Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - Coptic history

بقلم عزت اندراوس

 بطريرك قبطى خصص ربح مبنى كنسى لفقراء المسلمين بالحرمين الشريفين
إذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس ستجد تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات 

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up

 

باحث يحقق حول بطريرك قبطى خصص ربح مبنى كنسى لفقراء المسلمين بالحرمين الشريفين
ا
محيط - شبكة الأخبار العربية 19/7/2011م دراسة ـ الدكتور مجدي جرجس أعدها للنشر ـ عمرو عبد المنعم
في صيف عام 2005م، في أثناء بحثي في سجلات محكمة الباب العالي بدار الوثائق القومية بالقاهرة، وقعت بين يدي وثيقة فريدة وغريبة، أو هكذا بدت لى آنذاك! استوقفتني، وأخذت أتأملها وأعيد قراءتها مرات عديدة؛ إذ فوجئت بأحد البطاركة القبط ينشئ وقفًا، ويذكر أنه في حالة تعذر صرفه على المؤسسات المسيحية التي يذكرها، يُصرف ريع هذا الوقف على مصالح الحرمين الشريفين!
وأخذت أفكر في كيفية تناول هذه الوثيقة وفهم ظروف إنشائها، وانصرف ذهنى إلى دراسة سيرة هذا البطريرك، علنى أجد تفسيرًا لإقدامه على هذا الوقف، ظنًا منى أنه عمل فريد غير متكرر، وبالرغم من أن المدوَّن في سيرته الرسمية لا يسمن ولا يغنى من جوع، إلا أنني تمكنت، من مصادر أخرى، من جمع معلومات وتفاصيل عديدة عن هذا البطريرك وحياته.
أيضًا لم يغب عن ذهني محاولة البحث عن وثائق مماثلة، ثم كانت المفاجأة الثانية، وهى عثوري على أربع وثائق أخرى تتعلق بهذا الموضوع نفسه، أي وثائق لقبط يذكرون ضمن مصارف وقفهم الإنفاق على مقدسات إسلامية: الحرمين الشريفين، والحرم الإبراهيمى بالقدس! وعثورى على هذه الوثائق وضعنى في مأزق عملي وعلمي؛ إذ أنى أنفقت وقتًا وجهدًا كبيرًا لفهم ظروف هذا البطريرك الذى أنشأ هذا الوقف، ولكنني وجدت قبطا آخرين، قبله وبعده، فعلوا الشيء نفسه! ومن ثم سيكون في غير محله أن أتحدث عن أحد الواقفين وأهمل الآخرين!
وكان من الصعوبة بمكان أن أجد تفاصيل عن هؤلاء الواقفين الأخر، حيث إنهم أناس عاديون، لم يسلكوا المناصب الدينية.
ولكنني في النهاية وجدت أن التحليل التاريخي لشخصية الواقف- حتى وإن لم يثبت أن ظروفا بعينها كان لها الأثر في إنشاء هذه الوثيقة- سيكون له أهمية ما، فآثرت أن اتبع نهجى الأول الذى فكرت فيه عندما عثرت على هذه الوثيقة، وهى تقديم السياق التاريخي الذي أقْدَم فيه هذا البطريرك على إنشاء وقفه، ثم طرح أسئلة أعم حول هذه الظاهرة ككل.
والحقيقة أن هذا النوع الفريد من الوثائق يركز على جانب مهم من تاريخ المجتمع المصري في العصر العثمانى. وبالرغم من طرافة الموضوع وأهميته، من الناحية التاريخية، إلا أنه يساعدنا، في الوقت نفسه، على تحليل نصوص الوثائق، وفهم الآليات والأساليب المتبعة في إنشاء هذا النوع من الوثائق، ومن ثم الخروج بملاحظات عامة حول كيفية صياغة الوثائق، وبالتالى يمكن للمشتغل بالوثائق أن يقدمها كشواهد تاريخية، يسهل استخدامها بفعالية وأمان في عملية الكتابة التاريخية.
وفى هذه الورقة سأركز فقط على جانب واحد، سأحاول ألا أحيد عنه، وهو محاولة فهم دوافع الواقف لإنشاء مثل هذا النوع من الوقف، ويأتى هذا في سياق دور علم الوثائق في تتبع مراحل إنشاء الوثيقة منذ أن كانت فكرة في ذهن منشئها حتى صياغتها النهائية.
