Home Up | | جريدة وطنى بتاريخ الأحد 18/5/2008م السنة 50 العدد 2421 عن مقالة [ الأنبا باخوم المعروف بأبي الشركة ] للمتنيح الأنبا غريغوريوس
في اليوم الرابع عشر من شهر بشنس القبطي ويوافق عادة الثاني والعشرين من شهر مايو - أيار انتقل الأنبا باخوم أبوالشركة إلي عالم البقاء والخلود. والأنبا باخوم هو واضع نظام الاشتراكية التعاونية في الحياة الرهبانية, وهو صاحب فكرة التصنيع في الأديرة المصرية, وهو الذي وجه الرهبنة وجهة جديدة لم تعرف من قبله, وعنه أخذها الرهبان في كل العالم شرقا وغربا. رأي القديس باخوم أو باخوميوس كما يسميه اليونان, واسمه Pakhom أي النسر, أن حياة التوحد المطلق فيها قسوة بالغة, ولا يقوي عليها إلا نفرا قليل من الناس, لكن الراغبين في حياة الكمال أكثر عددا, وهم يحتاجون إلي قيادة وإلي توجيه. فجمع الكثيرين ممن تبعوا سيرته, ووضع لهم نظاما عاما مشتركا للحياة الروحية, ورتب لهم قواعد يخضعون لها في طاعة تامة فيما يتصل بعبادتهم وأكلهم ونومهم. وفرض لهم مواعيد محددة, فهم يصلون معا ويأكلون علي مائدة واحدة في وقت واحد. ولهم أوقات للعمل. وقد اهتم القديس باخوم بمبدأ العمل وأكبر من شأنه, واعتبره ضرورة علي كل راهب بحيث كان يطرد الراهب الكسول من الدير, ولا يجعل له نصيبا في مجتمعه الجديد. وبلغ من حزم هذا القديس وإصراره علي التزام الراهب لواجباته في طاعة تامة وفي حدود النظام المرسوم له, أنه كان يعاقب كل راهب يخرج علي النظام حتي لو كان ذلك بقصد حسن أو حتي إذا أنتج هذا الخروج علي النظام خيرا ماديا للدير. وكان يري أن الخضوع للنظام ولأوامر الرئيس فضيلة كبيرة, لأن فيها قهرا للنفس ومقاومة لرغباتها وأهوائها, كما أن فيها اتضاعا وخضوعا لازمين لنجاح كل مجتمع صغيرا كان أو كبيرا. وبذلك أحال الأنبا باخوم الرهبنة إلي نوع من العسكرية الروحية, ووضع لها قوانين ونظما, وكان الرهبان يقيمون في بيوت بحسب الحرف التي كانوا يمارسونها قبل الرهبنة, فكان للخبازين بيت, ولصانعي الفخار بيت, وللنساجين بيت. وكان القديس يقيم لكل دير رئيسا ووكيلا, ويقيم للأديرة جميعها رئيسا عاما ووكيلا وأمينا, وقد اتخذ من أحد الأديرة في فاو, علي الضفة اليمني من النيل مقابل هور, قاعدة لحكومته الديرية وإدارة جميع الأديرة التابعة له في الصعيد. وكان يجمع جميع الرهبان في هذا الدير مرة كل سنة, وذلك في عيد رأس السنة القبطية, وكان يعين في هذا العيد الوظائف للسنة الجديدة. وقد تشرف القديس باخوم بزيارة البابا أثناسيوس الرسولي في ديره المعروف بدير طابانا. وقد استقبله الأنبا باخوم استقبالا حارا وهو يعلم أنه يستقبل حامي الإيمان القويم. مولده, وكيف اهتدي إلي المسيحية: ولد باخوم من أبوين وثنيين غنيين في إقليم إسنا في نحو سنة 288 لميلاد المسيح ويبدو أنه منذ طفولته شعر باحتقار شديد للديانة الوثنية, علي الرغم من أن والديه كانا يرغبانه فيها ويصطحبانه معهما إلي المعابد والهياكل الوثنية. ويقال إنه دخل مرة مع والديه إلي معبد الوثن فاحتقر الآلهة, ولذلك غضب الكاهن الوثني وقال عنه إنه سيصير عدوا لديانته ثم طرده من الهيكل. وفي سن العشرين من عمره انتظم باخوم في سلك الجندية, وذهب تحت قيادة القائد قسطنطين في حملة لإخضاع الحبشة. وفي الطريق جاع الجند وعطشوا فخرج للقائهم أهل القرية وأكرموهم إكراما فائقا, فدهش باخوم من تصرف الأهالي