وملوك الحبشة وملوك الغرب وملوك الفرنج وبلاد الأشكري وصاحب اليمن‏.‏
وأما بو سعيد ملك التتار فكانت الرسل لاتنقطع بينهما ويسمي كل منهما الآخر أخًا‏.‏
وكانت الكلمتان واحدة ومراسيم الملك الناصر تنفذ في بلاد بوسعيد ورسله يتوجهون‏.‏ إليه بأطلابهم وطبلخاناتهم بأعلامهم المنشورة‏.‏ وكان كلما بعد الإنسان من بلاده وجد مهابته ومكانته في القلوب أعظم‏.‏
سألت القاضي شرف الدين النشو‏:‏ أأطلق يومًا ألف ألف درهم قال‏:‏ نعم كي وفي يوم واحد أنعم على الأمير بشتك بألف ألف درهم في ثمن قرية يبنى التي بها قبر أبي هريرة على ساحل الرملة‏.‏
وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم وقال لي يعني عن النشأ‏:‏ هذه ورقة فيها ما ابتاعه من الرقيق في أيام مباشرتي وكان ذلك من شعبان سنة اثنتين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فكان جملته أربعمائة ألف وسبعين ألف دينار مصرية‏.‏
وكان ينعم على الأمير تنكز في كل سنة يتوجه إليه إلى مصر وهو بالباب ما يزيد على ألف ألف درهم‏.‏
عطاءه لمن حوله
ولما تزوج الأمير سيف الدين قوصون بابنة السلطان وعمل عرسه حمل الأمراء إليه شيئًا كثيرًا فلما تزوج الأمير سيف الدين طغاي تمر بابنته الأخرى قال السلطان‏:‏ ما نعمل له عرسًا لأن الأمراء يقولون‏:‏ هذه مصادرة‏.‏
ونظر إلى طغاي تمر وقد تغير وجهه فقال للقاضي تاج الدين إسحاق‏:‏ يا قاضي اعمل ورقة بمكارمة الأمراء لقوصون فعمل ورقة وأحضرها فقال السلطان‏:‏ كم الجملة قال‏:‏ خمسون ألف دينار فقال‏:‏ أعطها لطغاي تمر من الخزانة وذلك خارج عما دخل مع الزوجة من الجهاز‏.‏
وأما عطاؤه للعرب فأمر مشهور زائد عن الحد‏.‏ انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي باختصار‏.‏
السنة الأولى من سلطنة الناصر محمد الثالثة على مصر وهي سنة عشر وسبعمائة على أنه حكم في السنة الماضية من شهر شوال إلى آخرها‏.‏
فيها أعني سنة عشر وسبعمائة قبض الملك الناصر على الأمير سلار وقتله في السجن حسب ماتقدم ذكره في أصل الترجمة ويأتي أيضًا ذكر وفاته في هذه السنة‏.‏
السنة الثانية من سلطنة الناصر الثالثة وهي سنة إحد عشرة وسبعمائة‏.‏