أي أن محور هذه الورقة يدور حول فهم وتفسير إحدى مراحل إنشاء الوثيقة، وهى دوافع إنشائها. وهذا النوع من الدراسة، يتطلب بعض الخبرة التاريخية، لفهم السياقات المختلفة لظروف إنشاء الوثائق، ومن ثم سيلاحظ القارئ، عدم التعرض لنص الوثيقة نفسها، إلا قليلاً!
النص الرئيس المنشور في هذه الورقة هو وثيقة وقف لأحد البطاركة القبط، البابا مرقس الخامس (1603-1619م)؛ حيث أوقف مكانًا بخط المقسم بالقاهرة، وحدد مراتب المستفيدين من وقفه على هذا النحو: على فقراء النصارى اليعاقبة القاطنين والمارين والمترددين على دير أبي مقار بوادى النطرون، فإن تعذر الصرف عليه، صُرف ريع الوقف على الثلاثة أديرة الأخرى بوادى النطرون، فإن تعذر صُرف على كنيسة القيامة بالقدس الشريف، فإن تعذر فعلى فقراء النصارى اليعاقبة أينما كانوا، فإن تعذر فعلى فقراء المسلمين بالحرمين الشريفين.
بالطبع قد يتبادر إلى الذهن تفسيرات سريعة حول الدوافع أو الأسباب التي قد تدفع رجل دين، بل هو رئيس لطائفة دينية، في العصر العثمانى، أن يُضمِّن وقفه مؤسسات إسلامية! كأن تكون، على سبيل المثال، دوافع أو تكتيكات سياسية.
سأبدأ، أولاً، بتحليل السياق التاريخي المحيط بنص هذه الوثيقة، ومن ثم إمكانية فهم الدوافع الحقيقية لمثل هذا النوع من الأوقاف. ثم سأحلل، ثانيًا، الإطار الشرعى لهذا النص، وصولاً إلى السؤال الرئيس حول طبيعة عمل المحكمة الشرعية، والآليات والمعايير المتبعة في صياغة مثل هذه النصوص.
السياق التاريخي
تولى هذا البطريرك منصبه في ظل ظروف عاصفة، حيث إن سَلَفَه البابا غبريال الثامن (1587- 1603م) واجه ثورة عارمة من قبل أقباط الوجه البحرى، عندما حاول تطبيق التقويم الغريغورى في مصر، ولم تكن هذه القضية سوى تعبير عن صراع بدأ يحتدم بين أعيان القبط ورئاستهم الدينية، وبالفعل نجح أعيان الوجه البحرى في إثناء البطريرك عن مخططه، واستصدروا حجة من القاضى الشرعى تلزم البطريرك بالانصياع لرغبة أقباط الوجه البحرى، والاستمرار في تطبيق التقويم القبطى القديم.
وتشير المصادر القبطية إلى استمرار تمرد أعيان القبط في الوجه البحرى ضد البطريرك الجديد البابا مرقس الخامس (1603-1619م)، وهو الواقف المعنى به في هذه الورقة، ولكن تظهر آثار هذا الصراع في القاهرة أيضًا، ويبدو أن المصادر الكنسية تعمدت التركيز على أقباط الوجه البحرى فقط، وإظهار هذا الصراع على أنه بين متمردي الوجه البحري ومؤمني القاهرة! ولكننا نرى أن أهل القاهرة كانوا في قلب هذا الصراع، ومنهم من كان في صف البطريرك، ومنهم من كان ضده.
والروايات متباينة في أسباب هذه الأزمة، وتسجل إحدى المخطوطات القبطية الخبر باختصار: "نالت هذا الأب شدائد كثيرة من أهالي الوجه البحري بسبب الأصوام والزيجة، وحبسه متولي مصر في برج الإسكندرية"، ثم يصدر كاتب المخطوطة حكمًا عامًا عن البابا مرقس الخامس بأنه "كان محبًا للمال والخمر"، ويجب ملاحظة أن هذا الاتهام جاء من طرف أحد رجال الدين حيث إن كاتب سيرة البطريرك هو كاهن أو راهب، مما يعني أيضًا أن من بين الإكليروس (رجال الدين) من كان في صف البطريرك ومنهم من كان ضده.
