Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم المؤرخ / عزت اندراوس

تاريخ الصراع الفارسى الرومانى

إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس بها تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات 

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
الحرب الفارسية البيزنطية قبل الإسلام
تاريخ الفرس قبل غزو العرب
مصر والحكم البيزنطى
الإحتلال البيزنطى الثانى
الصراع بين الفرس والبيزنطيين
الإحتلال الفارسى لمصر
الغزو الفارسى والهاربين
تفكك الحكم البيزنطى
الأنبا صموئيل المعترف
الإمبراطور البيزنطى هرقل

*****************************************************************************************

وهذه الصفحة منقولة بدون تغيير من الجزء الثانى لكتاب المؤرخ العلامة جــــواد عــلى وأسم المرجع هو " المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام " من ص 460 - 461 ونقلناها كما هى على أساس أنه مرجع من المراجع الهامة التى يعتمد عليها الباحثين فى التاريخ والدارسين له , وقد وضعنا لكل فقرة عنوان حتى نساعد القارئ على الإستيعاب وللدارس وللباحث تدوين ملاحظاته - ونحيط علم القارئ أنه لم يتطرق أحد من الكتاب والمؤرخين إلى موضوع "لفظة العرب" إلا العلامة الدكتور / جواد على  فقد توسع بكم هائل من المعلومات عن كلمة عرب فأوردناها كما هى , إحقاقاً للحق وصوناً للتاريخ وإعلاء لعلم هذا الدكتور العظيم 

