Encyclopedia - أنسكلوبيديا 

  موسوعة تاريخ أقباط مصر - coptic history

بقلم عزت اندراوس

الخليفة الثامن لبنى أمية : أبو حفص / عمر بن عبد العزيز

ذا كنت تريد أن تطلع على المزيد أو أن تعد بحثا اذهب إلى صفحة الفهرس هناك تفاصيل كاملة لباقى الموضوعات

أنقر هنا على دليل صفحات الفهارس فى الموقع http://www.coptichistory.org/new_page_1994.htm

Home
Up
سنة 99 خلافة عمر
سنة مائة

الخليفة الثامن لبنى أمية : أبو حفص / عمر بن عبد العزيز

الجزء التالى من تاريخ كتاب البداية والنهاية لــ أبن كثير الجزء التاسع ( 123 من 239 ) وضعنا له فقط رؤوس مواضيع .

هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو الأصبغ القرشي الأموي ولد بالمدينة ثم دخل الشام مع أبيه مروان، وكان ولي عهده من بعد أخيه عبد الملك، وولاه أبوه إمرة الديار المصرية في سنة خمس وستين فكان والياً عليها إلى هذه السنة، وشهد قتل سعيد بن عمرو بن العاص كما قدمنا، وكانت له دار بدمشق وهي دار الصوفية، اليوم المعروفة بالخانقاه السميساطية ثم كانت من بعده لولده عمر بن عبد العزيز، ثم تنقلت إلى أن صارت خانقاها للصوفية‏.‏ وقد روي عبد العزيز بن مروان الحديث عن أبيه وعبد الله بن الزبير وعقبة بن عامر وأبي هريرة، وحديثه عنه في مسند أحمد وسنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏شر ما في الرجل جبن خالع وشح هالع‏)‏‏)‏‏.‏ وعنه ابنه عمر والزهري وعلي بن رباح وجماعة‏.‏ قال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقة قليل الحديث، وقال غيره‏:‏ كان يلحن في الحديث وفي كلامه، ثم تعلم العربية فأتقنها وأحسنها فكان من أفصح الناس، وكان سبب ذلك أنه دخل عليه رجل يشكو ختنه -وهو زوج ابنته -فقال‏:‏ له عبد العزيز من ختَنَك‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ ختني الخاتن الذي يختن الناس، فقال لكاتبه ويحك بماذا أجابني‏؟‏ فقال الكاتب‏:‏ يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن تقول من خِتنُك، فآلى على نفسه أن لا يخرج من منزله حتى يتعلم العربية، فمكث جمعة واحدة فتعلمها فخرج وهو من أفصح الناس، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/ 70‏)‏ وكان بعد ذلك يجزل عطاء من يعرب كلامه وينقص عطاء من يلحن فيه، فتسارع الناس في زمانه إلى تعلم العربية‏.‏

قال عبد العزيز يوماً إلى رجل‏:‏ ممن أنت‏؟‏ قال‏:‏ من بنو عبد الدار، فقال‏:‏ تجدها في جائزتك، فنقصت جائزته مائة دينار‏.‏

وقال أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا مجاهد بن موسى، ثنا إسحاق بن يوسف، أنبأنا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، قال‏:‏ كتب عبد العزيز بن مروان إلى عبد الله بن عمر‏:‏ ارفع إلي حاجتك‏.‏ فكتب إليه ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول‏)‏‏)‏‏.‏ ولست أسألك شيئاً ولا أرد رزقاً رزقنيه الله عز وجل منك‏.‏ وقال ابن وهب، حدثنا يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، قال‏:‏ بعثني عبد العزيز بن مروان بألف دينار إلى ابن عمر قال‏:‏ فجئت فدفعت إليه الكتاب فقال‏:‏ أين المال‏؟‏ فقلت‏:‏ لا أستطيعه الليلة حتى أصبح، قال‏:‏ لا والله لا يبيت ابن عمر الليلة وله ألف دينار، قال‏:‏ فدفع إلي الكتاب حتى جئته بها ففرقها رضي الله عنه‏.‏

ومن كلامه رحمه الله عجباً لمؤمن يؤمن ويوقن أن الله يرزقه ويخلف عليه، كيف يحبس مالاً عن عظيم أجر وحسن ثناء‏.‏