وبلغ الصراع ذروته عندما تمكن أعيان الوجه البحرى من إقناع والي مصر بعزل هذا البطريرك وسجنه. إذ قَدَّم أحد القبط يدعى فضل الله الدمرداشى -نيابة عن أعيان الوجه البحري- شكوى إلى والي مصر يتهم فيها البطريرك بتهم عديدة،
منها: أنه "يجلس على كرسي عالي ويأمر الناس بالسجود له ويعطوه البخور كإله، يحرم اللحم واللبن ويحلل الخمر، وهذا النص يحمل قدرًا كبيرًا من التحايل؛ إذ أنه بالفعل يتضمن حقائق، ولكن طريقة صياغتها تقدمها على أنها تهم حقيقية؛ حيث يصيغ الشاكى طقس تكريم البطريرك بطريقة توحي للحاكم بمظاهر سلطة ونفوذ لا يجب أن تكون لغيره؛ إذ من طقوس البطريرك أن يكون كرسيه أعلى الكراسى وأن يُقدم له، وحوله، البخور، وينحني الناس أمامه قبل السلام عليه! فعندما يعيد الشاكى صياغة هذا الطقس قائلاً :" يجلس على كرسي عالي ويأمر الناس بالسجود له ويعطوه البخور كإله" فهو لم يتجاوز الحقيقة. أيضًا يذكر الشاكي طبيعة الصوم عند القبط حيث الامتناع عن اللحوم والألبان، بينما الخمر غير محرمة في المسيحية، ولكن ينسب الشاكى هذه الممارسات إلى أوامر البطريرك! وبالتالي تحقق للمشتكين رغبتهم وسجن الوالى البطريرك لمدة تزيد على سنة، وتم تنصيب بطريرك آخر.
ويبدو أن أعيان القبط كانوا على دراية بتوجهات الوالي محمد باشا قول قران (1607-1611م)؛ فهذا الوالي، الذي قام بعزل البطريرك، قاد حركة إصلاحية أثناء ولايته، ورفع كثيرًا من المظالم التي كان يفرضها كبار العسكر على المصريين، وحاول أن يسيطر على مقاليد الأمور، وأن يوقف نفوذ مراكز قوى داخل مصر، وبخاصة كبار العسكر، واستجاب لمعظم التظلمات التي رُفعت إليه واتخذ قرارات حازمة في نواح متعددة تمس مصالح الناس، وقد يكون اتخاذه قرار عزل البطريرك جاء في سياق محاولة تصحيح أمور عديدة للمصريين عامة، واستجابة لطلب بعض القبط لرفع مظالم أحد ذوي النفوذ، ورئيس لطائفة كبيرة!.
ونقلت بعض المصادر أن السبب الرئيس لتمرد أعيان الوجه البحرى على البطريرك هو رغبتهم في تعدد الزوجات وانضمام مطران دمياط لهم. والغريب أن أول من ذكر قصة تعدد الزوجات مؤرخة إنجليزية ، ولا نعلم مصدرها، وانساق خلفها معظم المؤرخين، حتى الأكاديميون منهم. أيًا كانت أسباب الصراع والانشقاق الذى حدث، إلا أنه كان واقعًا يمكن تلمس نتائجه من مصادر عدة، ويمكن أيضًا أن نرصد صداه بين عامة القبط في القاهرة.
كانت نتيجة شكوى أعيان الوجه البحرى إلى والي مصر، أنه قرر عزل البطريرك وتعيين بطريرك آخر يسمى يوأنس، واسمه العلمانى: جرجس بن بطرس، وفور تعيينه، أخذ هذا البطريرك الجديد يستبعد معاوني البطريرك المعزول (البابا مرقس الخامس) ويعين بدلاً منهم معاونين جددًا، خاصة من يتعلق بإدارة الأوقاف.
ويظهر جانب من هذا الصراع في منطقة قصر الشمع بمصر القديمة، ولابد أن نوضح خصوصية سكان منطقة قصر الشمع بمصر القديمة، حيث جميع سكانها من القبط، ومعظمهم يستأجرون مساكنهم من أوقاف الكنائس؛ إذ أن معظم المنازل والمرافق في هذه المنطقة جارية في أوقاف كنائس مصر القديمة، لذلك سيكون تأثر هذه المنطقة بالتغييرات في المناصب الكنسية يحمل بعدين:
الأول هو كونهم قبطا يدينون بالولاء للرئاسة الكنسية، ولهم مواقفهم مثلهم مثل باقي القبط. الثاني، هو علاقتهم المباشرة بإدارة أوقاف الكنيسة، حيث أنهم يدخلون في علاقات قانونية من خلال إيجارهم لمساكن، والتي تتطلب موافقة ناظر الوقف على استمرار عقود إيجارها، وبالتالى فتغيير نظار الوقف قد يضر أو يفيد مصالحهم الاقتصادية، وبالتالى قد يؤثر في مواقفهم تجاه الأحداث الجارية على مستوى الرئاسة الدينية.