فيها توفي الأمير بكتوت الخازندار ثم أمير شكار ثم نائب السلطنة بثغر الإسكندية ومات بعد عزله عنها في ثامن شهر رجب‏.‏ وأصله من مماليك بيليك الخازندار نائب السلطنة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس‏.‏
ثم صار أمير شكار في أيام كتبغا ثم ولي الإسكندرية وكثر ماله واختض عند بيبرس الجاشنكير وسلار‏.‏
فلما عاد الملك الناصر إلى ملكه حسن له بكتوت هذا حفر خليج الإسكندرية ليستمر الماء فيها صيفًا وشتاء فندب السلطان معه محمد بن كندغدي المعروف بابن الوزيري وفرض العمل على سائر الأمراء فأخرج كل منهم أستاداره ورجاله وركب ولاة الأقاليم ووقع العمل فيه من شهر رجب سنة عشر وسبعمائة وكان فيه نحو الأربعين ألف رجل تعمل‏.‏
وكان قياس العمل من فم البحر إلى شنبار ثمانية آلاف قصبة ومثلها إلى الإسكندرية‏.‏ وكان الخليج الأصلي من حد شنبار يدخل الماء إليه فجعل فم هذا البحر يرمي إليه وعمل عمقه ست قصبات في عرض ثماني قصبات‏.‏ فلما وصل الحفر إلى حد الخليج الأول حفر بمقدار الخليج المستجد وجعلا بحرًا واحدًا وركب عليه القناطر‏.‏
ووجد في الخليج من الرصاص المبني تحت الصهاريج شيء كثير فأنعم به على الأمير بكتوت‏.‏
فلما فرغ ابتنى الناس عليه سواقي واستجدت عليه قرية عرفت بالناصرية فبلغ ما أنشىء عليه زيادة على مائة ألف فدان ونحو ستمائة ساقية وأربعين قرية وسارت فيه المراكب الكبار واستغنى أهل الثغر عن جري الماء في الصهاريج‏.‏
وعمر عليه نحو الألف غيط وعمرت به عدة بلاد وتحولت الناس إلى الأراضي التي عمرت وسكنوها بعدما كانت سباخًا‏.‏
فلما فرغ ذلك ابتنى بكتوت هذا من ماله جسرًا أقام فيه ثلاثة أشهر حتى بناه رصيفًا وأحدث عليه نحو ثلاثين قنطرة بناها بالحجارة والكلس وعمل أساسه رصاصًا وأنشأ بجانبه خانًا وحانوتًا وعمل فيه خفرًا وأجرى لهم الماء فبلغت النفقة على هذا الجسر ستين ألف دينار‏.‏
وأعانه على ذلك أنه هدم قصرًا قديمًا خارج الإسكندرية وأخذ حجره ووجد في أساسه سربًا من رصاص مشوا فيه إلى قرب البحر المالح فحصل منه جملة عظيمة من الرصاص‏.‏
ثم إنه شجر مابينه وبين صهره فسعى به إلى السلطان وأغراه بأمواله وكتب مستوفي الدولة أمين الملك عبد الله بن الغنام عليه أوراقًا بمبلغ أربعمائة ألف دينار فعزل وطلب إلى القاهرة‏.‏
فلما قرئت عليه الأوراق قال‏:‏ قبلوا الأرض بين يدي مولانا السلطان وعرفوه عن مملوكه أنه إن كان راضيًا عنه فكل ماكتب كذب وإن كان غير راض فكل ماكتب صحيح‏.‏
وكان قد وعك في سفره من الإسكندرية فمات بعد ليال في ثاني عشر شهر رجب فأخذ له مال عظيم جدًا وكان من أعيان الأمراء وأجلهم وكرمائهم وشجعانهم مع الذكاء والعقل والمروءة وله مسجد خارج باب زويلة وله أيضًا عدة أوقاف على جهات البر‏.‏
فلما كانت سنة إحدى وسبعمائة قدم رسل التتار إلى مصر ومعهم كتاب غازان فلم يكن في الموقعين من يحله فطلب فحله فرتبه السلطان في ديوان الإنشاء إلى أن مات بالبيمارستان المنصوري يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان وله ثلاث وستون سنة‏.‏
 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وثلاث أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثالثة من سلطنة الناصر محمد الثالثة على مصر وهي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة‏.‏
وتوفي الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب‏.‏ مات بالقاهرة في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب‏.‏ ومولده بالكرك في سنة سبع وثلاثين وستمائة‏.‏
وتوفي الملك المنصور نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر فخر الدين قرا أرسلان ابن الملك السعيد نجم الدين غازي الأرتقي صاحب ماردين وابن صاحبها وبها كانت وفاته في تاسع شهر ربيع الآخر ودفن بمدرسته تحت قلعة ماردين وعمره فوق السبعين‏.‏ وكانت مدته على ماردين نحو العشرين سنة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء ثالث أيام النسيء‏.‏
السنة الرابعة من سلطنة الناصر محمد الثالثة وهي سنة ثلاث عشرة وسبعمائة‏.‏
وتوفي الخان طقطاي بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجي بن جنكزخان ملك التتار بالبلاد الشمالية بمكان يسمى كرنا على مسافة من مدينة صراي عشرة أيام‏.‏ وكانت مملكته ثلاثًا وعشرين سنة ومات وله ثلاثون سنة‏.‏