ولما حضرته الوفاء أحضر له مال يحصيه وإذا هو ثلاثمائة مد من ذهب، فقال‏:‏ والله لوددت أنه بعر خائل بنجد، وقال‏:‏ والله لوددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، لوددن أن أكون هذا الماء الجاري، أو نباتة بأرض الحجاز، وقال لهم‏:‏ ائتوني بكفني الذي تكفنوني فيه، فجعل يقول‏:‏ أف لك ما أقصر طويلك، وأقل كثيرك‏.‏

قال يعقوب بن سفيان، عن ابن بكير، عن الليث بن سعد، قال‏:‏ كانت وفاته ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين، قال ابن عساكر‏:‏ وهذا وهم من يعقوب بن سفيان والصواب سنة خمس وثمانين، فإنه مات قبل عبد الملك أخيه، ومات عبد الملك بعده بسنة سنة ست وثمانين‏.‏ وقد كان عبد العزيز بن مروان من خيار الأمراء كريماً جواداً ممدحاً، وهو والد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وقد اكتسى عمر أخلاق أبيه وزاد عليه بأمور كثيرة‏.‏ وكان لعبد العزيز من الأولاد غير عمر، عاصم وأبو بكر ومحمد والأصبغ - مات قبله بقليل فحزن عليه حزناً كثيراً ومرض بعده ومات - وسهيل وكان له عدة بنات، أم محمد وسهيل وأم عثمان وأم الحكم وأم البنين وهن من أمهات شتى، وله من الأولاد غير هؤلاء، مات بالمدينة التي بناها على مرحلة من مصر وحمل إلى مصر في النيل ودفن بها، وقد ترك عبد العزيز من الأموال والأثاث والدواب من الخيل والبغال والإبل وغير ذلك ما يعجز عنه الوصف من جملة ذلك ثلاثمائة مد من ذهب غير الورق، مع جوده وكرمه وبذله وعطاياه الجزيلة، فإنه كان من أعطى الناس للجزيل رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/72‏)‏

وقد ذكر ابن جرير أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أخيه عبد العزيز وهو بالديار المصرية يسأله أن ينزل عن العهد الذي له من بعده لولده الوليد أو يكون ولي العهد من بعده، فإنه أعز الخلق علي‏.‏ فكتب إليه عبد العزيز يقول‏:‏ إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد‏.‏ فكتب إليه عبد الملك يأمره بحمل خراج مصر - وقد كان عبد العزيز لا يحمل إليه شيئاً من الخراج ولا غيره، وإنما كانت بلاد مصر بكمالها وبلاد المغرب وغير ذلك كلها لعبد العزيز، مغانمها وخراجها وحملها - فكتب عبد العزيز إلى عبد الملك‏:‏ إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سناً لا يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت أن لا تعتب علي بقية عمري فافعل فرق له عبد الملك، وكتب إليه‏:‏ لعمري لا أعتب عليك بقية عمرك‏.‏ وقال عبد الملك لابنه الوليد‏:‏ إن يرد الله أن يعطيكها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك عنك، ثم قال لابنه الوليد وسليمان‏:‏ هل قارفتما محرماً أو حراماً قط‏؟‏ فقالا‏:‏ لا والله، فقال‏:‏ الله أكبر نلتماها ورب الكعبة‏.‏ ويقال إن عبد الملك لما امتنع أخوه من إجابته إلى ما طلب منه في بيعته لولده الوليد دعا عليه، وقال‏:‏ اللهم إنه قطعني فاقطعه، فمات في هذه السنة كما ذكرنا فلما جاءه الخبر بموت أخيه عبد العزيز ليلاً حزن وبكى وبكى أهله بكاء كثيراً على عبد العزيز ولكن سره ذلك من جهة ابنيه فإنه نال فيها ما كان يؤمله لهما من ولايته إياهما بعده‏.‏ وقد كان الحجاج بعث إلى عبد الملك يحسّن له ولاية الوليد ويزينها له من بعده، وأوفد إليه وفداً في ذلك عليهم عمران بن عصام العثري، فلما دخلوا عليه قام عمران خطيباً فتكلم وتكلم الوفد في ذلك وحثوا عبد الملك على ذلك وأنشد عمران بن عصام في ذلك‏:‏

أمير المؤمنين إليك نهدي * على النأي التحية والسلاما

أجبني في بنيك يكن جوابي * لهم عادية ولنا قواما

فلو أن الوليد أطاع فيه * جعلت له الخلافة والذماما

شبيهك حول قبته قريش * به يستمطر الناس الغماما

ومثلك في التقى لم يصب يوماً * لدن خلع القلائد والتماما

فإن تؤثر أخاك بها فإنا * وجدك لا نطيق لها اتهاما ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/73‏)‏