==========================================

ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عدداً من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة، أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لهما ذلك الأول، فتدخلت المذهبية في السياسة، في المذهبيّات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر. وظفرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شيع وفرقُ عدّ بعضها خارجاً على تعاليم الحق والأيمان، هي في نظر "الأرثودكسية" مذاهب الحادية باطلة، فعوملت كما عاملت وثنيةُ روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان.
والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين، والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإنبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوربة لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه انتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسرهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الانبراطوريتين تقليداً موروثاً، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطراراً، ولا تعقد هدنة بينهما الا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب. يدفعها المغلوب صاغراً بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملاً تحسن الموقف للانتقام من الخم. فتأريخ الساسانيين والروم، هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار. وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار ? %)165(
لقد وجد "كسرى أنو شروان" "531ه- 579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "Justinian" "527 - 565م" بالحروب في الجبهات الغربية فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإنبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم، وهاجم الإنبراطورية منتحلاّ أعذاراً واهيةً، واشترك في قتال دمويّ مرّ بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "Belisarius" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدها خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثمُ مددت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عاماً حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م". تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد للنصارى، وبالسماح للروم في الإتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين.
و "يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه إن الملك يجب إن يكون دليلا وقدوة ونبراساً للناس، وانه لا يكون عظيماً شهيراً لحروبه ولكثرة ما يمكله من سلاح وجند، إنما يكون عظيماً بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيماً للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه إن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة. ولذلك فإن من واجب كل انبراطور إن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه بسنّ القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الانبراطورية الرومانية كثيرة جداً، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت الإحكام. لذلك رأى إن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيأة دستور الانبراطوري يسير عليه قضاة الانبراطورية في تنفيذ الإحكام بين الناس، وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "Tribonian" من المشرعين المعروفين في أيامه. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدوّنات، ورتبها في كتب وأبواب، وكان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.
ويعد هذا العمل مم الأعمال العظيمة في تاريخ التشريع، ولم يكن "يوسطغيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدوّنة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الانبراطورية. فَعُدَّ صنيعه هذا إصلاحاً كبيراً يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنو شروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا إننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى" وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أو هي صدى للعسل الذي قام به "يوسطنيان"، ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات? وفكرة إخضاع الانبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى إن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وان الكنيسة إنما هي سلاح ماض يعين الحكومة في تحقيق أهدافها، لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المنوفيزيتية" ""Monophysites" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "Ariaus" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة وكذلك اليهود.
وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنية في حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأًييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي إن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وان من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضتوه من رجال المذاهب الأخرى، لأنه خالفهم، وجاء بتفسرات لم ترضي أي مذهب منها. واضطر أخيراً على الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي إن ما يراه في الدين، هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة. فخلق. معارضين له. وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، واصدر أمراً بمنع الوثنين و. كل من ليس نصرانياً من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته ولدولة من جاء بعده من قياصرة.
وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير إن إصلاحاته هذه لم تنفذ، إذ. لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من "لحدّ من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.
واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة. والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولاسيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوباً فيها في أوربة ومطلوبة، تجني الحكومة منها أرباحاً كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال التي ترد إلى الانبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلافي إقبالاً كبيراً من أثرياء الانبراطورية ومن أثرياء انبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوربة.
وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهض حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان إن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من الموات التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد إن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقبة الأوربيين.
وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية، ولهذا كانت تتصل دوماً بالانبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكرها من هذه الانبراطورية، إذْ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الانبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوربية.
هذا طريق. وهناك طريق آخر هو طريق البحر. يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "Taprobane" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتُحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.
ولما كانت علافات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحرب بين الانبراطوريتين متوالية صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والإنقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما إن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضربية المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف، ولهذا فكر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين.
والخطة التي اختطها "يوسظيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانينن عليها، هي الاتصال بالأسواق البيزنطية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الانبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعاً لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "Clysma" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "Iotabe" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزاً مهماً لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها، ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ.
ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام، لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررا بالغاً بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.
أما العمل العسكري، فلم في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت، لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية. لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول إلى اليمن، حيث الحبش هناك، أخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة، أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكاً، وان القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبداً، لذلك تركوا هذا المشروع. فلم يبق أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا إن هذا التنفيذ غير ممكن أيضاً، لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قوياً، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة. فتركوه، ولو إلى حين، مفضّلين عليه العمل السياسي.
أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الاخوّة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المتنصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضاً. وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير،سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك. وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.
وأرسل "يوسطنيان"-كما سبق إن بينا ذلك-رسولاً عنه يدعي "يوليانوس" "جوليانس" "Julianus" إلى النجاشي والى "السميفع أشوع" "Esimphanus" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد اليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم إن يكوّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وان يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "Kaisos" أي "قيس" عاملاً "فيلارخ" "Phylarch" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "Maddeni"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين، وقد رجع السفر فرحاً مستبشراً بنجاح مهمته، معتمداً على الوعود التي أخذها من العاهلين. غير أنهما لم يفعلا شيئاً، ولم ينفذا شيئاً ما مما تعهدا به للسفير، فلم يغزوا للفرس، ولم يعين "للسميفع فوع" "قيساً" "فيلارخاً" عاملا على قبيلة معدّ.
وورد أيضاً إن القيصر جدّد في أيام "ابراموس" "Abramos" الذي نصب نفسه في مكان "Esimiphaeus"، طلبه ورجائه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير انه تراجع بسرعة.
ويظهر إن اتصال البيزنطيين ب "ابراموس" "Abramos" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس إذْ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمرّ بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال. فلما تمكن "ابراموس" من التحكم في شؤون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكماً عاماً على اليمن وصارت الأمور بيديه تماماً، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.