وكان شهمًا شجاعًا مقدامًا وكان على دين التتار في عبادة الأصنام والكواكب يعظم الحكماء والأطباء والفلاسفة ويعظم المسلمين أكثر من الجميع غير أنه لم يسلم وكانت عساكره كثيرة جدًا يقال إنه جرد مرة من كل عشرة واحدًا فبلغت التجريدة مائة ألف وخمسين ألفًا‏.‏ وكانت وفاته في شهر رمضان ومات ولم يخلف ولدًا فجلس على تخت الملك من بعده أزبك خان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جنكزخان‏.‏
وكان الذي أعان أزبك خان على السلطنة شخص من أمرائهم من المسلمين يقال له قطلقتمر كان على تدبير ممالكهم‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وسبع أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وسبع أصابع‏.‏ وكان الوفاء قبل النوروز بيوم واحد‏.‏
السنة الخامسة من سلطنة الناصر محمد الثالثة وهي سنة أربع عشرة وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء قبل النوروز بأربعة أيام‏.‏
السنة السادسة من سلطنة الناصر محمد الثالثة وهي سنة خمس عشرة وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا‏.‏ والوفاء تاسع عشرين مسرى‏.‏
السنة السابعة من سلطنة الناصر الثالثة وهي سنة ست عشرة وسبعمائة‏.‏
وتوفي ملك التتار خربندا بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وسكون النون بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولو بن جنكزخان السلطان غياث الدين ومن الناس من يسميه خدابندا بضم الخاء المعجمة والدال المهملة والأصح ما قلناه‏.‏ وخدابندا‏:‏ معناه عبد الله بالفارسي غير أن أباه لم يسمه إلا خربندا وهو اسم مهمل معناه‏:‏ عبد الحمار‏.‏
وسبب تسميته بذلك أن أباه كان مهمًا ولد له ولد يموت صغيرًا فقال له بعض الأتراك‏:‏ إذا جاءك ولد سمه اسما قبيحًا يعش فلما ولد له هذا سماه خربندا في الظاهر واسمه الأصلي أبحيتو فلما كبر خربندا وملك البلاد كره هذا الاسم واستقبحه فجعله خدابندا ومشى ذلك بمماليكه وهدد من قال غيره ولم يفده ذلك إلا من حواشيه خاصة‏.‏ ولما ملك خربندا أسلم وتسمى بمحمد واقتدى بالكتاب والسنة وصار يحب أهل الدين والصلاح‏.‏
وضرب على الدرهم والدينار اسم الصحابة الأربعة الخلفاء حتى اجتمع بالسيد تاج الدين الآوي الرافضي وكان خبيث المذهب فما زال بخربندا حتى جعله رافضيًا وكتب إلى سائر مماليكه يأمرهم بالسب والرفض ووقع له بسبب ذلك أمور‏.‏
قال النويري‏:‏ كان خربندا قبل موته بسبعة أيام قد أمر بإشهار النداء ألا يذكر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعزم على تجريد ثلاثة آلاف فارس إلى المدينة النبوية لينقل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما من مدفنهما فعجل الله بهلاكه إلى جهنم وبئس المصير هو ومن يعتقد معتقده كائنًا من كان‏.‏
وكان موته في السابع والعشرين من شهر رمضان بمدينته التي أنشأها وسماها السلطانية في أرض قنغرلان بالقرب من قزوين‏.‏ وتسلطن بعده ولده بوسعيد في الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة سبع عشرة وسبعمائة لأنه كان في مدينة أخرى وأحضر منها وتسلطن‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة النار محمد الثالثة وهي سنة سبع عشرة وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وإصبعان‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا سواء‏.‏
السنة التاسعة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة ثماني عشرة وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان ونصف‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وسبع عشرة إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء بعد النوروز بأيام‏.‏
السنة الثامنة من سلطنة الناصر بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة تسع عشرة وسبعمائة‏.‏
‏أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏ وهبط النيل بسرعة فشرقت الأراضي‏.‏
السنة الثانية عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وخمس أصابع‏.‏ وكان الوفاء ثاني أيام النسيء‏.‏
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهى سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وإصبعان‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء أول أيام النسيء‏.‏
السنة الرابعة عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع و