ولكنا نحاذر من بنيه * بني العلات مأثرة سماما

ونخشى إن جعلت الملك فيهم * سحاباً أن تعود لهم جهاما

فلا يك ما حلبت غداً لقوم * وبعد غد بنوك هم العياما

فأقسم لو تخطاني عصام * بذلك ما عذرت به عصاما

ولو أني حبوت أخاً بفضلٍ * أريد به المقالة والمقاما

لعقَّب في بنيَّ على بنيه * كذلك أو لرمت له مراما

فمن يك في أقاربه صدوع * فصدع الملك أبطؤه التئاما

قال فهاجه ذلك على أن كتب لأخيه يستنزله عن الخلافة للوليد فأبى عليه، وقدر الله سبحانه موت عبد العزيز قبل موت عبد الملك بعام واحد، فتمكن حينئذ مما أراد من بيعة الوليد وسليمان، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

الجزء التالى من تاريخ كتاب البداية والنهاية لــ أبن كثير الجزء التاسع ( 123 من 239 ) وضعنا له فقط رؤوس مواضيع .

خلافة عمر بن عبد العزيز

قد تقدم أنه بويع له بالخلافة يوم الجمعة لعشر مضين، وقد قيل‏:‏ بقين من صفر من هذه السنة - أعني سنة تسع وتسعين - يوم مات سليمان بن عبد الملك، عن عهد منه إليه من غير علم من عمر كما قدمنا، وقد ظهرت عليه مخايل الورع والدين والتقشف والصيانة والنزاهة، من أول حركة بدت منه، حيث أعرض عن ركوب مراكب الخلافة، وهي الخيول الحسان الجياد المعدة لها، والاجتزاء بمركوبه الذي كان يركبه، وسكنى منزله رغبة عن منزل الخلافة، ويقال أنه خطب الناس فقال في خطبته‏:‏ أيها الناس إن لي نفساً تواقةً لا تعطى شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة، فأعينوني عليها يرحمكم الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/209‏)‏

وستأتي ترجمته عند وفاته إن شاء الله، وكان مما بادر إليه عمر في هذه السنة أن بعث إلى مسلمة بن عبد الملك ومن معه من المسلمين وهم بأرض الروم محاصروا القسطنطينية، وقد اشتد عليهم الحال وضاف عليهم المجال، لأنهم عسكر كثير، فكتب إليهم يأمرهم بالرجوع إلى الشام إلى منازلهم‏.‏ وبعث إليهم بطعام كثير وخيول كثيرة عتاق، يقال‏:‏ خمسمائة فرس، ففرح الناس بذلك‏.‏

وفيها أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين، فوجه إليهم عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الأتراك، ولم يفلت منهم إلا اليسير، وبعث منهم أسارى إلى عمر وهو بخناصرة‏.‏

وقد كان المؤذنون يذكرونه بعد أذانهم باقتراب الوقت وضيقه لئلا يؤخرها كما كان يؤخرها من قبله، لكثرة الاشتغال ، وكان ذلك عن أمره لهم بذلك، والله أعلم‏.‏ فروى ابن عساكر في ترجمة جرير بن عثمان الرحبي الحمصي قال‏:‏ رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة‏:‏ السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة قد قاربت‏.‏

وفي هذه السنة عزل عمر يزيد بن المهلب عن إمرة العراق وبعث عدي بن أرطاة الفزاري على إمرة البصرة، فاستقضى عليها الحسن البصري، ثم استعفاه فأعفاه، واستقضى مكانه إياس بن معاوية الذكي المشهور، وبعث على إمرة الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وضم إليه أبا الزناد كاتباً بين يديه، واستقضى عليها عامراً الشعبي‏.‏ قال الواقدي‏:‏ فلم يزل قاضياً عليها مدة خلافة عمر بن عبد العزيز، وجعل على إمرة خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي، وكان نائب مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى إمرة المدينة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة، وعزل عن إمرة مصر عبد الملك بن أبي وداعة وولى عليها أيوب بن شرحبيل، وجعل الفتيا إلى جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب وعبيد الله بن أبي جعفر، فهؤلاء الذين كانوا يفتون الناس، واستعمل على إفريقية وبلاد المغرب إسماعيل بن عبد الله المخزومي، وكان حسن السيرة، وأسلم في ولايته على بلاد المغرب خلق كثير من البربر، والله سبحانه وتعالى أعلم‏