بدأت المشاكل مع أسرة البطريرك المعزول، البابا مرقس الخامس، حيث رفع البطريرك الدخيل شكوى ضد أخي البابا مرقس الخامس (البطريرك المعزول) وأبيه، يتهمهما فيها بوضع أيديهما على ممتلكات تابعة لوقف البطريركية، فأحالها الوالي إلى قاضى مصر القديمة للنظر فيها، وفعلاً تم القبض على أخي البطريرك وأبيه، وتلقب الوثيقة البابا مرقس "بطرك النصارى سابقًا".
وأخذ وكيل البطريرك الدخيل يتشدد في ملاحقة الموالين للبابا مرقس الخامس في منطقة قصر الشمع، ويبدو أن القبط في هذه المنطقة انقسموا إلى حزبين: أحدهما موالٍ للبطريرك الأصلي المخلوع، والآخر ضده ومع البطريرك الدخيل. وتعددت القضايا المنظورة بين الموالين للبطريرك السابق ووكيل البطريرك الدخيل في محكمة مصر القديمة، ومعظم هذه القضايا انتهت لصالح وكيل البطريرك الدخيل، وقبول سكان مصر القديمة بالأمر الواقع وإجبارهم على قبول تصرفات المعلم ميخائيل كوكيل عن البطريرك الدخيل، الجانب الآخر من هذا الصراع كان بين هذين الحزبين، حتى أن بعض السكان استطاعوا الحصول على أحكام من المحكمة بطرد نصارى آخرين من منطقة قصر الشمع، بدعوى ضررهم لسكان المنطقة.
عاد البطريرك المعزول، مرقس الخامس، مرة أخرى إلى منصبه في عام 1611م، فأخذ يصحح الأوضاع التي نتجت عن التغيرات التي أدخلها، ودار صراع مرير بين الموالين للبطريرك الدخيل وبين أعوان البطريرك الأصلى، وبعد عودة البطريرك توجه عدد كبير من نصارى قصر الشمع مؤيدين لقرار البابا مرقس الخامس بعزل الوكيل الذى عينه البطريرك الدخيل وتعيين آخر بدلاً منه، وحدث ذلك مع معظم نُظار كنائس مصر القديمة. ولكن وقف وكيل البطريرك السابق بقوة ضد هذه التصرفات محتجًا بأن بيده مستندات رسمية من بطريرك رسمى (يقصد البطريرك الدخيل) تحفظ حقوقه القانونية كناظر للأوقاف ، ولكن الحسم في هذه القضايا يستند على جمع أكبر عدد من القبط الساكنين بمنطقة قصر الشمع للمطالبة بعزل الناظر القديم وتعيين بديلاً عنه يرشحه البطريرك.
في ظل هذه الظروف، والصراع الدائر بين البطريرك ومناوئيه، أنشأ هذا البطريرك وقفه في العشرين من شهر ذى الحجة عام 1023هـ (20 يناير 1615م).
ومن ثَم، قد يكون أحد التفسيرات هو محاولة تقربه إلى ولاة الأمر، عن طريق إظهار اهتمامه بالمقدسات الإسلامية، حتى ينال تأييدا ما في صراعه المرير مع أعيان القبط!.
ولكن لا يستقيم هذا التفسير مع وجود حالات أخرى لقبط، قبل هذا التاريخ وبعده، يذكرون ضمن المؤسسات المستفيدة من الوقف، مؤسسات إسلامية. سأذكر تلك الحالات التي وجدتها، ولا يعني ذلك أنها الحالات الوحيدة، بل الحالات التي تمكنت من العثور عليها:
- المثال الأول: في عام 912هـ/ 1507م، لدى القاضى الحنفي، أوقفت مارين ابنة جرجس بن [...] بن يوحنا النصراني الكاتب بحانوت الخازن على نفسها ثم "على فقرا النصارى الرهبان ومساكينهم المقيمين بالديورة الأربع، وهم: دير أبي مقار، ودير أبي بيشاى، ودير السيدة المعروف بالسريان، ودير السيدة المعروف بتروجة، ثم على فقرا النصارى والمسلمين المقيمين بالقدس، ثم على فقرا المسلمين المقيمين بالخليل إبراهيم بالقدس".