ست عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وست أصابع‏.‏
السنة الخامسة عشرة من سلطنة الناصر محمد وهي سنة أربع وعشرين وسبعمائة‏.‏
‏أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏
السنة السادسة عشرة من سلطنة الناصر محمد وهي سنة خمس وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ذراعان وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء أول أيام النسيء‏.‏
السنة السابعة عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصروهي سنة ست وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثماني أذرع وعشر أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الثامنة عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة سبع وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وعشرون أصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وخمس أصابع‏.‏
السنة التاسعة عشرة من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وعشر أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وتسع أصابع‏.‏
السنة العشرين من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة تسع وعشرين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وخمس أصابع‏.‏
السنة إحدى وعشرين من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة ثلاثين وسبعمائة‏.‏
 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وإصبعان‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏
السنة اثنتين وعشرين من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة‏.‏
وتوفي تاج الدين إسحاق بن عبد الكريم وكان أولًا يدعى عبد الوهاب ناظر الخاص الشريف في يوم الاثنين مستهل جمادى الاخرة‏.‏ وكان أصله من أقباط مصر يخدم في الدواوين ثم صار ناظر الدولة ثم باشر نظر الخاص بعد كريم الدين الكبير فباشر بسكون وحشمة وانجماع عن الناس مع حسن سياسة إلى أن مات‏.‏
وتولى الخاص بعده ابنه شمس الدين موسى الذي وقع له مع النشو ما وقع من العقوبات والمصادرات ومد الله في عمره إلى أن رأى نكبة النشو وقتله على ماسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في محله من هذا الكتاب على سبيل الاختصار‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ثلاث أذرع وأصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتان وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة الثالثة والعشرون من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة‏.‏