 ذكر سبب وفاته

كان سببها السل، وقيل‏:‏ سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف دينار، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/235‏)‏ فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال‏:‏ لقد علمت يوم سقيت السّم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏‏!‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ ألف دينار أعطيتها‏.‏ فقال‏:‏ هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له‏:‏ اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك، ثم قيل لعمر‏:‏ تدارك نفسك، فقال‏:‏ والله لو أنّ شفائي أن أمسّ شحمة أذني، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له‏:‏ هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه‏.‏

وفي رواية‏:‏ فلا أبالي في أي واد هلك‏.‏

وفي رواية‏:‏ أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت‏؟‏ ما كنت لأفعل‏.‏

ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام، ثم قال‏:‏ انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم‏.‏

قال‏:‏ فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأن عمر وكَّل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم‏.‏

وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال‏:‏ قيل لعمر بن عبد لعزيز‏:‏ يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتاً دفنت في القبر الرابع مع رسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال‏:‏ و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل‏.‏

قالوا‏:‏ وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص، وكانت مدة مرضه عشرين يوماً، ولما احتضر قال‏:‏ أجلسوني، فأجلسوه، فقال‏:‏ إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثاً، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا‏:‏ إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين، فقال‏:‏ إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته‏.‏

وفي رواية أنه قال لأهله‏:‏ اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول‏:‏ مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ ‏{‏تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏ ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/236‏)‏

وقال أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب، فقرأوها فإذا فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، فأدخلوها بين أكفانه، ودفنوها معه‏.‏

وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده، عن عمير بن حبيب السلمي، قال‏:‏ أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته، فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت‏:‏ ما يمنعك من ذلك‏؟‏ فقلت‏:‏ يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء‏.‏ فقالت‏:‏ تريد الذهاب إلى بلادك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، فقالت‏:‏ سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال‏:‏ فسرت كذلك، قال‏:‏ فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيلٍ مقبلةٍ، فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا‏:‏ عمير‏؟‏ فقلت‏:‏ عمير‏.‏ فقلت لهم‏:‏ أوليس قد قتلتم، قالوا‏:‏ بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال‏:‏ ثم قال لي بعضهم‏:‏ ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيراً ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر‏.‏

وقال رجاء بن حيوة‏:‏ كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فأدلي ، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضاً، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة‏.‏

وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال‏:‏ بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك، فذكره وفيه غرابة شديدة، والله أعلم‏.‏

وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير عزة يرثي عمر‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/237‏)‏

عمت صنائعه فعم هلاكه * فالناس فيه كلهم مأجور

والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير

يثني عليك لسان من لم توله * خيراً لأنك بالثناء جدير

ردت صنائعه عليه حياته * فكأنه من نشرها منشور

وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏:‏

ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا

حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا

الشمس كاسفة ليست بطالعة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى‏:‏

لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر

كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر

يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي * على العدول التي تغتالها الحفر

ثلاثة ما رأت عيني لهم شبهاً * تضم أعظمهم في المسجد الحفر

وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً * سقياً لها سنن بالحق تفتقر

لو كنت أملك والأقدار غالبة * تأتي روحاً وتبياناً وتبتكر

صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر

قالوا‏:‏ وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل‏:‏ الجمعة لخمس مضين، وقيل‏:‏ بقين من رجب، وقيل‏:‏ لعشر بقين منه، سنة إحدى، وقيل‏:‏ ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل‏:‏ صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل‏:‏ ابنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/238‏)‏ وكان عمره يوم مات تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل‏:‏ أنه جاوز الأربعين بأشهر، وقيل‏:‏ بسنة ، وقيل‏:‏ بأكثر، وقيل‏:‏ أنه عاش ثلاثاً وستين سنة، وقيل‏:‏ ستاً وثلاثين، وقيل‏:‏ سبعاً وثلاثين، وقيل‏:‏ ثمانياً وثلاثين سنة، وقيل‏:‏ ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغها‏.‏

وقال أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر‏:‏ مات على رأس خمس وأربعين سنة‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ وهذا وهم، والصحيح الأول تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً‏.‏

وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل‏:‏ أربعة عشر يوماً، وقيل‏:‏ سنتان ونصف‏.‏

وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة، وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم‏.‏

 

 فصل خلافة عمر بن عبد العزيز‏.‏

لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر‏:‏ مالي ولك‏؟‏ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين‏.‏ ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه، فقال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون‏.‏ فصاح المسلمون صيحة واحدة‏:‏ قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك‏.‏

فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً، ثم رفع صوته فقال‏:‏ أيها الناس ‏!‏ من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم‏.‏

ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلاً فأتاه ابنه عبد الملك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع‏؟‏ قال‏:‏ يا بني أقيل، قال‏:‏ تقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها، فقال‏:‏ إني سهرت البارحة في أمر سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له ابنه‏:‏ ومن لك أن تعيش إلى الظهر‏؟‏ قال‏:‏ ادن مني أي بني، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال‏:‏ الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/239‏)‏ ثم قام وخرج وترك القائلة، وأمر مناديه فنادى‏:‏ ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال‏:‏ ما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر‏:‏ يا عباس ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏!‏ أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر‏:‏ ما تقول يا ذمي‏؟‏ قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر‏:‏ نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه، ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها سواء كانت في يده أو في يد غيره، حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم، ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأساً، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، و لا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها لأنها أخت أبيه، وألقى لها وسادة وشرع يحادثها فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر‏:‏ يا عمة مالك‏؟‏ فقالت‏:‏ بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك‏؟‏ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر‏؟‏ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد‏.‏

فقال‏:‏ يا عمة‏.‏ اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك الناس على نهر مورود، فولي ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابساً لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقاني الله لأردنه إلى مجراه الأول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم‏؟‏ فقالت‏:‏ فلا يسبوا عندك‏؟‏ قال‏:‏ ومن يسبهم‏؟‏ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها‏.‏ ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية‏.‏

وقال مسلمة بن عبد الملك‏:‏ دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة‏:‏ ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين‏؟‏ فقالت‏:‏ والله ماله قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة‏:‏ ما أبكاك يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة و فريق في السعير، ثم صرخ وغشى عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9 /240‏)‏

وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال‏:‏ وهل ينتفع من المسك إلا بريحه‏؟‏

ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكراً، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال‏:‏ بنفسي الفتية‏.‏

وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيراً بهذه الأبيات‏:‏

يرى مستكيناً وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله

وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئاً كمن هو جاهله

عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله

تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله

وروى ابن أبي الدنيا، عن ميمون بن مهران، قال‏:‏ دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات‏:‏

فكم من صحيح بات للموت آمناً * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع

فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فراراً ولا منه بقوته امتنع

فأصبح تبكيه النساء مقنعاً * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع

وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع

فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع

وقال رجاء بن حيوة‏:‏ لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر‏.‏ فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر‏:‏ بلغني أن عمر خلف جوهراً ودراً في بيتين مقفولين، فأرسلت إليه‏:‏ يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد إلا ما في هذا المنديل، وأرسلت إليه به فحله فوجد فيه قميصاً غليظاً مرفوعاً، ورداء قشباً، وجبةً محشوةً غليظةً واهية البطانة‏.‏ فقال يزيد للرسول‏:‏ قل لها ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين، فأرسلت تقول له‏:‏ و الذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك، فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين، فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي وقمقم‏.‏ فقال عمر بن الوليد‏:‏ أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجداً مفروشاً بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق بقدر ما يدخل الإنسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/241‏)‏ كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، و وجدوا صندوقاً مقفلاً ففتح فوجدوا فيه سفطاً ففتحه، فإذا فيه دراعة وتبان كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال‏:‏ يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة نقي العلانية‏.‏ و خرج عمر بن الوليد و هو مخذول وهو يقول‏:‏ أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي‏.‏

وقال رجاء‏:‏ لما احتضر جعل يقول‏:‏ اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب لما عجلت تأخيراً، ولا لما أخرت تعجيلاً، فلا زال يقول ذلك حتى مات‏.‏

وكان يقول‏:‏ لقد أصبحت ومالي في الأمور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها‏.‏