وقد تحرش "ابراموس" بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم. فما لبث إن كف قواته عنهم. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "ابراموز" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار هذا الهجوم.
و "ابراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن. أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل، فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية بذلك على حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر ة ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية. ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.
اما "Kaisos" "Caisus"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكربيوس" شجاعاً ذا شخصية قوية مؤثرة حازماً من أسرة سادت قبيلة "معدِّ". وقتل أحد ذوي قرابة "للسميفع أشوع" "Esimaphaios" "Esimiphaeus"، فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية. فأراد القيصر الشفاعة له لدى "Esimaphaios"، والرجاء منه الموافقة على أقامته رئيساً "Phyarch" على قبيلته قبيلة معدّ.
ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على أقامته رئيساً على قومه. وبهذا يكسب القيصر رئيساً قوياً وحليفاً شجاعاً يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.
ونحن لا نعرف ن أمر "قيس" هذا في روايات الأخباريين شيئاً غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملا له على مضر، وأن "قيساً" كان يرافق أخاه محمداً حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فَرّا إلى "ابرهة". وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرّة بن هلال بن فالح ابن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل.
فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس" ?. اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه? أو هو رجل آخر لا علاقة له ب "قيس" الذي يذكره "ابن إسحاق"? وقد زار والد "نونوسوس" "Nonnosos" "قيساً" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م" وزاره "نونوسوس" نفسه في إثناء حكمه. وأرسل "قيس" ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعلم أخاه ثم ابنه الأمارة. وعينه القيصر عاملاً "Phylarch" على فلسطين.
وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "Abochorabus"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعاً وكرهاً في تبعية الرئيس القوي.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات تخيل كثيرة، عرفت عند الروم ب "فوينيكون" "Phoinikon" "واحة النخيل"، أو "غاية النخيل". وهي أرض بعيدة. لاتبلَغ الا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، اذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعن هذا "الشيخ" عاملاً "فيلارخا" على عرب فلسطين.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "Amorkesos" وكان "Amorkesos" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على. جزيرة "تاران" "Iotaba" وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473 م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له إلى القسطنطينية، ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملاً "Phylarch" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية %)175( ابن المنذر، حليف الفرس. بمعنى أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة? و "Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" مع "طياية" "طيايا"" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الشي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Aresham"، ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.
وقد تحدثتُ سابقاً عن ورود اسم قبيلة "سدّ" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328 م" حيث ورد أن "امرئ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معدّ" وعلى قبائل أخرى ذكرها النصى، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الأخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معدّ، وظالما ذكروا إن ملوك الحيرة غزوا معدّ، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معدّ. فهي تذكر انهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادهّ، فينصبونهم "ملوكاً" على معدّ. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجأوون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدّ اً كانت قبائل متبدية: منتشرة في ارضين واسعة تتصل باليمن، وقد. كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبياً من محاربي معدّ ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيماً ولا تشكيلاً ولا توزيعاً للعمل. وكل ما عندهم هو كرٌَّ وفرٌّ، إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.
وقد منيت الانبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنبان"، فاشتدّ الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الارثودكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلا. وبعد حروب ممتتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614 م"، احتل اتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفينة التي لا تقدر بثمن. ثم أصيبت. الانبراطورية بنكبة عظيمة جداً هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء للساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الانبراطورية.
لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس. والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون إن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وكان المسلمون محبون إن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. قلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن اميون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وأنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله" )الم غُلبت الروم. في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله؛ ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم(. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا إن النصر لا بد آت، وانهم سينتصرون على أهل مكة أيضاً ويغلبونهم بأذن الله. وخرج أبو بكرً إلى الكفّار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا. فلا تفرحوا ولا يقرّنّ الله أعيكنم، فوالله ليَظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا، صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبيّ بن خلف. فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدوّ الله. فقال أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت إنما البِضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايد.ه في الخطر ومادَّه في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبياً، فقال: لعلك ندمت? فقال لا. نقال: أزايدك في الخطر وأمادك الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال قد فعلت".
لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل" "Heraclius" "610-641 م". ففي عهده، اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الانبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير إن طالع هذا القيصر لم يلبث إن تحسن بعد سنين من النحسى، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628 م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة. ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"، فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه، ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشام وفلسطين ومصر إلى، البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس في موكب حافل عظيم.
وسُر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش. "وأسلم عند ذاك ناس كثير". وتضعضت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيّاً" على الرهان، وكسبه، أخذه من ورئته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد. الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها.
وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين. وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلاً، إلا سين، إذْ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقية، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبداً انهم سيكونون شيئاً ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من، أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعّة عجيبة لا تكاد تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السَير والأخبار إن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام، فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئاً بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تُمَهد الطريق لنشر الأيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أخذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذاً جدّياً، اذ تصوّروه غزواً من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لّفّ لفهم عليهم، أو بإرشاء رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصبهم ملوكاً على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور.
ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط شهيداً في سبيل إعلاء كلمة ربّه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين" "Gabatha" وفي "اليرموك" "Hieromax" بان المعارك التي وقعت ليست غزواً من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما ورائها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب "العرب المستعربة، أي العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات المعدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكوّنة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، اذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمه، يسيرها قوّاد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان،وتزوّدوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوربيين، فظنوا إن الحرب مع المسلمين شيئاً بسيطاً، بل ابسط من البسيط، حتى أن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة، فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب، الذين أظهروا ذكاءاً فطريّا عظيماً في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، اذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكرّ والفرّ بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في القلوب. وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العربْ، بجيوش نظامية كبيرةُ مدرّبة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجهاً لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصّرة"، وسكان، بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين.

This site was last updated 03/21/16