وتوفي القاضي الرئيس فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية في يوم الأحد سادس عشر شهر رجب‏.‏ قال الشيخ صلاح الدين‏:‏ كان متأهلًا عمره لما كان نصرانيًا‏.‏
ولما أسلم حكى الشيخ فتح الدين بن سيد الناس عن خاله القاضي شرف الدين بن زنبور قال‏:‏ هذا بن أختي مضى عمره متعبدًا لأننا لما كنا نجتمع على الشراب في ذلك الدين كان يتركنا وينصرف فنتفقده إذا طالت غيبته فنجده واقفًا يصلي‏.‏
ولما ألزموه بالإسلام هم بقتل نفسه بالسيف وتغيب أيامًا‏.‏
ثم أسلم وحسن إسلامه إلى الغاية ولم يقرب نصرانيًا بعد ذلك ولا آواه ولا اجتمع به وحج غير مرة وزار القدس غير مرة‏.‏
وقيل إنه في آخر عمره كان يتصدق في كل شهر بثلاثة آلاف درهم وبنى مساجد كثيرة بالقاهرة وعمر أحواضًا كثيرة في الطرقات وبنى بنابلس مدرسة وبالرملة بيمارستانًا‏.‏ قال‏:‏ وأخبرني القاضي شهاب الدين بن فضل الله أنه كان حنفي المذهب ثم قال‏:‏ وكان فيه عصبية شديدة لأصحابه وانتفع به خلق كثير في الدولة الناصرية لوجاهته عند أستاذه وإقدامه عليه‏.‏
قال الصلاح‏:‏ أما أنا فسمعت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يقول يومًا في خانقاه سرياقوس لجندي واقف بين يديه يطلب إقطاعًا‏:‏ لا تطول والله لو أنك بن قلاوون ما أعطاك القاضي فخر الدين خبزًا يعمل أكثر من ثلاثة آلاف درهم وقد ذكرنا من أحواله أكثر من هذا في المنهل الصافي‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وست أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الرابعة والعشرون من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة‏.‏
الماء القديم ثلاث أذرع وثماني أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا‏.‏
السنة الخامسة والعشرون من سلطنة الناصر الثالثة وهي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة‏.‏
.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم لم يحرر‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏
السنة السابعة والعشرون من سلطنة الناصر محمد الثالثة
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمسة أذرع وسبع عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا‏.‏ والوفاء يوم النوروز‏.‏
السنة الثامنة والعشرون من سلطنة الناصر محمد الثالثة وهي سنة سبع وثلاثين وسبعمائة‏.‏
أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وثماني عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعًا وست عشرة إصبعًا‏.‏
السنة التاسعة والعشرون من سلطنة الناصر الثالثة وهي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة‏.‏