وقال شعيب بن صفوان‏:‏ كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة‏:‏ أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، فانفقأت عينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الأموال والأطعمة، وصاروا جيفاً بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه و هم أحياء لتأذى بهم ولنفر منهم، بعد إنفاق الأموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الأموال إسرافاً في أغراضهم و أهوائهم، و يقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم و أنت غير محبوس ولا مرتهن بشيء فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه‏:‏

وما ملك عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه

ومن كان ذا باب شديد وحاجب * فعما قليل يهجر الباب حاجبه

وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره أعوانه وحبائبه

فأصبح مسروراً به كل حاسد * وأسلمه أصحابه وحبائبه ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/242‏)‏

وقيل‏:‏ إن هذه الأبيات لغيره‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص‏:‏ حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي، عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران، قال‏:‏ تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه، ففتح له منطق و موعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من سمعه أو بلغه، فقال‏:‏ إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال‏:‏ استعملنا أقواماً كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله أما كانوا يمشون على القبور ‏!‏

وروى عبد الرزاق قال‏:‏ سمعت معمراً يذكر قال‏:‏ كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -‏:‏ أما بعد فإنه غرني بك مجالستك القراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون‏.‏

وروى الطبراني والدارقطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى عامل له‏:‏ أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده ممن قد حارب سنته وكفوا مؤنته، ثم أعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها، - أو قال دليل عليها - فعليك لزوم السنة فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، و إنما كان عملهم على الأسد، و لو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت‏:‏ قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، و رغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، و وصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز‏.‏ ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء و غيرهم‏؟‏ فرحمه الله وعفا عنه‏.‏

وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ، عن سعيد بن أبي مريم، عن رشيد بن سعيد، قال‏:‏ حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز‏.‏ قال‏:‏ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/243‏)‏

وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس‏:‏ الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته‏:‏ إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله و الدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر‏.‏ ثم تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 54‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب إليه عمر‏:‏ بئس ما علمت إذ قدمت إمام المسلمين صبياً لم يعرف النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له‏:‏ يا بني، ليس الخير أن يسمع لك و تطاع، و إنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عز وجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لأحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني، فقال له مولاه‏:‏ رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال‏:‏ فبكى، ثم قال‏:‏ يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال‏:‏ فما رأيته بعد ذلك متبسماً حتى مات‏.‏

وقرأ ذات يوم ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ الآية، فبكى بكاءاً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال فقال له‏:‏ يا أبتما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ يا بني خير ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار‏.‏

وروى ابن أبي الدنيا، عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري، قال‏:‏ رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال‏:‏ هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ و ما شأن الشمس‏؟‏ ‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 12-13‏]‏ فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء، حتى رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني‏.‏ فبكى عمر وقال له‏:‏ كم أنتم‏؟‏ فقال‏:‏ أنا وثلاث بنات‏.‏ ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 9/244‏)‏

وجاءه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه، وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غداً بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم يلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال‏:‏ فبكى عمر بكاءاً شديداً، ثم قال له‏:‏ ما حاجتك‏؟‏ فقال‏:‏ إن عاملك بأذربيجان عدا عليَّ فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال‏.‏ فقال عمر‏:‏ اكتبوا له الساعة إلى عاملها فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد‏.‏

وعن زياد مولى ابن عياش قال‏:‏ دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمر وهو أمير المؤمنين فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي‏:‏ يا زياد‏؟‏ قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ قص علي، قلت‏:‏ ما أنا بقاصٍّ، فقال‏:‏ تكلم، فقلت‏:‏ زياد، فقال‏:‏ ماله‏؟‏ فقلت‏:‏ لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال‏:‏ صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون‏.‏

وقال له زياد العبدي‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد‏:‏ يا أمير المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله‏؟‏ قال‏:‏ سيء الحال، قال‏:‏ فإن كانا خصمين ألدين‏؟‏ قال‏:‏ فهو أسوأ حالاً، قال‏:‏ فإن كانوا ثلاثة‏؟‏ قال‏:‏ ذاك حيث لا يهنئه عيش‏.‏ قال‏:‏ فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا و هو خصمك، قال‏:‏ فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة‏:‏ أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أموراً انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الأدم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه شرب شيئاً مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه جعلنا له عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلاً‏.‏  

This site was last updated 06/21/11