- المثال الثانى: في عام 965هـ/ 1558م، لدى القاضى الحنفي، أوقف كلا من يعقوب بن يوحنا بن اسحاق النصراني اليعقوبي السندواني، ولبوة المراة بنت سبع بن يوسف النصرانية اليعقوبية، مكان بسويقة الحمام بالقاهرة، بحجة من محكمة الباب العالي، تاريخها حادي عشر جمادى الآخرة عام 965هـ، ثم ذكرا مصارف الوقف: "انشا الواقفان المذكوران وقفهما هذا على فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بدير أبي مقار والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بالدير الابيض والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بدير السريانى والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى فقرا النصارى اليعاقبة القاطنين بدير تروجة والواردين عليه والمترددين اليه فان تعذر فعلى مصالح حرم القدس الشريف فان تعذر فعلى مصالح الحرمين الشريفين وفقرايهما فان تعذر فعلى فقرا احدهما فان تعذرا والعياذ بالله تعالى كان ذلك وقفا على فقرا النصارى اليعاقبة اينما كانوا وحيثما وجدوا" ، وهنا يرتب الواقف المستفيدين من الوقف، بعد الأديرة مباشرة، يذكر حرم القدس الشريف، ثم الحرمين الشريفين.
- المثال الثالث: في عام 1034هـ/ 1625م، لدى القاضى الشافعي، أوقف حسب الله بن عطية بن درويش النصراني اليعقوبي الصايغ، بحجة من الباب العالي، تاريخها 27 شوال 1034هـ، مكان بخط القبيلة بالقاهرة، على ذريته، ثم من بعد انقراض الذرية "يكون ذلك وقفا مصروفا ريعه على الفقرا المقيمين والمترددين والقاطنين بالاربعة ديورة الاطرون دير السيدة ودير السريان ودير ابو منقار ودير انبا بيشوى فان تعذر الصرف لجهة من ذلك صرف الى باقيها فان تعذر لجميع ذلك صرف ذلك لفقرا الحرمين الشريفين".
- المثال الرابع: في الثالث والعشرين من ذى القعدة عام 1035هـ (15 أغسطس 1626م)ـ بمحكمة باب الخرق بالقاهرة، لدى القاضى الحنفي، أوقفت هيلانة بنت ميخاييل بن صليب النصرانية اليعقوبية بنا مكان بجنينة سودون بالقاهرة "مصروفًا ريعه على فقرا النصارى القاطنين والواردين والمترددين بالدير المعروف بانطونيوس الكاين بشرق اطفيح، فإن تعذر صرف للحرمين الشريفين حرم مكة والمدينة، فإن تعذر الصرف لأحدهما صرف للآخر فإن تعذرا معا صرف لفقرا النصارى اليعاقبة ومساكينهم" .
إذًا، لم يكن وقف البطريرك عملاً استثنائيًا، تم في ظروف استثنائية، بل هو عمل متكرر من قبط آخرين. ومن ثم لا يمكن القول: إن هذه الأوقاف تمت لإرضاء أحد، أو لتحقيق مكاسب معينة، أو حتى تحت ضغوط؛ فلدينا المئات من الوثائق، تشير إلى أن القبط أنشأوا أوقافهم بكامل الحرية، وقصروا الجهات المستفيدة من الوقف على مؤسسات مسيحية.
وعلى ذلك يبقى التفسير المقبول، وهو أن هؤلاء القبط المسيحيين أرادوا فعلاً، وبكامل إرادتهم أن يضمنوا الجهات المستفيدة من الوقف، هذه المقدسات الإسلامية: الحرمين الشريفين بمكة والمدينة، والحرم الإبراهيمى بالقدس.
واعتقد أن هذا الأمر جد طبيعي في العصر العثمانى، بالرغم من صعوبة تقبله، ظاهريًا! والمشكلة، في رأيى، لها سببان:
الأول: هو المصادر، فالحوليات ترصد لنا التاريخ الرسمى للعصر العثمانى، أو بمعنى آخر علاقة السلطة بالمجتمع، وليس العلاقات بين الجماعات المختلفة والأفراد في هذا المجتمع.
وبالتالى يكون تاريخ القبط، كأهل ذمة، يُنظر إليه من هذه الزاوية: تطور علاقتهم بالسلطة، والأطوار المختلفة لهذه العلاقة، ما بين فترات شد وجذب، أو قيود وتساهل ... إلى آخر هذه الثنائيات والمسميات. ولا تقدم لنا الحوليات الرسمية الجانب الآخر من الصورة، وهى العلاقات بين القبط وبين جيرانهم وشركائهم من المسلمين، بعيدًا عن الأطر النظرية التي تظهرها مصادر السلطة وممارساتها. هنا يمكن قراءة مثل هذا النوع من الوثائق من خلال هذا المنظور، كيف يصيغ المجتمع علاقاته بعيدًا عن السلطة وممارساتها، بالرغم من أن هذه النصوص عينها، هي نصوص لمؤسسة سلطة أيضًا.