 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وخمس عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وعشرون إصبعًا‏.‏ وكان الوفاء يوم النوروز‏.‏

السنة الثلاثون من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة‏.‏ وهي سنة تسع وثلاثين وسبعمائة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعًا‏. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وعشر أصابع‏.‏

السنة الحادية والثلاثون من سلطنة الناصر الثالثة

فيها توفي الخليفة أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بن الخليفة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر الهاشمي العباسي بمدينة قوص في خامس شعبان عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يومًا‏.‏ وكانت خلافته تسعًا وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يومًا‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وخمس أصابع‏.‏ مبلغ الزيادة ثة سبع عشرة ذراعًا وثماني أصابع‏.‏

السنة الثانية والثلاثون من سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة على مصر وهي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة

هي التي مات فيها الملك الناصر حسب ما تقدم ذكره‏.‏

فيها أعني سنة إحدى وأربعين توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا في يوم الرابع والعشرين من رجب‏.‏

 أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وإحدى عشرة إصبعًا‏.‏ مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وتسع عشرة إصبعًا‏.‏

**************************************************************************************

رئيس أطباء أصله يهودى

قال المقريزى فى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 107 من 167 ) : " فتح الله بن المعتصم بن نفيس الإسرايلي الداوديّ التبريزسّ رئيس الأطباء وكاتب السرِّ ولد بتبريز في سنة تسع وخمسين وسبعمائة وكان قد قدم جدّه نفيس إلى القاهرة في سنة أربع وخمسين فأسلم وعظم بين الناس ثم قدم فتح الله مع أبيه فنشأ بالقاهرة في كفالة عمه ونظر في الطب وعاشر الفقهاء واتصل بصحبة بعض الأمراء فعرف منه أحد مماليكه وكان يسمى بشيخ فلما تأمّر شيخ فرّبه وأنكحه وفوّض إمر ديوانه ثم مات عمه بديع ابن نفيس فأقرّه الملك الظاهر برقوق مكانه في رياسة الأطباء فباشرها مباشرة مشكورة واختص بالملك الظاهر برقوق اختصاصًا كبيرًا فلما مات بدر الدين محمود الكلسانيّ قلده وظيفة كتابة السرّ وخلع عليه في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة فقُبض عليه واستقرّ بدله في كتابة السر سعد الدين إبراهيم بن غراب وضرب حتى حمل مالً ثم أفرج عنه فلزم داره إلى شهر رمضان فحمل إلى دار الوزير فخر الدين ماجد بن غراب وألزم بمال آخر فحمله وأطلق فقام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار في أمره ومازال بالملك الناصر فرج إلى أن أعاده إلى كتابة السرّ في أوائل ذي الحجة فاستقرّ فيها وتمكن من أعدائه وأراه الله مصارعهم واتسعت أحواله وانفرد بسلطانه وأنيط به جلّ الأمور فأصبح عظيم المصر نافذ الأمر بتدبير الدولة لا يجد أحد من عظماء الدولة بدا من حسن سفارته وأبدا للناس دينًا وخيرًا وتواضعًا وحسن وساطة بين الناس وبين السلطان فلما كان من أمر الناصر وهزيمته على اللجون ما كان وقع فتح الله مع الخليفة المستعين بالله العباسي ابن محمد المتوكل على الله وعدّة من كتاب الدولة في قبضة الأميرين شيخ ونوروز ومازال عندهما حتى قُتل الناصر وأقيم من بعده أمير المؤمنين المستعين بالله وهو على حاله من نفوذ الكلمة وتدبير الأمور فلما استبدّ الأمير شيخ بمملكة الديار المصرية واعتقل الخليفة وتلقب بالملك المؤيد شيخ في شعبان سنة خمس عشرة وثمانمائة أقرّ فتح الله على رتبته ثم قبض عليه يوم الخميس تاسع شوال وعوقب غير مرّة وأحيط بجميع أمواله وأسبابه وحواشيه وبيع عليه بعض ما وجد له وحمل ما تحصل منه فبلغ ما ينيف عن أربعين ألف دينار سوى ما أخذ مما لم يبع وهو ما يتجاوز ذلك ومازال في العقوبة إلى أن خُنق في ليلة الأحد خامس عشر شهر ربيع سنة ست عشرة وثمانمائة وحمل من الغد إلى تربته فدفن بها وكان رحمه الله من خير أهل زمانه رياضة وديانة وطيب مقال وتأله وتنسك ومحبة لستة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن قيام مع السلطان في أمر الناس وبه كفى الله عن الناس من شرّ الناصر فرج شيئًا كثيرًا وقد ذكرته بأبسط من هذا في كتابي ‏"‏ درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ‏"‏ وفي كتابي ‏"‏ خلاصة التبر في أخبار كتاب السرّ ‏"‏‏.‏

****************************************************************************

قال المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار الجزء الثالث ( 139 من 167 ) : " السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون‏:‏ وأعيد إلى السلطنة مرّة ثالثة في يوم الخميس ثاني شوّال منها فاستبدّ بالأمر حتى مات في ليلة الخميس حادي عشري ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وكانت مدّته الثالثة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا ودفن بالقبة المنصورية على أبيه وأقيم بعده ابنه‏