وسأل عن سر هذا الصنيع, فقيل له إنهم مسيحيون, وديانتهم تأمرهم بإكرام الغرباء والإحسان إليهم. فوقع ذلك منه موقعا حسنا, وشعر بسمو الديانة المسيحية. ويروي المؤرخون عنه أنه صلي في تلك الليلة صلاة قال فيها إني أعاهدك علي أن أعبدك وأحفظ وصاياك كل أيام حياتي إذا نظرت إلي برحمتك وعرفتني بلاهوتك. وقال عنه المؤرخون إن من العوامل التي جذبته إلي المسيحية صبر الشهداء علي احتمال العذاب القاسي الذي فرضه عليهم دقلديانوس. فلما عاد من الحرب صمم علي أن يدرس المسيحية فانخرط في سلك الموعوظين, وفي الليلة التي كان سينال فيها سر المعمودية المقدس, رأي أن يده اليمني ممتدة نحو السماء, وإذا الندي يستحيل في يده إلي تفاحة, وكان صوت من السماء يناديه أن يحتفظ بالنعمة العظيمة التي سيقتبلها من الرب يسوع. وبعد العماد سار في طريق الفضيلة واشتهي حياة العزلة والتعبد, فتتلمذ لعابد قديس متوحد اسمه بلامون. ومع أن الناسك صرفه عنه في مبدأ الأمر منذرا إياه بأن طريق النسك وعرا وصعب, إلا أن باخو مكان راغبا في حياة التعبد من كل قلبه. وسأل الشيخ في ضراعة أن يقبله, فقبله. ولم يلبث أن حذا حذو معلمه. ولم يطل الأمد بمعلمه, إذ توفي بعد سنوات, ولكن تلميذه صار بعد هذه السنوات قادرا علي أن يسير بمفرده, بل قادرا علي أن يقود الكثيرين الذين تبعوا سيرته. وعلي الرغم من أن الأنبا باخوميوس هو واضع نظام الرهبنة الاشتراكية, إلا أنه هو نفسه كان يميل إلي التوحد المطلق, وكان يري أن نظام الشركة لابد منه للمبتدئين ولغير القادرين علي التوحد. ولذلك كان هو يعتزل في مغارة يقيم فيها أياما طويلة ثم يعود ليفتقد أولاده الرهبان ليعلم أحوالهم ويوجههم. مواهبه الروحية: وللأنبا باخوم في وحدته مناظر روحانية كان يتمتع بها, وله أيضا رؤي عن مستقبل الرهبنة, ومستقبل الكنيسة. وكان عندما يصلي يبكي بدموع كثيرة من أجل رهبانه, ومن أجل الناس الذين في العالم. وقد ذكر تلاميذه عنه في سيرة حياته أن الدموع حفرت علي حذيه مجريين واضحين تركا أثرهما علي جلد وجهه. وكان يقصد إليه إناس من مختلف بلاد العالم لينتفعوا بتجاربه ومواعظه. ومرة جاءه راهب من روما لا يعرف القبطية. فحزن باخوم لعائق اللغة بينه وبين هذا الضيف الغريب. فصلي لله وقال: أنت تعلم يارب أنني لا أعرف اللغات, ولذلك فإنني لا أستطيع أن أفيد الآتين إلي من الناطقين باللغات الأخري. فإما أن تمنحني معرفة لغة من يقدم إلي حتي ينتفع بالإرشاد, أو تمنعه من القدوم إلي, فسمع الرب لصلاته فصار قادرا علي أن يستمع إلي شكوي الراهب الروماني ويجيبه بما ينفعه, وهذه هي موهبة التكلم بالألسنة واللغات, وهي من مواهب الروح القدس. وفاته: شعر القديس باخوم بدنو أجله فعين بدلا منه أحد تلاميذه وسمي بترونيوس, ولكنه مات بعد تعيينه بقليل, ثم عين من بعده تلميذا آخر اسمه هوريسيوس. وكان من المتوقع أن يقيم أحب تلاميذه إليه وأخلصهم له وهو تادرس. ولكن باخوم لم يشأ أن يسند إليه الرياسة علي الرغم من ثقته وثقة جميع الرهبان فيه. ولعله فعل ذلك إشفاقا عليه ورحمة به, أو لأنه رأي الرياسة ثقلا علي تادرس قد لا يقوي علي احتماله, أو قد تعطل نموه الروحاني في الفضيلة. ومما يدل علي ثقة باخوم في تلميذه تادرس أنه عهد إليه بدفن جسده, وطلب إليه أن يحتفظ به سرا من كل أحد آخر. وانتقل القديس العظيم إلي الأخدار السماوية في نحو 405 لميلاد المسيح. |