السبب الثاني: هو محاولة فهم التاريخ من منظور الحاضر؛ فحالة التوتر الطائفى والدعوات الانعزالية عن الآخر، لدى كلا الجانبين، وإسقاطها على الماضى، تجعل من الصعوبة بمكان تصور حدوث هذا الود المتبادل في عصور سابقة.
أستطيع أن أزعم أن الدين لم يكن العامل الأساسي في صياغة العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصرى في العصر العثمانى، بالرغم من أن خطاب السلطة حاضر فيه، وبقوة، عنصر الدين، كمعيار أساسي ورئيس في تحديد الهوية والمكانة الاجتماعية، والحراك الاجتماعى. أقول ذلك استنادًا إلى معطيات عديدة، لا يتسع المجال لذكرها الآن.
ومن ثم لم تكن هناك حساسيات تجاه الأماكن والمقدسات الدينية، فالمشاركة في المناسبات الدينية كانت شائعة، ووجود المسلمين في الاحتفالات الدينية القبطية، أو وجود القبط في المناسبات والاحتفالات الدينية الإسلامية، كان عاديًا وطبيعيًا.
والإشارات التاريخية متعددة في هذا المجال. بالطبع ليست لدينا شهادات لأفراد أو جماعات خارج إطار المؤسسات الرسمية، لنعرف حقيقة هذه الانطباعات، ولكن يمكن استشراف هذه الحقيقة فيما بين سطور المصادر الرسمية؛ على سبيل المثال، سأذكر مصدرًا رسميًا قبطيًا، ورد فيه، عرضًا، ذكر الحج الإسلامي، لنرى كيفية التعرض لهذا الحدث. ورد هذا الخبر في إحدى المخطوطات القبطية، التي تتحدث عن عملية إعداد زيت الميرون، بعد توقف دام لفترة طويلة؛ إذ ظل عمل الميرون منقطعًا بمصر منذ عام 1461م وحتى عام 1703م، ففى هذا العام تقدم أحد الأعيان القبط وهو المعلم جرجس أبو منصور الطوخى بمبادرة لعمل الميرون.
وتذكر المخطوطة المراحل المختلفة لعملية إعداد زيت الميرون، ومنها كيفية الحصول على دهن البيلسان، والعود القمارى. وكان المكان الطبيعى للحصول على هذين النوعين هو الأقطار الحجازية؛ فطلب أحد الأعيان القبط، وهو الشخص الذى تولى الإنفاق على هذه العملية، من أحد أصدقائه المسلمين، إحضار هذه الأصناف من الحجاز، في أثناء سفره لأداء الحج، فتذكر المخطوطة خبر الحج على هذا النحو "وعند عودة الحاج إلى محروسة مصر في الأيام المعلومة بسلام" ، فالمرة التي يرد فيها ذكر موكب الحج في كتاب كنسي في هذه الفترة، يرد بهذا الشكل الحميمى.
والمثير، أيضًا، في الأمر أن مستشار هذه العملية، والذى حضر جانبًا منها هو الشيخ عبدالرحيم الشريف شيخ سوق الفحامين .
وليس هذا الأمر عاديًا أن يشترك شخص غير مسيحى في مراحل إعداد هذا الزيت؛ إذ أنه عمل مقدس، وركن من أركان عقيدة القبط الأرثوذكس السبعة.
جانب آخر، يبين النظرة المتبادلة إلى المقدسات الدينية، والمزارات، هو حرص كبار المباشرين القبط على الوجود في المناسبات الاجتماعية العامة، وبخاصة الموالد الإسلامية الكبرى، وأن هذه الاحتفالات لا تتعلق بدين، وإنما هي طقوس مشتركة يتقاسمها المسلمون والمسيحيون بجانب من الاحترام، وأن جميعها مصرية خالصة.
والمصادر الكنسية تسجل حكمًا عامًا عن علاقة القبط بالمسلمين في هذه الفترة، فتقول: "عاشوا كل هذه المدة مع إخوانهم المسلمين على أحسن حال مشاركين لهم في السراء والضراء".
والمعنى أن المشاعر تجاه المقدسات الدينية كانت موضع احترام وتقدير لدى كل من القبط والمسلمين، وبالتالى ليس من المستغرب أن يعبر بعض القبط عن هذا التوجه من خلال َتَذكُر الحرم الإبراهيمى والحرمين الشريفين، كأماكن دينية يُصرف عليها من ريع أوقافهم.