***************************************************************************************

الفخر القبطى الذى أكره على الإسلام


المقريزى المواعظ والاعتبار في ذكر الخطب والآثار  الجزء الرابع ( 147 من 167 )  : "والفخر‏:‏ هذا هو محمد بن فضل الله القاضي فخر الدين ناظر الجيش المعروف بالفخر كان في نصرانيته متألهًا ثم أكره على الإسلام فامتنع وهمّ بقتل نفسه وتغيب أيامًا ثم أسلم وحسن إسلامه وأبعد النصارى ولم يقرّب أحدًا منهم وحج غير مرّة وتصدّق في اَخر عمره مدّة في كل شهر بثلاثة آلاف درهم نقرة وبنى عدّة مساجد بديار مصر وأنشاء عدّة أحواض ماء للسبيل في الطرقات وبنى مارستانًا بمدينة الرملة ومارستانًا بمدينة بلبس وفعل أنواعًا من الخير وكان حنفيّ المذهب وزار القدس عدّة مرار وأحرم مرّة من القدس بالحج وسار إلى مكة محرمًا وكان إذا خدمه أحد مرّة واحدة صار صاحبه طول عمره وكان كثير الإحسان لا يزال في قضاء حوائج الناس مع عصبية شديدة لأصحابه وانتفع به خلق كثير لوجاهته عند السلطان إقدامه عليه بحيث لم يكن لأحد من أمراء الدولة عند الملك الناصر محمد بن قلاون ماله من الإقدام ولقد قال السلطان مرّة لجندي طلب منه إقطاعًا‏:‏ لا تطوّل والله لو أنك ابن قلاون ما أعطاك القاضي فخر الدين حيزًا يغلّ كثر من ثلاثة آلاف درهم وقال له السلطان في يوم من الأيام وهو بدار العدل‏:‏ يا فخر الدين تلك القضية طلعت فاشوش‏.‏
فقال له‏:‏ ما قلت لك أنها عجوز نحس‏.‏
يريد بذلك بنت كوكاي امرأة السلطان عندما ادّعت أنها حبلى وله من الأخبار كثير‏.‏
وكان أولًا كاتب المماليك السلطانية ثم صار من كتابة المماليك إلى وظيفة نظر الجيش ونال من الوجاهة ما لم ينله غيره في زمانه وكان الأمير أرغون نائب السلطنة بديار مصر يكرهه وإذا جلس للحكم يعرض عنه ويدير كتفه إلى وجه الفخر فعمل عليه الفخر حتى سار للحج فقال للسلطان‏:‏ يا خوند ما يقتل الملوك إلاّ النوّاب بيدرًا قتل أخاك الملك الأشرف ولاجين قُتل بسبب نائبه منكوتمر وخيل للسلطان إلى أن أمر بمسير الأمير أرغون من طريق الحجاز إلى نيابة حلب وحسن للسلطان أن لا يستوزر أحدًا بعد الأمير الجماليّ فلم يول أحدًا بعده الوزارة وصارت المملكة كلها من أحوال الجيوش وأمور الأموال وغيرها متعلقة بالفخر إلى أن غضب عليه السلطان ونكبه وصادره على أربعمائة ألف درهم نقرة وولى وظيفة نظر الشيخ قطب الدين موسى بن شيخ السلامية ثم رضي عن الفخر وأمر بإعادة ما أخذ منه من المال إليه وهو أربعمائة ألف درهم نقرة فامتنع وقال‏:‏ أنا خرجت عنها للسلطان فليبين بها جامعًا وبنى بها الجامع الناصريّ المعروف الآن بالجامع الجديد خارج مدينة مصر بموردة الحلفاء وزار مرّة القدس وعبر كنيسة قمامة فسمع وهو يقول عندما رأى الضوء بها‏:‏ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏.‏
وباشر آخر عمره بغير معلوم وكان لا يأخذ من ديوان السلطان معلومًا سوى كماجة ويقول أتبركَ بها ولما مات في رابع عشر رجب سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وله من العمر ما ينيف على سبعين سنة وترك موجودًاعظيمًا إلى الغاية‏.‏
قال‏:‏ السلطان لعنه الله خمس عشرة سنة ما يدعني أعمل ما أريد وأوصي للسلطان بمبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة فاخذ من تركته أكثر من ألف ألف درهم نقرة ومن حين مات الفخر كثر تسلط السلطان الملك الناصر وأخذُه أموال الناس وإلى الفخر تنسب قنطرة الفخر التي على فم الخليج الناصريّ المجاور لميدان السلطان بموردة الجبس وقنطرة الفخر التي على الخليج المجاور للخليج الناصرىلم وأدركت ولده فقيرًا يتكفف الناس بعد مال لا يحدّ كثرة‏.‏
أمّا جامع الفخر بناحية بولاق فإنه موجود تقام فيه الجمعة إلى اليوم وكان أوّلًا عند ابتداء بنائه يُعرف موضعه بخط خص الكيالة وهو مكان كان يؤخذ فيه مكس الغلال المبتاعة وقد ذكر ذلك عند ذكر أقسام مال مصر من هذا الكاتب‏.‏ وجامع الروضة باق تقام فيه الجمعة‏.‏
وأما الجامع بجزيرة الفيل فإنه كان باقيًا إلى نحو سنة تسعين وسبعمائة وصليت فيه الجمعة غير مرّة ثم خرب وموضعه باق بجوار دار تشرف على النيل تُعرف بدار الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة قريبًا من الدار الحجازية‏.

 

This site was last updated 09/05/11