يمكن تلمس الأمر عينه عند المسلمين، فما شهدته جميع كنائس وأديرة القطر المصرى من تعمير وترميم في العصر العثمانى، بموافقة ومباركة المشايخ والقضاة، لهو أبلغ دليل على هذا الأمر. بل إن كبار المشايخ تغاضوا عن أمور كثيرة شرعية، حتى يجيزوا هذه الترميمات والتعميرات.
يمكن أن أذكر أمثلة أخرى في هذا السياق، منها كيف يوقف مسلم، بالوكالة عن أحد القبط، على أديرة قبطية؛ إذ قام الحاج رمضان بن الحاج أحمد القصاب، الوكيل الشرعى عن الذمي غبريال ولد الذمي ميخاييل القطيعي بوقف مكان بخط طولون على دير أبو بشاي الصندفاوي بالمحلة الكبرى.
مثل آخر: "اشترى الحاج محمد بن المرحوم محمد الزناتى وهو الوكيل الشرعى عن الذمية نور المرأة بنت الذمي شنوده النصراني اليعقوبى الحاضرة معه بالمجلس والمصدقة على التوكيل" مكان بخط المقسم، ثم وقفته على دير مار جرجس للبنات بمصر القديمة ودير مار تادرس للبنات بحارة الروم . بالرغم من أن دور المسلم في كلتا الحالتين كان دور وكيل شرعي، إلا أن قيامه بالوكالة في هذا الفعل يوضح، في جانب منه، تقديره للفعل والأماكن الموقوف عليها.
والخلاصة، أن السياق التاريخي لإنشاء هذا الوقف، يبين لنا أن الدافع إلى إنشاء هذا الوقف، هو الرغبة الحقيقية في إبراز التقدير لمثل هذه الأماكن المقدسة، ومن ثم يمكن استخدام مثل هذه الوثائق، وباطمئنان، لكتابة فصل من فصول التاريخ الاجتماعى للمجتمع المصرى في العصر العمانى.
السياق الشرعي
أقصد هنا بالسياق الشرعي، مشروعية وقف غير المسلم على مؤسسات إسلامية، من حيث اعتبار القربة في الوقف. وفقًا للمذهب الحنفي، يجب أن تكون القربة موافقة للشرع الإسلامي، بمعنى مقاييس القربة هي المقاييس التي يحددها الشرع الإسلامي، واشترطوا أيضًا أن تكون قربة في نظر الواقف، وعلى ذلك يصح وقف المسلم والذمي على الفقراء وعلى إضافة الغرباء وتسبيل الماء في سبيل الله، وكل ما هو بر لا تختلف فيه الديانات.
وهنا الوقف على الحرمين هو قربة من وجهة نظر الشرع الإسلامي، ولكنه ليس بقربة من وجهة غير المسلم الواقف). لا يشترط الإمام مالك في جهة الوقف أن يكون الصرف عليها قربة، ولكن يشترط ألا يكون معصية، والاعتبار في كونها معصية أم لا، يرجع إلى اعتقاد الواقف.
والإمام الشافعي لا يشترط القربة في الوقف، بل يشترط ألا يكون معصية؛ ويرجع اعتبار كونه معصية أم لا، إلى اعتبار الإسلام، ولذلك فإن الإمام الشافعي يجيز وقف الذمي على المسجد، لأنه قربة في نطر الإسلام، ولو لم يكن قربة في نظر الواقف . ويشترط الإمام أحمد بن حنبل أن يكون الوقف على بر أو على أمر معروف غير مستنكر من الشرع، والاعتبار في ذلك يرجع إلى نظر الإسلام.
وعلى ذلك نجد أن كلا من المذهبين الحنفي والمالكي يشترطان أن تكون القربة في الوقف موافقة لاعتقاد الواقف، ومن ثم فوقف الذمي على المساجد لا يجوز في معظم الأقوال. بينما يركز الشافعية والحنابلة على موافقة القربة للشرع الإسلامي، وبالتالي يجوز وقف الذمي على المساجد ونحوها.

بينما نجد أن أربعة حالات من الأوقاف المذكورة تمت وفقًا للمذهب الحنفي، وحالة وحيدة تمت وفقًا للمذهب الشافعي.
وهنا يمكن طرح سؤال حول منتج المحكمة الشرعية بشكل عام، هل هو منتج يعبر بدقة عن الأطر النظرية للشرع الإسلامي؟ أم أنه يعبر عن آليات المجتمع في تصريف شئونه، وكيفية تعامله مع مؤسسة العدالة، ومن ثم كيفية إضفاء الشرعية على ممارساته الحياتية؟ يمكن التفكير في هذه الأسئلة من خلال دراسة نماذج مختلفة من وثائق المحاكم الشرعية، ودراسة كيفية ملاءمتها لأساسيات الشرع الإسلامي. أو بمعنى أدق كيفية فرض الدولة العثمانية لسياساتها، بغض النظر عن موافقتها مع الشرع الإسلامي أم لا، واستخدام المحكمة الشرعية كغطاء شرعى لهذه الممارسات.
قد يبدو أن طرح السؤال بهذه الكيفية، حول موضوع وثائق وقف القبط على مؤسسات إسلامية، يتضمن بعض المبالغة، أو تحميل الموضوع أكثر من قدره، ولكنى أفكر في هذا النوع من الوثائق، بالطريقة نفسها التي أفكر بها في أنواع أخرى من الوثائق.
أذكر منها عقود الفائدة ، أي القروض بفوائد محددة سلفًا، والكيفية التي صيغت بها نصوص الوثائق لكى تلتف حول هذه الحقيقة، بالرغم من المعارضة الصريحة، بنص القرآن، لهذا النوع من العقود.
أو أنواع الوثائق التي تتعلق بإجبار الفلاحين على العمل في أراضى الملتزمين، وإرجاعهم بالقوة إلى تلك الأراضى إذا هربوا منها، وهذا الأمر منافٍ لأبسط قواعد الإسلام، وهى حرية السعي للرزق. والأمر الآخر هو مبادرة السلطة العثمانية بإجبار الناس على تسجيل عقود زواجهم في المحاكم الشرعية ودفع رسوم عن هذه العقود، وابتدعوا بدعة جديدة، وصفها المعاصرون بأنها "يسق الكفر" أي نظام الكفر.
جانب آخر يتضح أيضًا، في موضوع وقف غير المسلم، هو تبني الدولة العثمانية لعدم إجازة وقف الذمي على الكنائس، أو شعائر العبادة، ودعمته الإدارة العثمانية بإجراءات واقعية تسير في الاتجاه نفسه؛ ففي فتوى لشيخ الإسلام أبي السعود مفتي السلطنة المتوفى 982هـ/ 1574م، صدر على أثرها فرمان ينص على أن وقف الذمي على الكنائس والأديرة غير جائز، ويحب أن يُصادر الموقوف، ولكن يجوز وقف الذمي على الرهبان أو الفقراء أو الأسبلة.
ورغم كل هذه التقنينات والفتاوى إلا أن المجتمع كانت له أساليبه في التكيف، شكلاً، مع هذه الأطر النظرية، والحفاظ على شكل علاقاته ومصالحه على أرض الواقع؛ فمن ناحية يتضح نظريا تقييد الوقف على الكنائس والأديرة وفقًا لكل المذاهب وعلى أرجح الأقوال، ولكن واقعيًا هناك المئات من وثائق الوقف على الكنائس والأديرة، والتي تمت من خلال المؤسسات الشرعية (المحكمة)، وبمباركة وتأييد رجال الدين (القضاة والمفتين)، واستخدم الكتاب، بمساعدة القضاة والمفتين، صيغًا وأساليب معينة تحافظ على الشكل الشرعى، وتسمح لغير المسلمين بالوقف على مؤسساتهم الدينية.
انظر أيضًا إلى الفقرة الأخيرة من هذه الوثيقة (موضع النشر)، والخاصة بقصة مختلقة حول نزاع بين الواقف ومتول وهمى للوقف، بعد أن راجع الواقف نفسه، ورغب في الرجوع عن الوقف، ومن ثم حكم القاضى بصحة موقف المتولي، وأجاز الوقف، ثم عزل الواقف المتولي. وهذه القصة بكاملها لم تحدث، ولكن لتمرير الوقف، أُخترعت هذه القصة، ليكون الأساس هو حكم القاضى في النزاع حول الوقف، ومن ثم الإٌقرار ضمنا بصحة الوقف وإجازته.
وما زالت الأسئلة بحاجة إلى مزيد من المناقشة والتصويب، سواء في الجوانب المتعلقة بعلم الوثائق وأدواته ومناهجه، أو فيما يتعلق بتوظيف الوثائق للكتابة التاريخية.

 

This site was last updated 06/22/14